الفصل الثالث عشر

حدود الاجتهاد (مناظرة تليفزيونية ٢)١

مقدم البرنامج : هناك العديد من الحلقات التي طلب السادة المشاهدون مشاهدتها، ونجيب على العديد من التساؤلات … وهناك قضايا عديدة قاربت على الاستكمال … طبعًا لا توجد قضية استُكملت من جميع جوانبها، بل إن كل قضية بها نوع من الديمومة فتستمر دائمًا في حالة تفاعل، لكن على الأقل نحاول أننا نقترب من بعض وسائل العرض التي تكون شاملة أو تشفي غليل بعض السادة المشاهدين … كان عندنا يوم الأربعاء حلقة تدور حول قضية الاجتهاد في النص القرآني، أو مع النص مثلما يحب البعض أن يناقشها … وبعض الناس، أمثال أحد ضيوفنا اليوم، يعتقد أن القضية لا ينبغي أن نطرحها بمفهوم هل أغلق باب الاجتهاد أم لا … لكن ما زالت القضية مطروحة ما زالت تفاعلاتها موجودة، واليوم هو استمرار لمناقشتها … كنا قد عرضنا كما طلبت إحدى المشاهدات الكريمات، قمنا بعرض أجزاء من بعض الكتب التي أثارت ضجة في الآونة الأخيرة، وتفضل الدكتور محمد عمارة صاحب كتاب حول هذا الموضوع خاص بالدكتور نصر حامد أبو زيد، وكان الكتاب كله مخصصًا للرد على أفكاره، وكان موجودًا في نفس الندوة الأستاذ فهمي هويدي المفكر المعروف … وقام الاثنان بمناقشة هذه القضية … اليوم ما زال النقاش مستمرًّا حول هذا الموضوع …
حلقة اليوم بها ضيفان ممتازان؛ ضيفنا الأول أستاذي أنا شخصيًّا أستاذنا د. كمال أبو المجد، وزير الإعلام المصري الأسبق، وأستاذ القانون بجامعة القاهرة، وعضو مجمع البحوث الإسلامية، ورجل دائمًا يتصدى للعديد من القضايا التي تهم العصر فيما يختص بمدى ملاءمتها للفكر والعقيدة … أيضًا معنا في الاستوديو د. سيد القمني، باحث في تاريخ الأديان وصاحب مجموعة من الكتب أكثرها إثارةً الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية، وقد قام بعشرة أعمال، طبعًا هناك كتاب آخر هو الأسطورة والتراث، أعتقد أنه كتاب هام جدًّا. وأعتقد أن العشرة كتب هي نوع من التعليق والرؤية والتحليل للعديد من الثوابت التي قد يعتقد البعض أنها غير قابلة للنقاش. اليوم توجد بالاستوديو مدرستان — إذا جاز التعبير — من التفكير، نرجو أننا من خلال طرح القضية من خلال وجهات النظر المتعددة، أن نستطيع أن نقترب إلى تصور حول طبيعة القضية.

أستاذنا الأستاذ كمال أبو المجد. أهلًا بك وأهلًا بالدكتور سيد. ود. كمال إذا سمحت حضرتك أذكر في الحلقة التي كنت بها مشكورًا تتحدث معنا على الهاتف، حينما ذكرت عبارة «هل باب الاجتهاد أُغلِق» وجدت في صوتك نبرة من الحماس ممزوجة بالغضب، وتقول: «يا سيدي (بطريقتك هذه) يا سيدي هذه القضية أصلًا لا يجب أن تطرح بهذه الشاكلة.»
د. كمال أبو المجد : سأعرض كلمات موجزة ولكن أرجو أن تكون واضحة … وأنا قادم إلى هذا اللقاء سألت نفسي: ماذا نفعل؟ لماذا نحن هنا؟ ومن نخاطب؟ وماذا نريد؟ هناك شيء لا بد أن يكون وشيء لا ينبغي أن يكون. أصحاب القضايا في أمور متخصصة فيها خلافات رأي بين المتخصصين قد لا يكون هذا أنسب المجالات لطرح القضايا المتخصصة؛ لأنها قد يُساء فهمها وقد لا يُفهم مرماها وقد يسيء طرحها إلينا، إنما القضية التي لا ينبغي أن تغيب أبدًا أننا ننتمي إلى أمة، فإذا كنا نتحدث عن الاجتهاد في الإسلام، فالقضية ليست الإسلام. القضية هنا أن الأمة في عثرة وأن الأمة تحتاج إلينا، فنحن نبحث هموم أمة على أول طريق النهضة، وبالتالي قضية الاجتهاد لا بد أن توضع في هذا الموضع: هل يمكن لهذه الأمة أن تنهض وهي تعيش تمامًا على التقليد والسلف؟ لذلك لا بد من اجتهاد، وما هو نوع هذا الاجتهاد؟ ما هو موضوعه؟ ما هي مساحته؟ ما هي أدواته؟ ما هي شروطه؟ ما هي آفاقه؟ ثم نضع حدودًا، فالذي أتصوره أن الأمة إذا لم تجتهد في الأمور العملية والتشريعية، وفي المنطق العقلي بصفة عامة، يصبح ليس من حقها أن تتفاءل وليس من حقها أن تتوقع نصر الله؛ لأن الله تعالى يقول: إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ، ونصر الله في أمور كثيرة ليس في أمور الأدعية فقط، وهي أمور جليلة، إنما الأخذ بالأسباب لأن الله ليس بينه وبين أحد حجاب، من أخذ بالأسباب وصل، ولم يمنعه شيء، ومن لم يأخذ بالأسباب لن يصل. فالأمة الآن، وقد عطل أمرها وجمد حالها، تريد أن تنطلق، لا بد لهذا الانطلاق من شروط، من هذه الشروط: أن نتجاوب مع الواقع وأن نتعامل معه، وأن تجد الأمة نفسها، وأن تغير أمرها، وكيف يتأتى هذا بغير اجتهاد؟! لقد نعى القرآن الكريم بعبارات واضحة تعطيل العقل: قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا، فهذا موقف منكور بالإدانة في القرآن الكريم، ثم من قال إن باب الاجتهاد أغلق؟ هذه مقولة جرت بها أقلام دون تحقيق. حتى في العصور التي قيل فيها بهذا امتلأت الساحة، ولا تزال، بمجتهدين في المذاهب، بمجتهدين مطلقين، بمجتهدين في التفسير، بمجتهدين في الأحاديث، بمجتهدين في الفقه، وأنا أريد القول إن الذي نحتاج إليه ليس خلاف العلماء المتخصصين في مسألة تاريخية النص أو عدم تاريخية النص أو طريقة فهمه، هذه خلافات علمية وطرحها على العامة قد يضر. إن ما لا بد أن يعرفه الجميع أن لكل عصر فقهه وأن الاجتهاد … واستفراغ الجهل هذا له معنًى وهذا له معنًى، والدكتور سيد يعلم هذا جيدًا للوصول إلى حكم عملي، وإلا فما كان النبي يستعيذ بالله من علم لا ينفع. الأمة الآن عينها على الواقع وعلى نفسها، تعرف أن هناك أساسًا ينبغي … فلا نريد أن نبتعد بها عن هذا الطريق، العالم متواصل، العالم تتسارع خطاه، هذه الأمة إذا اشتغلت عما ينفع بما لا ينفع أظن أن أمرها يصير فرطًا.
مقدم البرنامج : د. سيد حضرتك ذكرت في الحلقة الماضية أن هناك نوعًا من الكوابح، أو أن هناك أمورًا تمنع الاجتهاد، ودللت على ذلك بعدة أمثلة بسيطة، ولكنك لم تشرح بالضبط وجهة نظرك كاملة.
د. سيد القمني : أي نعم … الدكتور أبو المجد أوضح الآن أن الأمة في عثرة، وأنها في حاجة إلى نهضة وفي حاجة إلى الاجتهاد المستمر الدائم، وأن نأخذ بالأسباب، ولكن ما أود أن أوضحه قبل الإجابة عن سؤالك بالتحديد، هو لون من ألوان الالتباس. ربما أنا وصلني الأمر ملتبسًا بعض الشيء، وأستعين هنا ببعض ما تكلم به الدكتور أبو المجد معنا في حلقة ٣ نوفمبر الأحد السالف. والملاحظ عمومًا في الخطاب الإسلامي على درجاته، سواء المتشدد أو المعتدل أو ما يوصَف بأنه مستنير، فيه لون من التعالي الشديد الذي يستند بالضرورة إلى ما يدعم هذا التعالي، وأظنه وأتصوره امتلاك الحقيقة المطلقة في نصوص دينية لا يأتيها الباطل من بين أيديها ولا خلفها، ولكن أنا حتى أفهم، وحتى نستطيع أن نجد مساحات مشتركة للتفاهم، كما قال الأستاذ أبو المجد المرةَ الماضية، نسأل كيف يتفق امتلاك الحقيقة المطلقة، هذه التي لا يدخلها الباطل إطلاقًا، وبين القول بالتفكير العلمي الذي لا يعرف شيئًا اسمه الحقيقة المطلقة، ثم نقول إننا نأخذ بقواعد التفكير العلمي؟! وأنا الحقيقة مسجل عندي بعض الكلمات الطيبة والجميلة من الأستاذ الدكتور أبو المجد، كقوله على الهاتف بالحلقة الماضية: «يزعجني ويزعج كل عاقل الحجر على حرية الفكر باسم أي شيء، ولو كان الدين.» هذا كلام جميل ورائع جدًّا، لكن هذا كلام التفكير العلمي والمنهج العلمي في التفكير، لكن في المقابل، فإن سيادته قد أشار إلى أنه منزعج أيضًا جدًّا، ووصف هذا البرنامج بأنه كارثة، وأن فتح الحديث عن الاجتهاد أو السؤال هل باب الاجتهاد مفتوح أم لا، هذا كارثة أيضًا. الحقيقة أنا في تصوري أننا في كارثة حقيقية كبرى، وفي نفس الوقت قال د. أبو المجد يزعجني انتشار مدرسة أسميتها مدرسة الاستحلال العلمي، وأن هذه المدرسة تحت راية الاجتهاد وتحت راية الحرية تخبط خبطَ عشواء، وتقول كلامًا لا يليق بالعقلاء، كيف أستطيع أن أوفِّق بين المعنى الأول والمعنى الثاني في كلام د. أبو المجد؟ المعنى الأول نحن مع الحريات وفتح باب الاجتهاد، لكن في نفس الوقت نجد الخطاب الإسلامي يقدم نموذجًا، كما في الكلام الذي قاله د. أبو المجد في الحلقة الماضية بشأن نصر حامد أبو زيد، كان فيه إنكار لما يقول وتخطئة، بل أنا كنت معه في مسألة خبط العشواء، كيف يتفق هذا مع ذاك؟! هل نفتح باب الاجتهاد؟ هل باب الاجتهاد مفتوح ونحن نؤمن بالحريات فعلًا؟ أم أن باب الاجتهاد مغلق ونحن بحاجة إلى اجتهاد؟ هل يعني هذا الكلام مخالفة «أبسط القوانين العقلية؛ قانون الهوية وعدم التناقض»؟ كيف أكون ضد محاولة نصر في طرح ما يريد أن يوصله للناس — محاولة لا أقول اجتهاد بالمعنى الفقهي؛ لأن أنا شخصيًّا لا أجتهد بالمعنى الفقهي — لكن محاولة فهم طرح أسئلة صعبة فرضها الواقع والمستجدات، هل أقبل هذا التناقض الذي يتعارض مع القوانين العقلية؟ وهذا التناقض رأيته أيضًا في كتاب أهداه لي الأستاذ الدكتور أبو المجد «رؤية إسلامية معاصرة» مليء بالبنود الهائلة عن الحرية والديمقراطية، لكني أجد بندًا في الكتاب ص٥٧ المادة ١٢ في طبعته الثانية …
مقدم البرنامج : ممكن قراءة اسم الكتاب مرة أخرى.
سيد القمني : رؤية إسلامية معاصرة، إعلان مبادئ.
في الترتيب ثانيًا «حق تقرير الأمور للأغلبية وتظل حقوق الأقلية مصانة ومحفوظة»، وبناءً على هذا يتم تطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية وفق هذا التقديم … طيب في مجتمع مثل المجتمع المصري أو اللبناني، المجتمع الذي يشمل أكثر من طائفة دينية، كيف يمكن التحدث عن أغلبية وأقلية في جانب وعن ديمقراطية في جانب آخر؟ أي ديمقراطية التي قبل أن تبدأ نقول إن فيها أغلبية وفيها أقلية؟ ثم هذه الأغلبية الطائفية كيف نحددها؟ ومن سيحددها؟ أنا مسلم والدكتور مسلم ولكني أخالفه الرأي، فأنا … هل سأقف عنصرًا منفردًا لا مع الأقلية ولا الأغلبية؟! إن مفهوم الأغلبية سياسيًّا له شرطان: أن الأغلبية قابلة للتغير، ممكن أن تكون أقلية، وهذا لا ينطبق على الظرف والتكوين الطائفي.
مقدم البرنامج : حضرتك بتفتح العديد من المواضيع.
سيد القمني : أنا لا زلت في مسألة أني أريد أن أفهم هذا التناقض ما بين الديمقراطية و…
مقدم البرنامج : نسمح للدكتور كمال بالرد على ما قلت ثم تستكمل ما قلت.
سيد القمني : أنا لم أجب عن السؤال الأول على أية حال، أنا كل ما في الأمر كنت أقوم بمحاولة الفهم: كيف يمكننا أن نفهم، يعني واحد طالب في كلية الحقوق مسيحي حصل على تقدير امتياز لا يعيَّن وكيل نيابة؟! وأي وكيل نيابة سيكون قاضيًا!
مقدم البرنامج : حضرتك فجرت حزمة من الموضوعات.
سيد القمني : كلها حول مسألة التناقض …
مقدم البرنامج : بعد أن يرد عليك الأستاذ أبو المجد حضرتك تعود مرة أخرى.
د. كمال أبو المجد : أنا لا أرى أي تناقض. دعني أكون أكثر صراحة. هناك في الحوار الدائم في مجتمعنا المصري والمجتمع العربي والإسلامي مخاوف متبادلة، بعضها مشروع وبعضها غير مشروع، المشروع منها في رأيي هو أن يخاف أحد الفرقاء أن يغيب احترام حرية التعبير عند الفريق الآخر، وبالتعبير القانوني مع ما يترتب على ذلك من آثار التضييق والمصادرة والامتهان والحجر والإبعاد والإدانة. وأنا ما قلت يومًا ما شفاهةً أو كتابة إني أبيح الحجر، أو أن يصادَر رأي؛ كائنةً ما كانت المخالفة، لكن هذا لا يمنعني من التخطئة في مقام الحوار، وأنا أعترف أحيانًا بالخطأ، من حسن الحوار أن يكون هناك استعداد لتغيير الرأي والاقتناع والإقناع. أنا لا أرى أي تناقض في أن أخطِّئ منهجًا معينًا، إن الأمة تعيش حربًا أهلية يرتادها ويقودها مثقفوها، وهي حرب أهلية وليست حوارًا، والطاقة المستهلكة في هذه الحرب ينبغي أن توفَّر وأن تُدخر، بأن نقوم بما أشرت إليه في الحديث الهاتفي؛ نحرر الخلاف، أنا أرى أننا مختلفون حول قضية واحدة لكنها أساسية، وهي من القضايا التي لا أحب أن أشغل بها المشاهدين، لكنها في الواقع تتعلق بمعنى تاريخية النص، لأن أنا اليوم حتى أخاطب الأمة وأكسب ثقتها وأدعوها إلى النهضة، وأن تستجيب، لا بد إن أنا وهي في أرضية مفترضة وإن كانت لي خلافات؛ لأنني أعتز بها وأواظب عليها، الأرضية هذه عند الأمة هي الإيمان، والإيمان عند الأمة شيء بسيط جدًّا، ويسعها بعد ذلك أن تقبل كل أنواع الخلاف. د. سيد يعرف وأنا أعرف وأنت تعرف المنازعات بين الأشاعرة والمعتزلة، وأنه قد نشب خلاف بين أصحاب المذاهب، وأنا أشرت في إحدى مقالاتي إلى خلاف حاد بين إمام دار الهجرة مالك بن أنس، وإمام مصر الليث بن سعد، وتبادلا الخطابات روعة في وضوح الخلاف وأدب الحوار. أنا لا أتهم أنا أكلمك بكل صراحة (يرفع كتب سيد القمني مشيرًا إليها)، أنا استمتعت بهذه القراءة وخرجت متعلمًا منها.
مقدم البرنامج : استراحة ثلاث دقائق. بعد الاستراحة نستكمل.
مقدم البرنامج : نتابع مناقشة قضية الاجتهاد. الأستاذ كمال كان يتحدث قبل الاستراحة، تفضل يا دكتور.
د. كمال أبو المجد : أنا في كلمات واضحة جدًّا أقول إن نقطة الخلاف، ولست متأكدًا أنه خلاف، بيني وبين د. سيد القمني، إنما أتحدث عن منهجية لأني وجدت في كتاباته ما يشككني في وجود هذا الخلاف … كيف؟ المنهج الأول منهج إيماني، يرى أن النص القرآني، نص الوحي، منزل؛ أي إنه داخل على السياق، لكن كونه داخلًا في السياق ليس معناه أنه يلغي تاريخ الإنسانية، إنما القضية أنه ليس من صنع الواقع، إنما المسلم أو المؤمن، كتابه يهودي مسيحي أو مسلم، يؤمن أن الله يوحي إلى نبيه وهو نزل …
مقدم البرنامج : أي ليس صناعة بشرية.
د. كمال : بالتالي قضية الوحي قضية محورية ولكن ليس معنى القول إن الوحى ليس نصًّا تاريخيًّا أنه يلغي تاريخ الإنسانية، أنا حين أقرأ للدكتور سيد القمني عن الأسطورة استمتعت، وأنا قارئ من قبل في تاريخ الأمم البائدة حصل تسلسل تاريخي، لكن في لحظة تاريخية معينة جاء الوحي …
مقدم البرنامج : وحضرتك هل ترى خطأ عند د. سيد أو تختلف معه؟
د. كمال : إن بعض عباراته تلتبس عليَّ؛ لأنها قد توحي أن النص ليس مفارقًا إنما هو جزء من واقع الأحداث، يعني في كلامه عن الأساطير كل ما ذكره صحيح وموثق، وهو عالم محقق ومدقق، واعتمد الآثار من الكتب المعتمدة عند أهل الملة وأهل الأمة: ابن الأثير وابن كثير والطبري والمسعودي وغيرهم، كذلك في العرب البائدة وفي الأساطير، كل هذا صحيح، إنما يبقى أنه لا أستطيع القول بأن النص امتداد لهذه الأساطير. الأسطورة تعبير عقلي وفيض وجداني عن أمور وهموم وتطلعات وأشواق تعبر عن واقع، ليس لها سند معلوم وليس لها مصدر معلوم، وهو يعلم ذلك أكثر مني. فحين يأتي الإسلام ويقول إن بعض هذه الأساطير حقائق كقصة الكعبة وزمزم وإبراهيم وقصة الصفا والمروة، عليَّ أن أوقن. معنى هذا أن بعض الأساطير القديمة لم يكن لها أثر، وإنما صنع خيال، ولكن ليس هناك تاريخيٌّ ما ينفي أن لها أصلًا وأُضيفت إليه أشياء حين يأتي النص القرآني المنزل، ويقول: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ، ثم يتكلم عن إبراهيم وإسماعيل والذبح، أنا كمسلم أصدق؛ لأن هذا هو الفيصل بين الإيمان واللاإيمان.
مقدم البرنامج (متوجهًا إلى سيد القمني) : هل أنت مصدق أم غير مصدق؟
د. كمال : كيف أناقشه في هذا؟ أنا أجاوبك عنه، هوه مصدق.
سيد القمني : سيدي الكريم، على أية حال، هذه المنطقة أحاول دائمًا أن أنأى بأصدقائي أن يسألوني فيها. هذا أمر قلبي وعلاقة جوَّانية بالمقدس … إلخ.
مقدم البرنامج : قلت إنك تعتقد أنه ليس صناعة بشرية؟
سيد القمني : أنا حين أتحدث أحاول ألا أكون مجتهدًا بالمعنى الفقهي؛ لأن هذا له أربابه وله أهله، وأنا قلت ذلك المرة السابقة، أما مساحة اجتهادي في الجانب الإنساني؛ لهذا أتحدث في الجوانب الإنسانية في المجتمع في الاقتصاد في السياسة، صياغة الفكرة في فرز المجتمع وهو يخرج ويفرز بنية علوية و…
مقدم البرنامج : في بدء كلامك في هذه الحلقة كنت تتكلم عن بعض سلبيات الخطاب الإسلامي، هنا أريد أن أسألك سؤالًا: إذا كان الآخر يمثل الخطاب الإسلامي، فأي خطاب تمثل أنت؟
سيد القمني : يا سيدي الكريم، أنا أمثل خطابًا علميًّا بمعنى أن قواعد العلم يجب أن تشمل كل موضوعات المعرفة، والدين أيضًا بنصوصه معرفة نتعامل معها وفي قراءتها بالمنهج العلمي.
مقدم البرنامج : هل تقصد وضع العلم في مواجهة الدين؟
سيد القمني : لا، إطلاقًا.
عماد : لكن تحت مظلة الدين يمكن تتكلم.
سيد القمني : هناك قضايا يجب الحديث فيها على نفس الأرض، وهناك قضايا، كقضية الحريات، يجب أن يحدث التماس فيها من الخارج وليس من على نفس الأرض؛ فقضية الحريات أضيف إليها رصيد كبير جدًّا منذ زمن الوحي، كل ما في الأمر أننا نطرح السؤال ونترك لأرباب الاجتهاد أن يقدموا فيه إجابة، أن نفتح النوافذ، أن نسأل، أن نثير الدهشة، يعني في المسألة التي تحدث فيها د. كمال عن قراءتي للأساطير، وأن الوحي قد يبدو مع التباس بعض العبارات امتدادًا لهذه الأساطير. بالإمكان القول، وهو ما قلته في كتاب الأسطورة والتراث؛ أن الوحي الإسلامي لم يأتِ دفعة واحدة، إنما أتى متدرجًا في ثلاثة وعشرين عامًا هي عمر الوحي وتواصل السماء مع الأرض، هنا تفاعل مع الواقع ومع المأثور ومع الأسطورة ومع قصص الحضارات، ثم شكل لها امتدادًا، هنا الحكم مسألة الإيمان من الدرس الموضوعات التي تتعلق بمسائل الغيب والإله، هذه محل إيمان وليست محل درس، إما أن تؤمن بها أو لا تؤمن بها، لكن هناك أمورًا نتعرض لها هي محل الدرس، وهي ما يتعلق بمعاشنا وبمصالحنا وبوطننا ومستقبلنا.
مقدم البرنامج : السؤال موجَّه إلى حضراتكم: ما الفارق بين إعمال العقل وبين التجرؤ على النص؟
د. كمال : الحقيقة أنا أرى أن نوضح الأمر توضيحًا ليس بعده توضيح.
القضية أن الذي يؤمن بالوحي يؤمن أن النص كما جاء هو كما جاء وأنه حي، لكن النصوص مع ذلك ليست سواء في دلالاتها على معناها، وأنا هنا أتكلم عن الأحكام العملية؛ لأنه ليس هناك تدرج في الأحكام العقائدية منذ بدء أول آية: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خلق الإنسان من علقٍ، التوحيد واضح والألوهية واضحة، هذا لا يحتاج إلى تدريج، الذي يحتاج إلى تدريج في الواقع التاريخي والمجتمعي والاقتصادي هو الأحكام العملية؛ لأنك تأخذ الناس على شيء وتنتزعهم من شيء، ومن هنا احتاج الأمر إلى تدرج في التشريع، والذي يتطور هو تطور التشريع لملاقاة حاجات الناس المتجددة … أما الحقائق فلا تدرج فيها، والإسلام في عقيدته واضح، كان فيه الشعراء والأنبياء وجاء القرآن الكريم أقر العقائد الصحيحة وأنكر العقائد التي اعتبرها فاسدة، فهنا لا يوجد اجتهاد. الاجتهاد الذي نتحدث عنه ينبغي أن يكون في الأمور العملية، وأنا أتفق مع كل المجتهدين في أن النص قد يكون حمَّال أوجه، ونحن لدينا رسالة جليلة لابن تيمية الحنبلي «رفع الملام عن الأئمة الأعلام» وأبو حنيفة يقول: «علمنا هذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا عليه.» بل في فهم النصوص في أمور أخرى مما نقول: القرآن القديم قديم أم محدث؟ تكلم فيها العلماء، الرمز والحقيقة تكلم فيها خاصة المتكلمين. إنما أنا أريد اليوم أن نشغل أنفسنا بالاجتهاد الذي يتعلق بحرية الناس، في أن تتعدد آراؤهم في المسائل الاجتماعية والسياسية والعملية والاقتصادية؛ لأن الناس تنتقل من التوحيد في قضايا العقيدة إلى الإصرار على الوحدة في قضايا المجتمعات، وهذا مستحيل، وبالتالي أقول جوابًا لا غموض فيه: إن الذي يؤمن بالوحي ينبغي أن يفرق بين نص الوحي وأي نص آخر، ويمكن كلام الدكتور سيد عن الخطاب الإسلامي كأنه يريد أن يقول خطاب الناس في فهم النص.
مقدم البرنامج : ننقل الموضوع على الأرضية … نجد أبحاثًا واختلافًا كبيرًا حول اختمار اللبن وإن اختمر هل يسكر أم لا؟
د. كمال : كلام على العين والرأس.
مقدم البرنامج : على الرأس لكن أتكلم عن اختمار اللبن ولا أتكلم عن فساد الأنظمة السياسية؟
د. كمال : هذا أمر لا أشغل نفسي به؛ لأنه سقم في الفكر وعِوج في الرأي، وكم من الناس يزعجهم أن الواحد لا يرسل لحيته ولا يزعجهم أن تغيب الشورى ويضيع العدل ويتأخر المسلمون ويتبعوا المشرق والمغرب والشمال والجنوب! هذا خلل في الرؤية. إن الأمة تريد أمرين: تريد أن تعيش هذه الدنيا، وأن يكون لها شأن بين الأمم.
مقدم البرنامج : تفضل يا دكتور سيد.
سيد القمني : الأمة الإسلامية جاء عليها زمن كانت إمبراطورية قوية، هذه القوة جعلت القائمين على هذه الأمة لا يخشون على النظام ولا على الفكر ولا على عقيدة الأمة، وفتحت كل الأبواب على كل الثقافات. فترجمت العلوم الهندية والفلسفة اليونانية، بل انفتحت على ديانات مغايرة للإسلام تعد ديانات وثنية، بل وكتب فلاسفتنا الكبار الذين نعتز بهم اليوم كتابات مزجت بين تلك النظريات القديمة التي تُعَد وثنية وبين الإسلام، مثل الفارابي وابن سينا في نظرية الفيض مثلًا، ولم يتورعوا عن مناقشة أكثر الأمور حساسية حتى وصلوا إلى ذات الله وناقشوها وجعلوها موضوعًا للمناقشة والمعرفة، وتساءلوا عن علاقة ذات الله بصفاته، وهل صفاته حقيقية أم مجازية. وانقسموا في ذلك مدارس، هذا كان في عصر القوة زمن الثقة، عندما أنجبت الأمة كوكبة من العلماء نفخر بهم ساهموا في تأسيس العلم البشري الموجود اليوم. لكن في ذات الوقت قبِلت الأمة ضريبة أخرى هي حرية الفكر، فقبِلت أن يكون من رجالاتها الطبيب الرازي، هذا الطبيب كان رجلًا متميزًا كعالم طبيب وملحد. ابن الراوندي الذي عاش حوالي مائة سنة وخمسة لم يُرمَ عليه حجر، وكتب حوالي أكثر من ٩٣ مصنفًا أو أكثر من ٨٣ بأسماء الجواهر والأحجار الكريمة الزمردة والياقوتة والمرجانة، كلها فيما يقول مخاريق الأنبياء، أي دحض الرسالات. ومع ذلك لم يتعرض له أحد، الأمة قوية والإسلام لا يخشى على نفسه، ومؤسسات الدولة لا تخشى على نفسها. وحين أُغلقت كل الأبواب بمجيء الخليفة المتوكل بعد المعتصم، وهذا ما نعرفه تاريخيًّا، بدأ عصر الانحلال ووُضعت الشروط على الاجتهاد، رغم أن هذه الشروط لم تكن موجودة زمن المعتزلة الذين أعلوا من شأن العقل؛ بحيث إنه لو اختلف مع نص قرآني، نأخذ بما قاله العقل. هذا ما قاله المعتزلة في زمنهم. أما مسألة ما الذي يكبح الحريات الآن، هذه الكوابح التي سألت عنها في البداية سيدي الكريم، الدين في حد ذاته ليس مع تقدم أو تخلف، هو كيف نتعامل مع نص الدين؛ أما أن نجعله مُعينًا للتقدم أو نجعله كابحًا له مساعدًا على التخلف، حسب قراءة كلٍّ منا لهذه النصوص الدينية، ولا أقول إني أجتهد بالمعنى الفقهي، أكرر، أنا أحاول أن أفهم وأطرح أسئلة قد تبدو حرجة وقد تبدو حدية بعض الشيء، ولماذا تطرحها الآن؟ لأن الكارثة التي نعيشها أكبر من الصمت على أسئلة محرجة.
مقدم البرنامج : نبدأ في أخذ الأسئلة … ونرجو من المشاهدين تلخيص الأسئلة في ٣ دقائق.
أول اتصال «د. إلهام الدجاني».
المشاهدة «إلهام الدجاني» : … السلام عليكم
جزاك الله خيرًا عن المجهود العلمي الذي بذلته الأسبوع الماضي، فكانت فاصلة قاطعة على كل ما قد يعتقده أي شاب من الشباب أو قارئ في كتابَي أبو زيد والعشماوي، كما حكم عليهم محمد عمارة ولست أنا … بالنسبة للدكتور أبو المجد يقول إنه عجبه بعض الأشياء في كتاب د. سيد وهناك ما لم يعجبه. ممكن يوضحه حتى نعرف؛ لأننا في المستقبل إذا قرأنا الكتاب فالأستاذ عالم ودكتور نستفيد منه. عجبني أبو المجد حين فرق في التدرج في التشريع وبين التطاول على الأحكام، ورأيي أن هناك فرقًا بين الاجتهاد وبين حرية الفكر التي تكون اجتماعية سياسية اقتصادية ثقافية، أما الاجتهاد فيكون في أمور الفقه ونتركها للمتخصصين للدخول في أشياء مستجدة علينا في القرن اﻟ ٢١، مثل قضية زراعة الأعضاء هذه مشتبه فيها. د. سيد يقول إن الإسلام انفتح على الحضارات السابقة، طبعًا شيء طبيعي ولكن فيما يتفق مع الكتاب والسنة، وليس مع ما يختلف مع تعاليم ديننا، وحرية الفكر ليست في الكتاب ولا شخصية سيدنا محمد وما ورد في سيرة ابن هشام كذلك الخلفاء الراشدون، هذه أشياء تُترك للمتخصصين في علم التاريخ، ويجب أن يكون عندهم حاسة إسلامية، إنه يبحث في التاريخ الإسلامي، فإن لم تكن لديه الحاسة الإسلامية أنه يبحث في التاريخ الإسلامي صعب أن يقرأ فيها.
استراحة ثلاث دقائق
مقدم البرنامج : ما زال فتح القضية مستمرًّا.
الدكتور إلهام الدجاني أثارت عدة نقاط هامة، د. كمال، ما هي ملاحظاتك السلبية على كتب د. سيد؟
د. كمال : د. سيد أشار في كلامه معاتبًا بموضوع الاستحلال العلمي … إننا نطرح قضايا للأمة، ولا بد أن نصطلح على منهج. المنهج الإسلامي في المعرفة يقوم على ساقين: ساق عقل وساق نقل … فلا أتصور أن يكون المنهج العلمي في الإسلام إلا قائمًا على هاتين الساقين … ولا أقول إنه منهج عقلي خالص؛ فأطوِّع الوحي وأهوِّن أمر الوحي، وأنا حين أقرأ كتاب د. سيد أنا لا خطر عليَّ منها حين يتدرج في الأسطورة في الذبح والقرابين عند اليهود والبابليين والآشوريين والفراعنة واليهود والمسيحيين، كأني وأنا في القربان والحجر الأسود والحج الذي هو حج في اللغة، كأني أنتقل من أسطورة إلى أسطورة، وكأن الوحي في السياق التاريخي إحدى المراحل العابرة. أنا أعتقد أن القارئ غير المتخصص قد يصيبه هذا الضرر. النقطة الثانية: مسألة تاريخية النص أيضًا والإصرار عليها يكاد … لولا أني متخصص، والعبارة أكبر من الدلالة بالإشارة، فقد جاء الدكتور سيد في آخر كتابه «الأسطورة والتراث» وقال عن القرآن الكريم: «فالكتاب متكامل بذاته مستغنٍ عن الدفاع عنه بنفسه؛ فقد وصل الإسلام تكامله واستقراره في حياة صاحب الدعوة وهو الأمر الذي لا يخشى معه عرض مسألة … إلخ» هذا كلام متخصصين ونحن لسنا مضطرين أن نوقِع القارئ في مثل هذا الشك وهذه الشبهة، ونحن ندافع عن قضية هامة. وغير صحيح ما قاله الدكتور سيد وآسف أن أقول ذلك … أن الإسلام انفتح على الحضارات ولكنه لم يذُبْ فيها، وأنا قارئ للتراث الإسلامي وأعرف المتكلمين أين تأثروا بالفرس والهند وكذلك الصوفية من الحسن البصري حتى هذا الزمان، أعرفهم كما أعرف كف يدي، لكن كل مذهب وله هوية … هل أنا يمكن أن أقول إن الماركسية هي أي شيء وأغيِّر وأقول ليست هناك دكتاتورية بروليتاريا، مفيش تفسير اقتصادي للتاريخ، مفيش مادية جدلية ولكنها مع ذلك تعد ماركسية؟! إن الإسلام يظل له كيان رئيسي، أمور لا وجود للخلاف فيها، وأمور كثيرة لا بد من الخلاف فيها، الذي أريد قوله أن الإسلام انفتح على الحضارات؛ لأنه بعد أن يصل الإسلام إلى الناس هم بشر يتعامل بعضهم مع بعض، يأخذون وينتفعون، وحتى في الأعراف الموجودة في الهند غير هنا. تبقى جزئية خطيرة جدًّا هي المسيحيون في المشرق، موقفي أنا وإخوة آخرون واضح. إن الإسلام اتخذ موقفًا واضحًا من النصارى المسيحيين بشكل جاد، وأن حريتهم في عباداتهم أمر أساسي، والأمر الثاني أنهم يتمتعون بكل ما لنا ويؤدون كل ما علينا، وكلمة الذمي: إن الذمة من العهد، ونقول أهل الذمة؛ أي أهل العهد. وكانت تعبيرًا عن الأداة القانونية التي التزمت من خلالها الدولة المسلمة بحماية وإعطاء الحقوق لغير المسلمين، لكن مضمون هذا العرض هو الحرية الكاملة والمساواة الكاملة، وقد حل مكانه الدستور، فحين يقول د. سيد: وكيل نيابة مسيحي على عيني ورأسي، ولو تقدم لوظيفة يستحقها وحُرم منها، أنا كمحامٍ ممارس أرفع له قضية، أما حرية الأغلبية في أي قضية من القضايا إذا تكونت أغلبية، خاصة في قضية تطبيق الشريعة الإسلامية، رغم دقتها وعدم تحديد مفهومها وضمانات القائمين عليها … إذا اتخذت أغلبية الناس مسيحيون وبعض المسلمين أو مسلمون وبعض المسيحيين بتطبيق الشريعة الإسلامية، فهل آخذ برأي الأقلية؟ … أين المنطق في هذا؟ المهم أن الحقوق والحريات تخرج مطلقة وأن الشعائر الدينية تؤدى.
سيد القمني : أنا لم أقل إن الأمة الإسلامية ذابت في علوم الآخرين وحضاراتهم، إنما قلت تحديدًا: انفتحت ولم تخَفْ ولم تخشَ منها وتعاطت معها وتجادلت وأخذت فلسفات من الآخرين، بل وقلت ما نصه: وأخذت عقائد قديمة ومزجتها بعقائد إسلامية؛ فيما يسمى نظرية الفيض عن الفارابي وابن سينا، وهؤلاء نفتخر بهم ونعتبرهم من كواكب سماء التاريخ الإسلامي والعربي أيضًا. أما عن نظرية الأغلبية، أنا أقول إن الأغلبية مفهوم سياسي يعني أن الأغلبية قد تكبر أو تصغر وتصبح أقلية، وهي مفتوحة لمن يخرج ويدخل إليها. أنا أحاول طرح التساؤلات: أنت عندما تفرض شريعة الأغلبية، فإن هذا الفرض ليس فرضًا لشريعة، بل فرض للأغلبية نفسها؛ لأن هذه هي قوانين الأغلبية، ويقال إننا متسامحون، ولكن هناك سؤالًا: من أعطانا الحق للتسامح أو عدم التسامح مع مواطنين مثلنا؟
د. كمال : أسأل سؤالًا يا دكتور … هل تستطيع سيادتك في أمريكا الشمالية أن تعدد الزوجات؟ ولماذا؟ لأنه القانون الذي تأخذ به الأغلبية. فإذا جاءت الأغلبية هنا ورأت أن مصدرها في التشريع الإسلامي ننزعج؟ هل تستطيع أن تعيب على الأنجلوسكسون أنهم لا يأخذون بتشريع نابليون؟ كل أمة تختار شريعتها وهي جزء من تراثها، أنا مندهش أين الغرابة في ذلك؟ ولا تنسَ يا سيدي وأنت تعرف التاريخ أن الشريعة كانت مطبقة حتى جاء الأجانب وقالوا نطبق أحكامًا قنصلية، ثم اشترطوا للدخول إليها تغيير الشريعة. ثم إن القوانين الموجودة ٩٠٪ منها لا تتعارض مع الشريعة الإسلامية؛ لذلك فقضية الشريعة لا تشغلني، ولكن يشغلني أن يقال إذا رأت الأغلبية صلاحها في الشريعة أقول لها لأ … لماذا لا أقول للأغلبية الأمريكية: لا تطبقوا القانون الأمريكي وأريد تطبيق شريعتي الإسلامية، مع العلم بأن إحنا هنا نحترم عقائد الآخرين في الأحوال الشخصية!
سيد القمني : الأمثلة التي ضربتها يا د. أبو المجد حول الشعوب الأخرى ونظمها وقوانينها، هذه في النهاية قوانين إنسانية، أي إن الذي يحكم باسمها لا يقول إن كلامي مطلق وحكمي نهائي وإنه لا يدخلها الباطل، هنا أستطيع أن أدحض ما قاله وأضع صوتي بالرفض أو التأييد في صندوق الانتخابات وأغير … إلخ، أما في حالة الشرائع الدينية ومن ستكون مهمته القيام على تنفيذ تلك الشرائع؟ وهل هو وحده الذي يلتقي تفسيره ورأيه مع المقصد الإلهي؟ أم أنه سيعطي فهمه هو لنصوص الشريعة؟ وهنا سأختلف معه وإذا خالفته كفرني، ونعود إلى مشكلة الحكم بالحق الإلهي.
د. كمال : ليس في الإسلام السني على الأقل رجال دين ينطقون باسم الحق المطلق. يا د. سيد، أنت تتكلم عن مشاكل حقيقية ومشروعة، ولا يوجد متحدث واحد باسم الحقيقة، وليس هناك اجتهاد فردي بل اجتهاد جماعي.
المشاهد (محمد شريف) : أطرح السؤال للسادة الأفاضل عن ثلاث عبارات وردت في كتابات نصر حامد أبو زيد، إذا ردوا عليها أوضحوا لنا حدود الاجتهاد، وهي:
(١) أن إعجاز القرآن ليس إلا في تغلبه على الشعر وسجع الكهان، ولكنه ليس معجزًا في ذاته.

(٢) إن القرآن منذ نزل على سيدنا محمد أصبح وجودًا بشريًّا منفصلًا عن الوجود الإلهي.

(٣) التصورات الأسطورية المرتبطة بوجود أزلي قديم للنص القرآن في اللوح المحفوظ في اللغة العربية، ما زال في ثقافتنا.

السؤال هو رأي كلٍّ منكم؟ وهل هذا الكلام يدخل في إطار الاجتهاد أم لا؟
د. كمال : الإجابة عن السؤال الأول: أنا أخالف ذلك؛ فإعجاز القرآن ليس فقط في أنه تفوق على الشعر وسجع الكهان. ومن أحسن ما قيل: إن كلام العرب ثلاث: شعر ونثر وقرآن. إنما ليس هنا قضية الإعجاز سيدي هي قضية قرآن نزل في ٢٣ سنة يعالج مسائل الحرب والسلام والزواج والطلاق والأسرة والبيع، ويجمع هذا كله لا يكذب. ومن أحسن ما قرأت أكثر أشياء إعجازًا في القرآن شريعة القرآن. محمد حل مشكلته أنه كان يوحى إليه، إنما هذا القرآن إن كان من عنده لكانت المشكلة أكبر ولعبده الناس. السؤال الثاني: إن النص إذا وصل إلى الناس انفصل عن مصدره! لا يا سيدي؛ لأن مصدره إلهي، إنما متى يصبح إنسانيًّا بمعنيين: معنًى بعيد ومعنًى قريب، هو إنساني بمعنَى أنه يخاطب الإنسانية، ويصير إنسانيًّا بمعنَى أن خطاب الناس المتعلق به يصير إنسانيًّا، وقال أبو حنيفة علمنا هذا رأي. وسئل: هل هذا الرأي هو الصواب الذي لا شك فيه؟ قال بل لعله الخطأ الذي لا شك فيه. واليوم حين أقرأ شعر شوقي يظل شعر شوقي هو شعر شوقي، ومن عنده مذاق الشعر يشعر ويحس فيقول: لا يقول ذلك، هذا الكلام ليس كلام طه حسين، العبارة هذه ليست عبارة المتنبي. أنا أعترض على ذلك.
مقدم البرنامج : استراحة ٣ دقائق.
د. كمال : فيما يتعلق بالجزئية الثالثة، أخالفه أيضًا لما قيل: فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ، وأريد أن أقول كلمة أخوية للدكتور نصر، ود. سيد: نحن شركاء في القضية، فتعالوا لا نفسد ذلك، وأن نركز المناقشة على حرية التعبير والحريات السياسية والمدنية، ولا ندخل في القضايا الشائكة، وأقول عن ذلك إنه أساطير فأشككهم في دينهم …
المشاهد (أوزجان يشار) : أنا أريد أسأل د. كمال عن كتابات د. نصر أبو زيد، أليس إعجاز القرآن في نصه؟ لكل دين ولكل نبي كانت هناك معجزة، فمثلًا سيدنا عيسى استطاع أن يحيي الموتى، موسى كان هناك سحرة فكانت عصاه أقوى وأبلغ، كذلك الرسول كان في مكة شعراء فطاحلة، فكان يجب أن يأتي هذا القرآن معجزًا بنصه … هناك مناظرة حدثت بين الشافعي وابن حنبل في قضية تارك الصلاة، فقال الشافعي: يا أحمد أتقول إنه يكفر؟ فقال: نعم، فقال الشافعي: فبماذا يسلم؟ قال: يقول أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فقال الشافعي: الرجل مستجيب لهذا القول لم يتركه، فقال ابن حنبل: يسلم بأن يصلي. فقال الشافعي: صلاة الكافر لا تصح؟ فسكت الإمام أحمد. واليوم نأتي لنكفر د. نصر حامد أبو زيد ونحن لا نعرف من كفر الرجل؟ وكيف اجتهد؟ ومن الذي وضع تلك المحاكمة له؟ وهل تُركت له سبل الاستتابة؟ نحن لا نفهم ماذا حدث …
نريد من د. كمال، لأننا نثق به وبعلمه، أن يعقب على هاتين النقطتين.
د. كمال : لأمانة العلم أقول إني قرأت كتب د. سيد محمود القمني ولم أقرأ سوى كتاب واحد للدكتور نصر أبو زيد، وأنا ما كفرته، بل يجب الإفساح للناس ليقولوا ونخطِّئ هؤلاء ونرد عليهم، كما أعلم أن د. عمارة رد، ولا أقول لمن يقول: «أنا مسلم»: أنت لست مسلمًا، على أضعف الإيمان نمنحه فرصة كافية ليدافع عن نفسه ويعرض رأيه. إنما أنا سأرد على عبارة أوردها الأستاذ عمارة آخذًا من كتابه، أنا لا أوافقه على العبارة وليس لي شأن بالدكتور نصر أكثر من ذلك.
فالإعجاز القرآني كان طبيعيًّا بعد بلوغ البشرية نضجها، فكانت مشكلة عقلية فيما جاء فيه وفيما لفت إليه من آثار، أما السنة الكونية فهي دليل على قدرة الله في كل لحظة؛ لذلك تذكير القرآن بالسنن الكونية أكثر من تذكيره بالمعجزات، وحين سألوا الرسول أنه يعمل كذا وكذا قال: سبحان الله! ما كنت إلا بشرًا، فبشريته ونبوته حاضرتان، ودعوته عقلية ومنهجه ليس غيبيًّا. وحين سلك الناس مسلكًا غيبيًّا وقالوا: الشمس خسفت بموت إبراهيم ابنه، قال: يا أيها الناس، أربعوا على أنفسكم، إنما الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا تخسفان بموت أحد أو حياة أحد. المنهج عقلي في إطار الإيمان بالوحي المنزل.
سيد القمني : مطلوب مني التعقيب على محمد شريف في ثلاث عبارات للدكتور نصر: بالنسبة العبارة الأولى، لا أتصورها قالها كما وردت الآن عند المشاهد الكريم، والكتاب ليس أمامي للتأكد، لكن إعجاز القرآن الكريم من وجهة نظري في تفاعله مع الواقع وأخذه وعطائه معه واستجاباته لمتغيرات الواقع خلال عمر الوحي الذي وصل إلى ٢٣ عامًا، ولم ينزل دفعة واحدة كتلة واحدة. وهو بذلك يعطي درسًا للمؤمنين به أنه مع تغير الأحوال … أنتم خلافة الله في الأرض، والنبي المصطفى صاحب الدعوة هو آخر النبوات وختامها، وإنه لن يكون هناك تدخل بشكل مباشر بأنبياء أخر مرة أخرى؛ فقد بدأ عصر العقل، عصر الإنسان؛ حتى تستحق البشرية الخلافة وتبدأ في الاجتهاد.
د. كمال : أنا أوافق على هذا الكلام الذي قاله الآن د. سيد …
سيد القمني : الأمر الثاني مسألة أن النص القرآني أصبح له وجود بشري بمجرد ما تمثل في الواقع، حقيقة أنا فهمت عند الأستاذ نصر حامد وأنا أقرأ له ذلك، وربما أكون مصيبًا أو مخطئًا، لكن هذا فهمي أن هذا الخطاب القرآني قد نُطق فسيولوجيًّا بآلة إنسانية، بمعنى أن هذه الآلة التي هي اللسان، وهي السمع وهي الأحبال الصوتية وهي الحنجرة. هذه أجهزة إنسانية بشرية، نقل نص اللفظ القرآني القدس على لسان المصطفى صاحب الدعوة عليه الصلاة والسلام إلى المسلمين بلسانه ثانيًا، ثم إنه تفاعل بلغة بشرية مع واقع أيضًا كان بشريًّا، مثل تفاعله مع الحضارات مع الفرعون مع جالوت مع طالوت مع النبي صالح، هذه كلها أحداث أرضية. أظن أن الدكتور نصر أبو زيد يقصد هذا المعنى، أنه قد تأَنْسن أي أصبح نصًّا إنسانيًّا يمكننا التعامل معه باحترام لكن بلا رهبة لا تجعلنا في موقع التعامل العلمي الصادق معه.
النقطة الثالثة، وسأترك د. كمال يعقب، التصورات عن اللوح المحفوظ أو التصورات أن القرآن الكريم في لوح أزلي … أظن د. نصر وضع يده على مسألة محورية لسبب بسيط كيف يمكن الجمع، وهذا التناقض التأسيسي الذي أشير إليه طول الوقت، كيف يمكن الجمع ما بين القول إن هذا القرآن الكريم كان كتابًا في اللوح المحفوظ من الأزل هكذا، وبين أنه جاء مفرقًا ومنجمًا ليُقرأ على الناس على مهل وعلى مُكثٍ حسبما تتطلب حالات المتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في الواقع؟ أو كيف أفهم أنه كان في اللوح المحفوظ وهناك خطاب يقول: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا هذا حدث آني، حدث زمن صاحب الدعوة، فكيف يكون أزليًّا؟
د. كمال : الإلهيات الخوض فيها في ندوة أنا غير مستريح إليها، ولكن يا سيدي أنت تعلم أن مقتضى كمال العلم أن يحيط الله بالأمر والزمان الوجودي الحاضر والماضي والمستقبل. هذا حد من حدود المعرفة الإنسانية، أما في كمال الله، فالحاضر والماضي والمستقبل على خط أفقي، ومقتضى كمال العلم، وإلا لوصلنا إلى قوله تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا يعني أنه لم يكن عالمًا بهذا الضعف من قبل؟! هذه أمور يُبديها ولا يبتديها، إنما كمال العلم أنه كامل كله في العلم الإلهي.
مقدم البرنامج : تعتقد أن هناك خطأ في أن يتعامل المفكر أو الباحث مع النص على أن واضع هذا النص هو مفكر مثله بنفس قدراته العقلية؟
د. كمال : لم أقصد أن الدكتور سيد يقول هذا، إنما هو يتحدث عن قدسية النص، وهو فيصل بين الإيمان ومتروكه، إن هذا القرآن كلام الله.
مقدم البرنامج : أريد أن أسألكم سؤالًا بسيطًا.
إذا لم تكن قضية التفريق قد حدثت لدكتور نصر يمكن لم يكن أحد عرف شيئًا عن كتب د. نصر، السؤال: هل هذه قضية شارع إسلامي أو شارع عربي؟
د. كمال : جزء منها قضية شارع إسلامي أشار إليه د. سيد.
وكما قلت في أول حديثي، الأمة هي القضية وليس مثقفيها … النقطة التي عرض لها د. سيد ونريد مناقشتها بهدوء، وهي مسألة: لا اجتهاد مع نص، فإنه فعلًا بعض الناس فهم النص على أنه الدليل الجزئي، هذا الجانب العملي، فلو أخذنا المقولة هذه على إطلاقها … التفسير الغي، التأويلي الغي، الفقه الغي. وكي يكون المشاهدون معنا، نابليون بونابرت سنة ١٨٠٤ وضع القانون، نابليون فيما لا يزيد على هذا الكتاب (يشير إلى كتاب صغير) ولم تمضِ سنوات إلا وكبار الفقهاء للقانون الفرنسي ألفوا كتبًا بالعشرين والخمسة وعشرين جزءًا. إخواننا المالكية في العالم الإسلامي يعلمون أن متن خليل لا يزيد على هذا (يشير إلى نفس الكتاب)، ولكن لنرَ شرح الدرديري على متن خليل وحجمه، لنرَ المهذب للشيرازي على المجموع للنووي. إذًا العلم واسع … وأنا أقول استحلال علمي، لماذا؟ أنا لا أمارس الطب أو القانون إلا إذا كانت معي شهادة تقر ذلك … اليوم كي أجتهد في الفقه لا بد من معرفة أصول الفقه … كلمة النص عند الأصوليين تشير إلى النص الذي له عبارات لا تحتمل التأويل، الواضح الدلالة بشكل قطعي … هذا هو الذي لا اجتهاد معه، والمساحة كبرى بعد ذلك للاجتهاد. نحن نعيش في ظل دستور ولكن الدستور هو ما نقرر نحن أنه كذلك، ونفسر كبشر أصنافًا من عصره ومن فقهه وأضاف من مزاجه ومن ضيق صدره أو اتساعه، إنما أنت بعد النص وليس معه.
مقدم البرنامج : من الذي على الخط؟ الدكتور عمر الفاروق من قطر … اتفضل.
المشاهد (عمر الفاروق) : اسمح لي أن أقول نقاطًا سريعة وأذيلها بسؤال:
(١) قضية الاجتهاد لا أعتقد أنها عويصة إلى هذا الحد بقدر ما هي واضحة ومحددة ومقدورة من قِبَل الله سبحانه وتعالى، إن الله حدد الحدود التي لا ينبغي أن نتعداها، ثم أطلق حرية الاجتهاد المحسوبة في غير ذلك؛ بمعنى أن الله سبحانه وتعالى قال: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ونعطي لك مثالًا على الاجتهاد المشروع في أول آيات القرآن الكريم … بسم الله الرحمن الرحيم الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ وأنا لديَّ كتاب في هذا الشأن … يقول «الم» أيها الإنسان أنت مقدور الفكر؛ لأنك لا تستطيع أن تفسر هذه الحروف الثلاثة، إذن إياك أن تشك في كل القادم. يعني: الإنسان على إطلاقه يا أستاذ عماد لا يصل إلى القناعة إلا إذا جرب الشيء، فربنا أطلق تجريب الأشياء إلا القرآن الكريم إلا في حدود ما أباح الله.

(٢) إن بعض الذين بلغوا درجات علمية عالية ظنوا أنهم كبار وبدءوا يتشككون في بعض قضايا الدين.

(٣) يوجد البعض ممن يعتبِرون التدين تخلفًا في العصر الحالي.

(٤) من أهم شروط المجتهد موجبية الاتجاه، والقدرة على التفكر، ولا أقول التفكير؛ لأن الكل يفكر والله سبحانه وتعالى خص أولي الألباب بهذا التفكر في القرآن الكريم.

(٥) لا يصح أن نجعل من بعض الخارجين على حدود الله مدرسة فكرية مناهضة أو مقابلة للإرث الفكري كله، وأعتقد أني أتفق في ذلك مع د. كمال أبو المجد.

(٦) لو كان الإسلام قد منع الاجتهاد، فكيف كان أبرز العلماء هم الفقهاء في نفس الوقت؟

(٧) كيف نسي الخارجون على حدود الله أنهم أنفسهم محدودو القدرة وكيف يجترئون على من منحهم نعمة العقل؟!

(٨) صلاحية القرآن لكل عصر وزمان ليس معناها توظيف النص القرآني كما نهوى، ولكن معناها أن خصائص البشر العامة هي هي على مر العصور، والمثل الروماني يقول: «لا جديد تحت الشمس» بهذا المعنى.

(٩) قد يكون هناك خلط بين الاجتهاد في النص والرغبة في الأخذ بأسباب العلم بهدف التطاول لدى البعض، واسمح لي أقول تنظيرًا بسيطً لهؤلاء، يجب النظر إلى العلم والدين في أمور ثلاثة: الكهنة والتوجه… و…

سؤالي إلى الدكتور أبو المجد والدكتور سيد هو:

هل يجب أن نناقش الخارجين من وجهة نظرنا على حدود الله تحت ما يسمى بحرية إطلاق الفكر؟ نشكركم ونتمنى التوفيق لكم جميعًا.
مقدم البرنامج : هو هنا بس فكرة الخارجين على حدود الله هنا حكم مسبق، لكن حتى حكم الشرع فيما يخرج عن حدود الله؟
أريد سؤالك هذا السؤال حتى إذا وصلنا إلى السقف الذي وصل إليه الأستاذ عمر الفاروق.
د. كمال : نحن أمامنا في العالم الإسلامي خطران؛ خطر الجمود وخطر الانفلات، وأنا لا يشغلني الانفلات بقدر ما يشغلني الجمود؛ فالجمود يقتل حتى فرصة التصحيح.
سيد القمني : الحقيقة أن الكلام الذي يقوله الأستاذ أبو المجد هو أمر عظيم؛ أن نجد اليوم، في ظل ما يسمى مدرسة تقليدية، هذا النزوع إلى الحريات؛ لأن أزمتنا بالفعل أزمة الحريات؛ لأن العلم والتقدم لا يتزعزع ولا ينمو إلا في بيئة حرة تمامًا، وهذا ما جرنا إلى موضوع الاجتهاد لأنه بدون وجود اجتهاد حقيقي مستمر فهذا يؤثر على حريتنا.
وكنت أتحدث فيما قال الأستاذ عمر الفاروق، هل يجب أن نناقش الخارجين على حدود الله؟ وأنا لا أناقش ذلك لسبب بسيط أنه من سيحدد من هم الخارجون على حدود الله؟ ومن سيقول كلمته في هذا الأمر؟ هذا أمر لا يناقَش، أنا عندي استعداد أناقش الجميع، لكن فقط ما توقفت معه أنه يقول إن المناهضين، لا يصح وضعهم تحت مسمى مدرسة، هم ليسوا مناهضين، أنا رجل أطرح تساؤلات وأحاول أن أصل إلى إجابة شافية ترضي ضميري الإيماني وتريح علاقتي بالواقع المتحرك المتغير، وكيف يمكن أن أؤدي دوري فيه بنجاح، بالتالي هذه دعوة تذكرنا بقول الجاهلين: حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وطالما هناك ناس، والأمة كلها قالت، فمن أنت؟ ونحن سمعنا بهذا المعنى مكالمات تليفونية في الحلقة الماضية يوم ٣ وكان فيه ناس محتجة فقط عليَّ «أنت من؟» أنت ما هي مؤهلاتك؟ … مؤهلاته أنه مسلم وأنه يريد أن يطمئن إلى طوية فؤاده، وأن يطرح أسئلة بدون تحرج، فمادام في الأمة رجال … و…
مقدم البرنامج : أريد من حضرتك الإجابة عن سؤالي: «إذا اجتهد وأخطأ في اجتهاده؟»
سيد القمني : فليجتهد وليخطئ.
مقدم البرنامج : ما هو الرد على هذا الخطأ؟ … هل هناك عقاب له؟ يا دكتور أبو المجد كيفية التعامل مع من يجتهد ويخطئ؟
د. كمال : الأمة في حيرة والقضايا كثيرة وأريد المناقشة في القضايا العملية، والاجتهاد حين يكون إيجابيًّا يكون علميًّا، ولا بد أداته تتجمع، كيف يكون الاجتهاد دون توفر آلة الاجتهاد في خصوصية معرفة الواقع؟ وبالتالي نحتاج إلى اجتهاد، إنما حين نتعرض إلى قضية نقل الأعضاء لا يستطيع فقيه لوحده الإفتاء فيها، إنما يحتاج الأمر إلى مجامع علمية حين ذاك يؤخذ رأيها مأخذ الجد. الإمام الشافعي كان له مذهب في العراق وحين جاء مصر غيَّر في مذهبه، مع أن أصوله لم تتغير، وأدوات الاجتهاد هي ثلاث وصفها ابن القيم الجوزي بأنها معرفة الحق، ويعرف تفسيرها والناسخ والمنسوخ والواقع، وكي تتم هذه العملية نريد اجتهادًا جماعيًّا لتطمئن الأمة، ويجب على المجتهد العلم بأوضاع المسلمين وأوضاع الطبقات الاجتماعية وحاجات الناس.
مقدم البرنامج : كي أكون صريحًا معك … الأسبوع الذي تلا مذبحة الأقصى الأخيرة ودخول القوات الإسرائيلية داخل الأقصى، كانت خطبة في مسجد ما منقولة بالأقمار الصناعية رآها العالم كله، كانت عن المرأة الحائض والحيض، أتريد القول لي حضرتك إن هذا هو متابعة العصر؟
د. كمال : هذا سخف في الاختيار وخلل في التفكير وانصراف عما يشغل الأمة ويسيء إلى وجه الإسلام، ويؤكد أنه لا فقه بغير فقهاء، ولا فقهاء بغير مؤسسات، ولا مؤسسات بغير برامج تعليمية متقدمة؛ لأن العلماء يا سيدي يحتاجون إلى علم، لا بد من أن نأخذ الأمر مأخذ الجد. هذا الذي يجري نوع من الهزل.
مقدم البرنامج : معنا مشاهد من القاهرة، يتفضل.
المشاهد : أنا متابع للبرنامج لكن لا أعتقد أن أحدًا لا يقف أمام حرية الاجتهاد أو حرية الرأي إلا في شيء محرم نهائيًّا الجدل فيه، وهي الرسالة والأشياء الثابتة، والجدل في الأمور الدنيوية، ولا أعتقد أن المشكلة هي تطليق زوجة د. نصر منه، هذه ليست المشكلة، المشكلة في التعدي، كما قال الأساتذة. مشكلة التعدي على كتاب الله. الرسالة لا جدال بها والله قال في كتابه: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا.
د. كمال : قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ.
المشاهد : الاجتهاد فيما هو دنيوي، وأعتقد أن كثيرين تكلموا وأنا آخذ على الدكتور سيد تبسطه الشديد، وهو أعلم مني في هذه الأمور.
د. كمال : لا تعقيب … هي القضية ليست قضية نصر، بل قضية حدود الاجتهاد، وأنا معك في أن كتاب الله ينبغي أن يكون لنا منه موقف مختلف، دون أن يعني ذلك ألا نخوض في التفسير. من أحسن ما سمعته من «إن مثل الذين يقرءون القرآن وهم لا يعرفون تفسيره؛ كمثل قوم جاءهم كتاب من ملكهم ليلًا فتداخلتهم روعة وهم لا يدرون ما في الكتاب، ومثل الذي يعرف التفسير كمثل رجل جاءهم بمصباح فقرءوا ما في الكتاب.» فتفسير العلماء مبني على أسباب النزول وقواعد اللغة بغض النظر عن عموم اللفظ، والناسخ والمنسوخ والفقه … إلخ، من أدوات الاجتهاد، وتلقي أضواء كثيرة دون أن يمس بالقرآن الكريم، إنما يضيف إلى قدسيته قدسية، وكان ابن تيمية يبحث عن التفسير حين مات مسجون في قلعة دمشق كان في هذه الفترة مشتغلًا في التفسير، وكان يتقلب على جنبَيه ويقول: يا معلم إبراهيم علِّمني.
سيد القمني : أريد التعقيب على نقطة صغيرة؛ هي الحرام والحلال، هذه قضية بينها نترجرج كالزئبق طول الوقت، لا أحد يمكنه الإمساك بنا ولا نحن نستطيع الإمساك بحقيقة، أتصور أن نقل الأمر إلى مستوى الصواب والخطأ العقلي والعملي فيما يتعلق بمصالح البلاد والعباد؛ يكون هو الأجدى؛ وبذلك ننتقل من حالة الخلاف في الرأي الديني الفقهي عندما نحول مادة المقدس للدرس، ليس بمنطق الحلال والحرام بل الصواب والخطأ، ممكن أن ينقلنا هذا إلى مستوى العلم، والعلم لا يُختلف حوله، إنما الرأي هو ما يُختلف بشأنه.
مقدم البرنامج : دكتور كمال أشكرك على علمك وعلى وقتك، ود. سيد أشكرك على جهدك ووقتك.
(انتهى وقت البرنامج.)
١  مناظرة تمت بتاريخ ١٦ / ١١ / ١٩٩٦م على شبكة تليفزيون أوربت بين سيد القمني وبين د. أحمد كمال أبو المجد، والبرنامج تقديم عماد الدين أديب، البرنامج يقدم على الهواء مباشرة ويسمح للمشاهدين بالمشاركة تليفونيًّا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥