أسطورية الدم: قراءة للوضع المجتمعي للمرأة في عقائد الشرق الأوسط
توطئة
لأن تطور المجتمع البشري لم يصل بعدُ إلى الوضع الإنساني المرجو، اللائق بكرامة الإنسان بحسبانه الكائن الأرقى في الكون جميعًا، فإن الظرف الاجتماعي لم يزل حتى الآن يسوِّغ القسمة العنصرية بين الناس، وأبرز نماذج تلك القسمة التي تشكل وصمة عار كبرى في جبين الإنسانية، ذلك الذي حدث عندما استولى الذكور على مقدرات المجتمع، وتمت إزاحة الأنثى من البؤرة إلى الهامش. وتأسس المجتمع الذكوري الأمثل الذي أسس لأبشع أنواع التفرقة العنصرية داخل الجسد الواحد، فقسمته نوعين؛ رجلًا وامرأة، وفرقت بين طرفَي حياة لا تكتمل دون التقائهما إنسانيًّا قبل التقائهما جسديًّا.
وفي مجتمعات الشرق الأوسط حيث نشأت ثقافات وتطورت أخرى وتلاقحت ثالثة، حتى وقفت عند الثقافة الإسلامية، تتعزى المرأة كل يوم بالصبر والسلوان الفقهي، وتبلسم جراحها بخطب منبرية تؤكد لها أنها في مكان الصدارة والتكريم بين نساء العالمين. تتعزى صبرًا في عالم الأرض وصبرًا في عالم السماء، في الدنيا الفانية وفي الآخرة الباقية.
وإن أحسنت المرأة المسلمة إيمانها وأحصنت فرجها وأمتعت سيدها الذكر وأطاعته، دخلت يوم الدينونة إلى عالم الخلد خالدة أبدًا، لكن في خدمة السيد الذكر مرة أخرى ومن أجل متعته، وضمن حريمه في جنة رضوان اللائي يصل عددهن إلى المئات وربما الألوف في أحاديث منسوبة لنبي الإسلام.
وإن تلك المنحة الخالدة لا تتم إلا بإيمان، رأسه وقمته طاعة الرجل الكاملة والخضوع له والتسليم لسيادته في الدنيا الفانية؛ لتضمن لنفسها بذلك مكانًا بين حريم الجنة في الآخرة الباقية.
وحتى نصل إلى هذه المرحلة علينا العودة نحو المبتدأ، إلى المجتمع البشري وهو يصوغ أولى تشكيلاته الابتدائية، نحاول أن نمارس قراءة معدولة لثقافة مقلوبة، قراءة غير معتادة لأوضاع معتادة، بل ومقدسة وثابتة لا تقبل تبديلًا فيما يرى سدنتها المنتفعون ببقائها.
(١) التجمعات الصحراوية والتجمعات النهرية
في فنون العصر الحجري القديم يمكنك أن تلاحظ أن تماثيل النساء وبقية النقوش التي تحمل دلالات أنثوية أكثر بما لا يقاس بالنسبة إلى الفنون التي تحمل دلالات ذكرية، أما قبل ذلك، وفي فجر حقب البلايستوسين الأول، فلن تجد مهما بحثت سوى تماثيل للإناث، ولا وجود تقريبًا لأية فنون ذات دلالة ذكورية.
وعلينا أن نلاحظ أن زمن أقدم تلك التماثيل (خمسة عشر ألف عام) قد جاء بعد تراجع عصر الجليد بعشرة آلاف عام أخرى، وخلال تلك الخمسة وعشرين ألف عام حدثت تحولات كبرى في البيئة الطبيعية ألقت بظلال متغيراتها على المجتمع الإنساني وهو يتشكل، وهي المرحلة التي تحتاج إلى وقفة قصيرة نلاحظ خلالها نتائج الجدل الذي حدث بين متغيرات الطبيعة والإنسان، وأثر ذلك في تشكيل نماذجه الاجتماعية الأولى وتطورها مع تلك المتغيرات.
والمعلوم أنه بعد انحسار عصر الجليد الأخير تقاسمت الأرضَ حالتان طبيعيتان: الأولى يمكن تمييزها في تجمُّع شرايين الماء في أنهار بعد استقرار أوضاع القشرة الأرضية، والثانية وضحت في تصحُّر مطرد في مناطق أخرى أدى إلى خفوت صوت الحياة ونبضها تدريجيًّا، مع تناثر بقايا تلك الحياة حول عيون الماء والبرك المتباعدة. ومع التصحر المتزايد وجدت الجماعة المشاعية الأولى — ذات النظام الأمومي — نفسها بإزاء متغير طبيعي قاسٍ شحيح بمطالب الحياة. وهو الأمر الذي أدى بالضرورة إلى تفكيك بنية ذلك المشاع تبعًا للتفكيك الحادث في الطبيعة، وهو ما أدى بالتجمعات البشرية إلى وحدات اجتماعية أصغر وأكثر قدرةً على الاستمرار والديمومة؛ لأن التجمع الكبير كان يعني الهلاك جوعًا، أو الهلاك قتلًا؛ بافتراض أنه لا بد قد صاحب شحَّ الطبيعة صراعٌ عظيم على بقاياها الهزيلة، وهو الصراع الذي أكمل إغلاق الدائرة بمزيد من التفكيك والانتشار المتباعد للتجمعات البشرية في أشكال قبَلية أولى.
وإعمالًا لهذه الرؤية التأملية وجد الإنسان نفسه في بيئته المتصحرة أمام أحد خيارين: إما الموت جوعًا، أو تدجين الحيوانات التي عاشت بدورها بجواره، بجوار الماء. ومن هنا حتمت البيئة على البدوي اعتمادًا شبه كامل على الحيوان ومنتجاته لمعاشه، فكان يأكل لحمه ويتغذى بلبنه ويلبس صوفه، ومن ذات الصوف يحيك خيامه وعليه يحمل أسفاره عند الانتقال من موضع ناضب إلى موضع أكثر فيئًا.
وتتابعت سلسلة النتائج المترتبة على المقدمات، حين وجدت الجماعة المتبدية نفسها وهي تتحرك بحاجة إلى ما يحفظ لها تماسكها وقوتها وقدرتها على الاستمرار، فارتبطت بروابط الدم وبالحيوان المدجن المعتمد لحياتها، وبدأت الطواطم تعبر عن تلك الرابطة كحاجة ضرورية لتنظيم يضمن للقبيلة الأمان من الشرود أو النفوق أو الموت، وكانت المصلحة مشتركة؛ لأن الحيوان وجد أمانه في الالتحام بالقبيلة لتأمين حياته من الضواري ومن الجوع، وأصبح الحيوان الطوطم رمزًا للعلاقة المتينة بين أعضاء القبيلة، فأصبح أبًا للجميع بمعنى السلف الرمزي، في زمن لم يكن يعرف دور الرجال في عملية الولادة.
وفي مجتمع قاسٍ بليد تكون الحاجة أشد إلى القوة العضلية التي توافرت للرجال، وكان ظرف المرأة والحمل والولادة لا يضعها في موضع الحاجة العضلية والمجهود الشاق الذي قام به الرجال، ومن هنا كان ضروريًّا أن يتحول المجتمع الذي عاش زمنًا حياة المشاع قبل انحسار الجليد، من مجتمع أمومي النظام إلى مجتمع ذكوري، وساعد على هذا التطور الجديد امتلاك الذكور للأساس الاقتصادي المتمثل في ترويض الحيوان أو مصارعته، في مجتمع لا يعرف سوى منطق القوة الغشوم، وهي مفتاح ومفصل المسافة بين الحياة والموت. كما أن الصراع الذي نشب لا شك بين القبائل البشرية حول مواطن الحياة في الصحاري، قد ساعد على تثبيت مركز الذكور السيادي بما يملكونه من مهارات عضلية. وانهار وضع المرأة الابتدائي وفقدت قيمتها الاجتماعية في مجتمع الندرة الصحراوي، واقتصرت وظيفتها على إنجاب المزيد من الذكور، وأصبح إنجاب الإناث عبئًا يضاف لكاهل الجماعة؛ فهي تحتاج للحماية والطعام، وحدثنا التاريخ القريب عن حل هذه المشكلة عشية الإسلام بوأد البنات أحياء.
وتدنَّت في المجتمع البدوي مستويات الإنتاج إلى حد كاد فيه المجتمع البدوي يعتمد اعتمادًا شبه كامل على الطبيعة، بالسعي الدائب وراء الكلأ وآبار المياه والغزو وسلب خيرات الجماعات الأخرى، أو تطفله الدائم على منتوج العمل عند الطرف الآخر في المناطق الخصيبة النهرية، التي اتخذت خط تطور آخر وأشكالًا اجتماعية أخرى.
وعلى مستوى العقائد فإن الطبيعة المتصحرة الشحيحة الضنينة بأشكال الحياة، جعلت البدوي أحادي النظرة وأحادي الاعتقاد والنظام؛ فقبيلته كلٌّ في واحد يتماهى مع الطوطم الأب السلف الأول، وعادة ما تمثل الطوطم في الحيوانات النافعة؛ لذلك غالبًا ما قدس البدوي مختلف أنواع الشياه والسوائم ذات القرون؛ لذلك كان السلف المقدس ذا قرنين دومًا، وهو رب القبيلة الأوحد، وهو أفضل من أرباب القبائل الأخرى، وهو الوطن لأنه مع الانتقال الرعوي لا يوجد وطن؛ لذلك يتحدث البدوي عن الحمى وليس عن الوطن، ذلك السور الوهمي الاعتقادي الذي يحيط بالقبيلة ويتحرك معها أينما تحركت أو حلت أو ارتحلت.
ومن هنا لم تسمح الظروف بنشوء أنظمة مركزية توحد القبائل المتصارعة، فظلت على شتاتها وتشرذمها، مع تعبُّد كل قبيلة لإله خاص هو الوطن وهو النسب وهو الجد البعيد وهو الحمى، وهو واحد فقط وليس أكثر ولا يمكن أن يتعدد؛ لأنه الضامن الوحيد لتماسك القبيلة اللزج ومصدر أمنها بانصهارها فيه، وكان طبيعيًّا أن يكون هذا السيد الرب ذكرًا؛ لتعبر الفكرة عن قمة سيادة ذكورية أحادية، لكن الناظر من بعيد سيرى عددًا هائلًا من الأرباب تتعدد بتعدد أسلاف وطواطم مختلف القبائل.
وكان موقف كاتب هذه الورقة هو رفض السؤال نفسه: «أيهما كان أولًا النظام الأمومي أم الأبوي؟» بحسبان الخطأ في السؤال نفسه، ومن هنا كانت التوطئة بالحديث عن شكلَي المجتمع الذي تركته انسحابات عصر الجليد الأخير: شكل بدوي وشكل خصبي، فانتهى الحدث الطبيعي إلى تمييز بيئتين، وبالتالي تمييز شكلين للتجمع البشري عن بعضهما رغم تزامنهما في الظاهر كناتج انحسار الجليد، أي إن الاختلاف كان مكانيًّا وليس زمانيًا، وهو الزعم الذي يحتاج إلى تأييده بقرائن، ستأتي على متن شرح موضوع الورقة المعلن في عنوانها.
(٢) الزمن الأمومي٥ الأول
إذن انتهى عصر الجليد ليترك مجتمعًا بدويًّا يسرع بالانتقال من العصر الأمومي الأول إلى الأبوي الذكري، بينما استمر وضع شبيه بالوضع المشاعي في وديان الأنهار الخصيبة.
وعندما لم تكن هناك قوانين مكتوبة أو حتى متفق عليها، كان المجتمع الابتدائي الأول يعيش بساطة الطبيعية، يتناغم معها ويضبط إيقاعه مع حركاتها، فعاش حالة المشاع الأولى إبان مرحلة جمع الثمار والصيد، دون حاجة إلى تنظيم اجتماعي صارم، وانحصرت حاجاته في تأمين القوت والأمان من غوائل الطبيعة وضواريها.
وكان الرجال بحكم التكوين الفسيولوجي هم في الأغلب القادرين على ممارسة مخاطر الحصول على الطعام البروتيني زمن الصيد، بمطاردة الحيوانات الملائمة واصطيادها، إضافة إلى جمع الثمار، بينما كانت المرأة التي تنجب مبكرًا جدًّا مضطرة إلى الاستقرار بجوار أطفالها تحميهم وترعاهم، وعندما يعود الرجال من الصيد يكون كل الرجال لكل النساء.
ومن هنا، وبقوانين البساطة الطبيعية، أمكن للمرأة أن تحقق وضعًا اجتماعيًّا متفوقًا لأسباب معلومة. وقد أهَّلها لهذا الامتياز قدرتها على الولادة والإنجاب، ومنح حياة جديدة. تلك الظاهرة التي لا شك أبهرت الرجل وجعلته يشعر أن هذا الكائن الذي يبدو أضعف منه بدنيًّا، يملك إمكانات سحرية عالية. لقد كانت ظاهرة الحمل والولادة مع التناغم الكامل للبشر مع الطبيعة مدعاة لفكرة أولى بسيطة، وهي أن المرأة جزء من ظاهرة الخصب الكونية الولَّادة، كالأرض التي تنبت المحاصيل والثمار والأنهار، بل إنها الظاهرة الأكثر وضوحًا وقوةً لحظة دفع الوليد من البطن إلى الدنيا.
وهكذا تأسست علاقة المرأة بالقوى الطبيعية الخارقة المعطاءة، فحازت أول فروض التقديس والرهبة والاحترام، وحققت وضعًا اجتماعيًّا أكثر تميزًا من الرجل، أهَّلها له تناغم تكوينها وظروفها البيولوجية مع الحاجات الطبيعية للبشر آنذاك، الذين كانوا بحاجة إلى تكاثر أعلى لتحقيق كثرة مجتمعية قادرة على مواجهة غوائل الطبيعة المفاجئة ووحوشها الضارية وفوضاها الدائمة.
وبالتدريج تمكنت المرأة من دعم هذا الوضع المتميز وتنميته، حيث كان بإمكانها، وهي مستقرة مع أطفالها، أن تلاحظ سقوط الثمار على الأرض ثم عودتها للصحو والإنبات والإثمار مرة أخرى، فأعادت المرأة التجربة فنجحت في اكتشاف الزراعة، تلك الخطوة الأولى التأسيسية نحو قيام مجتمعات إنسانية حقيقية مستقرة.
وعندما عاد الرجال من غيبتهم في صيد الطرائد فاجأتهم المرأة بهذه القدرة الجديدة، وبذلك لم تعد فقط جزءًا من الخصب الكوني القدسي، بل يبدو أنها قادرة على ترويض الطبيعة وجعلها تلد بإرادتها كما تلد هي. ومن هنا أخذت تتحول إلى إلهة كبرى ليست ككل الإلهات والآلهة؛ لأنها أصبحت ربة الخير والخصب والعطاء والولادة والنور.
وفي ذلك الزمان لم يكن بإمكان الذكر إدراك دور في عملية الحمل والميلاد، فتصور تلك قدرة أنثوية بحتة، فما كان لعينه، وهو على مدارج بدائيته يحبو، أن يربط بين الفعل الجنسي وبين فعل الولادة؛ لأنه أولًا كان الجميع يمارسون الجنس مع الجميع، وهو ما يجعل المرأة يتناوبها أكثر من رجل، وبالتالي ما كان بالإمكان لأحدهم أن يدرك علاقته بالمولود، هذا إضافة إلى المدة الطويلة التي يستغرقها الحمل ما بين فعل الجنس وفعل الولادة، التي لا ريب ساهمت في عدم إدراك الذكر لدوره. كما كان الأطفال يمارسون في تلك الحقب الفعل الجنسي بشكل اعتيادي، ولم يكن ينتج عنه حمل ولا ولادة. وهي جميعًا الأمور التي أدت بالذكور إلى اليقين أن فعل الولادة اختصاص أنثوي بحت ليس للذكر دور فيه.
وقد عزز هذا الرصيد للأنثى ملاحظة الإنسان لدم الحيض وهو ينزل شهريًّا في مواقيت محددة، ثم يختفي مع الحمل ولا يعود إلا مع الولادة، فوضع تصورًا أوليًّا، وهو أن الدم هو مادة الحياة الأولى، وأنه يختفي داخل البطن؛ لأن منه يتشكل الوليد الآتي، بفعل خاص من المرأة وحدها. ودعم الفكرة ملاحظته أن الجروح النازفة عادة ما تؤدي إلى الموت في بيئة كان فيها الجرح هو ذلك المتكرر الدائم، وكان الموت بالنزف يعني لديه خروج سائل الحياة (الدم) من الجسد؛ مما يؤدي إلى خموده وفنائه.
وأدت محاولات حفظ الطعام بالمرأة إلى تطوير الأشياء من حولها، وتأملها والتدخل فيها؛ لتؤدي وظائف جديدة في عمليات تطويع وخلق … أليست إلهة؟ كانت بداية الحفظ في وسائل الطبيعة الجاهزة مثل شق ثمرة جوز الهند لتصبح وعاءين، لكن أولى أواني عثر عليها الباحثون تأخذ شكل الاختراع، كانت تتسم بالطابع الأنثوي الواضح؛ لأنها جميعًا كانت متكورة كالثدي أو البطن. ومعنى ذلك أن المرأة كانت أول مخترع، بعمل الأواني الفخارية. وعندما تعرض الطعام المحفوظ للتخمر (وعادة كانت حنطة)، وعاد الرجال من ارتحالات صيدهم ليتناولوا حنطة مخمرة تدور بها الرءوس، لتنحني إجلالًا لهذا السحر الذي أدى للتأثير المباشر في الأجساد بمزيد من النشوة الأنثوية.
كان الانتظار والاستقرار ظرف المرأة الملازم لها انتظارًا للحمل حتى نهايته، ومع اكتشاف الزرع واستقرار الذكر ينتظر بدوره، أدى إلى تدريب الذكر على الملاحظة. وقد لاحظت «هوكس» أن سيادة الذكور النهائية قد اقترنت بقيام القرى الأولى المستقرة، منذ حوالي خمسة آلاف عام من الآن.
وهكذا استبطن الأساس الاقتصادي لوضع المرأة المتميز اجتماعيًّا بذور سقوطها عن عرش سيادتها، ومتضمنًا في بذور اكتشافها لدورة بذور النبات. فكان استقرار الذكور الذي تواكب مع قطع الغابات والتحقيل، وما احتاجه ذلك العمل الجبار من قوًى عضلية طورت الكشف التأملي للمرأة، كذلك ما احتاجته الأعمال الجديدة من تدجين لأنواع قوية من حيوانات يمكنها جر الأشجار المقطوعة وحراثة مساحات واسعة وحمل المحصول إلى مخازنه، وهو جميعه ما احتاج دومًا للعضلات، فصعد نجم الذكر؛ الأمر الذي انتهى بتبادل المواضع السيادية. وقد عجل بهذا التبادل هبوط الموجات البدوية المهاجرة المعروفة بالهجرات السامية على الهلال الخصيب، في ذات الزمن الذي حددته «هوكس» لقيام القرى المستقرة الكبيرة، فقد بدأت تلك الهجرات قبل حوالي ثلاثة آلاف عام من الميلاد.
(٣) فلسفة الدم (وضع المرأة في المجتمع الذكوري الأول)
الملحوظة الجديرة بالاهتمام بصدد الهجرات السامية، أنه بعد هبوطها على الهلال الخصيب (وهو نموذجنا هنا) يلي ذلك توحيد المدن الدول في أقاليم كبرى ثم في دولة مركزية واحدة، كان أول مؤسسيها «سرجون الأول الأكادي»، دولة ذكورية كاملة ونموذجية، استمرت الإلهات الإناث في عالم العقائد بكثافة، لكن بعد دخول عالم الآلهة آلهة ذكور أهمها إله الدولة الحاكمة.
والنقوش التي تركتها لنا فنون الهلال الخصيب تصور الإلهة الأنثى عادةً تحمل بيدها حزمة من الحنطة، أو تقف في حقل حنطة، أو تصور الحنطة كنقش على ثوبها. ولنلحظ أن الحنطة هي أول نبات تم تدجينه وافتُتح به عصر الزراعة؛ مما يفسر لنا تاك النقوش، فالمرأة كانت أول من دجن الحنطة، وأحيانًا كان يتم استبدال الحنطة بعرجون البلح والنخلة. ونظن أن كلمة تمر (ثمار النخلة) بدورها تشكل أحفورة لغوية تشير للبدايات الأولى، فالكلمة (تمر) فيما نظن كانت الأصل اللغوي الذي تم تعميمه على جميع الثمار من بعد.
وحتى اليوم يعد البلح من الثمار المباركة التي تعالج كثيرًا من الأوجاع في تقارير منظومة المنطقة القدسية، فهذا الثمر كذلك في الإسلام، وفي رؤية الإسلام للمسيحية، فقد أولد الإسلام مريم تحت جذع النخلة: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ، ولا يخفى ما في فعل «الهز» من رمزية واضحة ترتبط بالثمرة الأولى المقدسة.
ومع الاستقرار لاحظ الرجل دوره في عملية الحمل والميلاد، واكتشف دوره الذي لا يقل أهمية عن دور الأنهار أو الأمطار للأرض كي تلد، واكتشف أن منيَّه الذكوري هو ماء الحياة وبدونه لا يمكن الميلاد، فشعر بدوره المتعاظم، وكان لا بد أن يرقى سلم الألوهية بدوره، ومن هناك قام يسلب الإلهات الإناث أدوارهن تدريجيًّا حتى يسود مملكة السماء أيضًا.
والتساؤل عن مزيد من تبرير سر قدسية حبة الحنطة والتمر وارتباطه بالأنثى، نُحيله إلى شكل حبة الحنطة ونواة التمر، إنها فرج صغير يكاد يطابق فرج الأنثى من حيث الشكل، وإنه كما يُروى فرج المرأة بماء الذكر تُروى حبة الحنطة ونواة التمر بالماء فتنفلق عن حياة جديدة.
إذن لاحظ الذكر وهو يتأمل أهمية الدم الحيضي حتى اعتبره المادة الخام للحياة وسرها، فتعبَّد إلى أفروديت الولادة وتعبَّد إلى تماثيل في هيئة قضبان ذكرية وقروح أنثوية، عُثر عليها أيضًا في تلك الحقب، كذلك كان لا بد أن يقدس ويعظم ويبجل مادة الحياة الأولى والأكثر طهارة من كل المواد؛ «دم الحيض» تحديدًا.
ونتذكر أن أول قصة خلق كانت بسيطة بساطةَ البدايات الأولى، لقد ولدت الإلهة الأم الكبرى كل الكائنات الحية جميعًا كما تلد الأنثى البشرية مواليدها. وقد بقي عن تلك القصة ذكريات تمثلها أسطورة «الشعير والنعجة» السومرية، وتقول الأسطورة: إن البشر الأوائل قد خرجوا من تربة الأرض كما يخرج الزرع والدود وبقية صنوف الحياة (ولا تفوت عين مدققة دلالات عنوان الأسطورة، فالنعجة هي رمز أنثى الإنسان الأشهر، مثلًا قصة داود والتسع وتسعين نعجة، أما الشعير فهو حنطة الأنثى واكتشافها الأول).
لكن بعد الهجرات السامية الكبرى، وقيام دول ذات حكومات، تسارعت خطى التحول نحو سيادة الذكر نهائيًّا في عالم السماء كما في عالم الأرض، ونموذجًا لذلك أسطورة من بلاد الرافدين تمت صياغتها مرتين، المرة الأولى زمن الحضارة السومرية القريبة من أيام سيادة الأنثى؛ لذلك اتسمت بملامح سيادية نسوية واضحة، أما الصياغة الثانية لذات الأسطورة، فقد تمت مع قيام أول مملكة كبرى في الرافدين السامي هي مملكة الأكاديين، ومع الصياغة الجديدة اختفى دور المرأة من عملية الخلق تمامًا.
ومع دخول البدو الأكاديين وقيام دولة كبرى، تم إدخال تعديلات جوهرية على الأسطورة، فاستُبدل اسم «إينانا» باسم «عشتار» من العشرة والمعاشرة والتعشير (أي الجماع). لكنها لا تصبح السيدة المسئولة عن الخصب حيث يظهر سيد جديد ذكَر كان في الأسطورة السومرية مجرد ذكر خامل الذكر ضمن عديد من عشاق «إينانا» تذكرة بالزمن الأمومي الأول، وتعلو مكانة هذا الذكر «تموز»، ويصبح هو المسئول عن الخصب والحياة، ويحوز لقب «تموز راعي الخراف الطيب»، ويصبح هو رمز النبات الذي يموت في فصل الجدب ويهبط إلى عالم الموتى عند المنقلب الخريفي، ويعود حيًّا عند المنقلب الربيعي فتعود بعودته الحياة الأولى للأرض، بل وتبدأ الأنثى تتسم بالشرية؛ لأن الأسطورة الأكدية جعلتها (المرأة أو عشتار) هي التي تسلمه لزبانية الجحيم فيهبطون بالراعي الطيب إلى عالم الأموات. لقد بدأَتْ من هذه اللحظة سلسلة التبخيسات التي لحقت بالمرأة.
وضمن ما بقي من تأثيرات الزمن الأمومي ووصلَنا عبر آثار الممالك في المنطقة، طقس توعِز قراءته أنه يعود إلى زمن أمومي خالص، وظل يمارَس حتى زمن قيام الدول الكبرى، كان هذا الطقس احتفالية جنسية عمومية هائلة ينسى فيها الجميع أي قرابات بينهم، في حفل نزوي عظيم يلتقي فيه جميع الرجال بجميع النساء بشكل عشوائي، وكان يمارَس في أيام محددة حول معبد الإلهة عشتار. وكان أشرف الأعمال في سومر القديمة هو التضحية بالبكارة في هيكل الربة الأم الولود المخصبة الشبقة مانحة الحياة؛ تذكرة بتلك الأيام الخوالي، أيام كان كل الرجال لكل النساء في مجتمع أمومي خالص.
وإذا بدا ذلك الحفل العربيد ممجوجًا وفق أذواقنا الأخلاقية اليوم، فإنه لم يكن كذلك في تلك الأزمنة، بل كان واجبًا دينيًّا وفريضة تقدمها المرأة للربة؛ كي يفشو الخير وتأتي السنوات السمان، بتحريض القوى الإخصابية في الطبيعة تأسيسًا على مبدأ السحر التشاكلي؛ حيث الشبيه ينتج الشبيه. وليس أدل على جلال هذا الطقس وشرحه من تلك اللوحة التي عُثر عليها في طرالس بليديا، منقوشة على عمود مرمري يعلن أن الشريفة «أورليا آماليا» قد قدمت جسدها قربانا للإلهة، وأنها في تدينها أصيلة، وما فعلته كان شرفًا معلومًا في أسرتها خلفًا عن سلف، فقدمت أمها وجدَّتها القربان ذاته، وأنه قد تم للهيئة الكهنوتية التأكد من ذلك.
ولنلحظ استمرار التواجد الأنثوي في العبادة حتى الآن في العقيدة المسيحية؛ لأن «مريم» تعتبر أم المسيح الإله الابن من الإله الأب رب السماء، وتستوجب احتفالية خاصة بها تقدسها، لذلك اختصت دون الأقانيم الثلاثة بصوم العذراء، الذي يصوم فيه المسيحي عن كل ما هو حيواني ويقتصر في طعامه على النبات وحده، تذكرة لا لبس فيها بالمجتمع الأمومي الأول في البيئة النهرية، عندما كان يستغني عن اللحم معتمدًا على الوفرة النباتية، في منظومة قدسية تسودها أم إلهية مخصبة. ولا ننسى التبادل بين الكلمات نبات وبنات (نبت وبنت/بنى: في العربية، فعل يعني: يمارس الفعل الجنسي).
(٤) وضع المرأة في قصة الخلق التوراتية
الكتاب المقدس، العهد القديم منه تحديدًا والمصطلح على تسميته باسم التوراة، رغم أن التوراة تطلق فقط على الأسفار الخمسة الأولى معه، كتاب تشكل في ظل نظام ذكوري تمامًا، فهو لا يذكر أو يتعرض للنساء إلا لمامًا، ويستحسن في الغالب عدم ذكرهن، حتى إن التعداد الرسمي لبني إسرائيل في أكثر من موضع كان لا يضع النساء ضمن التعداد، ومع ذلك فقد بقيت في المأثور التوراتي مجموعة إشارات تعود إلى ذكريات عن الأصول الأمومية الأولى.
وعرف قايين امرأته فحبلت وولدت حنوك.
وعرف آدم امرأته أيضًا فولدت ابنًا ودعت اسمه شيثا.
وعرف آدم حواء امرأته فحبلت وولدت قايين.
وهذه الشجرة تسميها التوراة «شجرة المعرفة»، والثمرة رمز المضاجعة التي تثمر بالولادة، وهو الفعل الذي أدى إلى معرفة آدم أنه عريان ولم يكن يعرف كذلك من قبل، فالقصة ترميز واضح للفعل الجنسي مع حواء، ومعها عرف آدم وتعلم، والحية، كما هو معلوم في الأساطير، ذات قيمة مزدوجة؛ فهي من جهةٍ رمز القضيب الذكري الذي أغوى حواء إبان حالة العري الأولى، وهي من جانب آخر رمز الخلود؛ فقد رآها الإنسان الأول تنسلخ من جلودها كل عام، فتصور أن ذلك موت ثم حياة جديدة، فهي خالدة بمعنى أنها تولد من جديد كل عام. وكانت ملاحظة تشنجات جسد الحية وهي تنسلخ من جلدها القديم تشبه تمامًا تشنجات الفرْج الأنثوي إبان انسلاخ الوليد منه لحظة الولادة؛ لذلك حملت الأنثى بالتشابه، في ظل السيادة الذكرية، تلك القيمة الثنائية، فهي في العبرية حواء، لكن الكلمة (حواء) حملت في مفهومها جذر الحياة، ومن جانب آخر ارتبطت بالحية مصدر الأذى والشر. ولنلحظ الارتباط الجذري بين حواء وحياة وحية و(حيا: أي فرج الأنثى)، لكن ليتم بعد ذلك إعادة تفسير ذلك المأثور لتبخيس المرأة وليس التذكير بوضعها المتميز، فتصبح هي التي أوعزت لآدم بأكل الثمرة المحرمة في عالم الخلد، ففقد الرجال بسببها الخلود، وبحيث تتحول المرأة عن منح الحياة إلى سلب الحياة وفقدان الخلود، وعليها يجب أن يقع هذا الوزر إلى الأبد.
ولنعد إلى نصوص التوراة نقرأ ما حدث.
هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمي، هذه تدعى امرأة؛ لأنها من امرئ أُخذت.
ودعا آدم اسم امرأته حواء؛ لأنها أم كل حي.
وتفسر لنا العبرية تعبير «أم كل حي» بأنه «تلك السيدة التي تحيي.»!
أما الكلمتان: أنثى وحواء، فتضيئها لنا قصص الخلق الأولى في الملاحم السومرية والبابلية، حيث تحكي عن مكان كانت تعيش فيه الآلهة خالدة اسمه «ديلمون» ويعادل أوليمب اليونان. وهناك جاء إلى الوجود إله «آن-جي» بداية للبشرية على الأرض، رعيلًا أول يجمع اللاهوت مع الناسوت أو الألوهية مع البشرية، واسمه ملصق من مقطعين يشير إلى أنه أول من سكن الأرض فهو «آن = سيد + جي = الأرض – سيد الأرض».
وتحكي الأسطورة أن الأم الإلهة الكبرى الكونية «ماما هورساج» هي التي ولدته، وأنها حرمت عليه ثمارًا بعينها في ديلمون؛ حرصًا على حياته، فعصاها بجهله وحبه المعرفي، فأكل تلك الثمار، فأصيب بمرض شديد في أحد أضلاعه كاد يقضي عليه.
(٥) آخر ملاحم التبخيس المقدس للمرأة
عندما ظهر المسيح في وسط يهودي مائة بالمائة لم يزعم أنه قد جاء بجديد، بل أكد أنه ما جاء لينقض الناموس، بل جاء ليكمل، ومن هنا سلَّم بكل التوراة، وضمنها قصة الخلق، ووضع المرأة في منظومتها. لكن مقاطعة الجليل التي ظهر فيها المسيح، دون بقية المقاطعات الفلسطينية، كانت تموج زمن ظهوره بعقائد واردة من مصر وفارس، تتحدث جميعًا عن آلهة فدائية جاءت وعاشت وماتت وقامت من بعد الموت في عيد للقيامة مجيد، آلهة أشهرها بعل وأوزيريس وتموز وأدونيس وميتهرا، كلها تعرضت للموت وقامت كما يقوم الريح، لذلك فإن المسيح قدم نفسه من خلال تلك الصيغة الزراعية لكن على أرضية كاملة البداوة عبرية تمامًا. ومن هنا حاول المسيح من البدء تأسيس مبادئ خصبية، لكن لم يمضِ على اختفائه عدد من العقود حتى تحولت المسيحية لتفترش خلفيتها البدوية الكاملة مرة أخرى.
ورغم أن اليهودية كانت قد حظرت على النساء الصلاة داخل المعبد أو المشاركة في أعمال الكهنوت؛ لأنها اقترفت الخطيئة الأولى وأخرجت الذكر من الجنة، ولأنها أصبحت مسئولة عن الشقاء وعن الموت، فإن المسيح قد حرص على إبراز مخالفته لذلك؛ فكان يحرص على الحديث مع النساء باعتبارهن كائنات بشرية كاملة، بل وأشركهن في نشاطه التبشيري «على إثر ذلك كان يسير في كل مدينة وقرية يكرز ويبشر بملكوت الله ومعه الاثنى عشر وبعض النساء … مريم التي تُدعى المجدلية … ويوانا امرأة خوزي وكيل هيرودتس وسوسنة، وأخر كثيرات كن يخدمنه من أموالهن» (لوقا، ٨: ١-٤).
لكن ما كان ممكنًا العودة بعد كل هذا السلطان الذكوري الكامل، فتراجعت فكرة المساواة التي نادى بها الإنجيل، وتحول الأصل في الحريات الجنسية وفق المنظومة الخصيبة إلى نقيضه تمامًا؛ وذلك بفضل «بولس الرسول» الذي شرع تغطية المسيحية لرأسها أثناء الصلاة، مع إعادة تأكيد موقف التوراة في قوله لأهل كورنتوس: «ولأن الرجل لم يُخلق من أجل المرأة، بل المرأة من أجل الرجل» (كورنتوس، ١١: ٩).
«أيها النساء: تخضعن لرجالكم كما للرب؛ لأن الرجل هو رأس المرأة، كما أن المسيح هو رأس الكنيسة، وهو مخلص الجسد، ولكن كما تخضع الكنيسة للمسيح، كذلك النساء لرجالهن في كل شيء.»
ولوجود مشكلة فقهية داخل مؤسسة الفكر الديني المسيحي أدت إلى انقسامه حول طبيعة «مريم»، وهل هي إلهة من الأصل حتى يمكن لبطنها حمل الله اللامحدود، أم هي إنسانة ومجرد وعاء؟ البعض تمذهب ذراعيًّا وألَّه مريم، أما الآخرون فقد خلعوها من على كرسي الألوهية؛ حتى يمكنهم القول لنساء الأرض إن الرجل هو الذي يلعب الدور الكامل وحده في المواليد، أما المرأة فمجرد وعاء أو إناء مؤقت؛ لأن الله كان صاحب الدور الكامل في ميلاد يسوع المسيح، ولا وجود إلا لجنس واحد كامل هو الذكر، أما المرأة فلو حتى كرمناها لقلنا إنها ذكر ناقص، إضافة إلى كونها قد سقطت في امتحان الجنة.
وعندما جاء الإسلام كان الموقف من المرأة قد تأسس قدسيًّا، فالذكر هو المخلوق الأول وهي الثاني، وهي قطعة منه خُلقت من أجله، وتمت إعادة حواء إلى زمن الخطيئة الأولى الأسطوري؛ ليمركز الشر كله حولها؛ فهي شيطان غواية؛ لأنها رفيقة إبليس، وهي لا تتحكم بشهواتها، ولا تكون مع رجل إلا وكان الشيطان ثالثهما، حتى قصص الأنبياء تخبرنا أن نساءهن قد وقعن في الخطيئة، مثل امرأة لوط وامرأة نوح، وهاروت وماروت أغوتهما امرأة، وكانا ملائكة مكرمين، وولدا آدم تقاتلا على امرأة؛ فالمرأة تخضع للشهوة لا للعقل، ميولها للخيانة طبيعية ومن الطبيعي أن تخون، فهي أحد أربعة خوانين، في مأثور يقول: «أربعة لا أمان لها: المال ولو كثر، الحاكم ولو قرب منك، الدهر ولو صفا، المرأة ولو طالت عشرتها.» خُلقت من ضلع أعوج، وناقصة عقل ودين، وشهادتها نصف شهادة الرجل، وميراثها نصف ميراث الرجل، «ولو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» حديث نبوي، و«الكهنة رسل الشيطان، والنساء مصايده» حديث نبوي، هي مجرد جسد ومتاع للمتعة كأي متاع، أصبح غير مطلوب منها أن تفكر؛ فهناك من يفكر بالنيابة عنها، هي مجرد فرج؛ لذلك هي حرمة وحرام، صوتها عورة، ورضا زوجها عنها رضًا من الرب والناس. والمرأة النموذج هي التي لا تعرف عن نفسها سوى كونها عورة وحرمًا لا يجوز لمسه إلا لصاحبه المالك الأوحد، الأب ثم الزوج. وهي ناقصة دين؛ لأنها نجسة وطبيعتها النجس، والفعل الجنسي معها يؤدي إلى النجس كالموت، فكلاهما يستوجب الاغتسال الكامل مع بعض الدعوات المنجيات والآيات المطهرات، ودم الحيض يغطيها بالدنس، لذلك تُرفع عنها أثناء فترة الحيض أو النفاس بعد الولادة كلُّ التكاليف التعبدية، لا تصلي، لا تصوم. وبينما يحتسب ذلك بسبب نجاسة الدم، نظن من جانبنا أن ذلك إنما هو بقايا زمن قديم كان فيه الدم سر سيادة الأنثى وألوهيتها.
وتبقى أيام الحيض الخمسة الشهرية رصيدًا لذكرى قدسية المرأة وشأنها في التاريخ، كذلك يتقدس رقم خمسة ويصبح مانعًا للسحر والمرض والحسد، ويصبح يوم الخميس اليوم المفضل لجماع أمثل، والخمسة تظل علامة رمزية على الفرج.
فهكذا كانت في فجر الإنسانية وهكذا كان ضحاها، ولم تزل درجات السلم التطوري نحو رقي حقيقي وراء سجف زمان لم يأتِ بعد.