معارك فكرية
في صحيفة أخبار الأدب نشرنا فصلًا واحدًا من كتابنا النبي موسى وآخر أيام تل العمارنة، فكانت معركة فكرية، منها النماذج التالية:
(١) تصحيح للمعلومات الواردة في مقالات الدكتور سيد القمني ١⋆
د. عبد المنعم عبد الحليم سيد
أستاذ التاريخ القديم والآثار المصرية
بكلية الآداب جامعة الإسكندرية
تابعت المقالات المنشورة في أخبار الأدب في الأعداد الصادرة أيام ١ / ١٢، ٨ / ١٢، ١٥ / ١٢، ٢٢ / ١٢، وأولها بعنوان «رحلة النبي موسى» بلاد بونت ليست الصومال، وثالثها بعنوان «الموقع الصحيح لبلاد بونت» وفي هذه المقالات كثير من الأخطاء التاريخية؛ نتيجة اعتماد الكاتب على التشابه اللفظي وحده بين الأسماء التاريخية والجغرافية، دون أن يرجع إلى الوثائق التاريخية والأثرية.
- (١)
مصطلح عام هو «بونت»، وكانوا يطلقونه على المناطق التي يحصلون منها على البخور.
- (٢)
مصطلح خاص هو «بيا-بونت» بمعنى منجم بونت، وكانوا يطلقونه على المناطق التي يحصلون منها على الذهب إلى جانب البخور.
- (٣)
مصطلح خاص آخر هو «ختيو-عنتيو-نو-بونت» ومعناه «منطقة مدرجات البخور في بونت»، وقد أطلقوه على المنطقة التي حصلوا منها على أشجار البخور لاستزراعها في مصر.
والمصطلح الأول أُطلِق في البداية على المناطق الواقعة على الساحل الأفريقي للبحر الأحمر الغربية من جنوب مصر، ثم امتد مدلوله على طوال الساحل الأفريقي للبحر الأحمر، حتى شمل شمال شرق الصومال، وسبب هذا الامتداد يرجع إلى توغل المصريين جنوبًا على طوال الساحل الأفريقي للبحر الأحمر، للاقتراب قدر الإمكان من مناطق نمو أشجار البخور في شمال الصومال لتقليل الوسطاء؛ وبالتالي ثمن السلعة (كما دلت على ذلك نصوص هيروغليفية من عصر الملكة حتشبسوت).
والمصطلح الثاني «بيا — بونت — أو منجم بونت»، أطلقه المصريون القدماء على الجزء الجنوبي من صحراء العتباي، الممتدة في شرق السودان، حيث توجد مناجم الذهب، وقد أثبت ذلك في تقرير الحفائر التي أجريتها على ساحل البحر الأحمر (ص٥٦–٦٦ من التقرير المرفق).
أما المصطلح الثالث، وهو منطقة مدرجات البخور في بونت، فقد استخدمه المصريون لأول مرة في عصر الملكة حتشبسوت في النقوش التي تسجل بعثتها إلى بونت لجلب أشجار البخور؛ لاستزراعها في حديقة معبد هذه الملكة الدير البحري بقرب الأقصر، وقد أثبت في البحث الذي أشار إليه الدكتور القمني «محاولة لتحديد موقع بونت» أن هذه المنطقة تقع في شمال شرق الصومال، وقد استخدمت في ذلك الوثائق الهيروغليفية والأدلة الجغرافية والنباتية والحيوانية، بالإضافة إلى رواية الكتَّاب اليونان والرومان.
وهكذا امتد المدلول الجغرافي للمصطلح «بونت» على الساحل الأفريقي للبحر الأحمر، من ساحل السودان في عصر الدولتين القديمة والوسطى، حتى ساحل الصومال في عصر الدولة الحديثة، وهذا ما تعارف عليه علماء الآثار المصرية، ودلت عليه الآثار والنقوش التي اكتشفها في موقع الميناء (التقرير المرفق).
من هذا يتضح أن كل المناطق التي أُطلقت عليها التسمية بونت ومشتقاتها في النصوص المصرية؛ يقع في مناطق أفريقية وليست آسيوية؛ وعلى ذلك فإن ما دفع إليه الدكتور القمني بأن بونت تقع في بلاد الأنباط في شمال خليج العقبة؛ يخالف هذه الوثائق التاريخية الأثرية.
وهناك وثيقة هيروغليفية ذات أهمية كبرى في هذا الموضوع، يبدو أن الدكتور القمني لا يعلم عنها شيئًا، وهي لوحة سُجل عليها ما يفيد أن سقوط المطر على جبال بونت يؤدي إلى حدوث فيضان النيل؛ مما يدل على أن بونت تقع إلى الجنوب من مصر، أي في منطقة أفريقية، وبطبيعة الحال لا يمكن حدوث فيضان النيل إذا سقطت الأمطار على شمال خليج العقبة، التي يحدد الدكتور القمني موقع بونت في نطاقه.
- (١) في عدد يوم ١٥ / ١٢، العمود الأول، ص٢٩، يقول: إن «البتراء» كان اسم العاصمة زمن الأنباط، وهو غير صحيح؛ لأن الاسم النبطي البتراء هو «قمو»، ومعناها «البتراء»، وقد أطلق الأنباط هذه التسمية على عاصمتهم بسبب تعدد ألوان صخورها، وهو الاسم الذي تحور إلى «الرقيم» الوارد في سورة الكهف، أما كلمة البتراء فهي من التسمية اليونانية petra ومعناها الصخرية أو الحجرية.
- (٢)
في عدد يوم ١ / ١٢ ص٨، العمود الثالث، يقول الدكتور القمني: إن كلمة «بونت» لم ترِد بها العلامة الأجنبية، وهو خطأ أيضًا؛ إذ العكس هو بيا-بونت، ومنطقة مدرجات البخور في بونت كانت تلازمها هذه العلامة التي على شكل ثلاثة جبال (راجع التقرير المرفق شكل ٢٩).
- (٣)
في نفس العمود المذكور في (٢) يقول إن الملك البونتي الذي دوِّن اسمه «بارح» في نقوش حتشبسوت يحمل لقب «عظيم عظماء إرم»، وهو غير صحيح؛ لأن هذه العبارة مدونة في رسوم حتشبسوت في الصف الذي يعلو صف عظماء بونت، وتخص شعبًا آخر أطلق عليه المصريون الاسم «إرم».
- (٤)
في عدد ١ / ٢ ص٨، العمود الأول، يقول: إن الفرعون أمنمحات الأول، من ملوك الأسرة ١٢، أرسل ثلاثة آلاف جندي برئاسة القائد «حنو»، وهو غير صحيح أيضًا؛ لأن الفرعون المقصود هو المسمى منتوحب-سعنخ كارع، أحد ملوك الأسرة ١١.
- (٥)
في نفس العمود المذكور في رقم (٤) يقول: إن لوحة النصر للملك أمنمحات الثاني، جاء فيها أن الملك قام بتوطيد سلطانه في أرض الإله، وهو خطأ لأن صاحب هذه اللوحة هو الملك سنوسرت الثاني.
- (٦)
في عدد ٢ / ١٢ ص٩، العمود الثاني، يقول: إن تقرير مسئول حكومي اسمه «خنوم-حتب» عاش خلال الأسرة السادسة الفرعونية، جاءنا على حجر بلرمو موجزًا يقول: «إنه زار بلوس وبونت»، وهو غير صحيح لأن هذا النص وارد في مقبرة رجل يدعى خوي في أسوان وليس على حجر بلرمو؛ لأن هذا الحجر مدونة رسمية خاصة بالسلوك لا بالأفراد. هذه بعض الأخطاء التي أكتفي بها حتى تتسع مساحة أخبار الأدب لنشرها مؤجِّلًا التصحيحاتِ الأخرى إلى الأعداد القادمة.
(٢) بلوغ الأرب٢⋆ في أصول اللياقة والأدب٣
بعد ما ينوف على العشر سنوات من الجهد المكثف والمضني، مع التفرغ الكامل، أوشكت على الانتهاء من تدبيج كتابي المعنون «النبي موسى وآخر أيام تل العمارنة». وقد اضطرني هذا العمل إلى سفرات شتى سعيت خلالها أدقق وأنقب وراء كل ما يتصل بموضوعي، وكان أشدها قسوة سفري في ظروف صحية صعبة إلى بوادي سيناء، ثم بوادي الشام، ثم أقصى شمالي العراق، ثم الأردن، حتى تمكنت من إنجاز أكثر من ثلاثين فصلًا. نشرنا منها فقط فصلًا واحدًا صغيرًا بأخبار الأدب، استغرق نشره ست حلقات، اشتملت كل حلقة على صفحتين من تلك الصحيفة، وهو فصل من الجزء الثاني لكتاب يتكون من ثلاثة أجزاء، وهكذا يرى قارئي أن تلك الصفحات المنشورة لا تعبر إطلاقًا عن كتاب بهذا الحجم. يضيف كل فصل فيه قرائن وشواهد وأدلة تدعم أركانه التأسيسية.
وبين هذه الأركان جاء فرضًا أن بلاد بونت المذكورة بالوثائق المصرية القديمة تقع على امتداد وادي عربة وجبال سراة سعير، بين خليج العقبة جنوبًا والبحر الميت شمالًا. وعندما وصلنا إلى الفروض التأسيسية لعملنا، وجمعنا لها المادة الوثائقية اللازمة والقرائن والشواهد الهائلة كمًّا وكيفًا، وضمنها فرض بلاد بونت، بدأنا الكتابة ونحن نعلم حجم ردود الفعل التي سيلقاها عملنا هذا، وهو أمر اعتدنا عليه؛ لأننا نخوض دومًا في مناطق ملغومة وخلافية. وقد توقعنا مع عملنا هذا تحديدًا أننا سنتعرض لهجمات شرسة سواء من أصحاب العقائد الثابتة الجامدة، أو من أصحاب الأيديولوجيات عمومًا، ثم من رجال التاريخ التقليديين خصوصًا. هذا ناهيك عن كون أي بحث في فلسفة التاريخ أو في علوم التاريخ الاجتماعي أو التاريخ الديني؛ عادة ما يستفز ثائرة المؤرخ التقليدي الذي يرى هؤلاء — رغم رسوخ أقدامهم — دُخلاء على ميدانه، وهو الأمر الذي تعرض له في بلادنا أكثر من باحث، مثل كمال الصليبي وفراس السواح ومحمد البهبيتي، أو ما تعرض له في غير بلادنا سيجموند فرويد وجيمس فريزر وفليكوفسكي وغيرهم كثير، لكن لو حاذر هؤلاء مثل تلك المواقف السلفية المتوقعة لَمَا حظينا بالثراء الذي أضافوه إلى ثروتنا المعرفية والمنهجية.
وإن مثل تلك العلوم التي تعمل معتمدة على المادة التاريخية ليست أبدًا تأريخًا بالمعنى الدقيق للكلمة؛ فالباحث فيها تختلف مهمته ومنهجه اختلافًا بيِّنًا عن المؤرخ، حيث يعتمد على الوثائق التي يقدمها له المؤرخ والمادة العلمية الضرورية، التي يُعمل فيها مناهجه وأدواته للوصول إلى ما يبغيه من إعادة ترتيب تلك المادة أو تحليلها، ثم إعادة تركيبها أو الاستنتاج منها أو الاستفادة بها في كشوف جديدة.
لكن ما إن نشرنا هذا الفصل منزوعًا من سياقه، والذي لا تعبِّر مادته وقرائنه عن مجموع ما حُشِد في فصوله من دلائل وقرائن وبراهين سوى بنسبة واحد إلى ثلاثين أو أقل من ذلك، طالعنا الدكتور عبد المنعم عبد الحليم بالرد على أطروحتنا جميعها وبرمتها عبر هذا الفصل، دون أن يتمهل حتى يقرأ العمل كاملًا، ويبدو أنه لم يلتفت إلى الإشارات المتكررة بالصحيفة إلى أن ما يُنشر نماذج من الكتاب، وجاء ذلك الرد في عدد أخبار الأدب بتاريخ ١٢ / ١ / ١٩٩٧م.
ورغم عتابنا الهادئ على تسرع الدكتور، فإنه قد ساق رده بنبرة هادئة ليبلغ أربه بلباقة ورصانة، وهو الأمر الذي يحتاج في التعامل معه إلى قدر من اللياقة والأدب لنبلغ بدورنا الأرب.
والطريف أني توقعت رد الدكتور عبد الحليم بوجه خاص؛ لأني أعلم أني قد خُضت في منطقة عزيزة عليه، وأنه صاحب نظرية فيها قد أعلنت خلافي معها. وأنه قد كرس لها من وقته وعلمه، كما كرسنا وبحثنا؛ فجاء عشقنا واحدًا، ولأني كنت أعلم أن ذلك سيزعجه، فقد توقعت رده كأول رد، وهو ما حدث بالفعل، لكنه حدث مبكرًا ومبكرًا أكثر من اللازم.
نحن نعلم بعد قراءتنا له في بحثه عن بلاد بونت أنه قد سافر كما سافرنا، وكما اجتزنا فيافي وقفارًا ندقق الخط الذي رأيناه صوابًا، سافر هو أيضًا ليدقق خطأً آخر رآه هو الصواب، لكنه وإن أصر على التمسك برأيه كحقيقة نهائية، فإننا من جانبنا نؤكد (للسيد الدكتور ولقارئنا الذي نحترمه ونحترم وقفته لمطالعتنا) أننا قدمنا فروضًا جمعنا لها الوثائق التاريخية التي أنكرها علينا، وقصَر جهدنا عند البحث اللغوي. إننا أبدًا لا نقطع بصدق كل فروضنا المطلق؛ ففي علوم البحث في التاريخ ليس هناك مجال للقطع واليقين، بل إن مثل ذلك القطع يُخرجنا فورًا من دائرة العلم إلى دائرة من يعتقدون أنهم يمتلكون الحقيقة النهائية والمطلقة.
لقد قرأت ما قدمه الدكتور عبد المنعم عبد الحليم بشأن بلاد بونت، كما قرأت ما قدَّم آخرون، حتى كدت أحفظ التعابير والأساليب، وأعرف تفاصيلها كما أعرف كف يدي. وقد اختلف هؤلاء اختلافًا هائلًا ومتباعدًا بل ومتنافرًا، وكلهم أصحاب أسماء ذات سمت عظيم في علم التاريخ، ولا أظن أحدهم قد قطع في قوله أو ظن أنه قدم الإجابة النهائية. ومن جانبي، لا يصل بي الظن في الدكتور عبد الحليم إلى اعتقاده أنه قد وضع القول النهائي والفصل في هذا الأمر؛ فهو في اعتقادنا رجلُ علم رصينٍ نترفع به عن مثل ذلك، وحاشانا أن نعتقد به ذلك!
وتأكيدًا على أن هناك من لم يأخذ نظريته مأخذ النظرية القانون والنهائية، إنه بالأمس فقط ١٢ / ١ / ١٩٩٧م، وصلتني مكالمة تليفونية من صديق مهتم بسلطنة عمان، يلفت نظري إلى أستاذ بجامعة السلطان قابوس، هو الدكتور عاطف عوض، وهو فيما علمنا رجل علم متمكن ورصين، وأنه قد وضع فرضًا مخالفًا تمامًا لكلينا لموضع بلاد بونت؛ حيث افترض أنها بلاد الساحل العماني، حتى إن السلطنة قد رأت في كشفه أمرًا يستحق الاحتفاء به، فتم تحديد زمن افتراضي لوصول سفن الفرعونة حتشبسوت، وأقيم بهذه المناسبة احتفال شعبي كرنفالي تمثيلي يمثل وصول البعثة المصرية إلى بلاد عمان، التي افترض الدكتور عوض أنها بلاد بونت. وهكذا يرى الدكتور عبد الحليم أن المساحة لا زالت، وستظل، مفتوحة لكل من يمكنه أن يدلي فيها بفروضه وأسانيده، بغض النظر عما قدم الدكتور عبد الحليم، أو ما قدم شخصي المتواضع، وأنه سيتكبد مشقة عظيمة إذا قرر أن يقضي عمره في تخطيء كل من يقول بشأن بونت قولًا مخالفًا لنظريته. ومن جانبنا نعود فنؤكد أننا سنخطئ هنا أو هناك وسط هذا الرتل الهائل من المادة العلمية المتناقضة، وعلى يقين أننا سنرتكب زلة صغيرة هنا أو كبيرة هناك، وأنه ما دام دأبنا مناوشة المناطق الصعبة، فسنظل نخطئ، وجلَّ من لا يخطئ يا سيدي الدكتور.
ثم نقف الآن مع الدكتور عبد المنعم عبد الحليم وهو يعدد لنا ما زعم أنه أخطاء تاريخية وقعنا فيها، لنتساءل قبل ذلك: متى يمكن وصف معلومة يسوقها كاتب بأنها خاطئة؟ أظن ذلك يكمن في أحد ثلاث حالات؛ الأولى أن يكون الكاتب قد فهم المعلومة خطأً وقد يكون فهمه — وليس المعلومة — باعتباره الصواب، وهو ما لم يحدث معنا. والثانية أن يكون هذا الخطأ من ابتداعه الشخصي، وهو أيضًا ما لم يحدث معنا، والثالثة أن يكون الكاتب قد افتأت على الحقيقة ولوى عنق المعلومة لصالح رؤيته ولتوافق هواه، وهو أيضًا ما لم يحدث معنا. فماذا حدث معنا؟
إن كل ما أشار إليه الدكتور عبد الحليم ووصفه بالخطأ؛ موثق لدينا ويعتمد على مصادر أصلية تمت الإشارة إليها في مواضعها، بنصها هو هو كما جاء في مظانه المصدرية، وهي مصادر دُبجت بأقلام علماء أجلاء هم مصادرنا جميعًا التي نتواضع أمامها احترامًا، وفي الفصل المنشور كانت مراجعنا تعود لأسماء جليلة القدر، هي: جاردنر، مارييت، كيتشن، وليم لانجر وفريقه البحثي، كرال كاسيدوفسكي، زيته، طه باقر، جارستانج، هاريس زاليج، سليم حسن، أحمد بدوي … فإذا لم نلجأ في استقاء المعلومة الصحيحة إلى أصحاب تلك الأسماء، فلمن نلجأ؟ وإذا كان هؤلاء يقدمون لنا معلومات تاريخية خاطئة، فماذا يبقى لدينا من حقائق في علم التاريخ القديم؟
والآن نقف تفصيلًا مع ما قدمه السيد الدكتور من أخطاء معلوماتية رآها في ذلك الفصل المنشور؛ فهو ينعى علينا عدم الإشارة إلى نص يتعلق ببلاد بونت، يقول إنه عندما تسقط عليها الأمطار تفيض مياه النيل. أولًا: في هذه الحالة لن تكون بونت هي الساحل الصومالي حسب نظريته إذا أخذنا النص بظاهره. وثانيًا: لم يكن المصري القديم على علم بمنابع النيل وكيف يفيض، ووُضعت في ذلك تصورات أسطورية عديدة لا مجال هنا لسردها؛ فهو مرةً دموع أحد الآلهة، ومرة نهر ينبع من جبال السماء أو تحت الأرض، وقد ظلت تلك التصورات الأسطورية حتى عهد قريب في حديث منسوب لنبي الإسلام ﷺ أن أهم أنهار المنطقة، وضمنها النيل، تنبع من السماء من تحت عرش الرحمن. حيث لم يكن العلم بجغرافية الأرض قد اتسع بعد. وإذا كانت تلك حجة تضع بونت جنوبًا، فكيف يفسر السيد الدكتور تكرار المصري القديم أن بونت تقع في الشرق حيث تطلع الشمس؟
ثم يبدأ سيادته بالترقيم تعديدًا للأخطاء المعلوماتية من وجهة نظره، فيقول إننا قلنا إن الاسم النبطي لعاصمة الأنباط هو البتراء، وصحَّحه بأنه «قمو» الذي تحوَّر في العربية إلى «الرقيم»، وورد في سورة الكهف. والصحيح أننا أبدًا لم نقل إن البتراء هو الاسم النبطي، إنما قلنا إنه الاسم الذي عرف به الرومان تلك المدينة زمن الأنباط، بمعنى الصخرة أو الصخرية. ثم إننا نعلم يا سيدي أن اسمها كان «الرقيم»، لكِنا أجَّلناه لموضعه من البحث حيث سيؤدي في مكانه دورًا في تأكيد مذهبنا، ولا بأس إن ذكرنا لك هنا طرفًا منه حتى تعلم أننا نعلم.
نقول في الفصل الثالث والعشرين (حسب الترتيب الحالي) وفي ص٦ من مخطوط الفصل: «ويظهر لنا عند العرب اسم غريب هو الرقيم ظهر قبلهم عند المؤرخ يوسفيوس اليهودي، وقد رجح الباحثون أنه التسمية العربية لمدينة البتراء أو مدينة الحجر أو لكليهما، تقع منطقة الحجر شمال غربي السعودية الآن، وقد أورد إحسان عباس رأيًا يقول:
«إن الرقيم هي المدينة التي وردت في المصادر الصينية باسم «لي-قن» من «ري-قم» … كذلك ورد اسم الرقيم في رسالة سريانية تحدثت عن زلزال دمر الرقيم، ونحن نعلم أن هناك زلزالًا قد دمر الرقيم، ثم نحن نعلم أن هناك زلزالًا قد دمر البتراء عام ٣٦٣ ميلاديًّا …» إلى آخره. وهكذا تعلم يا سيدي أن في جعبتنا الكثير الذي عن الرقيم وغير الرقيم مما قام بدوره في مكانه من بحثنا، فقط هي العجالة والتسرع يا أخي الكريم.
ثم يقول الأستاذ الدكتور إن كلمة «بيا-بونت» قد لازمتها العلامة الهيروغليفية الدالة على البلاد الأجنبية، وهو عكس ما قلنا، فما قلناه أن كلمة بونت وليس «بيا-بونت» قد وردت بدون تلك العلامة، ولم نقل منجم بونت حتى لا نربك القارئ وسط رتل المعلومات الهائل.
ثم يقول الدكتور عبد الحليم إننا أخطأنا بشأن تزمين حملة القائد «حنو»؛ حيث قلنا إنها حدثت زمن الفرعون أمنمحات الأول، بينما هي قد حدثت زمن الفرعون سعنخ كارع، وقد ورد ذلك سهوًا؛ حيث يأتي ترتيب أمنمحات الأول في قوائم الملوك مباشرة بعد سعنخ كارع، ويمكن للعين أن تقرأ سطرًا أعلى أو أسفل، لكنه على أية حال خطأ يجب استدراكه، لكن ألا يرى السيد الدكتور أن ذلك لا علاقة له على الإطلاق بموضوعنا ولا يشغله، ولا يؤثر فيه ولا على استنتاجاتنا ولا على الأقيسة ولا على المنهج ولا على مادته الفعالة، ولا تترتب عليه أية نتائج إطلاقًا! وهل سعى السيد الدكتور لتصيُّد زلات لا تؤثر من قريب أو من بعيد على الموضوع؛ للتأثير على قارئ غير متخصص؛ تشكيكًا في كاتبه؟
ثم يخطِّئنا للمرة الخامسة في قولنا بلوحة نصر تخص الملك «أمنمس الثاني/ أمنمحات» جاء فيها أنه قام بتوطيد سلطانه في بلاد بونت أرض الإله، ويصحِّحنا بأن صاحب هذه اللوحة هو الملك سنوسرت الثاني، فهلَّا رجع السيد الدكتور إلى العلامة جاردنر في كتابه مصر الفراعنة، الذي ترجمه رجل لا يقل جلالًا هو الدكتور نجيب ميخائيل، وطبعته هيئة الكتاب، ص١٥٨ و١٥٩، ليقرأ معنا جاردنر إذ يقول: «وصلت إلينا لوحة ترجع إلى العام الثامن والعشرين من حكم أمنمس الثاني، تسجل قيام هذه البعثة … ومعها الكلمات: يوطد آثاره — أي الملك — في أرض الإله.»
ثم يخطِّئنا للمرة السادسة في معلومة مصادرها لا تقل جلالًا؛ فهي تعود إلى العلامة زيته والعلامة برستد حول الموظف المصري الذي سافر إلى بيبلوس وبونت، والمقصود هنا اقتران الموضعين ببعضهما؛ لإثبات أن بونت تقع شرقًا لا جنوبًا، وأن المعلومة يا سيدي سواء كانت من مقبرة خوي أو أي مقبرة أخرى أو حجر بلرمو أو أي حجر كان، لا علاقة لها بالعمل وسياقه وأهدافه. فهل جلس الأستاذ الدكتور يتصيد فقط لمجرد التشكيك؟
نحن يا سيدي حتى الآن لم نخطئ؛ فموضوعنا كما ترى موثق، أما الحقائق والمادة التاريخية فليست من شأننا ولها أربابها، وعنهم ننقل، وبهم نقرأ، وعليهم المعتمَد. ومهمتنا أبدًا ليست تدقيق معلومة يعطيها لنا علماء مثل جاردنر أو زيته أو مارييت أو سليم حسن، مهمتنا هي البحث وإعادة التصنيف ثم المقارنة فالتحليل والتركيب، ثم فرض الفروض واختبارها وجمع الأدلة عليها ثم الاستنتاج، أما المعلومات سواء كانت خطأً أم صوابًا، فهي ذلك المعطى الجاهز لنا من أهل التاريخ، وأنت أحدهم يا صديقي.
وختامًا، أقول للسيد الدكتور: إني أحترم وقفته معي لمراجعتي، ولا أظنه قد فعل ذلك تعصبًا لنظريته وتشكيكًا فيما ذهبت أنا إليه، فأنا أربأ به عن ذلك، كما أعلم أن فرضه لبلاد بونت بالصومال عزيز عليه، فهو محل اهتمامه في رسالة الماجستير ومجمل أبحاثه بعد ذلك، لقد قال رأيه ونظريته وأدلته على وقوع بونت على الساحل الصومالي، كذلك قلنا رأينا وأدلتنا على وقوعها عند العقبة، وللقارئ في النهاية موقفه الخاص الذي سيختاره، لكني أعلم أنك قد أضفت إلى قرائي رصيدًا من قرائك الذين سيثرون مساحتي؛ لأنهم، لا شك، قد تعلموا منك المنهج العلمي، وعرفوا منك كيف يختلفون وكيف يتحاورون.
وبعدما ثبت الآن يا أخي خطؤك في تخطيئنا، نقول لك: هذا بعض هادئ من فيض، ورذاذ لطيف من غيث، وقطر كظيم من سيل، فإن عدتم عدنا، وساعتها لا نعدك أبدًا بالإصرار على فضيلة بلوغ الأرب. وتمهل يا أخي؛ فإن في العجلة الندامة، وتأنَّ؛ ففي التأني حفاظ على هيبة المنصب الرفيع، واخفض من صوتك، وتواضع في قولك، وراجع مصادرنا قبل أن تقول، ولا تستفز ثائرتنا يرحمكم الله، فأنت البادي … اللهم إني قد بلغت اللهم فاشهد.
(٣) د. سيد القمني والنبي موسى
د. عبد المنعم عبد الحليم سيد
أستاذ التاريخ القديم والآثار المصرية
بكلية الآداب جامعة الإسكندرية
في العدد الصادر يوم ١٢ / ١ / ١٩٩٧، ص٦، من أخبار الأدب، نشرت الجزء الأول من هذه التصحيحات، وقد نشر الدكتور سيد القمني ردًّا على ما ورد فيه في العدد الصادر يوم ١٩ / ١ / ١٩٩٧، ص١٤، ص١٥. وإنني أهنئ الدكتور سيد القمني على أسلوبه الأدبي الإنشائي الرفيع في رده على تصحيحاتي لأخطاء مقالاته عن بونت، ولكن المجال في هذه المعلومات لا يعتمد على البلاغة والإنشاء بقدر ما يعتمد على الوثائق والأسانيد التاريخية والأثرية.
ولكن قبل أن أبدأ في هذا الجزء الثاني من التصحيح، أعتب على الدكتور سيد القمني قوله إنه توقع التعرض لهجمات شرسة من رجال التاريخ التقليديين؛ خصوصًا أن أي بحث في فلسفة التاريخ أو علوم التاريخ الاجتماعي (حسب قوله) عادة ما يستفز ثائرة المؤرخ التقليدي، ويستشهد الدكتور القمني على ذلك بكتاب كمال الصليبي الذي تعرض لهذه الهجمات الشرسة (حسب قوله).
وإنني أقول للدكتور القمني: هناك فرق كبير بين أن يقدم أي باحث مجدد رأيًا جديدًا يعتمد على الوثائق التاريخية والأثرية، فهذا لا شك مما يرحب به كل مؤرخ، سواء كان تقليديًّا أم مجددًا، وبين طالب الشهرة بالزائفة يلجأ إلى تحريف المسميات والمعلومات لتوافق هواه، متجاهلًا الوثائق والأسانيد التاريخية والأثرية، وهذا ما فعله كمال الصليبي عندما حرَّف أسماء كلٍّ من المواقع الفلسطينية المذكورة في العهد القديم والأسماء الحالية للمدن والقبائل والقرى في منطقة عسير بالمملكة العربية السعودية؛ لكي توافق هواه في إثبات أن أرض الميعاد عند بني إسرائيل ليست فلسطين كما هو معروف، بل منطقة عسير في المملكة العربية السعودية، وأصدر في ذلك كتابين باللغتين العربية والإنجليزية، عنوان النسخة العربية هو «التوراة جاءت من جزيرة العرب»، وقد سبق أن نشرت نقدًا لهذا الكتاب نُشر في إحدى الدوريات العربية، وأعدت نشره في كتابي «البحر الأحمر وظهيره في العصور القديمة» ص٤٨٥ وما بعدها، أوضحت فيه مدى إسراف كمال الصليبي في هذا التحريف إلى درجة قلب المعلومات الثابتة التاريخية والأثرية رأسًا على عقب، وإعطائها مضمونًا يخالف تمامًا ما تتضمنه هذه الوثائق.
أبدأ الآن في الجزء الثاني من التصحيح لمقالات الدكتور سيد القمني بالإشارة إلى الاتجاه العام للدكتور القمني في مقالاته كلها، وهو أنه جعل من منطقة أدوم (التي يسميها «أدم») الواقعة إلى الشمال والشمال الشرقي من خليج العقبة، والتي قامت فيها دولة الأنباط بعاصمتها البتراء، جعل منها موطنًا لشعوب ودول ثبت بالوثائق التاريخية والأثرية، منذ نشأة علوم الآثار المصرية والعراقية في القرن الماضي، وترجحه آلاف النصوص الهيروغليفية والسماوية، أنها كانت تعيش في مناطق بعيدة كل البعد عن منطقة أدوم هذه، وفيها دولة «ميتاني» التي قامت في شمال سوريا والعراق وشعب الحوريين، الذي كان يسكن شمال العراق أيضًا، فضلًا عن منطقة بونت التي كانت منطقة أفريقية …
وهكذا سحب الدكتور القمني هذه الدول والشعوب من أقصى الشمال ومن أقصى الجنوب، ليجمعها كلها في منطقة واحدة؛ هي منطقة أدوم موطن دولة الأقباط.
وفي سبيل إثبات رأيه هذا، لجأ الدكتور القمني إلى وسيلة الاعتماد على التشابه اللفظي بين المسميات الجغرافية والتاريخية، دون أي اعتبار للوثائق التاريخية والأثرية، وأسوق مثالًا صارخًا لذلك، فلكي يثبت الدكتور القمني أن بونت هي منطقة البتراء وما حولها «بلاد أدوم»، اعتبر التسمية «قصر البنت» (التي حورها إلى قصر «بنت»)، والتي يطلقها عرب المنطقة الحاليون على أحد المباني الضخمة في البتراء، اعتبر هذه التسمية بقية من الاسم القديم «بونت» (عدد يوم ١٥ / ١٢ / ١٩٩٦م، ص٢٩، عمود ٢)، رغم أن هذه التسمية عربية مائة في المائة؛ لما هو ظاهر، وأصلها «قصر بنت فرعون»، وقد أطلقها عرب المنطقة على هذا البناء الضخم (وهو معبد نبطي؛ خلافًا لما يقوله الدكتور القمني عنه بأنه كان مركزًا للحكم والإدارة)، شأن كل عرب الجزيرة العربية عندما يشاهدون بناءً ضخمًا فينسبونه إلى الفراعنة، ومثال ذلك معبد آخر مجاور لمعبد قصر بنت فرعون هذا، به عمود ضخم قائم أطلق عليه عرب المنطقة «عمود فرعون». وهكذا انزلق الدكتور القمني في غمار حماسه لرأيه إلى الوقوع في المحظور؛ إذ لا علاقة بطبيعة الحال بين الكلمة العربية «بنت» (بمعنى ابنة في عبارة قصر البنت وبين الكلمة المصرية القديمة «بونت»). ومن هذه الأمثلة الصارخة أيضًا أنه حرف التسمية «ميتاني» التي كانت تطلق في النصوص الهيروغليفية والنصوص المسمارية على الدولة التي قامت في شمال سوريا والعراق كما ذكرنا، حرَّفها إلى «مديان» و«مدين» (عدد يوم ٢٩ / ١٢، ص٢٨، العمود الأول) قائلًا إن بلاد ميتاني هذه تمركزت في بلاد سعير ووادي عربة، وسميت بالصخرة من طبيعتها الصخرية، وإنها بلاد بونت؛ فإن بونت تعني الصخرة (نفس الوضع من نفس العدد من المجلة). أما أن ميتاني هي نفسها «مدين» فرأي فيه الكثير من الشطط؛ لأن ميتاني هذه تردد اسمها في نصوص الملك تحتمس الثالث وخلفائه باسم «متن» في سياق حروبه في شمال الشام، ودخل ملوك الأسرة الثامنة عشرة في مصاهرات مع ملوكها، وورود اسمها كثير في الصور المسمارية بما لا يدع مجالًا للشك بأن موقعها كان في شمال سوريا والعراق.
ومن المؤسف أن الدكتور القمني يستشهد في تحريفه لكلمة «مجدو» إلى «موقيدة» بتحريف كمال الصليبي للاسم «مجدو» إلى «مقدى»، وقد لجأ كمال الصليبي إلى ذلك التحريف لكي ينطبق على اسم بلدة في منطقة عسير بالمملكة العربية السعودية تدعى المقدة، تمشيًا مع اتجاهه في كتابه المسمى «التوراة جاءت من جزيرة العرب» بالادعاء بأن أرض الميعاد عند اليهود ليست فلسطين، بل منطقة عسير في المملكة السعودية كما سبق أن ذكرنا.
وحتى مصر، لم تسلم من مشروعات الدكتور القمني في نقل الدول والشعوب القديمة إلى منطقة «أدوم»؛ فقد نقل الدكتور القمني حدودها الشرقية إلى هذه المنطقة (والحمد لله أنه لم ينقل مصر كلها)؛ ففي تفسيره لكلمة «موصرى» الأسوزية (عدد يوم ٢٩ / ١٢، ص٢٩، عمود ٢) يقول: إن كلمة موصرى محورة من الكلمة المصرية، السور العظيم ما هو إلا سلسلة الجبال المتبعة (في منطقة أدوم) قبل إطلاقها على مصر نفسها، فهو خطأ أيضًا؛ لأن هذه التسمية وهي بالضبط «مصرى» وردت بالخط المسماري كاسم هو، كما يسمى خطابات تل العمارنة التي ترجع لعصر الملك أمنحتب الثالث وابنه إخناتون (القرن الرابع عشر قبل الميلاد)، وذلك قبل ورودها في سجلات الملك تجلات بلسر الثالث — وقد ذكره الدكتور القمني خطأ «تجلات بلسر الأول» (عمود ٢٩ / ١٢، ص٢٩، عمود ٢) — كما يقول الدكتور القمني بحوالي ستمائة عام، وقد كتبها الآشوريون «مصرى» وكتبها البابليون «مصرو»، وانتقلت إلى العرب بالنطق «مصر».
وإنني أكتفي بهذا القدر من تصحيح أخطاء الدكتور القمني حتى تتسع مساحة أخبار الأدب لنشرها مؤجلًا التصحيحات الأخرى للعدد القادم.
الهوامش
-
(1)
Gauthier, H. Dictionnaire des Noms Géographiques Contenus dans les Textes Hiéroglyphiques, (1975), 3 p. 318.
-
(2)
Prichard, J. B., Ancient Near Eastern Texts (1969), p. 3188.
-
(٣)
عبد المنعم عبد الحليم سيد، البحر الأحمر وظهيره في العصور القديمة (١٩٩٣م)، ص١٩.
-
(4)
Perrot, D., Swahili-English Dictionary (1973) 4, p. 62.
-
(5)
Breasted, Ancient Records tl 409 6. Kitchen, K. The Third Intermediate Period in Egypt, (1986), pp. 296–299.
-
(٦)
وانظر أيضًا: عبد المنعم عبد الحليم، البحر الأحمر، ص٥١٠.
-
(٧)
عبد المنعم عبد الحليم، نفس المصدر، شكل ٥، ص٥٠٧.
-
(٨)
نفس المصدر السابق ص٢٢٠.
-
(٩)
المصدر السابق، ص٥٠٩.
(٤) فصل المقال فيما بين العقبة والصومال٥⋆
بالأمس ٢٣ / ١ / ١٩٩٧م، أحاطتني هيئة تحرير أخبار الأدب تليفونيًّا علمًا بوصول تعقيب جديد من الدكتور عبد المنعم عبد الحليم على الفصل الذي نشرناه من كتابنا «النبي موسى وآخر أيام تل العمارنة»، من بين ستة وثلاثين فصلًا هي مجموع ما تم إنجازه حتى الآن في ثلاثة أجزاء، ولما يكتمل العمل بعد. وقد سبق ونبهنا الدكتور عبد المنعم إلى الخطأ العلمي الذي يرتكبه بإصدار الأحكام على العمل من خلال فصل واحد، لم يرصد سوى قرائن تعادل نسبة واحد إلى ثلاثين أو يزيد من وجهة نظرنا، لكن السيد الدكتور أصر على الاستمرار في هجومه غير الموفق بتهور غير محمود وافتعال معركة لا تليق برجل علم، ومن ثم عاد يزعجنا بطبوله الصومالية ويثير الغبار والضوضاء. ومن هنا رأيتني بغير حاجة إلى الاطلاع على هذا التعقيب الجديد، ورأيت من الأوفق التركيز على مفصل النزاع دون التهويم في التجريحات والطواف حول الفروع دون الأصول.
وقد سبق ونبهت في تعقيبي في ردي الذي نشرته بأخبار الأدب في ١٩ / ١ / ١٩٩٧م، إلى خطأ التعامل مع فصل منزوع من سياقه، كما نصحته، وما كان يشغلنا قبل ذلك في كثير أو قليل، بالتريث، ثم ألمحت بصرامة أننا هذه المرة سنقول ما تكتمنا عليه وغضضنا عنه الطرف؛ لأننا نقدر حساسية موقفه أمام طلبته بالذات، وأوعزنا إليه بعدم ركوب مغامرة غير محسوبة، لكن ليشهد قارئي أنه هو الذي دفعنا دفعًا إلى قول ما سنقول ونحن في غاية الأسف لنشره على ملأ. وإعمالًا لذلك، سنركز على الخلاف التأسيسي، حيث ذهب السيد الدكتور إلى أن بلاد بونت المذكورة في الوثائق المصرية القديمة، تقع على الساحل الصومالي، بينما ذهبنا نحن إلى أنها تقع عند رأس خليج العقبة مع امتداده بطول وادي عربة شرقي سيناء.
أصول الأكاديمية
ويبقى بأيدينا عملنا في كتابنا وعمله هو في رسالتيه للماجستير والدكتوراه، لنعمل فيها القول الفصل؛ تحسبًا لهدر مزيد من الوقت بلا طائل، وسنكتفي بقولنا هنا ونترك بعد ذلك الحكم للقارئ، مع وعد بالتوقف عن الرد مرة أخرى مهما قال السيد الدكتور الفاضل. وسنعمد هنا إلى مراجعة مذهب الدكتور في رسالتيه عبر الملخص الذي نشره؛ اختصارًا للوقت وحسمًا للأمر، مع ترقيم الصفحات التي سنستشهد بها من ذلك الملخص.
وأول ما يلفت نظر الباحث المتمرس أن صديقنا قد بدأ عمله وهو يضع نصب عينيه هدفًا يريد إثباته، وهو أن بلاد بونت تقع تحديدًا على الساحل الصومالي. ومعلوم أن ذلك يتجاوز أول شروط البحث العلمي، وهو الموضوعية والحياد والنزاهة، ويتضح ذلك من اعتماده على تفسير محدد لكلمة «عنتى» التي تشير إلى مواد التبخير التي جاءت بها بعثة حتشبسوت من بلاد بونت، فأخذ برأي واحد يتيم في تفسير الكلمة ورد عند «لوكاس» عرَضًا في كتاب عمومي لا يتحدث عن بونت تخصيصًا، وعنوانه: المواد والصناعات عند قدماء المصريين، ترجمة زكي إسكندر ومحمد غنيم، وبالتحديد على إشارة عابرة بأسطر شاردة في صفحة ١٥١، يرجح فيها لوكاس أن يكون هذا العنتى هو البخور الأبيض أو الكندر المعروف باللبان الدكر … وقد اعتمد الدكتور عبد الحليم هذا الرأي وحده تحديدًا دون غيره؛ لأن اللبان الدكر … ينمو على ساحل الصومال تحديدًا، وهو بغيته وهدفه.
ولمزيد من الدقة، نسوق كلام الأستاذ الدكتور بنصه؛ إذ يقول في صفحات ٥٠ و٥١ ما نصه: «إن أشجار البخور التي يجب البحث عنها على سواحل البحر الأحمر هي أشجار ذلك البخور الذي كان يُعرف عند المصريين باسم عنتى …
ويقول لوكاس إنه البخور الأبيض المعروف حاليًّا باسم الكندر، وهو ما يُطلَق عليه في اللغة … الدارجة اللبان الدكر.»
ومعلوم أن اللجوء إلى استقاء معلومة شديدة التخصيص من كتاب فضفاض شديد التعميم، لا يركز حديثه حول موضوع المادة المنتخبة للإدلاء بالشهادة؛ يوصف في اللغة الأكاديمية بأنه مرجع غير محكم، وعلى هذه العبارة الشاردة في مرجع غير محكم أقام السيد الدكتور عمله برمته، وأسس هرمًا مقلوبًا على رأس إبرة، فقرر بدايةً أن العنتى لا بد أن يكون هو اللبان الدكر، ولأن اللبان الدكر هو الذي يتواجد على ساحل الصومال، فلا بد أن تكون الصومال هي بلاد بونت.
وعلى هذا الأساس الهش أقام الأستاذ الدكتور عمله جميعًا رغم مخالفة ذلك لنتائج وتفاسير أخرى وصل إليها علماء أجلاء ركزوا عملهم على مقطع الأمر نفسه، وانتهوا إلى تعدد القول بشأن العنتى، فهو المُر أو ربما كان هو الميعة أو ربما كان هو الصمغ العربي، فهو على الجملة مادة للتبخير غير محددة باللبان الدكر وحده، وهو ما يتعرض له العالم الجليل جيمس هنري برستد في الجزء الثاني من كتابه التسجيلات المصرية القديمة وآخرون لا يقلون شأنًا لم يقفوا عند اللبان الدكر ينفخون في ذواتهم، بل إن المصادر الأقرب تاريخيًّا من أصحاب المشاهدات العينية من مؤرخي العصر الكلاسيكي، وذلك مثل بلليني في تاريخه الطبيعي، وكذلك استرابون في جغرافيته، قد تحدثا عن ألوان متعددة في مواد التبخير، لكن لأن الأستاذ الفاضل يريد ساحل الصومال سلفًا وبالتحديد موطنًا لبلاد بونت، فقد قرر الوقوف عند الكندر، وهو الأمر الذي أدى إلى متتالية من الأخطاء اضطرته في مرات عديدة إلى الالتفاف غير الحميد على حقائق ضد مذهبه، وهو ما سندلل عليه الآن وفورًا. بعد أن نصحناه فلم يُصغِ وقام يشهر أسلحته الرديئة في وجهنا يريدها معركة، فله إذن ما أراد.
المنهج التلفيقي
مع إصرار الدكتور عبد الحليم على أن العنتى هو الكندر تحديدًا، كان لا بد أن ينتهي إلى نتيجة منطقية ضرورية تتأسس على هذه المقدمة، وهي أن الأشجار الإحدى وثلاثين التبخيرية التي أحضرتها بعثة حتشبسوت من بلاد بونت، وزرعتها أمام معبدها بالدير البحري، هي بالتحديد أشجار الكندر، وهو ما انتهى إلى القول به في صفحة ٤٧ من موجز رسالتيه.
أما نحن فقد قلنا في فصلنا المنشور، وفي بقية كتابنا الذي جمعنا له مادة هائلة كمًّا وكيفًا عبر السنوات العشر الماضية، إن تلك الأشجار لا بد أن تكون هي أشجار بيرسيا التي تنمو عند العقبة ووادي عربة، بقرائن وأدلة حاشدة، وهي الشجرة التي عرَّفها معجم أوكسفورد بأنها «شجرة بيرسيا المقدسة».
ولأن مثل تلك الخلافات تظل في منطقة رجراجة على صورتها تلك ما بين تأييد هذا الرأي أو ذاك، فإن الوسيلة الوحيدة للحسم لا تكون إلا بأثر أركيولوجي واضح يقطع في الأمر، وهنا نستدعي شاهدًا موثوقًا هو نافيل مدعومًا من الأركيولوجيست عالم المصريات الأشهر سليم حسن، ليدلي بشهادته في الجزء الرابع من عمله الموسوعي مصر القديمة، طبعة هيئة الكتاب، صفحة ٣٣٣ وصفحة ٣٣٤، لنسمعه يكتب تقريرًا واضح المعالم لا يحتمل لبسًا، يقول فيه: «وتدل الكشوف الحديثة على أن الأشجار العطرية التي أتى بها من بلاد بونت قد غُرست فعلًا في حفر نُقرت في الصخر أمام المعبد ومُلئت بالطين الخصيب. وقد عثر على هذه الحفر الحفارون المحدَثون في الردهة التي أمام المعبد، وقد وجدوا أن بعضها لا يزال محفوظًا فيه جذوع الأشجار الجافة، غير أن هذه الأشجار ظهر أنها أشجار بيرسيا.» فهل لم يزل هناك شك أو خلاف؟ وهل سيستمر السيد الدكتور عند ساحل الصومال يدق طبول الحرب علينا؟
البونتي والفينيقي
كان من بين أهم القرائن التي قدمناها للتدليل على وقوع بونت عند العقبة ووادي عربة بعاصمته المعروفة الآن بالبتراء؛ هو ما جمعناه من مادة تاريخية تؤكد أن بلاد بونت كانت تشتمل على عدد من العناصر البشرية المتحالفة، وأن تلك العناصر المتحالفة كانت تضم عنصرًا جزيريًّا قادمًا من جنوب جزيرة العرب بصحبة عنصر زنجي قادم بمنتجاته التجارية من أفريقيا الشرقية، مع عنصر هندوآري قادم من تركيا وشمال العراق وبلاد الشام، وهو العنصر الذي اشتمل على الآراميين والفينيقيين، ورأينا أن العنصر الأخير هو من وردت الإشارات التاريخية إليه بوصفه «الجنس الأحمر»، وأن أصحابه هم من أعطى البحر الأحمر اسمه من صفتهم، فهو الإريتري، أي الأحمر، وأن هؤلاء كانوا سادة تلك المملكة التجارية المتحالفة، والذين حملوا اسم البونتيين على وجه التخصيص.
وقلنا إن المصريين قد أطلقوا على الطائر الخرافي الذي زعموا أنه يأتي مصر قادمًا من بلاد العرب عند وادي عربة، هو «بنو»، وهو الذي عرفه اليونان باسم «فوينكس»، وقد استخدم المصريون اسم هذا الطائر (بنو) للإشارة إلى الجماعات التي تأتي إلى مصر من الشرق عبر سيناء، فهم البونتونيون أو الفينيقيون. وكان ذلك أحد أدلتنا، ضمن أدلة أخرى عديدة، على تخصيص تلك المنطقة العربية بأنها بلاد بونت.
وقد لاحظ السيد الدكتور تلك المشابهات، ولكنها لم تذهب به إلى العقبة، فليس كل من ركب الفرس خيَّالًا، وليس القصد من ذلك المقارنة؛ لأنه لا مجال للمقارنة أصلًا، إنما القصد هو بيان لجوئه إلى التلفيق والمداورة الشديدة الهشاشة رغم تأكده من علاقة البونتيين بالفينيقيين، فاستمر في إصراره على ساحل الصومال، رغم أن الفينيقيين شرقي مصر في آسيا وليسوا في جنوبي مصر بالصومال، ومن هناك اختلط الأمر عليه فقام يقول: «وقد لاحظ الباحث (أي الدكتور عبد المنعم نفسه) أن الاسم «بنو» هو الاسم المصري للطائر الخرافي المسمى في الإغريقية فوينكس، يطلق على المقاطعات المصرية الواقعة شرقي النيل، وبمقارنة هذا الاسم بالكلمة المصرية وبين معنى يشرق، رجح الباحث أن المصريين ربما أطلقوا الاسم «بنو» أو اسمًا مشتقًّا منه على الجماعات التي كانت تفد إلى مصر من المناطق الشرقية ومن بينهم البونتيون (لاحظ كلامه الذي يؤكد كلامي).
وأنهم ربما أطلقوا هذا الاسم على سائر المناطق الواقعة إلى الشرق من مصر ومن بينها بلاد العرب … وبالنسبة للتشابه الملفت للنظر بين نشاط البونتيين ونشاط الفينيقيين في البحر الأحمر، والآراء التي تعتبر الفينيقيين أحفادًا أو خلفاء للبونتيين … فإن من الممكن افتراض أن الفينيقيين عندما لاحظوا نواحي كثيرة للتشابه بينهم وبين البونتيين، دفعتهم حاستهم التجارية إلى الاستفادة من ذلك التشابه فنسبوا أنفسهم إلى البحر الإريتري … حتى يكتسبوا حقوقًا في استغلال تجارته الرائجة إزاء الشعوب الأخرى التي كانت تنافسهم» (صفحة ٣١ و٣٢).
فهل بعد هذا التفسير تلفيق منهجي؟
من العراق إلى مصر عبر الصومال
قلنا في كتابنا إن المؤثرات العراقية القديمة في بعض العبادات المصرية وفي بعض الأشكال الفنية المبكرة مثل صلاية نعرمر، لا تفسرها إلا نظريتنا في أن ضمن أحلاف المملكة التجارية شرقي سيناء كان العنصر العراقي القديم، ولما كانت هذه الآلهة ترتبط تحديدًا في المدونات المصرية ببلاد بونت، فقد كان ذلك دليلًا على مذهبنا في موقعة بنت عند العقبة شرقًا وليس الصومال جنوبًا، خاصة مع تقرير المصري المتواتر: «عندما أولِّي وجهي نحو مشرق الشمس فإني أوليه إلى أرض الإله بونت.» وقد قلنا إن هؤلاء التجار هم من نقلوا تلك المؤثرات العراقية المبكرة إلى مصر.
ولكن لأن عزائم الزميل كانت على قدر عزمه، فقد قام يثابر على منهجه ويقول بكل اجتراء إن تلك المؤثرات قد وصلت بالفعل مع التجار البونتيين من العراق شمالًا إلى مصر لكن عبر الصومال جنوبًا؟! يقول سيادته: «يبدو أن عملية نقل المؤثرات الميزوبوتامية من العراق إلى مصر كانت ذات صلة بمركز الآلهة المصرية التي ارتبطت ببونت، وأن انتقال هذه المؤثرات إلى مصر تم بواسطة شعب أو جماعات كانت تسكن مناطق متوسطة بين مصر والعراق، وتقوم بدور الوسيط في الاتصالات بين الطرفين، وربما كان هذا الشعب أو الجماعات نوعًا من الوسطاء التجاريين … وربما كان الوسطاء من سكان الساحل الأفريقي بونت (يقصد الصومال) هم من نقلوها مباشرة إلى مصر» (صفحة ٢٥). ولا تعليق؛ فالوسطاء التجاريون في الموقع المتوسط بين العراق ومصرهم الصوماليون!
سادة بلاد بونت
أبدًا لم نعتبر العنصر الزنجي في لوحات حتشبسوت دالًّا على أفريقية بلاد بونت، فما أكثر الزنوج في لوحات مصر التي لا تتحدث عن بلاد بونت! ثم إن السادة في تلك اللوحات قد رسمتهم ريشة الفنان المصري في هيئة المصريين تمامًا، سواء في اللحية التقليدية أو في السحنة التي لا تمت للزنوج بصلة، أو في اللون الذي صُبغت به بشرتهم، وهو الأحمر الفاتح المفضل في رسوم المصريين لأنفسهم، إضافة إلى عنصر آخر غير زنجي بدوره وصف بأنه أرمي أو آرامي، أما العنصر الزنجي في اللوحات فكان في رأينا فريقًا تابعًا ضمن عناصر الحلف التجاري القادم ببضائعه من جنوبي البحر الأحمر.
- (أ)
السلالة التي تنتمي إلى الطبقة الحاكمة؛ أي البونتيون أنفسهم ويشبهون المصريين.
- (ب)
السلالة الزنجية.
- (جـ)
سلالة ثالثة لعلها المسماة أرم، وهي قريبة الشبه بالبونتيين.» ثم يقول في صفحة ٣٩: «كان رجال بونت يرسمون على الآثار المصرية على هيئة المصريين وبلِحًى تقليدية كالتي يلبسها آلهة المصريين.»
وفي بحثنا قلنا إن اسم العاصمة البونتية، كما ورد في الوثائق المصرية، «أوسالعت»؛ يؤكد مذهبنا حيث كانت البتراء عاصمة وادي عربة تسمى في الزمن القديم «سالع»، وجاء اسمها هكذا في التوراة، لكن السيد الدكتور فضَّل لها «زيلع» على ساحل الصومال، ولا نعلم كيف أمكن وجود أسماء مصرية على الساحل الصومالي، بينما تختفي تلك الأسماء تمامًا على الساحل اليمني المقابل الذي يفصله عن الصومال خانق باب المندب الضيق، وهو الأمر الذي اعترف به هو نفسه في صفحة ٣٧.
ثم يضع الدكتور عبد الحليم الميناء الذي وصلت إليه سفن حتشبسوت عند مصب نهر النيل بالساحل الصومالي، ويعتبره اكتشافه المذهل؛ حيث وقف يهلل ويكبر ويدق طبوله الصومالية، بينما كان ذلك الميناء لدينا أحد القرائن البسيطة والهيِّنة؛ حيث يتطابق اسمه «حرجسوي واج ور» مع الميناء القديم المشهور على خليج العقبة المذكور في التوراة باسم «عصيون جابر»، ولك أن تدرك مدى التطابق الفونيطيقي المدهش كدلالة واضحة.
وفي لوحات حتشبسوت دلالة هامة تساعد الباحث على تحديد موقع بلاد بونت، وهي قيام البيوت التي تشبه أعشاش النحل على أعمدة، وهو ما وجدناه إبان زيارتنا للبتراء قائمًا حتى اليوم على ذات الفكرة المعمارية القديمة، ومنه البالغ القدم كما في أم البيارة ومنطقة الدير، ومنه الإحداث الذي احتفظ بفكرته القديمة حتى زمن الرومان كما في خزنة فرعون، والقصر الذي لم يزل يحمل حتى اليوم اسم «بنت»، ولم يزل هذا الأسلوب متبعًا حتى الآن على السواحل الغربية لخليج العقبة بسيناء في محيط نويبع والترابين، ويمكن للزميل زيارتها ومعاينتها بنفسه بأسلوبها البدائي القديم. لكن لأن زميلنا الفاضل لم يجد ذلك على ساحل الصومال، فقد عقب قائلًا في صفحة ٦١: «والحقيقة أن الأكواخ ذات الأعمدة لا توجد اليوم فعلًا في الصومال … ومسألة وجود الأعمدة لا تصلح أساسًا يُعتمد عليه؛ لأنها ليست من المعالم الدائمة أو الثابتة.» أليس ذلك لونًا من التخلص الواضح والعجز الفاضح؟! هذه نماذج قليلة من كثير يمكن قوله، لكننا اختصرنا حتى لا نجور على المساحة المتاحة لنا بالصحيفة، وكنا نتمنى ألا نقول، لكن الزميل هو من دفعنا إلى التصريح بما كنا نصمت عنه، أقول ذلك وأنا شديد الأسف؛ لأنه وضعني في هذا الموضع الصعب واضطررنا لهذا اللون من الخطاب الذي كنا نعلو عنه دومًا بقامة العلم لا بالغوغائية، وليسامحنا الله جميعًا، ولا بأس على الزميل إن اعترف بالخطأ وأعاد النظر، وفي ساحة العلم متسع لكل من يملك أدواته؛ شريطة أن يملك أدواته حقًّا.