الفصل السادس عشر

أزمة الأقباط١

هذا الكتاب جرس إنذار عالي الصوت يردد صدًى ودويًّا، هو صوت مصري مسيحي واضح صريح، متحرر من كل المخاوف والمحاذير، بل وحتى الكياسة والحصافة؛ لأنه كان بالأصل رسالة دكتوراه قُدمت بفرنسا ببلاد غير البلاد، وفي ظل قوانين ونُظم غير نظمنا وقوانيننا ومناهجنا في التفكير، ناهيك عن كون صاحبه يعيش الآن في مهجره بكندا، فكتب بصراحة وبوضوح لا يخشى معهما الملامة؛ لذلك يعد هذا الكتاب إفصاحًا عن مكنون، ورؤية مصري مسيحي لوضع طائفته الدينية في المجتمع المصري، عبر فيها عن أحزانه ومأساته وآماله وأحلامه الوطنية بشكل شديد الوضوح إلى حد الصدمة.

ولسنا بحاجة إلى التذكير أن هناك الآن حوالي ٢ مليون مصري مسيحي يعيشون في المهجر بأنحاء متعددة من العالم، وشكَّلوا تجمعات قوية ومؤثرة وذات صوت عالٍ، ومن مهجرهم أخذوا يخاطبون ضمير العالم، بل ويؤثرون في اتخاذ القرارات العليا في مواطنهم الجديدة، لكنا في مصر لم نزل نعيش الأوضاع كما هي، ندفن رءوسنا داخل شرانقنا، نحب الثبات والسكون ولا نحب الرؤية الواضحة لأنها تبهتنا، نُصر على ذات المنهج ونستريح لذات الأوضاع؛ فالحركة ترعبنا والتغيير يرهبنا. وإذا كان قد تم اغتيال أحد الأصوات المسيحية المعارضة في الخارج، فهل يمكن التخلص من ٢ مليون مصري مسيحي يعيشون في بلاد حرة ليبرالية تحمي صاحب كل رأي أو عقيدة؟

إن هذا الكتاب يعرض كيف يفكر المسيحي المصري، ويضع الحقائق ناصعة، لنسمي الأشياء بأسمائها، إن كنا نريد لوطننا تماسكًا ووحدة تكفل استمرار تناميه وحراكه نحو المدنية، التي هي الدرع الحقيقية لوحدته واستمراره في الوجود.

ولا أستبعد عند صدور هذا الكتاب أن نسمع صيحات التكفير والتفنيد والاتهامات الرخيصة المبتذلة، وربما المطالبة بمصادرة الكتاب كالعادة في بلادنا في مثل تلك الأحوال، رغم أن أرصفة بلادنا تغص بالكتب التي تبخس العقيدة المسيحية وتسفِّه أصحابها. ولم يصادَر كتاب واحد منها.

نحن لا نحب المخالف لأننا لا نملك حجة المناقشة والرد الموضوعي الهادي، ولأننا أيضًا نخاف الحقائق بعد أن اعتدنا أوضاعًا مختلة أصبحنا نظنها الصح الأبدي، ولأننا اعتدنا تمرير الكذب إلى تاريخنا وصدقناه، ولأننا تحدثنا عن الهزيمة النكراء باعتبارها نكسة، وعن الغزو العربي بحسبانه فتحًا، ولأننا نتأذى من وجود إسرائيل على تراب فلسطين، ونتباكى في الوقت نفسه على الأندلس دون الشعور بأي خلل، ولأننا أسقطنا أبسط مبادئ العقل، قانون الهوية وعدم التناقض، فأصبحنا نرى الحصان اليوناني المجنح «بيجاسوس» أسطورة، ونرى البراق حقيقة لا ريب فيها، ولأننا نقطع ذاكرتنا التاريخية وندافع عن الثقافة العربية الغازية، متصورين أننا بذلك ندافع عن الوطن، وأبدًا لا نضع تلك الثقافة في مكانها الطبيعي بحسبانها قد أصبحت جزءًا من ثقافتنا، وليست هي كل ثقافتنا، فنلقي بكل تاريخنا مع أجدادنا الذين وُصفوا بالمجرمين وغرقوا مع الفرعون في البحر المفلوق بالعصا السحرية، ولأننا نقف مع إسرائيلية موسى ضد مصرية الفرعون، بل نحذف عن عمد وقصد كل تاريخ الحقبة القبطية من تاريخ مصر كما لو لم تكن جزءًا من تاريخها، فحذفناها بكل ثرائها الثوري والفني والأدبي، فأسقطنا بذلك من تاريخنا ما لا يقل عن نصف ألفية من الزمان. بينما نجد شعوبًا تبحث عن تاريخ كامل لها يعادل ذلك الذي نحذفه، فلا تجد. لقد أسقطنا هذا التاريخ لأنه كان تاريخ المقاومة المصرية للاحتلال الروماني، ولأن المصريين في هذه المقاومة ضد الرومان كانوا مسيحيين! ولأن النصف الثاني من هذه الفترة كان فترة ثورة لمسيحيين مصريين ضد الاحتلال العربي. وهكذا لا تجد شعبًا في العالم قرر تكفير ثقافته وتدميرها ونسيان تاريخه عن سبق إصرار لصالح الثقافة الغازية سوى الشعب المصري! ولكِ يا مصر العزاء!

والأكثر إدهاشًا ألا تعرف تلك السنوات العبقرية الفذة في تاريخ مصر طريقها الواضح والكامل إلى كتب وزارة التعليم المصرية حتى اليوم، وهو منطق يعني أننا مع العروبة أكثر مما نحن مع مصر، ومع الإسلام أكثر مما نحن مع مصر، حتى أسقطنا حقبة النضال الثوري القبطي ضد الروم والعرب؛ لأنها كانت مصرية مسيحية ولم تكن لا عربية ولا إسلامية! ولذلك ضحينا بمصر إبان هذه الحقبة كما لو كانت غير موجودة في التاريخ، فقط لأنها كانت مسيحية! لذلك أهدرنا هذا التاريخ وألغينا مصر من الوجود. ألا يعني ذلك أيضًا أننا نقصر تاريخ الوطن أو نتعامل مع مصر كما لو كانت قد بدأت وجودها منذ الفتح العربي أو الغزو إن شئنا الدقة، ومن ثم قمنا نكفِّر تاريخها الأقدم أيضًا لاستبعاده بدوره نهائيًّا؟ أفلا يفصح هذا اللون من الفكر المتواري المضمر، عن عقلية الغاصب المحتل المستوطن الذي يريد استبعاد كل ما يجعل للمواطنين جذورًا قديمة في تاريخ وطنهم، ومحو تاريخهم محوًا؟ ثم ألا يعني ذلك اعترافًا من المسلم بالفكرة القائلة إن المصريين الأقباط هم ورثة الفراعنة الشرعيون، وإن المسلمين احتلال عربي استيطاني طال أمده عما ينبغي؟

وبالمناسبة هذه هي الفكرة التي ستعبر عنها صفحات هذا الكتاب الذي بين أيدينا الآن.

إن منهج التفكير والسلوك عند المسيحيين والمسلمين المصريين، يترك مساحة هائلة للجانب الديني عند الحديث عن الوطن؛ مما يؤدي إلى خلل دائم في الرؤية، وهو ما يشكل خطرًا جاثمًا طوال الوقت، نحمد الله أنه لم يفجر مصر إلى مقاطعات إقليمية كما هو حادث في بلدان أخرى من العالم. وإذا كان هناك صاحب فضل في ذلك، فإنهم أقباط مصر الذين يعتقدون أنهم أصحاب البلاد التاريخيون، وأنهم الامتداد الطبيعي لسلسال الفراعين، وأنهم يملكون مقومات ذلك، سواء من حيث التاريخ أو العنصر أو المواطنة بالجنسية أو اللغة القبطية المتطورة عن الديموطيقية المتطورة بدورها عن الهيروغليفية. لذلك تحمَّل المسيحيون المصريون كثيرًا من المعاناة لزمن طويل، قبلوا أثناءه أوضاعًا شديدة الظلم في وطنهم حتى لا ينقسم وطنهم ويتشظى.

لكن المصيبة الأعظم أن مسيحيي مصر يفكرون بمنطق أشد تعصبًا من المسلمين السلفيين، فكلاهما يعتبر الدِّين هو الهوية وهو الوطن، وهنا الفجيعة المروعة، فالقبطي لا يطلب مجتمعًا علمانيًّا مدنيًّا، يحفظ ويصون ويضمن جميع الحقوق لجميع الأفراد على التساوي، بغض النظر عن كون المواطن مسلمًا أم مسيحيًّا أم ملحدًا. لكنه يطلب مجتمعًا مصريًّا مسيحيًّا كما لو كانت المسيحية قد أصبحت شرط المصرية، وعند الإسلام السياسي نجد ذات المنهج؛ حيث الإيمان بالإسلام ومبادئه شرط صدق المواطنة!

انظر قارئي معي إلى الغاية النهائية التي كانت تريدها جماعة الأمة القبطية، التي أسَّسها إبراهيم حلمي هلال سنة ١٩٥٢م وتم حلها بقرار أمني عام ١٩٥٤م، ويلخصها لنا صاحب هذا الكتاب فيقول ص٢١١-٢١٢:٢

«استرداد مصر كلها، أرضنا التي سلبت منا بواسطة العرب المسلمين منذ أربعة عشر قرنًا، إن أرضنا هي مصر، وديانتنا هي المسيحية، وسيكون دستورنا هو الإنجيل، وتكون لغتنا الرسمية هي اللغة القبطية».

أورد المؤلف تلك الفقرة دون أن يعقب عليها وتركها تنطق بدلالاتها ضمن السياق، وهو ما يعني الموافقة الضمنية على ما ورد فيها، ومعنى ذلك أننا سنخرج من حكم ربما يستعين بالدين أحيانًا، إلى حكم ثيوقراطي شمولي ديني من رأسه إلى أخمص قدميه. وناهيك عن استحالة المطلب، فطرد أو إفناء خمسين مليون مصري، أو تنصيرهم، فكرة لا تضع صاحبها في خانة العقلاء على الإطلاق، والمفارقة أن أصحاب مثل تلك الفكرة الجامحة يرون لإسرائيل حق الحياة في المنطقة؛ لأنهم استعمار استيطاني، فما ذنب الأحفاد الذين وُلدوا هناك وأصبحوا مواطنين حقيقيين؟! لكنهم لا يرون ذات الحق للمصري المسلم في المواطنة بعد أربعة عشر قرنًا. وهذا يطلب دستورًا قرآنيًّا، وذلك يطلب دستورًا إنجيليًّا، وتضيع مصر!

ومن هنا، فإن أهمية هذا الكتاب تكمن في كونه يضع صورة غاية في الوضوح لكيف يفكر أقباط مصر اليوم، في عالم أصبحت فيه الليبرالية سيدة الأنظمة، وأصبحت فيه قوانين الحريات والكرامة الإنسانية فوق كل القوانين، وظهرت قوًى تنتهز مثل تلك الفرص للتدخل في الشئون الداخلية، وفرض شروط السياسة والقرارات السيادية، بضغط يستثمر لاءات الحريات والكرامة الإنسانية، ومن ثم أصبح واجبًا علينا إصلاح البيت من الداخل؛ دفعًا لأي ضغط أو تأثير خارجي على كرامة بلادنا. وهو إصلاح ممكن وسهل لو خلصت الضمائر لمعاني الدولة المدنية الديمقراطية الليبرالية المُعَلْمنة. بل إن صاحب كتابنا هذا لم يجد أي حرج في القول ص٢٥٤: «إن العقوبات الاقتصادية هي الوسيلة الطبيعية لتنفيذ تلك السياسة، وعلى الدول الديمقراطية اللجوء إلى تلك العقوبات ضد الدول التي يثبت ارتكابها جرائم انتهاك فاضحة ومستمرة لحقوق الإنسان.» والتلميح واضح، وهنا يُنتظر منا، حسب المنهج السائد، أن نهدد الكاتب بالويل والثبور وعظائم الأمور، مع نعوت يُحبَّذ أن تبدأ بالعمالة وتنتهي بالخيانة.

لكني أقول بصوت عالٍ نرجو أن يرجع لنا صداه وأثره، إن هذا المصري ما وصل به الحال إلى ذلك إلا إذا كان قد طفح به الكيل، وإن متغيرات العالم السريعة منحته الفرصة لأول مرة لشرح قضيته أمام العالم، بل إن بعض هذا العالم وأنا أكتب هذه الصفحات يفكر الآن في قطع المعونة عن مصر لهذا السبب تحديدًا.

بالطبع لا شك إطلاقًا أن مثل تلك الدعوة رغم كل مساوئها ومخاطرها على مصر، التي يعيش فيها مسيحيون ومسلمون، تعبر بوضوح عن فشل كامل لكل المساعي التي تقدم بها الأقباط في مطالب واضحة وتم إهمالها تمامًا، كما توضح صفحات هذا الكتاب، ودون حتى مناقشة تلك المطالب علنًا.

لكن، ونحن نتعاطف مع مطالب المسيحيين المصريين، بل نتوحد بهم ونتباهى معهم بأننا أعرق حضارات الأرض، لا يسعنا إلا أن نفكر بعد ممارستهم الضغوط في الخارج من أجل قضيتهم: ماذا يطلبون؟ وماذا يعرضون؟

أولى المصائب مطالب من النموذج الذي سقناه منذ قليل (دولة مسيحية دستورها الإنجيل ولغتها القبطية)، فإذا كنت — ومثلي كثيرون — نرفض بل ونقاوم قيام دولة إسلامية، فالنتيجة البسيطة لمثل هذا التفكير أننا سنقاوم وبشكل أشد مثل ذلك الخيال المستحيل، بفرض إمكان حدوثه. وهكذا تخسر القضية القبطية أهم القوى التي تساند مطالبهم، وهي قوى المستنيرين من مفكرين علمانيين ذوي شأن وقَدر وقدرة أيضًا على التأثير الجماهيري الواسع، بل وربما يكون رأيهم في حالات كثيرة له تأثير على اتخاذ القرار السيادي. ومثل تلك الخسارة ستكون هي الخسارة الحقيقية ليس للأقباط فقط لكن لمصر جميعًا؛ لأن معنى ذلك أننا سنُقدم على هاوية مظلمة لا يعلم أحد منتهاها. إن الطرح السالف يشير بوضوح إلى أن العقلية القبطية في التفكير قد أصبحت مسيحية غير مصرية، طائفية دينية غير وطنية؛ لأن الدين المسيحي ليس مصريًّا، ورغم أن المسلمين أقباط أيضًا، وأكثريتهم يعودون بالجنس — وليس بالدين — إلى أصول مصرية عريقة. ونحن تعنينا مصر كما يشغلنا أن يعيش المواطن في مصر عزيزًا يتمتع بكل الحريات، حتى يمكنه أن ينتج ويبدع؛ لأن العلم لا ينمو إلا في مناخ حر تمامًا، وهو سبيل تقدم الأمم.

لكن ما هو موقف صاحب الكتاب وكيف يفكر؟ نحمد الله أنه يفكر بذات المنطق وذات التفكير السائد بين الأقباط، حتى إنه قدم لنا نموذجًا للمسألة القبطية في أذهان الأقباط وضميرهم بكل حماس؛ ولذلك لم يشغله التدقيق العلمي في أكثر من موضع. وخاض في مناطق شديدة الحساسية والوعورة دون أن يكون مسلحًا بالأدوات العلمية اللازمة، كما في حديثه مثلًا (ص٢٥٢) عن زواج القبطي من المسلمة، وهو الممكن في دولة مُعَلْمنة، ويحبذ العلمنة لهذا السبب، ويدلي برأيه التحبيذي في أمر يحتاج اطلاعًا واسعًا على الشريعة الإسلامية وعلومها. أو مثل ذلك الكلام الصحفي من قبيل: إن المسيحي عندما يطلب عملًا في مصر، «فإنهم يخاطبونه بهذه اللهجة: اذهب فليست هناك وظيفة لك» (ص٢٠٤). وهذا كلام إن جاز في الأحاديث الصحفية المثيرة، لا يجوز في رسالة علمية؛ لأن العلم تدقيق؛ فحدثٌ كهذا؛ متى حدث؟ ومن السائل؟ ومن المجيب؟ وفي أية مناسبة؟ وتاريخ المناسبة؟ ومدى صدق هذا التوثيق؟ ثم ما قيمة هذه الحادثة كلها؟ … إلخ. ثم هناك مستوًى آخر أكثر علمية هو إجراء البحوث المدعمة بالبيانات والإحصاءات المقارنة للنِّسب العددية بالوظائف في مصر، هكذا العلم، أما غير ذلك فصحافة. أو كما يُلقى القول إلقاءً في عبارات؛ منها «إن الإسلام يُظهر عداء لحرية الدين وبصفة خاصة عندما يتعلق الأمر بترك الإسلام.» هكذا دون أن يقدم تعريفًا بأن هذا الأمر مختلَف عليه بين الفرق الإسلامية، وفي هذه الحال كان لا بد من توضيح واضح كافٍ لتأييد وجهة نظره واختيارها دون وجهات النظر الأخرى، وهذه المؤيدات لا بد أن تكون من أمهات كتب المكتبة العربية … إلخ. فهذه هي شروط العمل العلمي كي يكون علمًا بالمعنى الدقيق للكلمة. لكن لو قال «المسلمين» في مصر بدلًا من «الإسلام»، إذن لجاز قبول القول ومناقشته. إذن، صاحب الكتاب ينعى على المسلمين المصريين والدولة المصرية لأنها لا تأخذ بالعلمنة، لكن هل يوحي لنا هذا الكتاب بأن صاحبه يؤمن بالعلمنة حقًّا؟ لقد ضربنا أمثلة لعدم الحرص على الدقة والصرامة العلمية، لنقول إن صاحب الكتاب كان مشغولًا معنيًّا بأمر آخر غير العلم، سنرى الآن أنه لا يختلف إطلاقًا عن مطالب الإسلام السياسي، ويا لضيعتك يا مصر بين أبنائك!

كنت مستعدًّا أن أفهم إذا لم يحدثنا الصوت القبطي عن دولة دستورها الإنجيل وأنا أرفض دولة دستورها القرآن! وكنت بالتأكيد سأقف معه قلبًا بقلب ويدًا بيد وهو يرفض تطبيق الشريعة الإسلامية في مصر؛ لما لذلك من مخاطر مؤكدة على وحدة الوطن وسلامته، لكني أبدًا لا أفهم ماذا ستفعل بما يزيد على خمسين مليون مسلم مصري؟ نعم أقف معك ضد تطبيق الشريعة الإسلامية؛ لأننا كيف سنحاكم المسيحي؟ هل نحاكمه بالقانون المدني؛ فنقطع يد حسن عندما يسرق، ونحبس جرجس ثلاثة شهور عندما يفعل ذات الفعل، فيخرج من سجنه إلى الكنيسة ليقدم للعذراء شموع العرفان والشكر، لأن يده لم تُقطع مثل حسن؟! كنت أفهم أن يقف المسيحي ضد العقوبات حسب الشريعة الإسلامية؛ لأنها ستؤذي مجتمع إخوانهم المسلمين، وربما تساءل المجتمع جميعه عندما يكتشف براءة حسن، عن كيفية إرجاع يده المقطوعة إليه. وربما كنت أتصور أن أخي القبطي وأنا سنقف معًا ضد تطبيقها؛ لأن الإنسانية قد تجاوزت مرحلة العقوبات البدنية إلى غير رجعة، وأن هذا هو سبيل الرقي البشري، وأن أحكام تلك الشريعة إن لم تتكيف مع المتغيرات باجتهاد واضح، فإنها ستئول وحدها إلى الظل ثم إلى التعطل، كما تعطلت أحكام آيات قرآنية أخرى تصل إلى حوالي ثلاث وعشرين آية، تتعلق بالرق والسبايا وملك اليمين، بعد أن ارتقى البشر عن تلك الوصمة التي لطخت جبين البشرية طويلًا. لكن أن نستبدل الإنجيل بالقرآن، فتلك والله قاصمة للظهر، ومنطق لا علاقة له بالإخلاص للوطن.

والكتاب الذي بين يديك بطول صفحاته جميعًا يكرس لاتخاذ المسيحية وطنًا وهوية، ويضع ذلك في إطار التمسك بمصر الوطن، غير مدرك أي تناقض فصيح يكمن في منهج تفكيره الذي يعبر عن منهج جميع مسيحيي مصر تقريبًا؛ لأن الحالات التي أقابلها وتؤمن حقًّا بمجتمع مصري مُعَلْمن من بين المسيحيين، تُعَد على أصابع اليد الواحدة، وأنا من الشخصيات العامة في مصر ذات العلاقات الواسعة، وشهادتي تقوم على قياس دقيق للعينات. إن المسيحيين يملئون بقاع الأرض، فهل من حق كل واحد منهم قطعة في مصر ما دامت مصر تعادل المسيحية؟!

إن الحل الذي لم يره هذا الكتاب ليس في تمصير المسألة بالمسيحية أو بالمرحلة القبطية وحدها، لكن بالمصرية. والمصرية تجمع ثقافة مصر القديمة وثقافة الحقبة القبطية وثقافة الحقبة العربية جميعًا، في تضافر ينطق به السلوك والعادات والتقاليد والكرنفالات الاحتفالية المشتركة، وهو موروث قديم من الثقافات الثلاث، متغشيات في بعضها البعض. والمصرية تعني عدم تغليب ثقافة من تلك الثقافات على الأخرى؛ لأننا لو أردنا مصر مسيحية لأنها كانت كذلك قبل الفتح العربي، وأن المسألة مسألة عراقة وتواجد أسبق، فالأَولى أن نعود إلى الإله آمون؛ لأنه بهذا القياس الأعرج سيكون أعرق من إله المسيحية وأعرق من إله الإسلام، ولأنه عاش مقدسًا بين الناس عمرًا يعادل عمر الإلهَين مجتمعَين، وظل يُعبد طوال تلك الحقبة الطويلة كرب رسمي لإمبراطورية عظمى عزيزة مقتدرة، بل كانت في أحيان كثيرة الدولة العظمى الوحيدة في العالم دون منازع، وإذا كان المقياس بمدى بركات الرب على شعبه، فكرامات آمون واضحة، فقط هو ينوء بفضيحة آل إليها أولاده من بعده بين الأمم. وإذا كان لا بد من صبغ المواطنة بالدين، فلدينا أديان مصرية قديمة من فرز واقعنا الوطني الجغرافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، فرز يتفق وأذواقنا ومنطق فهمنا الزراعي للحياة، أديان للنيل وللوادي وللمواسم وللزرع وللزهر وللحب وللعدالة والوداعة، ولننفِ الأديان البدوية الواردة. إن خطابًا كهذا يستدعي خطابًا كذاك، وكلٌّ منهما لا يمكن تصنيفه ضمن الخطاب العلمي إطلاقًا، بل ولا هو خطاب وطني بالمرة.

وسيلاحظ القارئ أن صاحب كتابنا يبدأ تاريخ مصر من الحقبة القبطية، وهو في ذلك مثل المسلم المتطرف الذي يبدأ تاريخ مصر من لحظة دخول عمرو بن العاص إليها.

انظر معي الكاتب ص١٠ وما بعدها، كيف يبخس وينفي الآخر من مذاهب مسيحية مخالفة لاعتقاد المؤلف ومذهبه، مستخدمًا للنفي مفردات لاهوتية كنسية، ولا يسوق مناقشة علمية. فقط مبرِّر نفيها أنها كانت آراء وثنية أو مذاهب هرطقية! أي إن الصحيح هو الإيمان المسيحي الذي استقر فقط! أليس ذلك إفصاحًا عن عدم احترام داخلي للمبادئ التي ينادي بها صاحب الكتاب؟ إنه يتخذ موقفه من تقييم المواقف المخالفة من أرضية اعتقادية بحتة، وأن الأنا هو الصح والآخر هو المخالف المارق الزنديق المهرطق الوثني! وكان النفي كما سنقرأ لأسباب دينية وليست وطنية، سالت فيها الدماء الزكية أنهارًا حتى استقرت المذاهب المنتصرة القائمة للآن. وهي قائمة ليس لأنها الأصوب إيمانًا بالضرورة، لكن لأنها التي انتصرت. ومن على مقعد المنتصر يحدثنا مؤلف الكتاب.

انظر مثلًا موقفه مع حرمان الأريوسيين مع عدم تطرقه ولو بالإشارة إلى الاضطهاد المخيف الذي وقع عليهم ومدى عنفه، أو وقوفه مع مذهب المنتصر بالعنف ضد ما أسماه «هرطقة نسطور»، التي تم اضطهاد أصحابها بدورهم والتنكيل بهم، دون مبرر علمي واحد يبرر له اتخاذ هذا الموقف المنحاز سلفًا، اللهم إلا اعتقاده أنه هو وطائفته على العقيدة الصحيحة وحدهم، وهذا في حد ذاته ذاتُ التفكير الإسلامي المتعصب الذي لا يرى أحدًا يملك الحقيقة النهائية والمطلقة سواه.

صاحِب هذه الحقيقة المطلقة يتبع كنيسة ذات تراتب وظائفي وكهنوتي شديد التعقيد، ويهتم بدوره بهذا الأمر الذي لا يشغل أحدًا صفحات طويلة، لكن الدرس الذي تخرج به بعد هذا الملل شديدُ الأهمية؛ لأنه يوضح أي منهج عتيق وبالٍ ومعقَّد وبلا معنًى يُصر عليه القبطي المصري. فالمؤلف حسب عنوان كتابه عن حقوق الإنسان، وحول ص٦٦ يحدثنا عن حقوق النساء ودورهن فيها، مثلًا: «الشماسات والمكرسات يقمن بحفظ النظام بين النساء أثناء أداء الطقوس ولا سيما في القرى. أما دور الشماسات خلال تنصير (تعميد) النساء، فيقتصر على قيامهن بالشرح للنساء عما ينبغي عليهن عمله، ولكنهن لا يساعدن الكاهن في التنصير أو عمله في سر الميرون؛ حيث إن ذلك يقتصر أداؤه على الكاهن.» انظر معي الكارثة العالمية التي ستترتب على ذلك:

«وهذا يعني أن الشماسات لا يستطعن حمل القربان المقدس الذي يُتناول في الكنيسة إلى منازل النساء المريضات؛ لأن ذلك من وظيفة الكهنة دون غيرهم.»

ما علينا من هذه الهموم الغريبة التي تشغل بال إخواننا الأقباط، لكنا فقط نرتعب لو تصورنا أنفسنا محكومين بالإنجيل بطقوس ورتب كهنوتية كتلك المعروضة أمامنا، وتمر آلاف السنين حتى يُسمح للمرأة بدور غير كامل، فما بالنا لو كان ذلك في مجتمع يحكمه كهنة الكنيسة؟

وهكذا بطول كتابه يسلِّم الكاتب بالمقولات الكنسية، ويقف مع مفردات غاية في الصغر بجوار القضية الكبرى التي يتناولها، ويدعم وجهة نظره بتبريرات لاهوتية لا علاقة لها بحقوق الإنسان. انظره يقول ص٦٨: «إن مسألة الطابع المذكر للكاهن الذي يقوم بأسرار الكنيسة تدخل في البحث بصورة بارزة في التوازن القائم في الكنيسة بين دراسة المسيح (الكيروستلوجيا) ودراسة الظواهر الروحية (النيوماتولوجيا)، وهناك من الأمثلة ما يدعم هذا النظر، في أن المسيح لم يختر أبدًا بين حوارييه امرأة، كما أن العذراء مريم أم الكلمة المتجسدة لم تقم أبدًا بأية وظيفة كهنوتية في الكنيسة، ولو كان مسموحًا للمرأة بأن تمارس أية خدمة كهنوتية لكان واجبًا أن تشغل وظيفة الكهنوت أولًا، ولكن التقليد الرسولي لم يتضمن مطلقًا سيامة المرأة كاهنة.»

وهنا يتقدم كاتبنا يطلب حق المرأة في الكنيسة، لكنه يتواضع في طلبه فيقول ص٦٩: «إن إتاحة وصول النساء إلى مراتب السيامة الأدنى، مثل مساعدة الشماس والقارئة والمرتلة والمعلمة وغيرها من مراتب السيامة، هي مسألة تستحق الدراسة لإبراز كرامة المرأة ومكانتها على نحو محدد، وللاعتراف الصريح بمشاركتها في العمل الكنسي.»

فإذا كان هذا نموذج القضايا الخاصة بالحقوق الإنسانية، وكانت تلك طرق علاجها عبر مؤسسة عجوز قديمة معقدة، فكيف يمكن الحديث عن حقوق أقباط أمام أغلبية مسلمة؟! إن كارثة مصر أن كل من فيها، مسلم أم مسيحي، لا يرى أخاه المخالف في الملة إطلاقًا، وكلٌّ منهم يعتقد أنه يملك الحقيقة المطلقة، والكارثة العظمى أن كلًّا منهما يمزج مصر الوطن بعقيدته.

انظر كيف يتعامل صاحب هذه الرسالة العلمية مع التاريخ وبأي منطق، عندما كان يحكي عن حسم الصراع المذهبي في إثيوبيا لصالح المذهب الأرثوذكسي المصري. وبدلًا من أن يحدثنا الكاتب عن هذا النصر المصري في بلاد الأحباش بحسبانه نصرًا وطنيًّا، يضع دولة أخرى في تبعية ثقافية لواحدة من الثقافات المصرية، هي الثقافة القبطية، فإنه يفجعنا بالقول: «ويعتبر انتصار الإنجيل في إثيوبيا واحدًا من أهم الأحداث العظيمة.» وهكذا يند عن الرجل مجموعة من الاعترافات الضمنية المذهلة، لعل أوضحها أنه مشغول بانتصار الكنيسة أكثر مما هو مشغول بمصر، وأن انتصار الكنيسة المصرية يعني انتصار الإنجيل، ولم يقل انتصار مصر، رغم أن الذين هُزموا وتراجعوا بالحبشة كانوا أتباع الإنجيل أيضًا، كل ما في الأمر أنهم كانوا يخالفون المذهب المصري الأرثوذكسي. لكن الرجل لا يرى الآخرين مذهبيًّا أتباعًا للإنجيل؛ لأنه هو الذي يعرف الإنجيل الصحيح، وهو الإنجيل الذي انتصر في إثيوبيا.

بأي حق نلوم المتطرفين المسلمين إذن؟

وينشغل كاتبنا أيما انشغال بكل شيء عدا مصر التي قبعت في سطور منزوية برسالته، فهو مثلًا مشغول بالدفاع عن أمر عجب في ص٧٨؛ إذ قام يشرح ويبرر أن انفصال كنيسة الإسكندرية عن روما ليس قطيعة تامة، بل يوجد تقارب بين الكنيستين يمكن أن يؤدي في النهاية إلى الوحدة المسيحية!

وبالطبع ستكون كنيسة روما هي ذات اليد العليا في تلك الوحدة المسيحية المنتظرة. لكن كاتبنا لا يتكلم بنفس الحماس عن وحدة وطنية في مصر بين عنصرَيها، تشغله الوحدة المسيحية أكثر. فلماذا إذن ينزعج أقباط مصر، وهذا منهجهم، من الوحدة الإسلامية؟! وهل في سبيل الوحدة المسيحية المنتظرة يمكن التضحية باستقلال الكنيسة المصرية الذي نعده جميعًا مصدر فخر للمسلم والمسيحي؛ لأنها مصدر فخر مصري وطني؟ هل يمكن أن نضحي بالاستقلال من أجل وحدة طائفية عالمية؟ لماذا إذن ننزعج من مطالب دعاة الوحدة العربية التي هي أقرب إلى المقبول على كل المستويات في حال المقارنة؟

والأنكى والأمرُّ أنه يطالب في ص٩٧ بحرية الوالدين في تنشئة أطفالهم دينيًّا؛ لأنها من أساس حقوق الإنسان، وهو «حق الوالدين في تنشئة أطفالهم على الديانة التي يختارونها.» وكنت أظنه سيقول بعدم التدخل إطلاقًا في فرض أية وصايا على عقل الطفل وروحه؛ حتى يختار بكل حرية أي دين أو لا يختار أي دين، إذن لكان الكلام موحيًا بمدى الاحترام والفهم لحقوق الإنسان.

وهكذا كنا في منتهى الصدق عندما قلنا إن هذا الكتاب يدق جرس إنذار لأمر عظيم، رغم أنه لم يخرج عن ذات المنهج الأصولي في رؤية الأمور، المنهج الذي يحكم الشارعَين المسيحي والإسلامي في مصر، ولا خلاص من هذا كله إلا بسعي حقيقي دائب لا يفتُر ولا يكلُّ من أجل إقامة دولة مدنية مؤسساتية حقًّا وصدقًا، وقبل ذلك مدْيَنة العقل المصري وعلمنته وتعليمه معاني الحريات وتدريبه عليها، في ممارسات ديمقراطية سليمة. أو لنا أن نختار غير ذلك؛ فهناك طريق آخر جاهز لدينا، وهو طريق امتلاك الأساطير وأوهام الحقيقة المطلقة، وهو الطريق المعلوم في التاريخ، وسبق أن سارت فيه عمورة وسدوم أو عاد وثمود والهنود الحمر.

فتلك سكة السلامة، وهذه سكة الندامة، فإن أصررنا على مناهجنا السلفية العتيقة الواحدية الدموية الأسطورية، فلن يخسر العالم شيئًا باختفائنا من على صفحة التاريخ، بل ربما خرج كاسبًا بعد انقراض أفواه تأكل ولا تنتج، بل تشيع في الأرض العدوانية والوحشية، وتعيش عالة على الدنيا، وترى أنها شعوب مختارة، وهي في أدنى درجات سلم التطور الإنساني. وساعتها لن يندم أحد، وربما كانت لنا فائدة واحدة في تلك الحالة، وهي أننا سنكون في مقتبل الأيام درسًا وعظة عند الذكرى، وما عدا ذلك فهو تاريخ نوع من القردة العليا توقف عن التطور والتكيف مع المتغيرات، فانقرض وآل أمره إلى المتاحف وعلماء الآثار.

الهرم، في ٣٠ أكتوبر ١٩٩٧م
١  تقديم قدمه المؤلف لكتاب الدكتور سليم نجيب رئيس محكمة مونتريال بكندا، وهو رسالة دكتوراه بعنوان «حقوق الإنسان في مصر، حالة الأقباط»، قُدمت إلى جامعة «بانتيون، أساس، باريس رقم ٢»، وذلك في ١١ يونيو ١٩٩٢م.
٢  هذا الترقيم كما في أصل رسالة الدكتوراه المطبوعة بالآلة الكاتبة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥