السؤال الآخر في قضية نصر أبو زيد
«يعتبر كافرًا … من عبد أحدًا غير الله، أو أشرك معه غيره، أو أنكر وجود الله أو أيٍّ من خلقه مما أخبر عنه الله في القرآن الكريم؛ بأن أنكر الجنة أو النار أو الجن والشياطين أو العرش أو الكرسي.»
القول المذكور عاليَه نص مقتبس من حيثيات حكم الاستئناف، والوارد في صحائف محكمة النقض في حكمها التاريخي بتفريق «نصر حامد أبو زيد» عن زوجته؛ لأنه كتب في أعماله المنشورة كلامًا اعتبرته المحكمة موجِبًا لإصدارها قرارًا بارتداد الرجل عن دين الإسلام.
وتعريف الكافر في حيثيات هيئة المحكمة الموقرة يشرح لنا كيف يُعَدُّ المسلم كافرًا، بتعديد لمجمل معلومات دينية أخبر بها القرآن الكريم، إن أنكر المسلم واحدة منها عُدَّ كافرًا؛ لأنه ينكر بذلك معلومًا من الدين بالضرورة.
ولم يفُت هيئةَ المحكمة الموقرة أن تضع ضمن ذلك المعلوم أبعده عن قناعات العقل ومنطق المحسوسات، وأقرَبَه إلى المسلَّمات الغيبية؛ وذلك مثل: الملائكة والجن والشياطين والعرش والكرسي، وهي أمور ليست ضمن ما يندرج تحت قناعات العقل، فكيف يُعقَل ما لا يُدرَك؟ أليست هذه بقاعدة العلم الأولى؟
ثم تضيف حيثيات الحكم أن «نصر أبو زيد» قد قال في أعماله قولًا خطرًا؛ هو «أن هناك معركة تقودها قوى الخرافة والأسطورة باسم الدين والمعاني الحرفية للنصوص الدينية، وتحاول قوى التقدم والعقلانية أن تُنازل الخرافة أحيانًا على أرضها.» وتعقِّب المحكمة بقولها: «وهذا من الكفر الصريح، والأساطير معناها الأباطيل … وهو ما نعت به الطاعن (أي نصر أبو زيد) الدين والنصوص الدينية، زاعمًا أنهما ينطويان على أساطير.»
هكذا ودفعةً واحدة فسرت هيئة المحكمة كلام نصر على كيفها (إي والله العظيم على كيفها)، ثم أخذت معنًى واحدًا من معاني كلمة «أسطورة»؛ لتدعم رأيها المتفرد لإدانة الرجل، فالرجل أبدًا لم يقل باحتواء الدين على أساطير، أو لوجه الحق: هو لم يفصح بذلك، وكان هذا كافيًا؛ فالمحكمة لا تحاكم الضمير؛ لأن الحكم عليه لله وحده. الرجل قال إن من يفعل ذلك قوى الأسطورة التي تستخدم الدين، ولم يقل الدين، لكن لأن حكم النقض كان آخر السلسلة الطويلة للوصول إلى الهدف، كان لا بد من إدانة «نصر» وتكفيره. أما الأمر الثاني فهو أنها اقتصرت على معنًى واحدٍ لكلمة أسطورة، رغم أن لها من المعاني الكثير، فيقول ابن منظور، علَّامة اللغة العربية، في لسان العرب، وهو مرجعنا اللغوي جميعًا، تحت مادة «سطر»:
«سطر: السطرُ: هو الصف من الكتاب … والجمع من كل ذلك أَسْطُر وأساطير وسطور … والسطر: هو الخط والكتابة … وقال الزجاج في قوله تعالى: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ معناه: سطره الأولون … وسطر يسطُر، إذا كتب، قال الله تعالى: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، أي ما تكتب الملائكة … والأساطير الأباطيل، أحاديث لا نظام لها.»
هذا ما كان من فهم المحكمة الأوحد، وتفسيرها الأوحد، لأمر عدد من التفاسير كان يجب أن تؤوَّل لصالح المتهم حسب القاعدة الشرعية والفقهية القانونية، لكن المحكمة رأت ما قررت أن ترى.
لكن ذلك يفتح بابًا واسعًا لطرح أسئلة حيرى، ما دامت المحكمة قد فتحته بقرارها التاريخي، وأصبح من الواجب مناقشة مسألة الأساطير حسب الأصول.
•••
هنا نعترف أن الاستعمال الدارج قد درج على استعمال كلمة أساطير، فيما بعد وبمرور الوقت، لوصف الأحاديث التي لا تخضع لقوانين العقل والمنطق، أو الأحداث التي تكسر قوانين الطبيعة وقواعدها الثابتة؛ لذلك أصبح المؤمنون بدينٍ معين يفضِّلون وصف تلك الأحاديث والأحداث بكلمة «معجزة»، لكنهم في نفس الوقت يصفون شبيهها عند الأديان الأخرى المخالفة أو العقائد التي ينظرون إليها باعتبارها باطلة، يصفونه بأنه «أسطورة».
ومثال لتوضيح ذلك، نحن نؤمن، باعتبارنا مسلمين، بقصة الإسراء والمعراج، كما أخبرنا بها القرآن الكريم، كما نؤمن بوجود كائن غريب الشأن يُدعى البراق، فهو دابة تعقل وتفهم، شكلها ما بين البغل والحمار، أشبه بالحصان، له جناحان، حمل سيد الخلق ﷺ من مكة إلى القدس في المعراج، كما جاء في حديث المصطفى ﷺ.
وفي أقاصيص الديانة اليونانية، كان للإله زيوس دابة للركوب، هي حصان ذو أجنحة يسمى «بيجاسوس»، هنا يرى المسلمون أن قصة البراق معجزة حدثت بالفعل، أما بيجاسوس اليوناني فهو أسطورة. وهكذا أخذ معنى الأسطورة تحديده قياسًا على المعجزة.
لكن ما لا يفوت لبيبًا هنا، هو أن الاختلاف هنا اختلاف اصطلاحي لفظي فقط، وليس خلافًا حول معنى المضمون، فكلتا القصتين تتحدث عن كائن يخرج في تكوينه على القوانين الطبيعية الصارمة، كما يخرج على مألوف العقل وقواعده، لكن المؤمن هنا يميل إلى تصديق مأثورِه وتكذيب مأثور الآخرين، وتسمى قناعته هنا إيمانًا، أي تسليمًا وتصديقًا قلبيًّا، لكنها لا تسمى معقولًا؛ لأن الأمر لا يخضع لنواميس الكون ولا لقوانين العقل، بل يتم هنا التغاضي عن أبسط قوانين العقل، وهو قانون الهوية، أي أن يلتزم العقل ذات الشروط في ذات الموقف، فلا يناقض نفسه، وهذا القانون هو ألف باء علم المنطق، أي إنه إذا صدَّق قصة البراق، فلا بد، حسب قانون الهوية البسيط، أن يصدق قصة بيجاسوس، وإن لم يقبل قصة بيجاسوس، فعليه بالتالي ألا يقبل فكرة البراق، المقصود من هذا المثل توضيح أن الخلاف بين المعجزة والأسطورة خلاف شكلي فقط، لا يبغي الهجوم على الدين، ولا وصْفَ بعضِ ما ورد به بأنه أباطيل، فقط هي مما لا يخضع لقوانين العقل ولا لقوانين الطبيعة، هي موضوع تصديق وإيمان. ولا محل هنا لتكفير إنسان على اختلاف تسمية اصطلاحية، ما دام المتفق على المضمون خروجه عن المألوف وكسره لقوانين الطبيعة وما درج عليه العقل من قواعد. فهل يمكن لأحد أن يختلف حول معناها هذا؟
•••
لقد ورد في كتاب الله الكريم، وفي الحديث الشريف عن سيد الخلق، كثير من النصوص التي تحوي مضامينَ وسورًا لا تخضع لنواميس الطبيعة ولا العقل؛ لذلك هي محل اعتقاد، وتعتمد على أمر لا يمكن لبشر الحكمُ عليه، تعتمد على الضمير الداخلي الذي يَقبلها أو يرفضها. وإذا كان اصطلاح أساطير يحمل في معناه ما خرج على قوانين الكون والعقل، فإن استخدامه لا مَثلَبة عليه؛ فأساطير الأولين في ابن منظور هي ما سطره الأولون، وإن ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ معنى ما تكتب أطهرُ المخلوقات، وهي الملائكة.
لذلك، ولأننا مسلمون، فنحن نؤمن تمامًا إيمانًا قاطعًا أن الملك سليمان كان يسمع حديث النملة الذكية، وأنه كان يحاور هدهدًا لَبِقًا، وأنه كان يركب بساط الريح، كما نؤمن أن صخرة قد حبلت وتمخَّضت فولدت ناقة الله، ونؤمن بالحصان المجنَّح الذي حمل رسول الله ﷺ من مكة إلى القدس، ونؤمن بالملكَين هاروتَ وماروتَ وقصتِهما مع الغانية رسول الغواية المعروفة بالحمراء أنثى كوكب الزهرة.
كما نؤمن أن الله قد أرسل على جيش أبرهة قواتٍ جويةً، تمثلت في طير أبابيل، تحمل حجارةً جهنمية لتُلقيَها على جيش الفيل، فكانت أول قاذفات جوية في التاريخ، كما نؤمن أن نمرود العراقي كان أول رائد فضاء في التاريخ، عندما ركب صندوقًا تحمله النسور يريد بجهله وطغيانه أن يصل إلى رب السماء ليقتله، كما نؤمن أن النار لم تُحرِق إبراهيم الخليل، وأن معدة الحوت لم تهضم يونسَ رغم سكونه فيها ثلاثة أيام. ولا نعلم إلى أي حدٍّ تطلب هيئة المحكمة منا الإيمان، حتى لا نكون من الكافرين، فهناك أمور أشد استعصاءً على العقل، وردت بكتب السير والأخبار، فهل يجب أن نؤمن بها بدورها أم لا؟ يعني هل يجب أن نؤمن أيضًا بأن النبي ﷺ كان يَبصُق على جرحِ مسلمٍ يحتضر فيقوم لتوِّه سليمًا معافًى، أو أن تشرب أم أيمن بوله فلا تمرض بعدها؟ ومثل ذلك كثير. إن ما نريد أن نقوله أن تلك جميعًا نماذج لا تدخل ضمن بنود العقل ولا تخضع لنواميس الطبيعة؛ فالصخرة حسَب القوانين لا يمكن أن تلد، والريح لا يحمل بساطًا، والهدهد لا يتحدث، والحصان لا يطير، والنار لا بد أن تُحرِق، لكن هذا جميعه محل تصديق وإيمان لأننا مسلمون؛ لهذا نحن نؤمن بها عن يقين، لكن يجب أيضًا أن نعترف بهدوءٍ أن الإيمان بها شيء، وأن قوانين العقل وفيزياء الكون شيء آخر؛ لذلك فالعقل لا ينتظر إمكانية حدوثها إلا إذا كان به خلل، وإلا خلطنا الحابل بالنابل، ودمرْنا أنفسنا بأيدينا، وهو ما يحدث الآن فعلًا نتيجةَ الخلط بين ما يفرضه الإيمان من تصديق، وبين ما هو ممكن الحدوث، حتى أصبح بالإمكان حدوثُ مثل تلك الأحداث الخارقة في أي وقت، إذا ما خلَصت الضمائر، وساعتَها سيتدخل الله فورًا بمعجزات جديدة لتخليص عباده المؤمنين مما أصابهم، ومثل ذلك ما قد حدث بعد مجموعة الهزائم التي أصابتنا، فرفعنا شعار: إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ، وانصبَّ هذا التغيير على الجانب الطقوسي في أداء الشعائر، وعلى الجانب الأخلاقي (وإن كان في مستواه النظري والقولي دون العملي). وتصوَّر الناس أنهم باتباع الفروض والسنن والنوافل وسيرة السلف، سيحوزون رضا الله، فيتدخل فورًا لإنقاذهم بمعجزات؛ لأن الفرق بيننا وبين العدو قد أصبح لا تحلُّه إلا معجزات. فكان أنْ هبطنا إلى مستوًى لم نصل إليه من قبل، من كسل عن تحصيل المعارف العلمية اللازمة للارتقاء والتقدم، وجلسنا ننتظر في بلاهة بليدة ذلك التدخل الإلهي الإعجازي، دون أن نتصور أن الممكن الحدوث فقط هو الأخذ بأسباب العلم والكد والعنت في سبيله، الذي هو سبيل ارتقاء الأمم، وساعةَ نفعل ذلك يمكن أن نقول إن ذلك قد حدث بفضل من الله وإحسانه.
•••
مرةً ثالثة ورابعة وخامسة، نؤكد إيماننا الذي لا يهتز بكل ما أخبرنا به القرآن الكريم بالوحي الصادق، لكن ما دمنا قد تطرقنا في الأمر إلى هذا الحد، فيجب الاستطراد بالقول إن الإيمان أمر، وشروط العقل والعلم أمر آخر، ويجب ببساطة أن نعترف أن بينهما تنافرًا عظيمًا، لا تحلُّه أبدًا تلفزة مصطفى محمود التفسيرية، وربما تقف النفس حيرى بين شروط العقل والعلم، وبين الإيمان ومطالبه، تطرح السؤال الآخر، تطلب الاتساق بين ما وقَر في القلب، وما يجب أن يصدقه العقل، لكنها أبدًا لا تبغي من وراء ذلك شكًّا ولا مُروقًا ولا كفرًا؛ فهي تعتز بالإسلام، وهي به عزيزة، فقط تريد الاطمئنان لطويَّةِ فؤادها؛ حتى لا تصاب بالشيزوفرينيا؛ ذلك الفصام المخيف الذي أصاب جماهيرنا العريضة الغليظة، حتى أمست بلادنا مستشفى أمراض عقلية كبيرًا، يكتظُّ بالمرضى ويخلو من الأطباء.
وهذه المشكلة واجهها المفكرون المسلمون الأوائل وأرَّقَتْهم فتحدثوا فيها وتجادلوا، وحاولوا حلها تحت عنوان «التوفيق بين العقل والنقل»، والنقل هو الوحي، فاعترفوا ببساطة ودون خوف أن هناك تناقضًا وتنافرًا يحتاج إلى توفيق، وحاولوا ولم تصدر ضدهم أحكام تفريق، ولهم أجر المحاولة.
•••
لكن الدنيا منذ تلك الأيامِ تغيرت تغيرًا سريعًا، وحقق العلم منجَزاتٍ لم تخطُر على قلب بشر، وأصبح بالإمكان للإنسان أن يعلم ما في الأرحام، وأن ينزل الغيث كيف شاء وحيث شاء وبالقدر الذي يشاء، وأمكن التدخل في جينات الوراثة بهندسة الوراثة، والقادم طوفان من المعرفة أعظم، ونحن هنا نقف نتفرج، وربما لا نفهم ما يحدث، نُبَسْمِل ونُحَوْقِل (وفي اللحظة الحاسمة في تاريخنا، ربما ذهبنا بعدها إلى مقلب نفايات الأمم)، نُصِرُّ على إغلاق أبواب الاجتهاد، ونرفع سيوف التكفير، ومن يحاول الاجتهاد مخلصًا لوجه الوطن والناس والدين؛ تُدينه محاكمنا الوَقورة بالردة.
أترون إلى أين يمكن أن يصل بنا حكم المحكمة؟