السؤال الآخر: الكوارث الإلهية
قارئي مهلًا؛ فأنا أعلم أن العنوان شديد الاستفزاز، لكني قصدته قصدًا؛ لعلمي أن الحس الإنساني لديك يفزع من الكوارث، ويستنكر أن يكون سببها مصالح أفراد أو جماعات، ويصاب بالهلع إن نسبناها إلى الله، لكن ما العمل، وهو المنهج الذي ران على تاريخنا المسترخي المتثائب طوال القرون السوالف، ولم يزل كذلك؟
لا شك أن أي واحد منا ستتأذى نفسه من عمليات التطهير العرقي التي تمارسها عنصرية الصِّرب، ولا جدال أن ذات المشاعر تنتابنا كلما تذكرنا الجريمة الكبرى في حق الإنسانية في هيروشيما ونجازاكي، أو كلما ورد على خاطرنا هتلر وما جلبته الدكتاتورية على البشرية من دمار، ولا جدال أن قلوبنا تقطر ألمًا كلما تذكرنا ضرب بغداد أو قانا الوحشي، أو حتى لو مر طائف الهولوكوست بخيالنا، إن كان قد حدث، فنحن بشر وإنسانيتنا هي رقينا، وهو الرقي الذي يجعل أحاسيسنا تقشعر وأنفسنا تجزع، عندما نعلم أن بشرًا، أو حتى مجرد كائنات قد تعرضت لمذابح أو لفناء؛ بسبب أطماع أو مصالح أو تعصُّب، في أي مكان على كوكبنا الأرضي.
فما بالنا لو أن هناك كوارث كبرى تحمل دمارًا رهيبًا، ونيرانًا تأكل الأجساد، أو صخورًا تسحق العظام، وأن هذه الكوارث تحدث برغبة إلهية، ثم بفعل إلهي، هنا تقف النفس حيرى؛ لأنها تؤمن بالله وتحبه، وتراه الكمال ذاته، والنقمة والأحقاد وإفناء الناس ليست من الكمال، فالله خير كله، لا يتسلى بتقتيل الناس، ولا تطيب نفسه لصراخ العجائز وهلع الأطفال، ولا يسعد بشقاء العباد ودمار البلاد، فنحن نحبه لأنه رحمة، وليس لأنه نقمة، لكن كل تلك المعاني الرفيعة تغيب عن بعض مشايخنا، الذين لا يخرجون أبدًا عن منهجهم، يسيرون عليه بالنعل حَذْو النعل، ولا يفتحون نافذة واحدة على العقل، ونموذجًا لهؤلاء ما خرج علينا به شيخ عظيم السمت، جهوري الصوت، يشخط وينطر في عباد الله الغلابة، عبر شاشة تلفازنا الميمون، ليقرعنا على ما أصاب بلادنا من زلزال عظيم، فنحن السبب، ومن هنا يبطل العجب، فقد استثرنا علينا غضب الله، فقام يدمر ويهدم ويسحق ويُبيد ويُهلك، يخلط اللحم بالحجر، والأسفلت بالدم، ويكتم صرخات الألم تحت الأنقاض، بل وأوضح فضيلته أن ذلك الزلزال كان مجرد بروفة تمهيدية إن لم نرتدع عن غيِّنا، واستعراضًا لقدرات الله علينا، نحن الفقراء إليه، لقد كان الزلزال إنذارًا وبيانًا عمليًّا لما يمكن أن يفعله الله إذا غضب.
أبدًا لم يشغل فضيلة الشيخ باله — وهو في عيشة الهنيء وطعامه المريء ودابته الميكانيكية الفاخرة — إلا بدعاء الركوب ودعاء دخول الغائط، لم ينشغل بقلوبنا وهي ترتجف هلعًا على بلادنا وإشفاقًا عليها، لم ينشغل بوطن سادته العشوائية وسوء التخطيط والفساد، حتى بات على شفا ضياع دون حاجة إلى زلازل، فمصر فيها ما يكفيها، ترجف لها قلوبنا، وتئنُّ أكبادنا إشفاقًا من أي جلل يَحيق بها، مع ظرفها الخاص وسدها العالي الذي يدفعنا إلى وضع الأيادي على القلوب هلعًا، كلما حدث طارئ؛ لأن زلزالًا عقابيًّا مما يتوقعه شيخنا سيذهب بالحرث والنسل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وساعتها لن يجد الشيخ دابته الميكانيكية، ولا حتى مجرد دابة، بل سيذهب هو نفسه مع الغابرين، بعد استعراض القوة العظمى التي يحذرنا من غضبها، كما لو كنا ناقصين قوى عظمى تستعرض علينا، نحن بالذات، للمزيد من الهوان والإذلال.
لكن الشيخ، وهو يؤنبنا على خطايانا، ولا نعلم إن كان بإمكانه بدوره أن يرمينا بحجر، إنما يسير على ذات المنهج الذي ران على عقولنا عبر القرون، منذ أيام التنين والعنقاء وعفريت المصباح السحري والحوت الحنون والنملة الذكية والهدهد اللبق، منذ قررت الأسطورة في خطو العقل الابتدائي أن كل أمر مقدور لا فكاك منه، وهو ما تجاوزته البشرية في خطوها التطوري لتفسير ما يَحيق بها من أزمات، وتفسير ما يلحق بالناس من كوارث لها أسباب واضحة معلومة، في قوانين بات يعرفها أطفال المدارس الابتدائية، لكن الشيخ لا يعلمها؛ لأنه حاصل على الدكتوراه، فهناك فرق.
وأحد العناصر التأسيسية في هذا المنهج العريق، الذي لم يعُدْ موجودًا إلا في كهوفنا؛ قانون من أشد القوانين تخلفًا وظلمًا في تاريخ الإنسانية، هو قانون: الحسنة تخص والسيئة تعم، قانون الثواب الخاص والعقاب الجماعي، حتى بات قانونًا للسلوك على كل المستويات، من المعلم في مدرسته، إلى الضابط في كتيبته، إلى الأب في بيته.
وبهذا المنهج ينسب الشيخ المفضال كارثة الزلزال إلى الله، ويستخرج منها العظات أسفارًا وملاحم، أمواجًا تتكسر على أمواج، دون أن يلقي نظرة واحدة على الإحصاءات التي تناولت الخسائر؛ ليعلم أن أشد آثار الزلزال قد أصابت أكثر المناطق فقرًا في بر مصر المحروسة؛ لأنهم لا يملكون ممكنات المعمار القوي الذي يتحمل تلك الهزات، ثم لم يسأل نفسه عن مدى استحقاق هؤلاء الفقراء للعقاب زيادة على فقرهم، ثم لا يحاول أن يقرأ أعمار القتلى والمصابين، وحتى دون أن يقرأ، فالعقل السليم لا بد أن يستنتج أن النسبة الكبرى من الإصابات كانت في أبعد الناس عن الخطيئة التي تستوجب العقاب، فالكوارث الجماعية تأخذ أولَ ما تأخذ الأطفالَ الذين لا يملكون لأنفسهم شيئًا ولا يستطيعون الفرار، ثم الشيوخ الذين كلَّت حواسهم عن إتيان المعاصي، ويتطهرون استعدادًا للقاء ربهم، ثم النساء لحرصهن الأمومي على نجدة أطفالهن، أما الناجي الحقيقي فهو الذي كان يستوجب العقاب، إنه القادر على إتيان المعاصي والقادر على النجاة بنفسه. وعلى مستوًى آخر، فإن فكرة العقاب الجماعي تتنافى مع قدرات الله الكلية، ثم تتناقض مع صفاته تناقضًا صارخًا؛ لأن الله لا يمكن أن يكون فاقدًا لقدرة التمييز، أو عاجزًا عن معاقبة المسيء وحده وبمفرده بإساءته دون إنزال الدمار بالجميع؛ صالحًا وطالحًا. ومن جهة أخرى تتناقض فكرة العقاب الجماعي مع صفة العدل في الله، تلك الصفة التي نطمئن إليها، وهي وراء إيماننا الصادق به، ثم إنها سر هدوء نفوس كثيرة مقهورة وفقراء، يطمحون إلى تدخُّله لإصلاح أوضاع دنيوية فاسدة، أو على الأقل للحصول على نصيب مناسب في جنته، يتناسب مع اختلال الأوضاع في الحياة الدنيا …
لكن لو قلنا هذا لقامت الدنيا ولم تقعد إلا على مشانق ودماء ترضي النفوس المتعطشة إليها، بعد سيل تكفير وتسفيه، وربما قالوا: إن في ذلك إنكارًا لمعلوم من الدين بالضرورة، وربما رأوا في إعمال العقل مفسدةً لعيشهم الليِّن ورغدهم الطري، ومن ثم ينطلقون بالسخائم على رأس المتسائل يصبونها عليه صبًّا؛ لأن النصوص الدينية قد أكدت من وجهة نظرهم، التي كلَّت لعدم استخدام النظر، أن الله كان يمارس العقاب الجماعي بالفعل، وإلا فماذا كان طوفان نوح وأصحاب هود من عاد إرم ذات العماد التي حقت عليها اللعنة، فأبادت بشرًا وحضارة وحيوانًا ونباتًا بغضب إلهي ماحق، أو أصحاب الناقة التي ولدتها صخرة، فعقروها فدمدم عليهم؟ ثم ماذا عن قوم لوط؟ وما أدراك ما قوم لوط! وغير ذلك من الأمثلة كثير! ورغم ذلك، فإن العقل له شروط وله مطالب كي يكون عقلًا بالأصل، وهو منحة الله للإنسان، بل إن وظيفة التفكير في ذلك العقل هي بضعة متناهية من القدرة الإلهية وعلمها اللامتناهي، وهذا العقل لا يرضى بمجرد سرد الأمثلة، فيقف معاندًا لا يتزحزح؛ كي يطمئن الفؤاد إلى طوية الإيمان، لكنه لا يجد من مفسِّرينا إجابة شافية، ولا تفسيرًا مُرضيًا، لذلك يمسك بالعدل الإلهي، ويرفض ما دون ذلك، قانعًا أن هناك لا شك تفسيرًا جديدًا يرفع عن مأثورنا التناقض، ويحفظ للنفس ثقتها في الله وحبها له، لكنه التفسير الذي لم يطُلْ زمانه بعد، فهلَّا حاولنا فتح نافذة عليه! وهلَّا أمكن الاجتهاد طمعًا في ثواب الأجرَين! ولن نخرج بحسرة إذا حصلنا على ثواب الأجر الواحد، وتكفينا المحاولة.
ألَا يمكن أن تكون تلك الأقاصيص من حكايا الأولين مجرد ضرب مَثَل، وعاه مؤرخونا ورجالاتنا الأوائل، فنحتوا له اصطلاحًا نعلمه هو «الترغيب والترهيب» … ربما … ربما كان ذلك ضربًا من المثل الرمزي لعقولٍ غير عقولنا، في زمنٍ غير زماننا، له مفاهيم غيرُ مفاهيمنا ومستوًى معرفيٌّ غير مستوانا … ربما.
إن الإصرار على المنهج العتيق في فهم لغة المقدس بقدر ما يضر بحياتنا بالتأكيد، فإنه يضر بالمقدس ذاته، ذلك المقدس الذي نريد أن نحافظ عليه وعلى احترامه؛ لأنه جزء من تاريخنا الذي يشكل هويتنا.