السؤال الآخر إلى الشيخ والطبيب التلفازيَّين: أي علم؟ وأي إيمان؟
عندما بلغت الدولة الإسلامية أوج قوتها الإمبراطورية، كان طبيعيًّا أن تتحول عن خوفها الأول من الكتب والمؤلفات لشعوب المنطقة، وعلوم الحضارات القديمة في مصر وبابل وفينيقيا، بعد أن صلب عودها واشتد كيانها، ولم تعد تخشى على نفسها من الآخر المخالف أو من ثقافته؛ لذلك انفتحت على كل ثقافات دنيا ذلك الزمان، على علوم مصر وفارس والهند، وعلى مختلف الديانات والعقائد؛ الكتابية منها وغير الكتابية، وعلى فلسفة اليونان ورياضياتها. واتسمت الحياة الثقافية بقدر عالٍ من التحرر، مع حركة ترجمة نشطة نقلت كل هذا إلى اللغة العربية، في مناخ يتسم بروح إنسانية رفيعة من عدم التعصب، إلى الحد الذي تجاوز فيه المسلمون معنى التسامح مع ثقافة الآخر وعقيدته، إلى معنى التواصل (كما عند المعري) وإلى معنى الاحترام المتبادل (كما عند ابن عربي مثلًا)، حتى وصل الأمر إلى حرية اعتقاد مقبولة من المجتمع ومن الدولة، وكان طبيعيًّا أن يفرز ذلك المناخ كل الاتجاهات الفكرية والعلمية، ووجد العلم مناخه المناسب فتنامى، حتى قدَّمنا للعالم كوكبة عظمى من المفكرين، ووسط كل هذا الزخم العظيم لعلوم الدنيا والدين، نسمع عن الطبيب المعجزة «أبو بكر الرازي»، وهو ذات الرجل الذي كان يعلن إلحاده دون ترميز أو مواربة. ثم نسمع بين مدارس الاجتهاد، وحركة تدوين التاريخ، وعلماء الرياضيات، عن وجه آخر لحقيقة الحرية الثقافية، يمثله الداهية الكبير «ابن الراوندي»، الذي كرس عمره الذي وصل إلى قرن من الزمان؛ لدحض ما أسماه: مخاريق الأنبياء، وكتب فيما علمنا ما ينوف على تسعين مصنفًا، أسماها بمسميات الأحجار الكريمة، فهذا كتاب اللؤلؤة، وذاك كتاب المرجانة، وثالث كتاب الزمردة … إلخ، وعاش الرجل عمره الطويل يناقش بالعقل ما رآه ليس من العقل في تاريخ النبوات والكتب المقدسة، ويكرس ما يدحض فكرها وينعى عليها منهجها، ولم يطلب أحد محاكمته، ولم تصادَر كتبه، ولا انقضَّ عليه نجار مسلح جهول بمطواة قرن غزال. لكنا على أية حال فقدنا كل هذا، ولم نعُدْ نسمع مقولات ابن الراوندي إلا من المقتطفات التي كتبها المتأخرون من مشايخ الأمة، بعد أن زال مجدها وحلَّت بها الغمة، لتسفيه أفكاره وتكفير ضميره، مع انهيار قوة الدولة وإغلاق نوافذ العقل، مع بداية عصر الخليفة المتوكل، الذي أغلق باب الاجتهاد، وألغى دور العقل، وحرَّم الكتب المخالفة، ومن بعده وحتى اليوم، نتحرك بسرعة الصاروخ، ولكن إلى الخلف.
لكن قبل أن تدخل الأمة في التردي، وإبان حركة العلم والترجمة النشطة، تعالت فلسفات الفيوض الغنوصية، التي استمدت أسسها الفكرية من عقائد مصر القديمة وديانات فارس القديمة، وصبتها في قالب إسلامي، بحيث قامت فلسفات جديدة تكاد تكون عقائد جديدة بكل معنى الكلمة، تسمى عقائد الفيض، وأشهر الأسماء في تلك الفلسفات الفيلسوف «أبو نصر الفارابي»، ثم «ابن سينا» الطبيب الفيلسوف.
•••
أما في علوم التصوف فحدِّث ولا حرج، عن عقائد قديمة من عقائد مصر وفارس والمسيحيين واليهود، تستخفي وراء عباءة إسلامية، حيث قامت الشعوب المفتوحة للغزو العربي الإسلامي، تحافظ على قديمها الوطني تحت مظلة إسلامية. ثم أبدًا لا ننسى علم الكلام، ذلك العلم الشديد الجرأة والاجتراء، والذي كان نموذجًا لديمقراطية الرأي، وحرية القول، وعلمنة المساحة الفكرية، واحترام الرأي الآخر مهما كان مخالفًا، وقام يعلم الناس عدم الخشية من مناقشة أي أمر، فليس هناك كبير على العقل، وليس في علم الكلام محرمات عقلية، فناقش الناس أيامَها أمورًا لو ناقشناها اليوم لرُجِمْنا بألف حجر. وبرزت بين مدارسه مدرسة المعتزلة التي أسسها «واصل بن عطاء»، والتي جعلت العقل مرجعًا لكل أمر، حتى لو اختلف الوحي مع العقل، فقد رجح المعتزلة اللجوء لحكم العقل.
ولو قُدِّر لهؤلاء جميعًا أن يعيشوا زماننا الأغبر، لجلس الفارابي على خازوق في ميدان التحرير، ولصُلب ابن سينا إلى جوارٍ منه في ميدان طلعت حرب، ولتطوَّع سبَّاك من أمراء هذا الزمان بذبح واصل بن عطاء بباب أحد المساجد، ولَمَات ابن سينا بطلقات رصاص من أحد الصنايعية الذين تثقَّفوا بثقافة العفاريت السليمانية.
نحن هنا لا نمزح قدر ما نأسف وننزف وجعًا على الأمة، ولا نستهين بقدر دين أو فكر أو اعتقاد؛ إذ أصبحت هموم جماهيرنا الغفيرة العريضة الغليظة (في الوقت الذي تنشئ إسرائيل مفاعلها النووي الأكبر الجديد على حدودنا) هو كيف نوقف خُطانا مع السلف؟ هل يرفع المسلم إصبعًا واحدًا أثناء التشهد أم إصبعين؟ المسبحة الثلاث وثلاثون حبة أكثر شرعيةً أم التسع وتسعون؟ هل أكل الجبن الرومي حلال؟ أصبح كل شيء يدور حول لا شيء، وله مرجع واحد، هو حياة السلف الصالح في أدق تفاصيلها، مع ملاحظة شديدة البساطة أن كل تلك الهموم في فكر أمتنا قد تواكبت مع انحطاطها في قاع مزبلة الأمم.
هذا عن كيف يفكر رجل الشارع وغير المتعلم وأنصاف المتعلمين، فماذا عن الطبقة المتعلمة؟ (نقول المتعلمة وليس المثقفة؛ فهناك فرق، كالفرق بين رواد حقل البرسيم ورواد حقل الياسمين). إن تلك الطبقة تنحو منحًى آخر أسسه رجل هُمام، تقلَّب من ذات الشمال إلى ذات اليمين، وما أدراك ما اليمين وما فيه من رغد ونعيم مقيم، يقوم فيه بدور المعلق وصاحب المنهج والرفيق المؤسس … وهلم جرًّا، وجرًّا هلمُّوا! ومع ذلك المنحى والانعطاف التاريخي لفكر شبابنا مع اللافتة المعنونة ﺑ «العلم والإيمان»، نقف نحاول أن نفهم، كيف نتمسك بالعلم؟ وكيف نحترم الإيمان؟
نحن، مِثل كل فرد في الأمة، نعرف معنى الإيمان، ونشهد لإله أوحد ليس له كفوًا أحد وليس له شريك، ونؤمن بمنظومة متكاملة لها كتابها الذي يحدد شروط ذلك الإيمان، ويضع للسلوك والنظم الاجتماعية قواعد محددة. لكنا أيضًا نوقن تمامًا أن ذلك الكتاب الكريم ليس كتابًا في الفيزياء أو الكيمياء أو الهيدروليكا أو هندسة الوراثة، لسبب شديد البساطة، وهو أن القرآن الكريم كلمة الله الثابتة الواحدة، التي لا تقبل التغير أو التقلب أو اللعب بها، هو موضوع إيمان في المقام الأول، أما العلم فطبيعته متغيرة متبدلة؛ لأنه بذلك يصحح نفسه باستمرار، ويتقدم على هذا الأساس، فهذا منهج، وذاك منهج آخر مخالف تمامًا، هذا إنتاج عقل بشري متغير، وذاك من مصدر إلهي قدسي لا يقبل الانتهازية والاستخدام النفعي، كما لا يقبل التبدل والتغير.
ولكن لأننا قد استقربنا المقام في قاع مقلب نفايات الأمم، ولأن الأمم الأخرى قد تقدمت تقدمًا علميًّا هائلًا على كل المستويات، فقوي شأنها وعظُم أمرها، ولأننا بجوارها في حال ضعف وهوان، ولأن العلم لا ينمو إلا في مناخ حر، حرية مطلقة بلا حدود، يسمح بالرأي الآخر، ليس فيه تكفير ومحاكمات تفريق، فإن تربة بلادنا لم تعُدْ صالحة لإنتاج العلم؛ لذلك اكتفينا باستهلاك منتجات العلم التي جهد عليها علماء الدول المتقدمة، وأفنوا فيها أعمارهم، وهنا طيب خاطرنا شيخ المفسرين التلفازي، الذي «تولى» علينا «متوليًا»، عافاه الله وأبقاه للأمة الإسلامية ذخرًا ولمصر فخرًا، فرأى أن عزاءنا في كون غير المسلمين يكدون ويتعبون ويشْقَون كالأنعام للوصول إلى كشوفهم العلمية، بينما نحن بأموالنا وبترولنا الذي منحه الله لنا، نأخذ نتاج هذا العلم ونستهلكه على الجاهز؛ فالدول المتقدمة مستعدة دومًا لتوصيل الطلبات إلى المنازل، فحمدًا لله أنه قد سخَّر لنا أخيرًا بني الروم، فهل بعد ذلك نصر؟ وهل بعد ذلك فهم للعلم والإيمان؟
•••
أما الدكتور الحجة، الموج المتلاطم من العلم المتراكم، مفتاح العلم وخزانته، الشيخ الطبيب، بحر العلوم، صاحب البرنامج التلفازي المعلوم، فقد أخذ مبكرًا، منذ أن سار مع عقارب الساعة، بحل آخر، يحل به مشكلة الأمة ليرفع عنها الغمة، بحل أساسي لعلاقتها بالعلم.
رأى الشيخ الطبيب «رأيًا» أو «رؤيا» لا نعلم، ثم قام يقولها في سلسال طويل عبر شاشات التلفاز الميمون، ثم قال، لا فُضَّ فوه، ذات الأقوال في سلسال آخر من الكتب، التي أصبحت تملأ أرفف أدمغة شبابنا. وكان الرأي والقول يؤكدان أن حل مشكلة أمتنا يكمن في إثبات أننا أصحاب كل الكشوف العلمية قبل زمانها بزمان، وحتى التي لم تُكتشف بعدُ منها.
لكن كيف السبيل إلى ذلك؟ لو كان الرجل موضوعيًّا لقال إننا قد شاركنا الإنسانية في تطورها العلمي، عبر ما قدَّمت كوكبة علمائنا في العصور الخوالي، وبذلك لا يكون العلم حكرًا على أحد، إنما نتاج مشاركة كل البشرية فيه، منذ عصر اكتشاف النار وحتى الآن، لكنه لم يرَ ذلك، لقد أراد الفضل كله بالتمام والكمال لا يخس مقدار جناح بعوضة، ويكون له هو الفضل كله في ذلك الكشف العظيم.
كان الحل هو القول: إن القرآن الكريم يحوي كل علوم الأولين والآخرين، وهنا قام يفتش في أفلام كدَّ عليها العلماء، ينتقي منها ما يلتقي مع تفسيره هو للآيات الكريمة، ليقصَّ لها النظرية العلمية ويفصِّلها على قدِّها ومقاسها، نعم قد تأتي مرة فضفاضة، ومرة شديدة الضيق، لكنه وهو يفعل ذلك يرتكب جرمًا كبيرًا، ثم يقع في إثم عظيم.
أما الجرم فهو في حق اثنين لا نتنازل عنهما أبدًا، الأول في حق العلم نفسه، فهو يقدمه مجزوءًا، منقوصًا، مشوهًا، يهدر ما بذل فيه من عناء وجهد بالعقل البشري، خاصة مع تعقيباته وابتسامته الساخرة المعهودة، من ذلك العقل الغِر المفتون، الذي يحاول اكتشاف علوم عرفناها نحن قبله بقرون، عبر معرفة ربنا لها. أما المجني عليه الثاني في هذا الجرم، فهو زهرة شباب بلادنا، الذين عليهم المعتمَد والأمل، فالعلم عناء وكدٌّ وتعب عظيم، يمكن بمنهج الطبيب التلفازي الاستغناء عنه والاكتفاء بالقرآن الكريم، فيدمر الطبيب المعجزة عقل الأمة ممثَّلًا في شبابها، ليتحولوا إلى صُناع قنابل محترفين، وقتَلة متمرسين.
بقي الآن الإثم العظيم، وهو الأخطر، فالرجل أولًا يريد إثبات صدق الله بمعارف الإنسان، هذه واحدة، أما الثانية فهو أنه يعرِض لنا الأفلام العلمية ويتطفل عليها، ثم يبدأ في السخرية من العقل البشري القاصر الذي أنتج علومها المصورة، أترون أين الإهانة الخفية؟ إنه يثبت صدق الله بنتاج عقل إنساني أبله، أليس ذلك ما يفعله الطبيب المعجزة؟
ثم إن الإثم مركب، فالعلم متغير، والقرآن كلمة الله الثابتة، فهل إذا ربط السيد الطبيب نظرية علمية اليوم بآية قرآنية، ثم ثبت بعد ذلك فساد النظرية، أفلا ينسحب ذلك على الآية القرآنية؟
وهكذا، ولأن الغرب دومًا عدو، ولأن العلم منتَج غربي، فهو عدو! لكن لأن العلم يساعد على تقدم الأمم، تم سحب شرف العلم منهم وتحييدُه وجعْلُه خادمًا مطيعًا لمنظومتنا، ولكن في الوهم، وهكذا نصبح أعلم علماء العالم، فالعلم في كتابنا، وهنا الوجه الكارثي؛ فالقرآن كلام الله، ونحن نفخر به على أولئك الذين يظنون أنفسهم متقدمين وهم واهمون، وهذا يعني أن رب القرآن رب خاص بنا وحدنا، نتباهى به على الآخرين، رغم أن الله رب العالمين، ونحن نؤمن بذلك عن يقين.
ثم ألَا يعني ذلك الشعور بالدُّونية والقَزَميَّة، وأننا مجرد قبيلة لا تعرف شيئًا وتتخبط في الجهالات، لكن شيخها يعرف كل شيء، وعلى جميع أفرادها الاطمئنانُ إليه، وأنه سيتدخل لإنقاذها في الوقت المناسب؟ ألَا يعني ذلك تحول الذات الإلهية الرفيعة العظمى إلى مجرد سيد لجماعة؟ وبالمناسبة أليس ذلك هو فَهْم يهود لمعنى الألوهية؟
وطبعًا من حق الرجل أن يفخر، بعد أن سار وراءه العربان «ذرافات» أو «زرافات»، لا فرق، وانتابهم هوس العلم والإيمان، ليصيبهم ذلك الهوس بحمَّى العلوم الإسلامية، التي انعقدت لها المؤتمرات العالمية، التي علمنا مؤخرًا من التقارير المنشورة أنها قد موِّلت من قِبَل المخابرات المركزية الأمريكية.
فإذا كان هناك مثلًا طب إسلامي، فلا شك أن هناك طبًّا بوذيًّا وطبًّا يهوديًّا، أما نحن إذا كنا مخلصين لطبِّنا، فعلينا إغلاق كليات الطب في بلادنا، مع سحب شهادة الطب من السيد الطبيب التلفازي، ومنحِه شهادة تفوُّق في الطب الإسلامي مثلًا، كتعبير عن العرفان لما قدمه لأمة العربان.
والآن جاء موعدنا مع السؤال الدوري «السؤال الآخر»:
بفرض أن كل ما فعله السيد الطبيب صحيح، وبفرض أننا لم نفهم المراميَ البعيدة لخطته السديدة، فما هو الممكن تحقيقُه من تلك الخطة لصالح البلاد والعباد، والخروج من القاع؟ بماذا أفادنا كل ما فعل ويفعل بفرض صدقه؟
يعني: هل يمكن للسيد الطبيب، باعتباره الرائد في هذا الطريق، أن يقدم لنا حلًّا لتخلُّفنا؟ أو هل بإمكانه أن يكتشف لنا مِن المقدس أسلحة كالليزر، ونسميه الليزر الإسلامي مثلًا؟
نحن ننتظر تلك الجدية في السيد الطبيب بكل أمل، نعم ربما يطول انتظارنا حتى نموت فنُبعث لنحاسَب على ما قدَّمت أيدينا خاصة في حق أمتنا، لكنا على أية حال نطلب لأنفسنا وله المغفرة إن نسينا أو أخطأنا.