الفصل السادس

مرض المنهج: محاولة للتشخيص المبسط

من وجهة نظري، أعتقد أن المشكلة أبعد وأعمق من الاستفسار عن مستوى المد السلفي أو جذره وانحساره، فالأمر يكمن في منهج تفكير سائد مستمَد من المقدس ويعتمد عليه ويقوم به، ولأن للمقدس عدة وجوه وعدة قراءات قد تصل إلى حد التنافر المذهبي، فإن المسألة تتخذ شكلًا أكثر تعقيدًا، حيث يتحول تعدد الفهم وتعدد التفاسير إلى تعدُّد في المناهج التي تطبع سلوك أتباع المذاهب بطابَعها، ويسلكون في الواقع العملي بوحي من توجيهها، ويضبطون عليها حركاتهم وسكناتهم ورؤيتَهم للماضي وللحاضر وللمستقبل، ويحددون بها موقفهم من المنتج الثقافي الإنساني، ومن الآخَر المخالف، بل وبه يحددون خياراتهم السياسية، وهنا الوجه الكارثي.

وقد يبدو هذا التعدد في ظاهره رحمة، لكنه العذاب بعينه، فهو من جانب يؤدي إلى تصلب مذهبي شديد، ومن جانب آخر يضع التعامل العلمي معه من الخارج في حالة استحالة، حيث ستختلف أساليب الجدل بين مذهب وآخر، وحول ما يراه هذا المذهب أو ذاك من صحيح التفاسير أو الأحاديث، ومن جانب ثالث، فإنه رغم التعددية فإن الرؤى جميعًا تستند إلى فكرة تأسيسية، ترى أن ما يملكه العقل المتمحور حول المقدس؛ هو الرؤية المنهجية الواحدة الصحيحة صحةً مطلقةً، لا يدخلها الباطل من بين أيديها أو من خلفها، بل تجتمع المذاهب جميعًا عند حقيقة تأسيسية مرجعية، هي نصوص الكتاب والسنة، التي انقضى على زمنها وظروفها التي أفرزتها ما يزيد على أربعة عشر قرنًا من الزمان.

وينبني على ذلك شعور حادٌّ بامتلاك الحقيقة النهائية والمطلقة لكل أمر في كل علم ممكن، وهذا بحد ذاته هو المصيبة بعينها؛ لأنه يؤدي، أو أدى بالفعل، إلى استشراء وباء نفسي حاد، عندما يصطدم صاحب هذه الحقيقة المطلقة، بما يحمله من زهو نفسي يؤدي به إلى الاستعلاء والنرجسية، بواقع الأحوال وتقدُّم الآخر المخالف وتفوُّقه الحضاري؛ فيزداد تمحورًا حول الذات، في محاولة يائسة للتمسك بهويته وإثبات ذاته، ليتداخل ذلك كله مع الانبهار الضروري بحضارة الآخر المتقدم، في تعقيدات أخرى، تنتهي إلى استشراء حالة فصامية جماعية ظاهرة الوضوح، تظهر أعراضها على كل المستويات، حتى على المستويات القيادية وما تتخذه من قرارات وتخبطات انتهت بنا إلى حيث نقبع الآن.

وإذا كنا لا نغفُل عن العوامل الأخرى التي أدت إلى الحال الراهن، وخاصة الجوانب الاقتصادية، ومدى نضوج الأوضاع الاجتماعية المتفاوتة بتفاوت خصوصيات الأوطان العربية، وعدم تبلور طبقاته بشكل محدد واضح، مع الانحرافات العنيفة التي أصابت الأشكال السياسية العالمية في مفاجآت السنوات الأخيرة؛ فإننا سنحاول تقديم مطالعة بسيطة في دور النصوص ووسطاء الدين المحترفين في تأسيس هذا المنهج وترسيخه.

(١) النص بين الثبات والحركة

معلوم أن النص القرآني لم يأتِ به صاحب الدعوة في شكل كتلي، إنما جاءنا مفرقًا منجمًا بالتبرير القرآني: لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ، تغيَّرت أحواله وتبدَّلت بتبدُّل أحوال الواقع والمتغيرات زمنَ الدعوة، فتجادَلَ مع أحداث الواقع، وفعل فيها وانفعل بها، واستجاب لضرورات المتغير الموضوعية، عبر ثلاثة وعشرين عامًا، هي العمر الذي تواترت خلاله النصوص القرآنية. وعبر هذا العمر تغيَّرت آيات وتبدَّلت أخرى، ومُحيت آيات ونُسخت أخرى، ورُفعت آيات وأُنسيت أخرى، وهو الأمر الذي وجد صداه في الآيات القرآنية التي تردد أمورًا معلومة في أبواب علوم القرآن، كما في الآيات التي قيلت بمناسبة حديث الغرانيق: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (الإسراء: ٧٣-٧٤).

كذلك الآية: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ (الحج: ٥٢).

وبشأن محو آيات، تقول الآية: يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ (الرعد: ٣٩).

وعن التبديل، تقول الآية: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (النحل: ١٠١).

وبشأن الإنساء والنسخ، تقرر الآية: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا (البقرة: ١٠٦). وغير ذلك كثير واضح الدلالة والمعنى.

وإعمالًا لذلك، لا بد من فَهْم أن هذا النص القدسي لم يأتِ كتلة واحدة متماسكة جامدة كألواح موسى، لكنه مر بمراحل تطورية ارتبطت بواقع الحجاز زمنَ الدعوة، وبتطور المتغيرات فيه ارتباطًا وثيقًا، لكن بموت صاحب الدعوة وانقطاع تدفق الآيات، توقف هذا التفاعل وتحول النص على يد أتباعه إلى مقدس لا يقبل تبديلًا ولا تحويلًا، وثبتوا به، ومعه، عند تلك اللحظة الزمنية التاريخية بكل ما لها وما عليها، ومع حراك الواقع، الحراكَ الضروريَّ بمتغيراته المتلاحقة، ظل المنهج واحدًا ثابتًا لا يتزحزح ولا يتحرك، وأصبح الإصرار على فكرة الشخصية الثقافية الثابتة الواحدة سمة المنهج العربي المسلم، في التفكير وفي السلوك، مما أدى في النهاية إلى تخلُّف ثقافي هائل، قياسًا على الحراك الضروري، الذي انتهى بالإنسان العربي اليوم إلى استخدام كافة المنتج الحضاري التقني للعالم المتقدم من جهة، مع الإصرار على ثباته المنهجي والثقافي بمنظومته الواحدية في الجانب الآخر.

وعبر القرون الخوالي السوالف، تمكَّن الإنسان في بقاع المعمورة، عبر نضالات طويلة وتضحيات عظيمة، أن يُرسي مبادئ إنسانيته الحرة؛ مما أدى إلى تبدُّل عظيم وتغيُّر هائل في المفاهيم، خاصة حول قضايا الحريات، بينما على الجانب الآخر، ظل منهجنا هو المحافظة والثبات عند ظاهر ألفاظ النصوص التي أحيطت بكل التحريمات، لعدم الاقتراب أو المساس، أو حتى محاولة فَهْم صحيح يواكب المستجدات.

وحتى الآن يردِّد المسلم آيات مِلك اليمين، دون أي محاولات من جانب فقهاء المؤسسات الدينية للإعلانِ الواضح عن وقف العمل بأحكام هذه الآيات، باعتبار استرقاق الإنسان لأخيه الإنسان كان وصمة عار في جبين الإنسانية على مر التاريخ.

نعم حضَّ الإسلام على العتق وحبَّب فيه في مراحل الدعوة الأولى، لكنه أبدًا لم يحرِّم الرق كما حرَّم مثلًا لحم الخنزير، ولم يجرِّمه، ومات الرسول والصحابة ولديهم الأعداد المعدودة من العبيد، ونعم كان الإسلام بالتحبيب في العتق والترغيب فيه نقلة تقدُّمية قياسًا على زمنه، لكن الأمر اليوم قد اختلف اختلافًا تامًّا. ومع ذلك لم تزل أدعية ميكروفونات المساجد الكبرى في بلادنا المحروسة تنادي المسلمين بالتهيؤ لنفل أموال غير المسلمين وسَبْي نسائهم، الأمر الذي يطفح بالمراقب ويضعنا سخريةً للعالمين، ما بين واقعنا في قاع الأمم وبين مطالبنا التي نرفعها إلى ربنا.

وضمن قضايا الحريات، والتي تحتاج إلى كسر جريء وعميق في جدار الثبات والسلفية، قضية المرأة، التي لم تزَلْ حتى الآن نصف رجل جاهل بليد لا لزوم له، رغم أنها قد تكون حاصلةً على أعلى الدرجات العلمية، وتعدل في موازين العقل مئاتِ الرجال. وعندما حاول نصر أبو زيد — كمثال — الخوض في هذا الأمر، قامت الدنيا ولم تقعد إلا على تكفير وتفريق وشوق إلى الدماء، وهو الأمر الذي يدفع إلى التساؤل عن مدى جدوى التعامل مِن على ذات الأرض، لمنهج يستسهل دماء المخالف في الرأي، بل يراه أمرًا جميلًا وعظيمًا وسبيلًا إلى ملكوت الله.

وهنا يطيب لي أن أشرك القارئ في طُرفةٍ ما دمنا في ميدان القراءة المبسَّطة، حيث كنت مؤخرًا على الستالايت من القاهرة مع الشيخ يوسف البدري بالدوحة، على قناة الخليج الفضائية، وأذكر أني قلت ساعتها إني رجل قد لوثته الحضارة، يكره رؤية الدماء تُسفك والأيدي تُقطع والأجساد تُجلَد، فكان رده العجيب: وماذا عن سفْك دماء المسلمين في البوسنة؟ ويبدو أن منهج الرجل، وهو منهجهم عمومًا، يرى أن الغرب — وهو النموذج المبهر وغير المعلن في بواطنهم — يمارس الذبح والقتل، فلماذا لا نمارسه؟ وأنه ما دام الغرب المتحضر يمارسه، فليس علينا ملامة، الكارثة أنه يريد أن يمارسه معنا أيضًا. ولا تعليق.

وهكذا يكون أي خلاف في الرأي حول تفسير آيات، أو محاولة الخروج من أَسْر الثبات، مَدعاةً لإهدار الدم بكل بساطة، بل أحيانًا بولع شديد. وهو الموقف أيضًا من قضايا الديمقراطية، ناهيك عما هو أبعدُ ما يكون عن مجرد السماح بمناقشته، بينما قد أصبح مبدأً إنسانيًّا راسخًا؛ هو مبدأ حرية الاعتقاد، فدون مناقشته خرق القَتَاد وإسالة الدماء أنهارًا.

(٢) العلم والمعجزة

ولأن النص القدسي هو الثقافة الوحيدة الصحيحة والممكنة وفق هذا المنهج، فقد أصبح النص هو المرجع العمدة والأم لكل القضايا، حتى لتجد أساتذة أكاديميين يشرفون على تخريج أجيالنا يتساءلون مع كل جديد: هل جاء ذكره في القرآن؟!

ولأن النص كان يعمد في أحيان كثيرة إلى ضرب الأمثلة لأهل زمنه ترغيبًا وترهيبًا، للإيعاز بأن ضعف صاحب الدعوة والمسلمين الأوائل لا يعول عليه، فوراءهم تقف قوة الله والملائكة ظهيرًا. وتأتي ضمن تلك المرحلة أحاديث النصوص مشحونة بالمعجز والملغز الذي يكسر قوانين الطبيعة والعقل معًا، فنجد قصة الحصان المجنح (البراق)، وحديث الصخرة التي تمخضت فولدت ناقة الله، وحديث الملائكة المحاربين يركبون الخيول ويحملون السيوف، وحديث الجن والعفاريت وبساط الريح السليماني، وكل هذا لطيف وموعظة حسنة وإنذار للكافرين من أهل الحجاز زمن الدعوة، لكن اليوم، ومع المفترض في الإيمان أنه تصديق وتسليم، يصبح بالإمكان الوثوق في تحقيق أشباه تلك الأحداث اليوم، فقط إذا خلصت الضمائر وصفت النوايا بالإخلاص كلية لكل تفاصيل المنهج الطقوسية، فبالإمكان بل بالضرورة عدم بذل أي جهد علمي حقيقي، ويتحول الشعور بالعجز والدونية إلى ارتكاس نحو زمن السلف الصالح؛ تهيئة للواقع الأرضي لمجيء نصر الله والفتح. ولا يصبح هناك مجال سوى لإنشاء دولة دينية، وساعتها سيتدخل الله بنفسه لإنقاذ حزبه والخروج بخير أمة أُخرجت للناس من القاع بقدرته وحده.

والوجه الكارثي في أصحاب هذا المنهج أنهم يتعاملون مع المنتج العلمي الإنساني بتعالٍ وترفُّع، ولأن العلم قد ساعد على تطور الأمم الأخرى فقد أصبح محل نقيضَين، محلًّا للحب والكره، نستعمل منتجه التقني لكن نختصر العلم في ذاته، هو الشيطان الأعظم الذي ساعد الآخر المتفوق. ويتم تكريس هذه المعاني عبر وسائل التثقيف العامة كالإذاعة والتلفاز، بل ودُور التعليم على تنوعها. ومع الانبهار بهذا العلم وبالعقل المتفوق لا يملك الموفقون والانتهازيون وأصحاب المصالح والمتاجرون بمصير الأمة سوى ادعاء توفيقية رخيصة ومبتذلة بين العلم وبين نصوص الدين، تنتهي إلى تكريس العلم كله لله وحده وتحقير شأن العقل الإنساني القاصر. وإبان ذلك يتم التعامل مع المنتج العلمي بعقلية قاطع الطريق، وبنفسية المريض بالذهان وبالشيزوفرانيا معًا، فيتم التأكيد على أننا أصحاب كل تلك الكشوف قبل أن يكتشفها الغرب الكافر بعقله القاصر، وأننا نعلمها سلفًا عبر علم ربنا بها، كما لو كان الله بهذا التصور التجزيئي والقبلي شيخًا لقبيلتنا وحدها ويكفينا أن يعلم هو نيابة عنا، فهو المتصرف، وهو العالم، وما علينا سوى طاعة أوامره ونواهيه وانتظار تدخله في الوقت المناسب الذي لا يعلمه إلا هو. وهكذا، ورغم أننا شركاء مثل كل البشرية في صياغة العلم الإنساني عبر مراحل متعددة من تاريخنا، ننفي هذا العلم ونحيله إلى عدو شيطاني، نحبه ونخافه ونكرهه ونتمنى امتلاكه ونحتقره في آن واحد. ثم نحول أنفسنا إلى مجرد كائنات بلهاء تعتمد على علم ربها فقط وهو العلم المخفي، وتستخدم كافة المنتج التقني للعلم البشري، أفلا يسيء ذلك إلى مفهوم الكمال الألوهي ذاته؟!

(٣) قوانين التخلف الثلاثة

رغم أن المسلمين الأوائل الذين عاينوا الدعوة وعاشوا زمنها، قد وعوا درس تجادل النص القدسي مع الواقع، فمدوا الخط على استقامته واستفادوا من حواره مع المتغيرات، ثم جاءت الإمبراطورية الإسلامية في عصر الثقة والقوة لتفتح كل الأبواب والنوافذ على حضارات الدنيا وعلوم العالمين آنذاك.

وبمجيء الخليفة المتوكل، وتضعضُع قوة الدولة وما صاحب الأحوال بعدها من الدخول في عصور الانحطاط والتردي، انتهى الأمر بتقعيد القواعد المكبِّلة للحريات الفكرية عبر تحريمات وُضعت في التعامل مع النصوص الدينية، تكبح أي محاولة للانطلاق بالمفاهيم من أسْر الثبات لتواكب حركة التطور والمتغيرات.

وقد تمثلت تلك القواعد في ثلاثة قوانين تأسيسية أولها: تكفير من ينكر معلومًا من الدين بالضرورة، ورغم أن هذا المعلوم من الدين بالضرورة لا يملك أحد تحديده وضبطه؛ لأن معنى ذلك هو الاطلاع على المقصد الإلهي منه بدقة وتواصل نبوي، فإن هذه القاعدة كثيرًا ما استُخدمت لإخراس ألسنة المعارضة على المستوى السياسي، كما حدث في ذبح محمود طه بالسودان، وفي أحيان أخرى استخدمتها المعارضة السياسية المرتدية للزي الإسلامي، كما حدث منذ سنوات قليلة في مقتل فرج فودة في مصر ثم محاولة اغتيال نجيب محفوظ، وأخيرًا ما حدث مع نصر أبو زيد.

وكانت القاعدة الثانية هي «لا اجتهاد مع نص»، والمقصود بالنص ذلك الواضح الدلالة القطعي الذي لا يختلف عليه اثنان وحوله لا تنتطح عنزتان، رغم ما نعلمه أن ذلك التوصيف بوضوح الدلالة والقطعية وعدم الاختلاف حوله؛ قد تبدل وتغيَّر ونُسخ وتفاعل مع الواقع، ثم جاء رجال كبار في تاريخ الإسلام فاجتهدوا مع نصوص من هذا القبيل بما يتعارض وما استقرت عليه الدلالة، حتى إنهم أكسبوه دلالات أخرى، وحتى وُضعت بهذا الاجتهاد تحريمات وأُلغيت محلَّلات، عندما مدوا الخط على استقامته ووعوا الدرس النبوي والقدسي في تجادل النص مع الواقع، واستفادوا من حواره مع المتغيرات وجدله معها زمن الدعوة، حتى إن الخليفة عمر أوقف العمل بحدود كما حدث في عام الرمادة، وحرَّم حلالًا كمتعة النساء، بل وأوقف العمل بفريضة كمتعة الحج، بل وأوقف العمل بنصوص واضحة كآية المؤلفة قلوبهم. كذلك فهم الخليفة «علي» ذات الأمر وأعلنه واضحًا في قوله: «إن القرآن لا ينطق بلسان بل ينطق به الرجال»، مطلِقًا بذلك حرية تعدد الأفهام حوله.

أما القاعدة الثالثة فكانت قاعدة شديدة الانتهازية وترتبط بمصالح ذوي السلطان ووسطائهم المحترفين من رجال الدين بوضوح وجلاء لا يقبل جدلًا أو مكابرةً، ووُضعت لتبرير مظالم بغيضة لأصحاب السلطان، ضد مصالح الناس والوطن والدين نفسه. وبهذه القاعدة كان — ولم يزل — يتم نزع الآيات من سياقها الداخلي لتمرير أشنع المظالم. ولا بأس من اللجوء في ظرف آخر إلى نقيض تلك الآيات لتبرير أمور هي على العكس تمامًا، نتيجة ما احتواه المصحف العثماني من تجاور للآيات الناسخة بجوار المنسوخة، وما يصح العمل بحكمه إلى جوار ما توقف العمل بحكمه، والتغطية الكاملة على هذا الأمر والتعمية عليه حتى يمكن استثماره وقت الحاجة.

وإبان ذلك يتم إلغاء دور الإنسان وفاعليته تمامًا في صياغة أي مأثور، وتُحال الثقافة جميعًا إلى عالم غيبي مفارق، ويدرَّب المسلم على الإفراط في تقديس كل قديم بكل رموزه الممتدة في الحاضر فيُصاب برهاب اليونيفورم المشيخي والعمامة، ويسلم له القيادة، مع تقديس لكل لحظة تاريخية ترتبط بأمر ديني، حتى اللغة ذاتها أصبحت مقدسة وتم تثبيتها عند زمن تواتر النص، ومُنعت من الحراك، وكُبِّلت عن التطور.

وأصبح النص القدسي مصدر كل معرفة ممكنة، حتى المعرفة بالذات وبالهوية وبالتاريخ الذي انقطعنا عنه بانقطاعنا عن لغته القديمة، وهي وعاؤه الحافظ، ففقدنا الذاكرة التاريخية، ومع فقدها توارى مفهوم الوطن والمواطنة خجلًا أمام مفهوم أصولي يؤكد دومًا أن الإسلام هو الوطن.

وتمحورت الأحكام على الفكرة، أو على السلوك، أو على الرأي، أو على الموقف السياسي، حول الحلال والحرام والإيمان والكفر، وليس بحساب مصالح البلاد والعباد، وليس حول الحكم بالصواب والخطأ العقلي والعلمي والعملي، وتحول المأثور إلى وسيلة للمعرفة بدلًا من أن يكون مادة للمعرفة والدرس تنقُله من مستوى الرأي المختلف حوله، إلى مستوى العلم الذي لا خلاف حوله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥