خاتم الأنبياء وبزوغ عصر العقل
أبدًا لم تأتِ سور القرآن الكريم وآياته دفعة واحدة في كتلة متماسكة مثل ألواح موسى عليه السلام، بل تتابعت مفرَّقة ومنجَّمة ليقرأه النبي على الناس على مُكث وعلى مهَل حسبما قررت آيات القرآن ذاتها. وقد استمر تواتر آيات القرآن الكريم على مدى ثلاثة وعشرين عامًا هي عمر ذلك الوحي بالمقاييس الزمنية البشرية.
ولأن تلك الآيات قد انضبطت حركتها الزمنية بشروط الزمن الإنساني وتكوين الإنسان ذاته، فانتهت بموت الوسيط البشري (النبي ﷺ) وتوقفت بتوقف زمانه على الأرض وشروطه الجسدية في علاقتها بالحياة وبالموت. وإبان تواتر آيات القرآن تواصلت تلك الآيات مع الواقع الإنساني الأرضي أخذًا وعطاءً في جدل ينفعل بالواقع ويفعل فيه، يتأثر بمتغيراته ويعود ليغير فيه، وهو ما يعني أن هذا النص الجليل لم يهمل الواقع وحراكه الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، بل عمد عمدًا إلى إبراز وإظهار تفاعله معه وتبدله بتبدل الظروف الإنسانية والموضوعية البحت، بكل ما للإنسان وبكل ما عليه؛ بغرض تأكيد دور الإنسان الفاعل في صياغة الواقع وصناعته، بل إن الجانب الإلهي في المقدس عندما كان يفعل في الواقع زمن الدعوة المحمدية، أبدًا لم يكن يفعل بتدخل إلهي مباشر، بل كان يفعل بواسطة البشر أنفسهم، وبذلك كان مشاركًا للإنسان والإنسان مشاركًا معه من صياغة الواقع ودفع الحراك التاريخي.
ومن هنا جاءنا الناسخ والمنسوخ والحديث القرآني عن آيات رُفعت، وأخرى بُدلت، وثالثةٍ مُحيت، ورابعة أُنسيت … إلخ، وهي أبواب معلومة في علوم القرآن، قامت على شهادة المقدس ذاته بما كان يحدث، لكن مثل ذلك الحديث سيبدو غريبًا لغير المتابع ولمن لا يقرءون في علوم دينهم وقرآنهم ويكتفون بتلقِّيها شفاهة، وعادة ما يكون مثل هؤلاء هم أشد الناس دموية ولا إنسانية وأعظمهم تعصبًا؛ لأنهم أشد الناس جهلًا بمقدسهم.
ثم إن هذا المقدس نفسه قد قرر على الناس مناهج مقدسة، وهي في حقيقتها مناهج إنسانية ورأي بشري ثبت صوابه فأقره الوحي، وكم من حالة أقر فيها الوحي آراء الصحابة مثل أبي بكر وعمر بوجه خاص! لذلك تجد مساحة الإنساني في القرآن الكريم هي المساحة الكبرى والفاعلية العليا، خاصة إذا لم تنسَ أن هذا المقدس لم يأتِ من أجل الله، فهو أجلُّ من الاحتياج لأي أمر كان، لكنه جاء من أجل الناس وصلاح معاشهم، ومن هنا جاء الجانب الإنساني ليغطي المساحة الأوسع من الآيات والأعظم، بينما كانت الإلهيات والغيبيات فيه التي هي محل تصديق أو تكذيب، إيمان أو كفر، قبول أو رفض، إما أن تؤمن بها أو لا تؤمن، فهي قليلة محدودة حتى أمكن صياغتها في جملة واحدة يمثلها قانون الإيمان الإسلامي «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر؛ خيره وشره.»
لكن عندما اجتهد مفكر مصري وقال إن النص القرآني بمفارقته لمصدره الإلهي قد تأنسن وأصبح ملكًا للبشر، قامت الدنيا ولم تقعد إلا على تنفير وتكفير وطبول حرب دينية ومحاكم ومحاكمات وأحكام تفريق وردَّة، كما هو معلوم، رغم أن آيات القرآن تتم قراءتها بلسان إنساني وحنجرة وشفتين، وتُرى بعين بشرية، وتتداولها الحواس بآلات إنسانية فيزيائية بحتة، بل وتختلف حولها الأفهام باختلاف المجتمعات الإسلامية وباختلاف المذاهب والرؤى، بل تختلف من شخص إلى آخر باختلاف الثقافات ودرجتها بين الناس.
كان هذا هو درس الوحي الأول والأخطر والأكثر تمييزًا للدين الإسلامي عن بقية الأديان، أنه مع التحرر ضد التسلط، ومع التغير والحركة ضد الثبات والجمود، ومع الإنسان وقوانين الواقع وشروط العقل، ضد كل المستغلقات والأساطير والألغاز والأحاجي والخوارق، وعندما كان يرِدُ حديث الخوارق والمعجزات كان يأتي من باب ضرب المثل للترغيب والترهيب لقوم هكذا كانت ثقافتهم، وهكذا كان منهجهم في التفكير، وهكذا كان مستواهم المعرفي.
أما التشريعات والأحكام فكانت هي ذلك المتغير الضروري الذي أثبت سمته المتغيرة والمتحولة زمن النبي نفسه مرات ومرات، كما في أحكام المواريث وزواج المتعة والموقف من الرق والموقف من الخمر … إلخ. ليعطي الدرس للمؤمنين به ألا يثبتوا عند منطقة زمكانية بعينها، فيتم تقديسها وتصبح مصدرًا لثقافة واحدة ثابتة لا تتغير. ليعطي الدرس أن تلك اللحظة الزمكانية وزمانها زمن الدعوة منذ ما يزيد على أربعة عشر قرنًا، ومكانها الحجاز وحده، لحظة بدء وانطلاق، وليست لحظة ثبات وجمود. أعطى الدرس بأنه جاء يفجر كل قيود المكان، فكان ملكًا للبشرية جمعاء، ويفجر كل قيود الزمان بدرس تغير الوحي مع متغيرات الواقع الأرضي. أعطى الدرس أنه مع المدينة ومع المدنية عندما أصبح اسم يثرب هو المدينة المنورة، وعندما هاجم كل نزعات الارتداد عن المدينة بهجومه الكاسح والمتكرر على الأعراب. وقد وعى المسلمون الأوائل ذلك الدرس، وكان الصحابة من الخلفاء الراشدين نموذجًا أولَ وعى هذه الحقيقة، فاعتبر مصالح الناس والبلاد وحدها هي سبيل الرشاد للأحكام والقرارات، حتى لو خالفت تلك الأحكام والقرارات العقلية الإنسانية نصوصًا إلهية، وهو ما تكرر بعد الخلفاء الراشدين في مواقف فريق المعتزلة المعلومة بين العقل والنقل.
وهكذا كان دفع النص القرآني الحثيث للمؤمنين به نحو التغير والتكيف مع مقتضيات الأحوال الأرضية، والأخذ بالعوامل الموضوعية والابتعاد بالناس عن منهج الخرافة والتواكل وانتظار الخلاص السماوي. وقد صحب ذلك الدرسَ النظري دروس عملية في أكثر من موقف حاسم إبان زمن الدعوة ذاته. بل كانت تلك الدروس العملية تحمل قدرًا شديدًا من القسوة والردع لنزعة الثبات والتواكل لتأكيد منطقها الإنساني والموضوعي والعقلاني. فجاءت غزوة بدر الكبرى لتعطي درسًا أمثل للمؤمنين؛ فعندما راعوا الظروف الموضوعية للمعركة، ودرسوا مواطنها واختاروا مواقعهم وأرسلوا الجواسيس والعيون لأخذ الأخبار عن عدوهم (دون انتظار للملاك جبريل)، وتهيئوا عسكريًّا وتدربوا تدريبًا كافيًا، انتهى الأمر بنصرهم نصرًا عزيزًا، وعندما ركنوا إلى التدخل السماوي بالملائكة في غزوة أحد، وأهملوا شروط الواقع الموضوعية أُصيبوا بهزيمة شديدة المرارة كادت تفصل في مصير الدعوة الإسلامية سلبًا. وهكذا صحب الدرسَ النظري التطبيقُ العملي في درس واضح البلاغ والبيان والإفصاح المبلغ المبين.
أما الأشد إفصاحًا وأنصع جلاءً فهو القرار الإلهي الرفيع بأن النبي محمد ﷺ هو آخر حلقة من حلقات تدخُّل السماء في حياة الناس على الأرض. فوصف النبي ﷺ بصفة اصطلاحية تحمل كل تلك المعاني، فهو النبي الختم والنبي الخاتم.
والختم هو ضمانة توثيق العهد ونهايته بعد أن استوفى جميع شروطه وبنوده؛ وبذلك يكون الختم هو خاتم العهد واستيفاءه شروطَ الصدق وبنوده. ويصبح نبي الإسلام هو ختم العهد السماوي مع الأرض بكونه كان آخر رسالة تواصل للسماء مع الأرض بعد تواصلها مع الإنسان عبر زمن وتاريخ طويلَين قامت خلالهما بتوجيه وتصحيح السبل والمناهج الإنسانية وليست السماوية. حتى جاء النبي الخاتم كآخر حلقة في تلك السلسلة من التدخلات السماوية في عالم الإنسانية. لقد بلغت الإنسانية سن الرشد وعليها من تلك اللحظة التاريخية الزمكانية أن تعتمد على نفسها ولا تنتظر تدخلًا سماويًّا آخر. جاءت لتعلن انتهاء التدخل الإعجازي السماوي وبداية عصر العقل الإنساني على الأرض، والعقل هو بضعة من العلم الإلهي والروح القانوني الكوني، وهو رمز الله في الإنسان، هو سر الإبداع والإنتاج والتوافق مع النواميس الكونية المتحركة التي لا تعرف الثبات. وبهذا العقل أو الأمانة التي حملها الإنسان استحق الخلافة على الأرض كنموذج للإبداع الإلهي فيها رمزًا عليه، وعلى اقتداره واتساقه بذاته مع القوانين التي وضعها بنفسه، وضمن تلك القوانين: الاتساق وعدم التناقض، والله لا يتناقض مع قوانين هو واضعها، وتلك القوانين هي التغير الأبدي؛ لذلك جاءت دروسه للإنسان كي يعي قوانين التغير في الكون، من هنا كانت دروس الإسلام النظرية والعملية التي جاءت تؤكد بدء عصر العقل والإنسان على الأرض، وأنه قد بلغ سن الرشد، وآن أوان اعتماده على ذاته وعقله ومناهجه وتجربته الإنسانية، بعد أن اختتمت السماء شروط عقدها مع خليفتها على الأرض بمجيء آخر تواصل للسماء مع الأرض؛ النبي محمد ﷺ خاتم الأنبياء والمرسلين، وانتهاء عصر المعجزات.