الفصل الثامن

السؤال الآخر: الإسلام والقضية الإسرائيلية

«اتبعوني أجعلكم أنسابًا، والذي نفس محمد بيده لتملكن كنوز كسرى وقيصر.»

كان ذلك نداء النبي يجلجل في مكة يعِدُ من يتبع صاحبه بكنوز عظمى وفتوحات أعظم، وقد ظل هذا النداء يتكرر حتى بعد قيام دولة الرسول النبوية الصغيرة في يثرب، خاصة في المناطق الصعبة، وهو ما حدث في غزوة الخندق والمدينة محاصرة بالأحزاب قد يدخلونها على أهلها بين فينة وأخرى، وساعتها أعلن الرسول وعده للمؤمنين أن الله قد فتح عليه بلاد الفرس وبلاد الروم، وهو ما دعا مسلمًا أنصاريًّا هو «معتب بن قشير» ليعقب في المساحة الواقعة بين الوعد وبين واقع الحال، فيقول: «كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط!» وكما هو واضح رد ساخر ينعى همًّا حاضرًا لا ينبئ بمثل ذلك الوعد العظيم. لكن خط سير التاريخ كان مع صاحب الدعوة وأمله الكبير.

كانت مصر وساحل أفريقيا مع فلسطين وبلاد الشام جميعًا تقع حينئذٍ تحت ظل عرش قيصر الروم، بينما كانت العراق وما والاها شرقًا تقع تحت مظلة كسرى الفرس، وكل الدلائل تشير إلى فراغ سياسي واضح ناتج بالضرورة عن انهيار قوى الإمبراطوريتين بعد حروب دامت وطالت، ولا بد أن تملأ هذا الفراغ قوة جديدة.

وقد وعى عرب الجزيرة الدرس وقرءوه بإمعان وأدركوا دورهم التاريخي المنتظر، فكانت دعوة النبي ، وكان الوعي النافذ لرجل من سادة الملأ القرشي عظيم، هو الشيخ «عتبة بن ربيعة» الذي كللت السنوات رأسه بالحكمة، فقرأ خطوات التاريخ المقبلة قراءة واضحة بوعي ضفره موقعه القيادي في دار الندوة، فقام يحدد موقف الملأ القرشي من محمد ودعوته بندائه: «يا معشر قريش أطيعوني وخلوها بي وخلوا بين هذا الرجل وما هو فيه فاعتزِلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم. فإن تُصِبْه العرب فقد كُفيتموه بغيركم، وإن ظهر على العرب فملكُه ملكُكم وعزُّه عزُّكم وكنتم أسعد الناس به.»

وهنا يطفر السؤال: هل كان معلومًا لدى صاحب الدعوة، وفي خطة الوحي، أن بلاد الحضارات الشرق أوسطية القديمة، مثل مصر والشام والعراق، ستقع ضمن حدود الدولة الإسلامية الإمبراطورية المنتظرة، وأنها ستتحول تمامًا لتصبح دولًا عربية تتبنى العروبة لغة وثقافة وقومية بل وربما عنصرًا؟

المشكلة أننا لو سلَّمنا بذلك لوقعنا في مأزق حرج بين ما يطلبه الإيمان وما تطلبه همومنا الوطنية والقومية، فنحن اليوم في أزمة حضارية طاحنة تستدعي تمسكًا شديدًا بالهوية مقابل الآخر الغاضب المتفوق، والهوية في مصر مصرية تضرب بجذورها آلافًا من السنين في أزمنة غوابر، والهوية في العراق عراقية تضرب بحضاراتها المتعددة من آكد إلى بابل وآشور في عمق الماضي فحازت العراقة لاسمها، وبلاد الشام بدورها لا يقل وجودها الحضاري القديم عن شأن جيرانها، ثم يجمع هؤلاء جميعًا رابطة العروبة التي تحققت خلال قرون بعد الغزو العربي لها، لكن مكمن المشكلة أن اعتزازك بذلك القديم العريق الذي يحفظ لك التماسك النفسي والروحي، ويضمن لك عدم فقد الذاكرة التاريخية، سيتصادم فورًا مع موقف الوحي القرآني الذي كرَّم بني إسرائيل تكريمًا مقارنًا طوال الوقت بأصحاب تلك الحضارات، مع تسفيه هذه الحضارات لصالح التاريخ الإسرائيلي؛ لأنه يعتمد في موقفه على الإيمان والكفر وحدهما، وكانت تلك الحضارات حضارات كافرة برب الشعب الإسرائيلي؛ لذلك يغرق فرعون مصر وقومه المجرمون في لجج بحر ينشق بالعصا الحية؛ لأنه كفر برب موسى وهارون الإسرائيليَّين، وينهار برج بابل فوق نمرود وقومه؛ لأنه جادل الحق الذي جاء به الخليل إبراهيم أرومة العبريين، ويموت جوليات الفلسطيني قتيلًا وهو يدافع عن أرضه ضد الاستيطان الإسرائيلي لبلاده بقيادة الملك داود؛ لأن جوليات كان بدوره كافرًا. ومن هنا تطرأ الأسئلة الملحة والمشروعة إيمانيًّا ووطنيًّا وقوميًّا، التي تفرضها متغيرات واقع الأحوال منذ جاءت هذه المواقف وحيًا مع بدء دعوة النبي حتى الآن، أسئلة تبحث عن السواء النفسي والاتساق مع الذات ومع الإيمان ومع منطق الأحداث. تبغي التمدد في هويتها العريقة احتماءً وتماسكًا، وتريد في الوقت ذاته احترام المقدس وقراره؛ حتى تطمئن إلى ما وقر في القلب حتى يصدقه العقل ويطابقه العمل. وحتى يمكن ذلك سنحاول قراءة حركة التاريخ على مستويين: الحركة الأولى إبان تواتر الوحي في مكة والمدينة حتى وفاة الرسول وتوقف الوحي. والحركة الثانية منذ توقف الوحي، حتى الآن.

(١) وقائع الحركة الأولى

وعلى محور الحركة الأولى نطالع الدعوة الناشئة في مكة وهي في بدئها تبحث عن ملاذ وحلفاء وأتباع، وتمثَّل هذا البحث في سعي صاحب الدعوة إلى كسب الولاء لدعوته، بعرض نفسه على شتى القبائل، وعلى المستوى الاستراتيجي كان أهم نقطتين يجب التركيز على حلف أحدهما يتمثل في مدينتين تقع كلتاهما على الخط التجاري الدولي الذي يمسك بعنان تجارة عالم ذلك الزمان. المدينة الأولى هي الطائف التي تقع على عصب طريق الشتاء اليمني، والثانية هي يثرب الواقعة عند عنق طريق الإيلاف الصيفي إلى الشام.

وبحكم المصالح التجارية المشتركة التي تربط أهل الطائف بالأرستقراطية التجارية المكية، رفضت الطائف عرض التحالف مع الدعوة الجديدة، وبالمنطق نفسه، منطق المصالح، قبلت يثرب حلف صاحب الدعوة، بعد أن دفعها إلى ذلك أمران:

الأول: أن قريشًا قد أسقطت يثرب من حسابات مكاسبها التجارية؛ نتيجة لضعف يثرب الشديد بعد مجموعة الحروب الأهلية التي دارت بين بطونها وأحلافها، حتى لم يعُدْ بإمكانها القيام بفعل مناسب على طريق الإيلاف الشامي للضغط على قريش؛ حتى تنال نصيبها من تلك المكاسب التجارية الهائلة. وقد رأت يثرب أن التحالف مع صاحب الدعوة هو الفرصة المثالية للوقوف ندًّا لمكة التجارية، بل وتشكيل تهديد حقيقي تمثل في قمته في قطع الطريق التجاري تحت قيادة زعيم قرشي من قريش ذاتها، قريش مكة التي سبق وأهملت يثرب من معادلتها الاقتصادية.

أما الأمر الثاني الذي دفع يثرب إلى هذا التحالف أو ساعد عليه بالأحرى، هو خئولة النبي وآل هاشم في بني النجار من الخزرج اليثاربة، تلك الرابطة القرابية التي دعت الأخوال في يثرب إلى استقبال ابن رحمهم الهاشمي، وفتح مدينتهم له لتكون نواة الدولة وعاصمتها المقبلة. ولا يغيب علينا دور الإيمان العظيم لأهل يثرب بالدعوة الجديدة، وهو الإيمان الذي هيأهم له معاشرتهم لفكرة التوحيد الإلهي عبر أهلها من يهود يثرب، لكن ذلك تحديدًا كان سببًا في جعْل يثرب مدينة إشكالية؛ لوجود العنصر اليهودي بها؛ مما استدعى، في التعامل معها، تكتيكًا من نوع خاص، أراد به الله إعطاء الدرس الموضوعي للمؤمنين.

•••

من نافلة القول التأكيد أن يهود يثرب إنما كانوا عربًا بكل معنى الكلمة، فقط كانوا يَدينون باليهودية. ومثلهم مثل بقية يهود الشتات كانوا ينتظرون نبيًّا من بني إسرائيل، يعيد لإسرائيل مجدها ويقيم لها دولتها الغابرة التي أنشأها داود وولده سليمان، على أن يكون هذا الآتي من نسل تلك الشجرة، وحين ظهوره سيمسح بالزيت المقدس مسيحًا ليقيم عمد دولته ويعيد بناء الهيكل الذي دمره طيطس الروماني عام ٧٠ ميلاديًّا.

وقبل ذلك بزمان عانت الدولة السليمانية من قوة جيرانها، فقد وجه الفرعون شيشنق لها أولى الضربات زمن رحبعام بن سليمان، ثم تبعه الآشوريون الذين قضوا على النصف الشمالي من دولة إسرائيل، لينهي الأمر نبوخذ نصر البابلي باحتلاله نصفها الجنوبي وسبي أهله. وهنا لم يبقَ أمام أنبياء شعب الرب سوى استمطار اللعنات على أعداء إسرائيل المتمثلين في حضارات المنطقة القديمة، والتنبؤ بانتقام سيقوم به الممسوح المسيح الآتي بعد أن يقيم دولة إسرائيل على أنقاض دول المحيط المعادي لها، ومن هنا كثرت نبوءات الكتاب المقدس بنبيِّ آخِر الزمان الآتي من سجف الغيب.

وعندما ظهر النبي محمد في مكة، أرسل إعلانه يدوِّي بين فيافي الجزيرة ليصل من يهمهم الأمر، يؤكد أنه نبوءة موسى وبشرى عيسى، وأنه أحمد النبي المنتظر. وتم دعم ذلك بقصة الذبح التي كاد يتعرض لها أبوه عبد الله لتتناغم مع قصة الذبح التي كاد يتعرض لها إسماعيل بن إبراهيم، حيث كان الذبح علامة على التواصل مع السماء. وقد تم تعويض ذلك الذبح في اليهودية بذبح شاة أو بذبح جزئي للطفل بجراحة الختان، التي أكدت التوراة أنها بصمة العقد الذي تم بين إبراهيم ونسله وبين الله، وبموجب هذا الختان/الختن/الختم تم توثيق العقد والوعد بوراثة النسل الإبراهيمي الإسرائيلي للأرض ما بين نهر مصر إلى نهر الفرات.

ولكن لأن شرط النبوة التوراتية أن تكون في بني إسرائيل، ولأن النبي محمد ليس من بنى إسرائيل، فقد أمكن إيجاد الصلة مع الوعد بإرجاعه ليس إلى يعقوب المسمى بإسرائيل، لكن إلى الأب الخليل صاحب الوعد والعقد الأول، إلى إبراهيم نفسه. وحيث إن إسماعيل كان أول من اختتن قبل شقيقه إسحاق، أمكن القول بإمكان مجيء نبي آخر الزمان من الفرع الإسماعيلي، دون شرط اقتصاره على الفرع الإسرائيلي من نسل إبراهيم. وهكذا تم ربط صاحب الدعوة بالمشروع الإسرائيلي؛ ليكون محقق الوعد لكن عبر النسل الإسماعيلي. وهو الأمر الذي وعاه مؤرخونا الأوائل وعبروا عنه بهذا المعنى.

•••

لا زلنا على محور الحركة الأولى التي حددت علاقة النص المقدس بواقع الأحداث التي أصبحت تاريخًا، إبان تواتر الوحي في مكة وقبل الهجرة إلى يثرب، في دفعات متتالية من الآي القرآني الكريم للتأثير في يهود يثرب؛ توطئةً لهم لقَبول دعوة النبي، بل وقبوله هو نفسه في يثرب. فجاءت آيات الكتاب الكريم تتحدث عن مكانة بني إسرائيل في التاريخ السياسي والديني للمنطقة، وكيف فضلهم الله على العالمين، مع تأكيدِ أن محمدًا إنما هو استمرار للنبوات المتوارثة في البيت الإبراهيمي، مع تكرار لقصص أولئك الأنبياء منذ نوح وإبراهيم عبورًا على إسحاق ويعقوب والأسباط، وانتهاء بداود وسليمان وعيسى، باعتبارهم كانوا توطئة لخاتم النبوات. ومن جانبها كانت الأحاديث تؤكد أن محمدًا كان غرة بيضاء في جبين آدم تناقلتها أصلاب الأنبياء والطاهرين التي شخصت بميلاده.

ومن هنا جاءت الآيات تترى تؤكد ليهود يثرب الذين يترقبون إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ (المائدة: ٤٤)، إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ (الصف: ٦). مع احترام واضح حتى للتفاصيل التوراتية الصغيرة وتوقيرها والإشارة إليها في الآيات، كذكر شعيرة اليهود المقدسة التي كانوا يحملون بموجبها تابوتًا يعتقدون أن ربهم يرقد بداخله، وجاء ذكر هذا التابوت في الآيات: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ (البقرة: ٢٤٨)، أو مثل كتابة الله للتوراة (بإصبعه فيما تقول التوراة) على ألواح الشريعة: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً (الأعراف: ١٤٥). ثم تلا ذلك الموقف العملي للنبي عند حلوله كريمًا على يثرب لتستنير به وتحمل اسم مدينة الرسول المنورة؛ فقد استقبل مع أتباعه قبلة اليهود في الصلاة، بل وصام معهم يوم كيبور/الغفران/يوم غرق المصريين وخروج بني إسرائيل من مصر، ثم عقد الصحيفة مع يهود يثرب للتعاون والدفاع المشترك، مع كفالة تامة لحرية الاعتقاد، وإعلان عدم التناقض العقدي بين ديانة يهود وبين ما جاء به محمد، وهو ما تنطق به آيات كثيرة من قَبيل: وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ (البقرة: ٩١)، وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ (البقرة: ١٣٩). وكان ذلك بالنسبة ليهود يثرب لونًا من ممكنات مستقبلية تحول مركز الجزيرة وقلبها عن مكة إلى يثرب، وما سيعود نتيجة ذلك من منافع عظيمة، لكنهم أبدًا لم يروا في محمد النبي الإسرائيلي المنتظر، بينما كانت خطوات النبي تلك تسجل على الجانب الآخر تباعدًا مؤقتًا عن أهل مكة؛ في إنذار واضح لقريش كي تغير موقفها وتستمع إلى التاريخ وهو يحث خطاه نحو تغير التكتيك من أجل سيادة عربية بقيادة قرشية مقبلة.

•••

وبمرور الوقت لم يبقَ وداد الود على حاله؛ فقد استمر يهود يثرب يهود دون اندماج كامل يضمن لدولة المدينة تماسكها، ثم تأتي غزوة بدر الكبرى لتضع بيد المسلمين القوة المادية سلاحًا ومالًا، وتمنحهم الثقة النفسية والقوة المعنوية، وهكذا آذن فجر الأيام البدرية بمغرب مرحلة آن لها أن تغرب. وأخذت آيات القرآن تترى تحمل روح سياسة جديدة، تنسخ ما قد سلف من حرية اعتقاد سُمح بها في ظرفها، آتية بجديد يوطئ لخلاص يثرب الكلام لدولة الإسلام؛ لأن الدين قد أصبح عند الله فقط هو الإسلام: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ (آل عمران: ١٩)، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ (آل عمران: ٨٥).

وأخذت الجفوة في الاتساع لتتحول إلى عداء جَهير صحِبته معارك طاحنة انتهت بخروج يهود من يثرب نهائيًّا، مع إيضاح جديد تحيطنا به الآيات علمًا في قولها: مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ (النساء: ٤٦). وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ (البقرة: ٧٥)، ناهيك عن تقرير القرآن أن القائلين بأن الله ثالث ثلاثة قد كفروا، قد صحبته معلومة لم تكن معلومة بالتوراة، وهي أن يهود تقول عن الله الذي لم يلد ولم يولد إنه قد أنجب عُزيرًا ابن الله.

هكذا كانت حسابات الجدل المتفاعل بين صدق الواقع وبين الوحي الصادق الذي طابق الواقع وتحرك معه في درس عظيم من البرمجة والتخطيط، بدأ على أمر وانتهى إلى أمر، وقفت بعده دولة الرسول موحدة شامخة بعد الخلاص المنكر الإيماني الحي لدعوة الرسول، يهود يثرب.

لكن ما علاقة كل هذا بسؤالنا التأسيسي عن أزمة مؤرقة بين ما يمليه الاعتقاد وبين همومنا القومية والوطنية؟ الإجابة رغم وضوحها فإنها سيبين فيها الخيط الأسود من الخيط الأبيض مع قراءة المحور الثاني للحركة، التي تبدأ من وفاة الرسول وتوقُّف الوحي حتى الآن.

(٢) وقائع الحركة الثانية

عملًا بخطة الرسول التي استنَّها بنفسه قبل رحيله إلى عالم البقاء، قامت الخلافة من بعده بحروب الفتوحات الكبرى التي انتهت بإدخال دول غير عربية تحت مظلة الدولة الناشطة، بل وتم استعراب سكان البلدان المفتوحة لغة وثقافة وعقيدة ومنهج حياة، فكان أن دخلت في ضفائر العروبة بلدان ذات حضارات عريقة، كان لها مواقف عدائية مع اليهود الغوابر، وتتلو في مقدسها مواقف تشين جذورها الحضارية وتقتلعهم منها، عبر الإيمان بكفر أصحاب تلك الحضارات من أجداد كانوا لنا عنوان الفخار، مع وجوب الإيمان بصدق الآخر الإسرائيلي وتبجيله إزاء الوطني العريق. خاصة مع مرور زمان تمكن فيه يهود العالم من إقامة مجد داود وسليمان في أورشليم مرة أخرى باقتطاع أرض عربية من أهلها لصالح شعب الرب والدولة الموعودة بالكتاب المقدس.

لقد كان الموقف قبل انجلائه في بدر، يسعى لتأكيد العلاقة مع التوراة وأصحابها، بسرد القصص التوراتية في آيات قرآنية تؤكد صدق نبوة النبي ليهود يثرب، وضمن تلك القصص تم تكفير حضارة مصر ممثلة في قوم فرعون الذين أجرموا في حق بني إسرائيل؛ فغرقوا عقابًا واستحقاقًا، كما انتصرت الآيات للملك داود الإسرائيلي وهو يقتل جالوت الفلسطيني ويقيم على أنقاض الفلسطينيين دولة إسرائيل، ثم تم الوقوف من حضارة العراق القديم ذاتَ الموقف؛ لأن ملكها النمرود جادل إبراهيم أرومة العبريين في أمر ربه؛ فاستحق هو وإلهه دمار برج بابل والعذاب.

السؤال الملحاح لا يتحرج ولا يتراجع عن الاجتزاء الحر يتساءل: ألا يكفر هذا الموقف فينا نصف هويتنا إن لم يكن معظمها، ويكفر الأسلاف والتاريخ، ويقطع مع الماضي، ويفقدنا الذاكرة الوطنية؟ وإذا كانت خطة الوحي قد استدعت نسخ مصالحة يهود وكل ما ارتبط بها من آيات، لكن الحكمة الإلهية لصالح الموقف الجديد المعادي لليهود، لم تُدخل ضمن خطة النسخ بقية البنود المرافقة لقصص مثل قصص فرعون وجالوت ونمرود، لكن ألا يشرخ ذلك في الذات القومية تجاه الآخر المعادي المتفوق المحتل؟

فكيف نحل هذه الإشكالية دون أن نستهين بأي عنصر في ديننا الحنيف الجليل، ودون أن نفقد تواصلنا مع أصولنا الحضارية التي تشكل هويتنا؟

لا أتصور حلًّا يليق بجلال الوحي وتوقيره سوى إعادة قراءته غير منزوع من سياقه مرتبطًا بواقعه وأحداثه؛ لنعلم حكمة السبب؛ حتى لا يتصادم الإيمان مع العزة الوطنية بأسلافنا العظماء، ولا يتضارب الوطني مع القومي، ولا يتناقض القومي مع الإيماني.

وهذا النوع من القراءة هو وحده الكفيل الآن برفع الالتباس في علاقة الإيماني بالقومي، أو ما يمكن تسميته فك اشتباك، ومن جانب آخر يحقق مصلحة ضرورية هي رفع الانتهازية والاستخدام النفعي للدين ونصوصه حسب مصالح ذوي النفوذ، فنحارب إسرائيل بآيات ونصالحها بآيات، ونبني الاشتراكية بآيات ونفتح المجتمع الحر على السوق بآيات، وبحيث يظل النص القرآني في مكانه اللائق من ثقافتنا، دون مصادمات تفرز الأسئلة الصعبة، وربما نكون قد أصبنا، وربما نكون قد أخطأنا، لكنا نحاول لوجه مصر ولوجه الله، ما نبغي سوى الفهم، وهو مطلب إنساني طبيعي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥