الثقافة الصالحة لكل زمان ومكان حكمة تحتاج إلى مراجعة
الإيمان هو التسليم والقبول والتصديق بموضوعات لا تخضع للدرس والنظر العقلي أو التجريبي، فهو تسليم بغيب أخبر عنه صاحب الدعوة، وهذا التصديق يُعَد مقياسًا للالتزام بالديانة من عدمه، وصلاح الإيمان من فساده. ونموذج ذلك في الإسلام ما أخبر عنه القرآن الكريم، أو ما ورد في شكل أحاديث منسوبة للنبي محمد ﷺ، مثل التسليم والإيمان بوجود إله كامل مفارق للمادة خالد أزلي أبدي، وبرسالات سبقت دعوة نبي الإسلام، وبآيات إعجازية كبرى حملها الأنبياء والرسل كدلالة صدق تكسر قوانين الطبيعة؛ لأنها لا تخضع لنواميس العقل ومنظومته وقواعده، ومثل التسليم بوجود كائنات مجنحة نورانية تسكن السماء وتحف بعرش الإله ويحمل ثمانية منها ذلك العرش، كل تلك وغيرها كثير من الغيبيات هي من شروط الإيمان، هي موضوعات لا تقبل البحث والبرهنة عليها، ومناقشتها من الأمور غير الممكنة؛ لذلك هي محل تصديق أو تكذيب، إيمان أو رفض، فإن صدَّقتها دخلت في زمرة أتباعه لتسليمك بها إيمانًا بصدق المبلِّغ بها والداعي إليها، وإن رفضتها لا تدخل في زمرة هؤلاء. هي موضوعات محلها القلب والوجدان والضمير الداخلي، هي محل قبول أو رفض، يصلح دومًا عرضها على الناس الأمس واليوم وغدًا، وتصح الدعوة إليها في أي مكان؛ لأنها لا تطلب سوى التصديق القلبي والإيجاب والتسليم والانقياد، بإيجاز: هي قابلة للعرض على الناس في كل مكان وزمان.
ومثل تلك الغيبيات موضوع الإيمان يمكنك أن تجدها في أي كتاب مقدس في أي دين؛ لذلك سُمي دينًا، ومثل هذا المقدس في أي عقيدة، أمر يعتقد أتباعه ومن آمنوا به أنه صالح دومًا وأبدًا لكل مكان ولكل زمان. ومثل هؤلاء جميعًا يعتقد المسلمون أن القرآن الكريم صالح لكل مكان وكل زمان؛ باعتباره كلمة الخالق الأزلي المبدع التي لا تقبل تبديلًا. لكن ذلك لم يمنع المدارس العلمية من مناقشة الكتب المقدسة والتعاطي معها بالعقل وقوانينه وبمنهج العلم وشروطه، حتى أصبحت مدارس نقد الكتب المقدسة مرجعًا لا غنَى عنه اليوم في جامعات العالم، خاصة المتقدم، للباحثين في شتى التخصصات، سواء على مستوى درس البعد التاريخي للنصوص أو أصولها الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية.
ورغم أن القاعدة تفترض صلاحية النصوص المقدسة لكل مكان وزمان بذاتها وبمحتواها وقوتها الذاتية؛ فإن التقدم العلمي الهائل والمتسارع، إضافة إلى التطور الاجتماعي والسياسي الذي شهدته المجتمعات الإنسانية، أوجد مساحة ضخمة بين ثقافة ثابتة وتصلح رغم ثباتها لكل المتغيرات، وبين ما يحدث في واقع الحال فعلًا من تباعد واضح من جانب منهج التفكير العلمي عن تلك الثقافة الثابتة، بل أصبحت فكرة الثقافة الثابتة الصالحة دومًا فكرة خارجة عن مفاهيم العلم وشروطه وعن قوانين العقل ومنظومته.
(١) الإسلام دين الحراك
لكن الحال مع الدين الإسلامي يختلف اختلافًا بيِّنًا، حيث بدأت محاولات التوفيق بين العقل والنقل مبكرة جدًّا في مدارس العرب، وأدت إلى نشوء فرق فلسفية تم تصنيفها جميعًا تحت عنوان مدرسي واحد لعلم جديد هو «علم الكلام». ونادرًا ما أُهدِرت دماء مسلم لاختلاف حول أمر من شئون المقدس، قد أرست مدارس علم الكلام أقدامها بثبات منذ فجر الدولة الإسلامية، مما فتح أبواب الاجتهاد على مصراعيها، حتى انتهت مدرسة المعتزلة إلى ترجيح حكم العقل إذا تعارض أو اختلف مع نص. وكانت تلك المدارس — والمناخ السائد الذي أدى إلى طمأنينة وسلام أفرزها — رحمة بالمسلمين، إذ تم إرساء حق الاختلاف حول أمور الدين مبكرًا، بحسبان الإسلام تحديدًا ملك جميع المسلمين وليس فيه أية سلطة كهنوتية تفرض رأيًا بعينه في فهم النص دون فهم آخر، ومن ثم فقد أمسى راسخًا لكل مسلم واعٍ واجب الاعتراف بحق تعدد الأفهام حول النصوص، وأصبح هذا الحق متاحًا للجميع على اختلاف مذاهبهم ومعارفهم.
وإذا كان ضمن عناصر المقدس موضوعات لا تقبل المناقشة هي الغيبيات، فإنه يحتوي ما يتعلق بالشرائع ومعاش الناس ومصالحهم، وهو الجانب الذي نصر على أن نطرح بشأنه أسئلتنا الأخرى، مع الابتعاد عن مناقشة الغيبيات، رغم أن مناقشة الغيبيات ذاتها ليست ممنوعة ولا هي مناطق محرمة، ولم يتوقف الباحثون المسلمون الأوائل عند الجانب المتغير بتغير الزمان والمكان، وهو الجانب الحقوقي في الشرائع، بل تجاوزوا ذلك إلى بحث موضوعات الإيمان الغيبية، بل وتم بحث ودرس ومناقشة وجدل واختلاف عظيم حول أمور بحثية هي من الغيب المطلق، مثل ذات الله وصفاته، وهل هي حقيقية أم مجازية؟ وهل القرآن مخلوق محدَث أم قديم أزلي؟ لكن ذلك كان زمن القوة والاقتدار، زمن العزة والوثوق بالذات، عندما كانت الأمة عفيَّة صبية قوية لا تخشى على ذاتها من حرية البحث بل وحرية الاعتقاد. لكننا نسمع اليوم كلامًا غير الكلام، ودعوة للعودة إلى سلف دون سلف، وإلى موقف منتقًى دون آخر، كما لو كان أسلافنا من باحثين عقلانيين ليسوا ضمن هؤلاء الأسلاف، رغم أنهم كانوا دومًا مصدر اعتزازنا وفخارنا. ونرى مواقف آنية تشير إلى حالة مستعصية من الخصاء الذهني المشتبك مع ذهان عقلي واضح، تُسفك بموجَبها دماء بريئة باسم الدين والقرآن، ويحاكَم الناس على رأي أو قول، بل ويحاكَمون في الأغلب على ضميرهم ونواياهم. ويصدر الأمر بالتنفيذ!
ولعل السبب الواضح هو حالة الانحطاط والتردي التي وصلنا إليها بين أمم العالمين، فكان رد الفعل هو التمسك الشديد بالذات، وبعدما فقد الإنسان علاقة الأمان مع الوطن تحولت الهوية من الوطن إلى الدين، من باب تجميع أكبر حشد من الأنصار والمؤيدين خارج إطار حدود الوطن. وتحولت تلك الهوية الدينية نحو المفهوم القبلي، وحيث نتحدث عن بشر دون الحديث عن حدود وطنية، فنحن نتحدث عن منظومة قبلية؛ فالقبيلة وحدها هي التي تتحرك باستمرار ولا تعرف أية حدود، وبالتالي ليس لها وطن بعينه؛ لذلك استبدلت من فجرها مفهوم الوطن بمفهوم الحِمى الذي يتحرك معها أينما تحركت، مفهومًا معنويًّا وليس ماديًّا، يرمز له سلف القبيلة البعيد وسيدها القديم الذي عادةً ما يكون هو ربها الضامن عزتَها وتماسكها اللزج الضروري إزاء تحركها الدائب وغير المستقر. لذلك كان استبعاد الوطن كهوية والإبقاء على الدين وحده يحيل بالضرورة إلى الشكل القبلي والفهم القبلي لتجميع الأمة متعددة الأوطان في قبيلة واحدة، يكون الخروج عليها إضعافًا لها، وبقوانين القبيلة العتيدة القديمة يكون هذا الخروج جريمة تستوجب التصفية والاستبعاد من دنيا الأحياء، والمشكلة تكمن في تكييف شكل هذا الخروج، ولأنه عادة ما يتم تكييفه قانونيًّا، فإنه يكون عرضة للتطرف في الفهم والحكم، ويصبح أي قول أو مناقشة مدعاة لنعته بالخروج، وبالتالي للحكم والتنفيذ.
(٢) الشخصية الثقافية الثابتة
وقد اتخذ التمسك بالهوية خشية الذوبان في الآخر المتفوق وثقافته شكل الشخصية الثقافية القديمة الثابتة المقدسة، لنكون شعبًا مقدسًا يتحد بالله القوي، ألسنا خير أمة أُخرجت للناس؟ وبذلك يمكن مواجهة الآخر القوي وثقافته المتغيرة دومًا بثقافة لا تتغير أبدًا.
ولأن العلم المتقدم بكل منتجاته وكشوفه واختراعاته المبهرة قد ساعد الدول التي تم تصنيفها معادية، بل معادية للإسلام تحديدًا، فقد تحول هذا العلم في نظر أصحاب الرؤية الثابتة إلى شيطان مَريد مقتدر يساعد الآخر على التفوق؛ كراهيةً في الإسلام. ومن هنا كان المزيد من التمسك بالشخصية الثابتة والهوية الدينية لإقامة حزب الله في مواجهة حزب الشيطان أو حلف العلم، ولأن الواضح والظاهر أن حزب الشيطان هو المتفوق حتى الآن، فإن النبوءة هي أن حزب الله هو الغالب بالتأكيد، مع محاولة استيهامية مريضة تؤكد دومًا أنه حتى هذا العلم قد تمت معرفته لدينا قبلهم عبر معرفة ربنا بكل تلك العلوم قبل أن يكتشفها العلم الغربي، وأنها محفوظة في كتاب الله من الأزل.
وإعمالًا لذلك قررنا الوقوف عند لحظة زمكانية، زمنها هو لحظة تواصل السماء مع الأرض منذ ما يزيد على أربعة عشر قرنًا، ومكانها بلاد الحجاز من جزيرة العرب. وتم تثبيت كل الزمن الماضي والزمن الحالي والزمن الآتي عند تلك اللحظة؛ لنتجاوز التخلف الحالي بتفوق قديم تمثَّل في ذلك الدين القويم الذي أقام للعرب دينًا ودولة ودنيا وإمبراطورية سامقة. غير مدركين أن الدنيا بعد تلك اللحظة قد تحركت تحركًا هائلًا وعظيمًا. ودون أن ندرك أن ذلك التفوق القديم كان قياسًا على زمنه وعصره، وأن الوقوف عند كل تفاصيله الدقيقة وتثبيتها ثقافةً لليوم؛ هو التخلف ذاته. ولا نرى أن موقفنا اليوم من التغير والحركة مع المتغيرات هو ذات موقفِ مَن عارضوا الدعوة الإسلامية في فجرها وقالوا: هذا ما وجدنا عليه آباءنا. وغير مكترثين بالتناقض الصارخ بين القول بثقافة ثابتة وبين الموقف الواجب اتخاذه لصلاح حالنا الراهن، كما تتناقض مع رغبة دفينة في التغير وملاحقة الزمن، نبغي تطويع الكون المتغير لثقافتنا الثابتة بتأكيد أن أي تغيير يطرأ يوافق بتمامه وكماله ما نعلمه من موقعنا الثابت وثقافتنا التي وُضعت من الأزل في لوح محفوظ؛ لتوافق كل تغير ممكن حتى نهاية العالم.
ومن ثم لم نعد نفهم درس التغير الذي كان هو درس الإسلام الأول، ولم نعد نعي ما وعاه المسلمون الأوائل، بل لم نعد نقرأ ثقافتنا قراءة واعية، ناهيك عن الثقافة العالمية. وحوَّلنا ثقافتنا من ثقافة إلى تمائم وتعاويذ سحرية ندعو بها على الأعداء كما ندعو بها المطر إلى السقوط. ويمكن ببعض الأداء الطقوسي الرمزي استدعاءُ ملائكتها ومعجزاتها وكل كائناتها الغيبية لتحارب لنا معركتنا وتفعل فعلها في الواقع، دون أن نبذل من جهد أكثر من مسواك ومسبحة وسجادة وترتيل وتنفيذ الأوامر في السلوكيات. وبهذا يمكن لقوى السماء أن تدمر لنا الآخر المتفوق، وكُفي المؤمنون القتال، وهو غاية المراد من رب العباد.
إلا أن الواضح الظاهر الجلي أنه لا هذا ولا ذاك يحدث، وكل ما يحدث هو تفوق المتفوق، ومزيد من الهبوط والانحطاط والتردي على جانبنا. مع استهتار واضح بالمقدس ذاته بتثبيته عند تلك اللحظة التاريخية وتجميده في قوالب ثابتة ومفاهيم محددة لدى السلف، كما لو كنا لا نملك عقولًا كما كانوا يملكون، ناهيك عما وصلنا إليه من انهيار شبه تام أصاب حياتنا ومعاشنا وفق تصورِ أننا نملك الحقيقة الكاملة والمطلقة والثابتة.