فصل في فالتة قاعدة جزيرة مالطة
هذه المدينة هي مقر الحاكم الإنكليزي، وأعجب ما فيها حصانة أسوارها وحسن مرسييها. أما الأسوار فربما كان نصف أحدها من صخر وتمامه مبني بناءً، وأما المرسى فقد مر ذكره، والغالب عليها الرونق والبهجة حيث كان بناؤها من الحجر كما مر وطيقانها مزججة، ولا سيما إذا عرضتها من بُعد، غير أنها خالية من المناير ونحوها، فهي بدونها كالهامة القرعاء، وأحسن ما يستحب من ديارها كونها مبنية من الحجر على صف مستوٍ، فلا ترى فيها دارًا خارجة عن الخط أصلًا غير أنها متفاوتة الارتفاع، وليست مرتبة في وضع الغرف والمساكن، فإن الدار الكبيرة تكون عبارة عن علية واسعة طويلة، ثم صف حجرات متنافذة المدخل فلا يمكن للإنسان أن ينفرد بواحدة منها دون الأخرى.
فأما الديار الصغيرة ولا سيما القديمة فهي خالية عن الترتيب أصلًا ومنجورها يصبغ غالبًا في كل سنة، وحيطانها ملبسة بالورق المنقوش كما في بلاد أوروبا، إلا أن طاقاتها لا تفي بالمراد، فإن بين الأهلين حقوقًا في المطال، فلا يمكن فتح الطيقان في جميع الحيطان، وما عدا ذلك فإن لها رواشن خارجة من الحائط موضوعة بحيث تمنع النور والهواء، وهي عالية لا يمكن لمن يكون في الحجرة أن يرى منها شيئًا إلا إذا كان واقفًا فيها أو جالسًا على كرسي، وهي أشبه بما يسميه أهل الشام كُشكًا، ويقال: إن وجود هذه الرواشن بمالطة هو أحد الأدلة على كونهم عربًا؛ إذ هي لا توجد في بلاد الإفرنج إلا في ما فتحته العرب منها، وربما كان في الدار الواحدة ثلاثة رواشن وَقَلَّ أن تجد دارًا ذات ثلاث طبقات صالحة للسكنى، والأغلب اثنتان، وإن وجد فالثالثة إنما تكون للوازم الدار، وَقَلَّ أن ترى فيها دارًا مبلطة بالرخام حتى إن قصر الحاكم ليس فيه ولا بلاطة منه، وإنما المستعمل في ديار كبرائهم البلاط المعروف، ولكن يدهنونه بالزيت مرارًا بعد أن يُكشط وجهه فيصير له لون كالكهرباء، وكذلك قَلَّ أن ترى في الديار التي تكرى خزائن أو مخادع أو رفوف، وإنما يلزم شراء ذلك على حدته، وليس فيها ولا في غيرها فوارات ولا ساحات فسيحة كديار دمشق، ولا إسطبلات، ومن كان عنده فرس ربطه في الخارج، وأقل من ذلك الممارات فإنهم يشترون مؤنتهم يومًا فيومًا، بل ربما إذا ادخروها فسدت كما تقدم، ويرون ذلك تخفيفًا للكلفة، فإن صاحب العيلة إذا ربى في منزله الحيوان وخزن المؤنة واتخذ الخبز كان له ولأهله شغل شاغل، ولعل سبب ذلك في الأصل عدم انتقال الأسعار.
ومما يقبح ذكره هنا أن أكثر البيوت الصغيرة ليس فيها مراحيض، فيرفع أهلها أقذارهم في وعاء، ويقذفون بها في الطرق ليلًا، فيأتي الكناسون للطرق صباحًا ويزيلونها، وقد كانت العادة من قبل أن المحبوسين لجرائرهم هم الذين ينظفون الطرق بأن يخرج بهم شرطي وهم مقيدون، والظاهر أن المالطيين قبل مجيء الإنكليز إلى جزيرتهم لم يكن عندهم مراحيض، وإنما كانوا يستغنون عنها بثقوب ينقبونها في أسفل الدار، وكانوا غير محتاجين إليها أصلًا كما قال الشاعر:
وقَلَّ أن توجد دار بأثاثها وفرشها كما في مدن الإفرنج، ومن شروط الإيجار: أن يستأجر الإنسان الدار على ثلاثة أشهر فما فوق ذلك، ويعطي الأجرة سلفًا، وقبل انقضاء المدة بأيام يؤذن المستأجر ربها بأنه يريد أن ينتقل منها أو يجدد استئجارها، فإذا انقضت المدة ولم ينتقل لزمه إعطاء الأجرة، غير أنه لا يسوغ للمالك أن يرمي بأمتعة المستأجر أو يخرجه كرهًا، وإنما عليه أن يضرب له أجلًا ولو شهرًا، وإذا عرضت دار للكراء كتب صاحبها ورقة تؤذن بذلك، وألصقها ببابها؛ إذ ليس عندهم شيخ حارة تتجمع عنده المفاتيح كما في مصر، ومن استأجر دارًا فلا بد وأن يدخلها مبيضة مصبوغة المنجور، وصبغ الخشب عادة حميدة فإنه أبهى للنظر وأبقى للخشب، وقد تظهر به الدار بهية في الخارج، وربما كان داخلها بخلاف ذلك، وهي عكس العادة عندنا فإن خارج ديار مصر والشام مظنة للهمجية مع أن داخلها منقوش مزخرف؛ وسبب ذلك أن الحكام في السابق كانت أيديهم ممتدة لأخذ أموال الناس فلم يكن أحد من الرعية يتظاهر بالغنى لا في بناء ولا في لباس، أما صبغ الزجاج في مالطة فغير مستعمل.
ثم ليس على عزب أراد أن يسكن بين المتزوجين من حرج، ولا حرج عليه أيضًا في الصعود إلى سطحه، ولا يطلب منه ضامن من حيث أدبه وحسن تصرفه، ولكن من حيث كونه قادرًا على الأداء.
وللديار آبار يجتمع فيها الماء من المطر، فإذا نفد التمس صاحب الدار من ناظر الأقنية فأمده بماء من عين جارية، وسواء في ذلك القريب والغريب، ومن لا بئر له استسقى من العين المشاعة، وكثيرًا ما تجعل المطابخ تحت الأرض ولها خروق في سطح الطريق ليدخل منها الضوء، فتكون سقوفها مساوية لسطح الطريق، وكذا هي مطابخ لندرة غالبًا. ولا تخلو كل دار عن فسحة صغيرة لقوارير الزهور، ومن هذه الزهور ما لا رائحة له ولا وجود له في بلادنا، وفي الديار الكبيرة ولا سيما التي يتبوأها الإنكليز أجراس صغيرة مدلاة بأسلاك حديد نافذة في الغرف، ويتصل بها شرائط من حرير، فإذا أراد المخدوم إحضار الخادم جذب الشريطة فسمع الخادم صوت الجرس من كل جهات الدار، وهذا أوفق من التصفيق باليدين، وربما كتبوا على صفحة الباب اقرِع الباب أو أطن الجرس، وكذا العادة في بلاد الإنكليز، ولكن ليس في الأبواب هنا خروق لوضع المكاتيب كما في ديار لندرة.
أما طريق المدينة فإن الماشي فيها أبدًا يصعد ويهبط كحيزوم السفينة في الأمواج، غير أن لها درجًا يهون من صعبها، ويمكن المشي على حافاتها تحت المطر، ولكل طريق حافتان عن اليمين والشمال لممر الناس ومرور الخيل والعجلات في الوسط، وقد كانت جميعها سابقًا مبلطة، فكانت قرقعة العجلات عليها لا تطاق، فاقتلعت الإنكليز بلاطها من الوسط، وجعلوا بدله ترابًا وحصى. فقال أهل مالطة إن الإنكليز دأبهم أن يحربوا بلادهم كما حربوهم من قبل بأخذهم مدافع النحاس ووضعهم مكانها أخرى من حديد، والحق يقال إن فرش الطرق بالتراب والحصى يجعلها في الصيف مثارًا للنقع، وفي الشتاء مناقع للوحل، وإنما فعلت الإنكليز ذلك مراعاة لرضى بعض الأعيان الذين لهم عواجل، فلِنفع هؤلاء وحدهم أغمضوا عن نفع العامة، وهذا دأبهم من أنهم يراعون خاطر العلية دون الجمهور، والباقي من الحجر على الحافتين متى تصبه الشمس في الصيف يصر مسدرًا.
هذا، ولما كان أهل مالطة أحرص الناس على ملابسهم وأحذيتهم كان خروجهم في الطرق ولا سيما في الشتاء قليلًا، فتبقى الطرق دائمًا نظيفة، فأما في لندرة فإن النساء يخرجن صيفًا وشتاءً ويلبسن نحو قباقيب تقيهن من الوحل، فلهذا تكون طرقها وسخة جدًّا، وقد رأيت كثيرًا من الإفرنج يعجبون بنظافة طرق مالطة ويفضلونها على كثير من طرق المدن العظيمة بأوروبا، غير أن زوايا كل منها ممتلئة قذرًا ونجاسة، ومنها ما لا يمكن لاثنين أن يمشيا فيه معًا، وفي كل زاوية فانوس مركوز على دعائم من حديد يوقد الليل كله، ومثل هذه الفوانيس لا يوجد في لندرة وباريس إلا في أضيق الطرق وأردأها، وقد بلغني بعد تحرير هذا الكتاب أن أنوار فالتة تستعمل الآن من الغاز.
ثم لا يخفى أن الإفرنج دأبهم أن يشنعوا على العرب والترك أن بلادهم غير نظيفة الطرق ولا مرتبة الأسواق، وقد ملأوا الكتب بذلك، ولم أر منهم من مدح مدينة ما إلا أنهم قد أفرطوا في ذلك، فإن أكثر هؤلاء يذهب إلى بلادنا مستوفزًا، ويرقد في الخانات فلا تمكن له مشاهدة ما فيها من الديار الرحيبة، والمنازه الفسيحة النضيرة، فيتأذى مما عانى، ويحمل ذلك على مناكب البلاد جزافًا، ويغض النظر عن سيئات بلاده، فإن حوانيت أهل الحرف والصنائع في فالتة وغيرها أيضًا متفرقة في جميع أطراف المدينة، فربما كان دكان الحداد تحت دار قاضٍ أو مطران، ولا تزال أصوات المطارق بالغة مسامعه، وكذا الزواني ففي كل طريق هنا ترى منهن جملة حتى قدام قصري الحاكم والمطران، وكثيرًا ما يتفق أن صاحب العيلة يستأجر دارًا بجانب زانية تكون إذ ذاك غائبة، فلا يدري بها حتى إذا تبوأ محله أقبلت تجر ذيول عهرها، فمتى قدمت البحرية سمعت لهم ولهن ضجيجًا منكرًا، ولا تزال تسمع سفلة أهل البلد هنا يغنون في الليالي ويزاطون ولا وازع لهم، فهل هذا يعد من الترتيب؟ أما أصوات الأجراس من الكنائس فبلية كبرى، وبالجملة فإنه قلما يتهنأ الإنسان هنا في سكنى دار.
ثم إنه ليس في فالتة حمام منظور يتطهرون به من نجاستهم فإذا اضطروا إلى كشط الوسخ عن أبدانهم استحموا في البحر. نعم إنه يوجد محل أطلق عليه لفظ الحمام، ولكنه ليس في صفة الحمامات التي في بلاد المسلمين؛ إذ هو عبارة عن مغطس فقط من دون تكييس ولا تكبيس ولا عرق، على أنه غالٍ جدًّا، ونحوه حمامات بلاد الإفرنج غالبًا من حيث الكيفية لا من حيث الغلاء والمتنكلزون من المالطيين يقلدون مواليهم في اتخاذهم مغاطس من قصدير أو خشب في ديارهم، ويدعون أن ذلك أسلم للجسم وأنظف، ولعمري ليس السبب في عدم الحمامات هنا إلا رداءة الهواء، فإن من كان في محل دفيء وخرج منه مقابلًا للريح لا يأمن أن يمنى بداء. وكنت قد ذكرت يومًا لبعض الأطباء عادتنا على الحمام وتنغصت لفقده، فقال لي: لو كان عندنا حمامات لما كان من يستحم فيها، وقوله هذا يحتمل معنيين؛ فإما أن يكون قد أراد أن المالطيين لا يستعملون ذلك، أو أن الحمام يميت الناس حتى لا يعود أحد يدخله، وهذا دأب هؤلاء في الاعتذار عما لا يوجد في بلادهم، فإنهم يقولون إنه غير نافع، أو غير موافق كجواب آخر، وقد سألته عن وجود رفائين للجوخ والشال الكشميري، فقال: نحن الإفرنج لا نعني بمثل هذه الصنائع، مع أنهم أعظم الناس اقتصادًا وتوفيرًا وأكبرهم هنا يرقع سراويله من دبر، ويمشي كذلك من دون رداء يستر رقعته، وليس في هذه المدينة كلها مصطبة يقعد عليها، فلا يمكن للإنسان الجلوس إلا في بيته أو في محل قهوة. نعم، إنه يوجد مصطبة عند قصر الحاكم، ولكن لا يقعد عليها إلا الأوباش فإن القعود عند الإنكليز على هذه الصفة عيب، وتابعهم المالطيون على هذا، ويقال: إنه كان في المدينة سابقًا عدة مصاطب فأزالها الإنكليز إلحاقًا لها بلندرة.
فأما محال القهوة في فالتة فإنها عبارة عن مخازن مظلمة ليس فيها شباك يطل على البحر أو على حديقة، وإذا أطلت الجلوس جاءك الساقي ومسح المائدة قدامك إشارة إلى أنه ينتظر غيرك، أو كأنه يقول بلسان الحال لقد أبرمت بي فمتى تفارق، ولا يمكن لأحد أن يقعد ناحية البحر ساعة واحدة؛ لأنها جميعها قذرة، ولا يمكن له في المطال المرتفعة الكاشفة على البحر أن يأكل أو يشرب أو يدخن احترامًا لنساء الإنكليز، وفي شواطئ البحر حيث يعوم الناس مدة خمسة أشهر لن ترى كنًّا أو عرشًا أو خيمة، وإنما ينصب السابح حر وجهه للشمس، فيحترق قبل طلوعه من الماء. وفي الحقيقة فإن الإنكليز جعلوا مالطة خالية عن المنازه والمثابات السارة أصلًا.
ومن أعظم أسباب الحظ عند المالطيين الذهاب في القوارب ليالي الصيف؛ ليغتسلوا في البحر، فتذهب الرجال والنساء معًا، ويقضون هزيعًا من الليل بالسباحة والغناء، والقوارب في مرسى فالتة كثيرة جدًّا، وكلها مصبوغ ظريف، ولكن ليس فيها مقاعد كقنج مصر ولا زرابي أو زخرفة كقوارب الأستانة، إلا أن هذه خطر على راكبها فإنها لخفتها تميد من أدنى شيء، ولقائل أن يقول إن المالطيين هم مثل الإنكليز في كونهم لا يلاحظون في لوازمهم سوى مجرد المصلحة بقطع النظر عن الترفه والطلاوة فإن متكآتهم ورواشينهم وكراسيهم وقواربهم وسروج خيلهم ليست مجعولة إلا لقضاء الحاجة فقط، وأغرب من ذلك حوانيتهم، فإن التاجر لا يزال واقفًا من الصباح إلى المساء، وَقَلَّ من كان عنده كرسي له أو للمشتري، وفي هذا الأخير خالفوا الإنكليز. ويقولون للقارب «دعيصة» وكأنه تصغير دعصة الرمل، شبهوه بها؛ لاستدارته وصغره، وهذا دأب العرب في أنهم يسمون الأشياء الغريبة عنهم بما ألفوه في بلادهم. فإن قلت إذا كان هذا دأب العرب فمن أين للمالطيين ذلك؟ قلت: لا ينكر أحد أن اللغة المالطية هي عربية، وأن المسلمين حين استولوا على الجزيرة، كما مر، هم الذين سموا هذه الأشياء، وإنما لم يقولوا قاربًا مع كونها عربية فصيحة؛ لأن في اللغة المالطية أشياء كثيرة عدل بها عن استعمالها الأصلي، واستعير لها أسماء مشابهة لها أو مجاورة فيقولون مثلًا للقليل فتيت، وللكثير وسق، وللحصان زامل بالإمالة وهو ما كأنه يظلع من الدواب لنشاطه، وللقرية رحل، وهو في اللغة مسكن الرجل وما يستصحبه من الأثاث وغير ذلك.
ومن ذلك — أي الحظ عندهم — التماشي أمام قصر الحاكم حين يعزف بآلات الطرب العسكرية، فيذهب إلى هناك جميع المتشبعين المتكيسين، فترنو الرجال إلى النساء، وتدل النساء على الرجال، ومع ذلك الأعياد الكنائسية، وهي كثيرة جدًّا، فإن لكل قديس عيدًا مختصًا به في زمن مخصوص ومكان معلوم، فيرحل إليه عند اقترابه المتلهون، ويقضون ما تيسر لهم من اللذات وسماع الموسيقى ورؤية لعب النار وما أشبه ذلك، ولا بد للأوباش في هذه الأعياد أن يسكروا ويفحشوا ما أمكن، ومن ذلك حلبة السباق وقد تكون في الخيل والحمير والقوارب، والسابق يفوز بالخطر.
ومن ذلك زحلوقة لهم يحضرها ألوف من الناس، وهي أنهم يربطون خشبة طويلة كصاري المركب إلى سفينة، ويدهنونها بما تزل عنه القدم، وينصبون أمامها غرضًا، ثم يمشون إليه على تلك الخشبة فمن زل عنها وقع في البحر.
ومن ذلك ثلاثة أيام في المرفع، ويُعرف بالكرنيفال، وهي الأحد والإثنين والثلاثاء، يلبس فيها الرجل كالمرأة والمرأة كالرجل، ويتزيون بهيئات متنوعة وأشكال مختلفة، ويغطون وجوههم بجلود على هيئة الوجه، ويطوفون في المدينة حيارى سكارى، ويسمون هذا التشكل مسكرة، وكأنه محرف عن المسخرة، ولا يتحاشون في هذه المدة شيئًا من الخلاعة والقصف والمنكرات، ويومئذ تغص الطرق بالناس والمراكب، فإذا أصبح يوم الأربعاء ذهبوا إلى الكنائس، ونتروا الرماد على رءوسهم إشعارًا بالإنابة، ومن ثم يقال لهذا اليوم أربعاء الرماد، وهذا الاسم باقٍ عند الإنكليز مع إلغاء هذه العادة عندهم، ومعنى الكرنيفال رفع اللحم؛ أي إزالته. ومما جرت به العادة في هذه الأيام أن الحاكم يولم وليمة فاخرة، ويدعو إليها وجوه أهل البلد بتذاكر يرسم فيها بقدومهم بملابس مسخرية فيلبونه، ويستأجرون هذه الثياب من الحوانيت، فيقف لهم في غرفة في قصره، وكلما قدمت عليه عيلة انحنت له فاحتفل بها فإذا انقضى السلام شرعوا في الرقص، وكلما رقصت النساء قليلًا أخذهن الرجال إلى المائدة؛ ليأكلن أو يشربن ما شئن، ثم يعدن إلى الرقص حتى مطلع الفجر فتتفرق الأصحاب، وربما اتخذ بعض جشعي المالطيين من تلك المائدة خبنة، وهي ما يحمل من الطعام في الكم، وكنت أذهب إلى تلك الدعوة بزيي المألوف فيخالونني من الساخرين، وكانوا يسألونني هل في بلادكم مثل ذلك؟ فأجيب مغالطًا إن لم يكن عندنا هذا فخير منه، ولعمري قبيح بالرجل الفاضل أن يرى راقصًا كالولد.
إني فتحت مدينة المغرب، ولا أقدر أن أصف ما فيها غير أن فيها أربعة آلاف حمام، واثني عشر ألف بقال يبيعون البقل الأخضر، وأربعة آلاف يهودي يؤدون الجزية، وأربعمائة ملهى. ا.ﻫ.
غير أن هذا القدر كثير على أية مدينة كانت، فإن باريس وما أدراك ما باريس لا تحوي إلا ثلاثين ملهى، ويحمل أن المراد بالملهى هنا كل موضع يكون للهو، فيدخل فيه موضع الحكايات والمشي والاجتماع، ونحو ذلك.
وأما قول بقال ففي القاموس في ب ق ل، والبقال لبياع الأطعمة عاميَّة، والصحيح البدَّال، ونحوه قوله في ب د ل، غير أنه فسر القربق في باب القاف بأنه دكان البقال فليحرر. ومن الغريب أن أحد المشعوذين الطليانيين أبدى في ملهى فالتة من التمثيل والتخييل أمورًا غريبة، ثم أراهم أيضًا منشورًا من البابا بالرخصة له في هذه الحرفة، فصدقه كل من رآه، فهلا كان هذا المنشور أيضًا من جملة شعوذاته.
ومن المباني العظيمة في هذه المدينة: الكنائس، وهي حسنة البناء متقنة مزخرفة بالنقوش، والدمى، والتماثيل، والصور، مزينة بالأرجوان والإستبرق وأدوات الفضة والذهب، وفيها عشرون كنيسة على هذا النسق، وأعظمها كنيسة صان جوان وهي مبلطة كلها بالرخام المنقش المصور عليه صور أعيان مالطة الأقدمين المدفونين فيها، وفي صدر الكنيسة تمثالان للمسيح ولصان جوان رافعًا يده فوق رأسه «أي رأس المسيح» يعمده، وهما من الحجر يراهما الداخل من الباب أكبر من الرجل الجسيم، وبخارج الكنيسة صفحة ساعة يعلم منها الساعات والأيام والشهور والسنون، وإذا ضرب جرسها سمع صوته كل من في المدينة فيضبطون ساعاتهم عليها، وفي هذه الكنائس من الذهب والفضة والتحف ما يغني جميع صعاليك مالطة، ولكل يوم من الأسبوع بدلة للقسيس خصوصية، وقس على ذلك أيام الآحاد والأعياد والأحوال الطارئة كالزواج والمعمودية والموت، وفي الحقيقة فإن كثرة الكنائس الحسنة في جزيرة مالطة على نحسها لمما يعجب منه، وفي كل قرية ترى ثلاث كنائس فأكثر، وأول افتخار المالطيين إنما هو بكثرة كنائسهم؛ إذ ليس عندهم شيء آخر يتباهى به، والتفاخر صفة قائمة في النفوس، وإذا سرت إلى قرية ما متنزهًا فلا تكاد تصل إلا وتحدق بك جماعة ليروك كنائسهم، وجملة ما يُصرف على الكنائس والقسيسين يبلغ ثلاثين ألف ليرة في العام، ولا يعرفون ضرب الأجراس بالحبال كما يفعل الإنكليز، وإنما يصعدون إلى قبة الجرس، ويحركون مطرقته باليد بما تنقبض منه النفس ويشمئز الطبع.
ومن ذلك مدرسة جامعة يعلم فيها الفنون واللغات، وفيها كنت أعلم اللغة العربية إلا أن المالطيين يتعلمون كل شيء ما عدا لغتهم، وفي مدة الصيف يعطل المعلمون نحو ثلاثة أشهر، وأجرهم غير ممنون، وعند انقضائها يُعين يوم لاجتماع التلامذة ومشائخهم في حجرة في المدرسة، وفي الصدر مائدة عليها كتب، ثم يقوم أحد المشائخ وهو في الغالب صاحب المعاني والبيان فيلقي على الحاضرين خطبة، ثم تقرأ أسماء من نبغوا في العلم من الطلبة، ويعطون من تلك الكتب ما يليق بهم، وربما حضر الحاكم بنفسه لهذا، ولا بد من أن يعطى لكل معلم دفتر يكتب فيه أسماء الطلبة، وما يحصلونه من الفنون، ويشترط عليه أن لا يعلم تعليمًا مغايرًا للديانة الكاثوليكية الرومانية.
ومن الغريب أن أهل مالطة مع كون لغتهم فرعًا عن العربية فليس منهم من يحسن قراءتها والتكلم بها، وإذا شاء أحد أن يفتح مكتبًا بمالطة تمتحنه علماء هذه المدرسة أولًا، فإذا رأوه أهلًا لذلك أعطي رخصته من الديوان فيه، وجملة ما يُصرف على هذه المدرسة وعلى مكاتب أخرى في القرى في كل سنة نحو ثلاثة آلاف وثلاثمائة ليرة، ومن ذلك دار كتب موقوفة باللغات الإفرنجية، فمن شاء أن يطالع كتابًا منها ذهب إليها واستوعبه، وإن كان من الوجوه يحضره إلى منزله، وعدة ما فيها ثلاثة وثلاثون ألف سفر، وليس فيها من الكتب العربية ما تحته طائل.
وفي المدينة أيضًا عدة حوانيت مشحونة بأصناف الكتب ليس فيها خرم ولا نقصان، ويمكن أن يقال: إن الكتب بأوروبا أرخص ما يكون، لا جرم أن المولع عندهم بالعلوم مع سعة ذات اليد لأسعد الناس؛ لأنه إذا شاء أن يتعلم أي فن كان وجد له فيه شيخًا، ولأن الكتب والأدوات اللازمة لذلك الفن حاضرة عتيدة يجدها بأهون سعي، ولا يخشى في الكتاب خرمًا كما ذكرنا ولا تحريفًا، فكل كتبهم مصححة، ولأن المدارس الوقفية تُعلَّم فيها العلوم مجانًا، أو يعطى في مقابلة ذلك شيء زهيد، فطالب العلم في مالطة يعطى في الشهر شلينين ونصفًا، وطالب اللغة شلينًا واحدًا، ولعمري أن طالب العلم في لغتنا لو لم يصده عن المطالعة إلا تعذر وجود نسخة صحيحة لكفاه ذلك عذرًا، فضلًا عن نصبه وحرمانه وخموله.
وفي فالتة سبع مطابع؛ إحداها للميري تطبع فيها الأوامر والنواهي التي تصدر من ديوان الحكم والباقي للأهلين، وفيها أيضًا دار لصحف الأخبار الواردة من أوروبا، وداران للصرف توضع فيها الأموال، ومنارة فيها فانوس كبير لهداية السفن، وعدة مكاتب للصبيان والبنات يعلم فيها القراءة والكتابة والحساب والتطريز والخياطة، وغير ذلك. غير أن الأولاد تغلب عليهم لغتهم وتمنعهم عن التكلم بغيرها؛ إذ كانت هي اللغة الغالبة، وإلى الآن لم يعلم من نساء مالطة من نبغت في المعارف والتأليف، فغاية ما يتعلمن إنما هو أن يقرأن بعض كتب كنائسية، وقد كان في السابق دار مُعِدَّة لتلقي النغول وتربيتهم، وقد بطلت الدار، وبقيت عادة النغول وعادة التبني من اليتامى، وفيها ثلاثة مستشفيات؛ أحدها: للعسكر، والثاني: للرجال، والثالث: للنساء، ومن لم يكن لها مأوى تأوي إلى هذا المستشفى، وتمكث فيه ما شاءت.
وبخارجها أيضًا أربعة أخرى؛ أحدها: للمجانين، وأكثر جنون أهل مالطة يكون عن وساوس في الدين، وقد رأيت فيه عجوزًا تهذي وتقول اليوم عيد كما أمر بذلك القسيس، والثاني: للمرضى من العساكر البحرية، والثالث: للفقراء، والرابع: للطاعنين في السن العاجزين عن تحصيل معاشهم المادين لوداع الدنيا يدًا، والمغمضين عن درزها ونعيمها عينًا، قد أصبحوا من هذه الحياة على شفا جرف هار يعتبر بهم اللبيب، ويتعظ بهم المستهتر في حب هذه الدنيا الغرور؛ إذ تراهم كالأغرار من الأولاد قد انحنت منهم القدود لما استوى عندهم داعي الأجل، وأظلمت منهم الأبصار بعد أن أضاء فيهم صبح المشيب، وانحلت منهم القوى بعد أن غلت منهم الأفكار والنهى، فثم يقضون ما بقي من ظمء حياتهم بكان وصار.
وفي فالتة عدة فنادق للمسافرين بهية ذات حجرات مفروشة عتيدة، أجرة كل منها في اليوم نصف شلين في الأقل، وفيها من الذكور أكثر من اثني عشر ألفًا وخمسمائة نفس، ومن الإناث أكثر من أحد عشر ألفًا وثمانمائة وسبعين، جملة ذلك أربعة وعشرون ألفًا وثلاثمائة وسبعون نفسًا، ومن القناصل أربعة عشر، ومن القسيسين نحو مائتين وخمسين، وسبعة أديار للرهبان والراهبات، وجملة ما في الجزيرة كلها من الكنائس الكبار سبع وسبعون ومن الصغار مائتان وأربع وأربعون، ومن الأديار واحد وعشرون، ومن الأطباء مائة وتسعة وعشرون، ومن الدوائية والعقاقيرية تسعة وأربعون، ومن كُتاب الصكوك والعقود مائة وأربعون، ومن أصحاب الموسيقى مائة وثلاثة وستون، ومن المعلمين في المكاتب مائة واثنان وأربعون، ومن المصورين مائة وثلاثة وتسعون، ومن المتوظفين في خدمة الميري خمسمائة وواحد وثلاثون، ومن المرتب لهم عمريات ولا شغل لهم ثلاثمائة وستون، ومن التجار ستمائة وستة وثلاثون.
ومن السماسرة مائة واثنان وسبعون، ومن أصحاب الحوانيت ألفان وستمائة وأربعون، ومن المزارعين ثلاثة آلاف وثلاثمائة وستة وعشرون، ومن الفلاحين ثمانية آلاف وسبعمائة وستون، ومن صاغة الفضة والذهب مائتان واثنان وثلاثون، ومن النجارين ألف ومائتان وثلاثة وثمانون، ومن الأساكفة ألفان وأربعمائة، ومن الغزالين والغزالات ثمانمائة وأربعون، ومن النساجين والنساجات ثلاثة عشر ألفًا وستون، ومن الخياطين تسعمائة واثنان وثمانون، ومن لفافي ورق التبغ تسعمائة وثلاثون، ومن الخدام ثلاثة آلاف ومائة وعشرون، ومن أصحاب القوارب ستمائة واثنان وأربعون، ومن الساعاتية ستة وعشرون، ومن المتعلمين في المدرسة الجامعة وفي غيرها ثلاثة آلاف وثمانمائة وثلاثة وثلاثون، ومن الديار الكبار إحدى وعشرون ألفًا ومائتان واثنتان وستون، ومن البيوت الصغار ألفان ومائتان وواحد وسبعون، ومن الحجرات على حدتها ثمانية آلاف وثلاث وأربعون، ومن الدكاكين ثلاثة آلاف وخمسمائة وعشرون، ومن المخازن خمسمائة وستون، ومن الشون للقمح خاصة مائة وسبع وعشرون، ومن الذين لا عمل لهم من الأعيان ستة آلاف ومائتان وتسعة وستون، ومن العامة نحو أربعين ألفًا، وجملة من يزيد عمرهم على الثمانين سنة سبعمائة وثلاثة وسبعون، وجملة ما يولد فيها في السنة أربعة آلاف وأربعمائة، وجملة أهل الجزيرة نحو مائة ألف نفس منهم أحد عشر ألفًا وخمسون من الإنكليز وسبعمائة وسبعون من الغرباء.
وجملة ما يرد إليها في السنة من المسافرين ثمانية آلاف ومائتان وستة عشر، وما يصدر عنها تسعة آلاف وخمسمائة وثلاثون، وفي فالتة سوق تباع فيها سائر أصناف المأكول، فتجد فيها جميع أنواع السمك واللحم كالبقر والضأن والعجل والدجاج والطير، أما السمك فإنه لذيذ جدًّا، وأما اللحم فأطيب أنواعه الخروف الصغير يذبحونه وهو دون ثلاثة أشهر فيكون ألذ من لحم الطير، وهذه الطرفة النفيسة لا وجود لها في لندرة ولا في باريس، أما الطير فإنه قليل جدًّا، ولا عيب على من يشتري نصف دجاجة بل ربعها أو جناحيها أو رأسها بل مصارينها، كل ذلك من اقتصادهم، فإنهم أعظم الخلق خبرة به، ولا عيب أيضًا على من يذهب بنفسه ويشتري مؤنة يومه وإن يكن قاضيًا، بل النساء السيدات يفعلن ذلك أيضًا، ومتى اشترت شيئًا تحمله أحد الأولاد الذين مهنتهم الحمل وهم كثيرون، وكذلك لا عيب على من يشتري من البقول والحليب ما قيمته فلس واحد فقط، وليس في المدينة حمير فارهة للركوب كحمير مصر، وإنما يذهب الناس في عواجل، وهي ليست كعواجل الإفرنج، وليس لسائقها مقعد فيها، وإنما يمشي بجانبها على رجليه الحافيتين، ومتى رأى أصحابها أحدًا مقبلًا ازدحموا عليه ولا ازدحام حمارة مصر.
وليس في مالطة كلها مصانع للساعات أو الزجاج أو الأدوات الحربية والأقمشة وغيرها، فأشهر الصنائع عندهم النجارة والخياطة والسكافة والحدادة والنساجة والصياغة، وأخص أعمال النجارين الكراسي والمتكآت والموائد والخزائن والصناديق والأصونة ونحو ذلك، وقد يحسنون أيضًا إنشاء المراكب، وعمل الحدادة مقصور على سرر النوم وما يلزم للبناء، وعمل الصياغة من الذهب إنما هو الشنوف والخواتم والسلاسل والأسورة وأشكال طيور وزهور والأبازيم والإبر ونحوها، ومن الفضة الملاعق والمغارف وأباريق القهوة والشاي والأقداح والأطباق والمسارج وأوعية السكر ونحوه، فأما النساجة فلا تتعدى شقق الفوط وأغطية الفرش وقلوع المراكب، ومن هذا الأخير يبعث إلى بلاد المسلمين مقدار جزيل، وليس من أهل هذه الصنائع من يصل إلى درجة الإنكليز والفرنسيس في الجودة والإتقان، إلا أن عمل المالطية وثيق متين؛ فإذا اشتريت مثلًا حذاء أو ثوبًا مخيطًا بقي مدة لا يحتاج إلى تصليح، أما عمل الإنكليز منها فحسن في الظاهر لكنه لا يبقى على الاستعمال، وعمل الفرنسيس ما بينهما.
ومن الرسوم الحسنة في مالطة أنه إذا أراد أحد شراء شيء من الفضة والذهب ذهب إلى قيم الصنعة وسأله عن قيمته فيزنه ويكتب له تذكرة بذلك، فأما الجعل فموكول إلى التراضي، والغالب في مشترى الجواهر أن يكون أنقص من التثمين.
ومما يكره بمالطة كثرة الشحاذين وإلحافهم بالسؤال حتى إنهم يقرعون الأبواب وقت الغداء، ويجرون مع الماشي، ولا يبرحون مستجدين حتى يفوزوا بشيء، وهم يرون أن حقًّا على الموسرين أن يواسوهم بأموالهم، وإذا أعطيت أحدهم مرة فكأنما قد دون ذلك عليك في الدستور، فأينما يرك يلزمك، وأول كلامهم في الاجتداء قولهم: «عن روح مسيرك» أي أبيك، أو «عن أرواح البوركاتوريو» أي المطهر، وكان بعضهم يقول لي عن روح المحمد تيعك، والاجتداء في باريس ولندرة ممنوع.
ومما يكره أيضًا ما عدا طنطنة أجراس الكنائس المتتابعة أصوات الباعة الذين يطوفون في الأسواق لبيع الفاكهة والبقول والسمك والحليب والماء، فإن فغر أفواههم ومط أصواتهم وفظاعة لحنهم على اختلاف معنييه لمما يستعاذ منه. كيف لا وهم يقولون للتفاح تفيح، وللرمان رمين، وللبطيخ بتيح «بالحاء المهملة»، وللخيار حيار «بالحاء المهملة أيضًا»، وللأجاص لنجاس، وللدلاع دليع، وللخبز حبس، وللماء للمبا، وللخوخ حوح «بالحائين المهملتين»، وما أشبه ذلك. فلا يمكن للعربي استماع ذلك، ولا سيما إذا كان في اليوم مرارًا من أشخاص ذوى شراسة وفظاظة. وعلى ذكر الخوخ يحسن هنا إيراد ما قاله بعض الأدباء: وفي الناس من يبدل الخاء المعجمة حاء مهملة، فيقول في خوخ حوح وفي خلخال حلحال، وهي مستحسنة من الغلمان والجواري، وكذلك إبدال السين ثاء وعليه قول الشاعر:
قلت: هذه اللفظة ذكرها صاحب القاموس بالضم فتقال: وبس، بمعنى: حسب أو هو مسترذل، وأهل مالطة يبدلون سينها زايًا ويكسرون أولها، وأهل تونس وطرابلس لا يعرفونها، ويستعملون بدلها لفظة بركة وهي قبيحة جدًّا، وقلت أنا في مليحة مالطية:
إلا أن هؤلاء الباعة ليسوا من هذا الطراز لا جرم أن النطق يؤثر في ذي الذوق السليم أكثر من الحسن، وأنه من خصوصيات الإنسان، والحسن يوجد في جميع المخلوقات، ولقائل أن يقول: إن النظر إلى ذي جمال رائع بغتة يدهش له ويتأثر به أكثر من استماع متكلم بليغ من أول وهلة، قلنا هذا على اعتقاد الناطقية فيه، فلو فرضنا أن الناظر يرى جميلًا معتقدًا أنه أخرس وقبيحًا منطيقًا لتأثر بالثاني دون الأول.
وأشذ ما يكره في هذه الجزيرة هو أن الأوباش والأوغاد يترددون حيث تتردد الخاصة وذوو الفضل، فقلما رأيت مكانًا خاليًا منهم، وإذا لقوا أحدًا من الوجوه، سلقوه بألسنتهم ولمزوه، فعلى الكريم أن يجتنب محضرهم ويتباعد عن مثابتهم، وأسوأ من ذلك أن القضاة يعتبرون هؤلاء الأنجاس عند التحاق والتخاصم اعتبار الخيرين من الناس، وهذا الذي جرأهم على التمادي في القبائح، وهؤلاء الأراذل إذا شربوا قدحًا واحدًا من الخمر طافوا الأسواق وهم زائطون ضاجون يظهرون بذلك طاقتهم على الإنفاق، وفي ليالي الآحاد والأعياد تغص بهم المسالك، فلا يطيق أحد سماع غنائهم ولغطهم.
هذا وكثيرًا ما ترى الملاحين والبحريين سكارى في الأسواق حيارى، وإذا صرعتهم الخمر في الطريق يمر الناس بهم ولا يبالون، وربما سُرق منهم وهم على هذه الحالة ما بقي لهم من الحانة أو جُردوا عن ثيابهم وهم لا يشعرون، وربما تقاي أحدهم ثم عاد إلى الشرب، إلا أن منزلة السكارى من عسكر المدينة أجل من العسكر البحرية، فإن أولئك يجررون إلى مقامهم تجريرًا وهؤلاء يغادرون صرعى عرضة للناهبين.
ومما يُحمد في مالطة عدم العقارب والحيات وسائر الهوام المضرة، وإن وجدت فلا سُم لها، وأهل مالطة يزعمون أن ذلك من كرامة ماربولس حين ألقى الثعبان من يده في النار، وأخبرني ثقة بأن الحيات في جزيرة كريد أيضًا لا سُم لها، وأهل إيطاليا يقولون إن ماربولس أزال السم من أفواه الحيات فانتقل إلى أفواه أهل مالطة، وزعم بعض من الإنكليز أن ماربولس لم يمر بمالطة، وإنما كان مروره بملطية.
إلا أنه يكثر عندهم البق والذباب وهذا يوسخ كل شيء أبيض، والعناكب تلقى لعابها بين كل شيئين، أما العثة فإنها لا تلحس الصوف لحسًا كما يقول صاحب القاموس وإنما تسترطه استراطًا، وفي معنى العناكب قلت: