فصل في الإنكليز وحكومتهم بمالطة
لما كانت هذه الصخرة البحرية عزيزة على الإنكليز لموقعها في بحر الروم كما لا يخفى، كان لهم في حكومتهم بها من التساهل والتسامح ما ليس في بلادهم، ويمكن أن يقال إن الحكم هنا مالطي وإن يكن الحاكم إنكليزيًّا فإن القضاة وفقهاء الشرع وكتاب الصكوك والمتوظفين في الدواوين وشرطة الديوان جميعهم مالطيون، وليس على الناس مكس ولا ضريبة، ولا يدفع مكس في الكمرك إلا على الحنطة والمسكرات والبهائم وهو قليل جدًّا.
ومن اقتنى مركبًا أو خيلًا أو استخدم خدمة فلا يؤدي على ذلك شيئًا، وكذا الذين يبيعون بقول الأرض وثمرها، وليس لخزنة الدولة من إيراد هذه الجزيرة، ولا فلس واحد، وإنما يصرف جميعه في لوازمها، وجملته تبلغ تقريبًا ١٠٤٢٠٠ وتفصيلها من ديوان الكمرك نحو ٦٥٧٠٠ ومن الدكاكين ١٦٠٠ ومن المحاكم ٢٧٠٠، ومن بوسطة المكاتيب ١٨٠، ومن تقييد الصكوك ١٣٠، ومن خراج الأرض ٢٣٧٠٠، ومن المزاد ٢٠٠، ومن الكرنتينة ٣٣٥٠، ومن المراكب ٣٩٠٠، ومن مصالح أخر ١٧٠٠. يصرف منها مرتب وظائف وسنويات ٤٣٠٠٠ منها ٥٠٠٠ للحاكم ولحديقته ٤٠٠، ولكاتب سره وهو من الإنكليز ١٠٠٠، وللكاتب الثاني ٥٠٠، ولناظر الخزنة ٣٥٠، ولمدير الحسابات ٦٠٠، ولمستوفي الأموال ٥٠٠، ولناظر الكمرك مثلها، ولكبير القضاة ٦٠٠، ولكبير الشرطة ٤٥٠، ولناظر المرسى ٤٠٠، ولناظر الكرنتينة ٣٠٠، ولقسيس الحاكم ٥٠٠، ولأسقف مالطة ٢٠٠٠، وللمصروف على المستشفيات وغيرها من الأفعال الخيرية ٤٤٠٠، وعلى المدرسة الجامعة وقد تقدم ذكرها ٢٧٠٠، وعلى المرتزقين والمتقاعدين ١٣٢٥٠. أما مصاريف عسكر الإنكليز، وهم ثلاث كتائب، فمن خزنة الدولة، وللعسكري في اليوم نحو شلين، ويقال إن إيراد مالطة منقسم إلى ثلاثة أثلاث؛ الثلث الأول: للميري، والثاني: للكنائس من الوقف والتسبيل، والثالث: لأصحاب الأملاك.
فقد تبين لك رفق دولة الإنكليز بحال المالطيين جير، ولو أن جزيرتهم كانت أكبر مما هي الآن بمائة مرة لما كان إيرادها كله مكافئًا لمكس صنف واحد في إنكلترة، وحسبك أن مكس الملط وحده هناك ينيف على خمسة ملايين ليرة، ومن تساهلهم معهم أنهم يرخصون لهم في التطواف بالقربان، وتماثيل القديسين سواء كانت من خشب أو جص أو غير ذلك مع أنه مغاير لعقائد كنيسة الإنكليز لا بل يطوف معهم جوقة من العسكر وهم عازفون بآلات الطرب أمام التمثال، ولا غرو فإن الدولة فرضت لصنم في بلاد الهند اسمه جوجرنوت ٥٦٠٠٠ روبية، وهي عبارة عن ٢٦٠٠٠ ريال، ولغيره أيضًا من الأصنام مرتب وافر ولكهان الهنود وظائف يرتزقونها من الديوان في كل عام.
قيل: ويوجد في الهند نحو ١٤٨٥١ محلًّا مخصصًا لعبادة الهنود، يبلغ مصروفها من طرف الدولة المذكورة نحو ٣٥٠٠٠ ليرة، وقد صُرف مرة على إقامة عيد من أعيادهم ٤٠٠٠٠ روبية مما لزم لهيكل الصنم، وفي هذه الأعياد الكبار تطلق المدافع من السفن والقلاع، ويمشي أمام الصنم طائفة العازفين من الجيش.
وفي عيد إلقاء جوز الكوكو في نهر الهند ينزل ذووا الأمر والحكم من الدولة، ويأخذونه من الكهنة بعد أن يُصلى عليه، ثم يلقونه في النهر، وحينئذ تنشر السفن راياتها المتلونة، وتطلق المدافع منها ومن الأبراج، وكذلك يفعلون في الأهلة إظهارًا لشعائر الإسلام، وكل ذلك دليل على أن الدولة لا تبالي بمباينة المذاهب والأديان في ممالكها، إذا كانت هذه الأديان غير مانعة من أداء ما يلزم أداؤه للخزنة من المال وللتاج من الطاعة، وقد حاول مرة حاكم مالطة، وكان على مذهب البروتستانط، أن يبطل عادة المسخرة يوم الأحد في المرفع على ما تقدم ذكره، فإن الإنكليز يحترمون هذا اليوم غاية الاحترام كما ستعرفه، وإذا بالمالطيين جميعهم تألبوا عليه، وماجوا يطوفون وهم يسبونه، ويقبحون عليه بألقاب سمجة وإشارات منكرة، حتى إن بعضهم حاكاه في زيه وهيئته، وجعل على رأسه قرونًا، ثم أحدقوا بكنيسة الإنكليز وهم عاكفون على العبادة، وزاد ضجيجهم ولغطهم هناك حتى لم يسَع الحاكم وحشمه غير الفرار إلى حديقته خارج المدينة، وما زالوا مذ ذلك الحين يلحفون في طلب حاكم من مذهبهم حتى صدر أمر من الدولة بعزل الحاكم المذكور، فجاءهم حاكم من أهل أرلاند أكثر تحمسًا منهم، وهو الذي وقف شاهدًا على معمودية الجرس.
ومن سنن الإنكليز في بلادهم أن تغلق جميع الحوانيت في يوم الأحد إلا دكاكين العقاقرية والحانات التي تباع فيها الجعة والشراب، إلا أن هذه تغلق أيضًا عند إقامة الصلاة، فأما في مالطة فلا حرج على أحد منهم أن يبيع ويشتري فيه أي شيء كان، ثم إني لست ممن يتصدون إلى تبديل القوانين والأحكام، ولا ممن يتحرشون بالحكام مخافة أن يعزلوني عن ولاية قلمي، ولا يتأتى لرجل مثلي أن يصلح شريعة دولة قديمة ولا سيما شريعة الإنكليز، فإنها عندهم لا تقبل التبديل ولا التحريف، وكل عادة من عاداتهم تقوم مقام سُنة، إلا أن بيداء أصولهم وأحكامهم تظهر لبصري الكليل القاصر في غاية البعد عن الإدراك، أما أولًا؛ فلأن قصاص كثير من الإساءات والجنايات يفتدى عندهم بغرامة الميري، فإذا افترى مثلًا لئيم على كريم ولطمه بحضرة الناس أو هتر عرضه غرم شيئًا من الدراهم للخزنة وخرج من بين يدي القاضي على أشر خلق مما كان عليه، فتكون مصلحة الحكام على هذا ازدياد الخصام والشر بين الناس؛ لأن خيرهم إنما هو من شر الطغام، فيا ليت شعري ما نفع الكريم بعد أن يُسب ويفترى عليه أن يرى غريمه مؤديًا للميري ثمن عرضه وشرفه، وكيف تصح التسوية بين العباد والله تعالى لم يسوِّ بينهم، بل فضل بعضهم على بعض فجعل اللئام يبذلون ماء وجوههم، ويمتهنون أنفسهم في تحصيل معيشتهم، وجعل ذوي الأدب والعرض ينزهون أنفسهم عن الشين والمنكر، فهل من العدل أن لا يجعل بينهما فرق في الأحكام والمعاملة، وإلا لزم أن نقول إن من يساوي بينهما وهو الحاكم ينبغي أن يكون مساويًا لمن فرض عليه الحكم.
فلو تعمد رجل مثلًا للطم الحاكم على وجهه وهو جالس على كرسي الحكم، أفعساه كان يغرم دريهمات لخزنة الدولة، وهل من العدل أن ترى لئيمًا ينازع كريمًا على شيء هو أدنى من أن يخطر بباله، نعم تصح التسوية بين غريمين تجهل حالهما، فأما الحاكم الشرعي الذي يعرف أهل بلاده، ويخبر فاضلهم من مفضولهم، فلا ينبغي له أن يسوي بين كل مدعٍ ومدعى عليه، كما أنه لا ينبغي أن يوزن الذهب في ميزان الخشب، وفضلًا عن ذلك فإن من ضرب مثلًا مرة لا يصح أن يجري عليه حكم من دأبه وديدنه الضرب، وإلا لزم أن نقول إن أهل اللغة أعقل وأحكم من أهل الشرع حيث فرقوا بين الضارب والضراب والضروب. هذا ولما كان الظاهر من حكم الإنكليز أنه مبني على التسوية كانت الأوباش من أهل مالطة مثل أهل الفضل منهم في أنه لا يقبل للفاضل كلام على المفضول، ولا يفصل بين اللئيم والكريم منهم غير الشهود، وإن كان اللئيم معروفًا بلؤمه ورذائله، وربما طلبت باعة المأكولات في شيء قيمته درهم؛ عشرة دراهم، فلا يمكن للمشتري أن يعارضهم بشيء، وإذا أبى أن يشتري لم يخلُ من تطاول البائع عليه، وقس على ذلك أصحاب القوارب والحمالين وغيرهم من السفلة.
فأي إنصاف هنا أن يرخص لهؤلاء في هذا التعدي والطغيان، ثم يقال إن ذلك تسوية، ثم أي إنصاف أن يرخص للباعة في أن يخلطوا الموائع، وأن يضعوا السمك واللحم الذي نشم في الخموم في الثلج حتى يتطرى، وفي أن يبيعوا الفج من الأثمار، وأن يجعلوا سعر الشيء الواحد متفاوتًا على قدر تفاوت الساعات، وأن تطوف السكارى في الأسواق ضاجين زائطين بالغناء واللغط، ثم يقال إن ذلك حرية، لعمري إن فلق المحتسب في بلادنا خير من هذه الحرية؛ لأن الحرية إنما تكون حميدة مفيدة ما إذا روعي فيها مصلحة عمومية على أخرى خصوصية لا بالعكس، فتبًّا لحرية تفضى إلى تسويد اللئيم على الكريم، وهذا الفساد الحاصل في البيع والشراء في مالطة هو بعينه في لندرة كما سنذكره في محله، وسببه أنه لما كان ذووا الأحكام هنا وهناك لا يأكلون سوى أطيب المأكول ولا يشربون سوى أفخر المشروب غفلوا عن مصلحة الجمهور، وظنوا أن سمنهم موجب لصحة جميع عباد الله، ومن فساد الأحكام هنا أيضًا أنه إذا كان لأحد حق على آخر وأراد سجنه لزمه أن يقوم بمؤنته، وإن يكون المديون لصًّا أو متعديًّا وكان المحق عادلًا فاضلًا، ولا يخفى أن في ذلك حظرًا للثقة والائتمان؛ لأن حبس الغريم لا ينفع الدائن شيئًا، وأن السجن لكثير من الأشقياء المناحيس خير لهم من خصاصهم، ولما كان هؤلاء السفلة مفرطين في القبائح والشرور على ما ذكرنا كان من أهم الأشياء على الحر أن يتجنبهم ما أمكن، وليس عليه أن يحترز من الأعيان وذوي الأمر والنهي، فإنهم لا يتطاولون على أحد لما يعلمون من قضية التسوية، بخلاف العادة في البلاد الشرقية فإن أصحاب المناصب هم الذين يخشى بأسهم وشرهم.
ومن فساد الأحكام أيضًا: أن القضاة تقبل شهادة أي شاهد كان سواء كان سكيرًا أو شريرًا، وكذا شهادة النساء والأولاد مقبولة، فمتى قبَّل الشاهد الصليب مضت شهادته، والإنكليز يحلفون على الإنجيل، ومتى أقيمت دعوى حشد الناس لاستماعها وإن تكن من الأمور التي كتمها أولى من إذاعتها وهنا أيضًا أنكر التسوية؛ لأنه إذا حدث مثلًا أمر مرة بين والد وولده أو رجل وامرأته وكانوا من ذوي الفضل، وأفضى ذلك إلى التحاكم لا ينبغي أن يجعل بمنزلة دعوى رجل على آخر بأنه سرقه أو شتمه، ثم إن من الأصول المقررة عند الإنكليز أن كل من يدخل أرضًا تحت حكومتهم يصير حرًّا وتجرى عليه أحكامهم، وقد جاء مالطة كثير ممن كان لهم عبيد وإماء فأجبروا على تحرير رقيقهم، ومن يقم خمس عشرة سنة ويعلم أنه كان في خلال ذلك حسن التصرف والسلوك حق له أن يطلب الحماية الجنسية، ولكن يلزمه أداء نحو عشرين ليرة، وهذه الحماية هي أنفع من حماية الإنكليز التي تعطى من بلادهم كما سنبين ذلك.
وللحاكم عشرة مشيرين من أعيان الأهلين، يشاورهم في المصالح العائدة إلى بلادهم، وفي كل خمس سنين يُعزل، وربما أقام أكثر إذا طلبت الرعية ذلك، وفي قصره ستة عشر ألف بندقية وعشرون ألف مزراق وأربعة آلاف درع وألفا طبنجة.
أما أخلاق الإنكليز هنا فهي مغايرة لأخلاق جنسهم في بلادهم، فلا يصح لمن رآهم أن يحكم بأن جميع الإنكليز مثلهم، فإن هؤلاء متكبرون صلفون مع البخل والشح، وبئس الكبر والشح إذا اجتمعا، وما أحد منهم إلا ويظن بأنه هو فاتح هذه الجزيرة ببأسه وسيفه، ولا سيما ضباط العسكر، فإنهم على قنة الصلف والتبذخ، وإذا دخلت على أحد من هؤلاء الفاتحين وهو يأكل فلا يتكلف أن يدعوك إلى طعامه، بل ربما غضب على جميع أهل داره على عدم منعهم إياك من الدخول، كما قلت:
وإذا زرته وأقمت عنده إلى وقت غدائه وأردت الذهاب فلا يدعوك إلى الطعام معه، ومن طبعهم حب الانفراد والعزلة، فإن أحدهم ربما أقام شهرًا تامًّا من دون مشاهدة الناس استغناء عنهم برؤية ما عنده من فاخر المتاع وبقراءة صحف الأخبار، أما عندنا فالأخبار لا تعرف إلا بالنقل والرواية، فلم يكن لنا بد من الاجتماع ليلًا، ومن سوء أدب بعضهم هنا أنهم يجعلون في أعناقهم شريطة فيها زجاجة، فكلما لمحوا امرأة فزعوا إلى الزجاجة؛ ليستثبتوها بها، وفي ليالي الرقص عندهم ترقص بنت الرجل منهم مع عدة زِيَرة، وهو ناظر إلى ذلك بعين شكرى من الابتهاج ولا سيما حين يخاصرونها، وكما أن الرجال هنا ليسوا براموز حسن على أهل إنكلترة كذلك كانت النساء مخالفات لمن في بلادهن، فإنهن هنا بمعزل عن الحسن والجمال، وأكثرهن فقم وشوه، ومن الغريب أنه مع ترفههن وركوبهن الخيل في كل يوم غالبًا فلسن يرى فيهن بادنة، ولا فضيلة لهن إلا في كونهن يحسن القراءة والكتابة، ويؤسسن العلم في أولادهن على صغر، فإن الولد لا يبلغ هنا خمس سنين إلا ويكون قادرًا على القراءة، أما عندنا فيذهب سن الصبا باطلًا، فمتى أخذ بعد ذلك في التعلم وجده بعيد المأخذ صعب المرتقى، وأشهد لو أن نساء بلادنا يترشحن في المعارف على صغر لفضلن نساء جميع الإفرنج فضلًا باهرًا؛ فإنهن أرق أذهانًا وأسرع فهمًا، والحاصل أن الإنكليز هنا رجالًا ونساءً ليسوا من خيرة بلادهم، وأن كبرهم وعتوهم وجشعهم جعلهم مبغضين عند جميع المالطيين، فما من مالطي تسنح له فرصة لأذى إنكليزي إلا وينتهزها، فأما المتوظفون منهم في خدمة الحكومة فإنما هم راضون عن أصحاب السياسة لا عن أفراد الإنكليز المجاورين لهم.