فصل في لغة أهل مالطة
اعلم صانك الله عن الزلل، وسددك إلى صواب القول والعمل، أن اللغة المالطية فرع من دوحة العربية وشيصة من تمرها، وهي يتكلم بها في جزيرتي مالطة وغودش، وسواء في ذلك العامة والخاصة، غير أن هؤلاء يتعلمون أيضًا الطليانية والإنكليزية لاحتياجهم إلى الأولى في المعاملات والتجارات وكتب الشرع وغيرها، ولتنافسهم في الثانية؛ لكونها لغة أرباب الحكم، وذلك لأن اللغة المالطية لم تدون فيها علوم، ولم يشهر فيها كتب، فهي عبارة عن ألفاظ يتداولونها فيما هو من مقتضيات الأحوال الساقطة دون أن تفي بحاجتهم فيما يقصدونه من وصف أو نسيب أو وعظ، فإذا أرادوا ذلك فزعوا إلى الطليانية، وهو دليل على سفالة طبعهم حيث لم يحافظوا من اللغة إلا على المبتذل، وإذا أخذوا من الطليانية ما مست الحاجة إليه ملطوه، وألحقوه بتركيب لغتهم كقولهم مثلًا «ما يرنشيش» أي ما يوافق و«كونشيته» أي عرفته، ففي الأول ياء المضارعة والشين التي يزيدونها بعد النفي كما تزاد أيضًا في اللغة المتداولة الآن في مصر والشام، وهي مختصرة من لفظة شيء، وفي الثانية ضمير المتكلم والغائب، وكقولهم «عندي بياشير» أي سرور، فيجعلون الظرف خبرًا مقدمًا، والنكرة مبتدأ مؤخرًا، فهو جارٍ على قواعد العربية، وقد قلت فيها:
فإن قيل إن الأذناب والرءوس هنا كناية عن أوائل الألفاظ وأواخرها كأداة المضارعة وأل التعريف ونون الوقاية، وهذه باقية على الأصل فلم وصفتها بالفساد، قلت: إن أداة المضارعة مكسورة عندهم على كل حال، وكذا أداة التعريف، والضمير غير ظاهر، فإنهم يلفظون به كالواو، ويحتمل أيضًا أن يكون «فسدت» دعاء في المعنى، ومع كثرة ما بقي عندهم من مفردات العربية وجملها وتأليفها، ولا سيما في الأمور المتعارفة كما ذكر، فقد ذهب عنهم مرادف الأب، وإنما يقولون «مسار» بالإمالة، وكأنها محرفة عن «موسيو» بالفرنساوية فإن حق التلفظ بها أن يكون «مونسيور»، وكذلك ذهبت عنهم كلمة التحية صباحًا ومساءً، فيقولون: «بون جورنو عليك» ولعل سبب ذلك أن المسلمين لما افتتحوا جزيرتهم كانت التحية بينهم: «السلام عليكم» وكان استعمالها مقصورًا عليهم كما هو في بلادنا، فلم تعرف بين الأهلين، وليس هذا بأعجب من ذهاب تحيات العرب العاربة عن المستعربين، وقولهم الآن: «صباح الخير» الظاهر أنه مولد، ومن الغريب أن بعض أعيان المالطيين يحاكون الإفرنج في أطوارهم وهيئاتهم، حتى إذا نطقوا بلغة أنفسهم زال عنهم ذلك الرواء، وانجلى ذلك الإبهام، وإذا تكلموا خلطوا جملة إيطاليانية بأخرى من لغتهم، لكن هذه هي الغالبة، فإنها لغتهم في الطفولية، وقد أخبرني أحد فضلائهم أنه أقام مدة طويلة في إيطالية، فكان حينئذ يقدر خواطره وأفكاره بلغة أهلها، ثم لما رجع إلى مالطة لم يلبث أن عاد إلى تقديرها بلغته فصدق عليه قول الشاعر:
وأغرب منه أن المالطيين يأنفون من تعلم العربية بسبب المثلية بينها وبين لغتهم، وهو عين السبب الذي يوجبه عليهم لكونهم والحالة هذه لا يعانون في تعلمها مشقة وعناء، ومع أن الذين يعاملون منهم أهل العربية كثير، والقاطنين في بلادهم هم أكثر، فما أحد منهم يهمه أن يتعلم العربية قراءة وكتابة، على أنك تجد في جميع بلدان أوروبا أفرادًا يدرسونها حق دراستها.
هذا تحقيق بديع لما فيه من الفرق بين اسم الآلة التي تتناول باليد وغيرها، فيتعين كسر الأول إلا شذوذًا، فيفتح بعض من الثاني كمرقاة ومنارة؛ لأنه من وجه آلة ومن وجه مكان، وهو فرق لطيف قل من تنبه له أو نبه عليه. ا.ﻫ.
والحاصل أنه لا شك في كون اللغة المالطية عربية، ولكني لست أدري أصل هذا الفرع أشامي هو أم مغربي، فإن فيها عبارات من كلتا الجهتين، والغالب عليها الثانية، غير أن الألفاظ الدينية من الأولى، فيقولون مثلًا: القداس والقديس والتقربن والأسقف، وما أشبه ذلك مما لا يفهمه أهل المغرب، ومن المالطيين من يقر بأن لغتهم غير فينيقية ولا حبشية، ولكن لا يكادون يقرون بأنها فرع العربية مكابرة وعنادًا، ولا يخفى أن كل لغة في العالم لا بد وأن يدخلها بعض ألفاظ أجنبية؛ إما للحاجة إليها، أو لتقارب أهل اللغتين واختلاطهما كالعرب والفرس مثلًا، والرومانيين واليونانيين في الزمن السابق، وهذه اللغة العربية مع سعتها وغزارة موادها وكثرة تصاريفها لم تخلُ عن ألفاظٍ بعضها من الفارسية وبعضها من اليونانية وبعضها من الحبشية والهندية والسريانية والعبرانية، ولم يقل أحد إن العربية فرع عن هذه اللغات، فكيف لعقلاء مالطة أن يقولوا إن لغتهم فينيقية بسبب وجود كلمتين منها فيها، وأقبح من ذلك أنهم يظنون أن فساد لغتهم وانعكاسها عن أصلها العربي ليس من العيب في شيء؛ قياسًا على أن الطليانية انفسخت عن اللاتينية واستقلت بصيغ خاصة بها دون الأصل، وهو مدفوع بأن العربية لم تنقضِ دولتها كما انقضت اللاتينية حتى تستقل المالطية بقليل موادها، وبأن المالطية لم يؤلف فيها شيء إلى الآن من كتب العلم والأدب ولم يتكلم بها أقوام؛ فالفرق واضح، والحاصل أنهم لا يرون فسادها ولا يشعرون بقبحها ضرورة أنهم لم يطلقوا على محاسن أصلها الذي حلئوا عنه، نعم إن أهل الشام ومصر والحجاز وغيرهم قاصرون عن اللحاق بأهل العربية الفصحى، ولكن ما منهم إلا من يشعر بقصوره عنها، ويدري عظم التفاوت بين الطرفين، وكل يود لو يصل إلى درجة الكمال في معرفتها، وكنت ذات يوم سائرًا مع جماعة منهم فأخذ أحدهم يصف لغتهم، وجعل من محاسنها اجتماع الألفاظ العجمية فيها، كأنه يقول إنها انتفت ما شاق وراق، فمثلها مثل العجوز التي رأت زوجها يزني.
ولشدة تعصب المالطيين على أهل اللغة العربية، وتشنيعهم عليهم؛ إذ كان منتهى السب عندهم أن يقولوا: عربي، كان الإنكليز وسائر الإفرنج أقرب منهم إلى تعلمها غالبًا، ولو كان عند أولئك ركن منها عظيم، وذلك أن المالطي العنيد إذا سمع في العربية مثلًا لفظة خرج وكانت عادته منذ نطق أن يقول حرج، فلا يرى في ذلك كبير فرق، ولا يرى أن نقطة صغيرة تقوم المعنى أو تفسده، بخلاف من يتعلم من أول الأمر أن يقول الكلمة على حقها، وكانوا إذا سمعوني وصاحبي نتكلم قالوا ليس من فرق كبير بين اللغتين إلا عجمة في لغتهم يعنوننا، ولا يخطر لهم ببال أن لغة لم تضمن بطون الأوراق، ولم تضبطها الأحكام النحوية لا تكفي النوع الإنساني، وقد تصدى مرة أحد مؤلفيهم إلى تأليف كتاب نحو فيها، فكتب بعد طالعته ألفا بتو اللغة المالطية، ثم ذكر العين بعد الألف فكان خلفًا؛ لأن جميع اللغات التي تبتدئ بهذا العنوان تكتب فيها الباء بعد الألف، فلما وقفت على ذلك كتبت له:
ويقال إن جميع اللغات القديمة والحديثة تبدأ بالألف إلا الحبشية فإنه فيها الحرف السابع عشر، والظاهر من ترتيب حروف المعجم في العربية والسريانية والعبرانية أنها؛ أي العربية لا ارتباط بينها وبينهما.
وأهل مالطة يلفظون الغين أينما وقعت عينًا، والخاء حاء، والفلاحون منهم يلفظون القاف همزة، ويشمون الألف في نحو قال وباع الضمة، وهو غريب فإن الضم أيضًا عند الهمج من أهل الشام، وينطقون بالضاد دالًا وبالطاء تاء، ولا يلفظون العين إذا كانت متطرفة أصلًا، فيقولون: تلا أي طلع، وسما أي سمع، ويقال: إنهم كانوا في القديم يلفظون الثاء على حقها.
ومما يضحك منه أن الفلاحين إذا خدموا أهل فالتة غيروا لهجتهم فلفظوا الغين عينًا والخاء حاء توهم أن لغة هؤلاء هي الفصحى، وأهل غودش يميلون الألف في نحو فيها ومنها، والجميع ينطقون بالجيم نطق أهل الشام إلا في قولهم جدي فإنهم يلفظونها كأهل مصر، والظاهر أن حق النطق به أن يكون قريبًا من مخرج الشين كما في لغة أهل الشام.
قال الشيخ بهاء الدين في عروس الأفراح، قالوا: التنافر يكون إما لتباعد الحروف جدًّا أو لتقاربها، فإنها كالطفرة والمشي في القيد نقله الخفاجي في سر الفصاحة عن الخليل بن أحمد، وتعقبه بأن لنا ألفاظًا حروفها متقاربة ولا تنافر فيها كلفظ الشجر والجيش والفم، وقد يوجد البعد ولا تنافر كلفظ العلم والبعد، ثم رأى الخفاجي أنه لا تنافر في البعد وإن أفرط، بل زاد فجعل تباعد الحروف شرطًا للفصاحة. ا.ﻫ.
وقال الأشموني عند ذكر الإبدال: الشين أبدلت من ثلاثة أحرف؛ الكاف والجيم والسين، فالكاف نحو أكرمتك قالوا أكرمتش وهي كشكشة تميم كما تقدم، والجيم كما في قوله إذ ذاك حبل الوصال مدمش أي مدمج. قال ابن عصفور: ولا يحفظ غيره، وسهل ذلك كون الجيم والشين متفقين في المخرج ا.ﻫ.
إلا أنه يظهر أيضًا أن الجيم كثيرًا ما تبدل من القاف والكاف مما يؤيد مذهب أهل مصر، فمن إبدالها من القاف قولهم: قف العشب وجف، والمقذاف والمجداف، وقلمه وجلمه، والقشم والجشم، وشق وشج، والقرقس والجرجس، وقص وجز، وتلقف الحوض وتلجف، والشرق والشرج … ونظائر ذلك كثيرة، ومن إبدالها من الكاف قولهم: كد وجد، وكهد وجهد، وأكن وأجن، وكرع وجرع، وكلبة الزمان وجلبته، والمكالحة والمجالحة، وعكر به وعجر، والركس والرجس … وما أشبه ذلك. فعلى هذا يكون استعمال أهل مصر له صحيحًا، ويؤيده ما ورد في المزهر في النوع الرابع عشر، قال: المهمل على ضربين؛ ضرب لا يجوز ائتلاف حروفه في كلام العرب البتة، وذلك كجيم تؤلف مع كاف، أو تقديم كاف على جيم، وكعين مع غين، أو حاء مع هاء ا.ﻫ.
وأيضًا فإنهم يعربون مرة بالجيم وأخرى بالقاف، مثال الأول: الديزج والنيرنج، ومثال الثاني: الرستاق والفرزدق، وربما أبدلت من الحرفين معًا كقولهم: سهجه وسهكه وسحقه، والذي يظهر لي أن ذلك لغة لبعض العرب، غير أن أهل الصعيد والمغاربة وأهل الحجاز ينطقون بالجيم كأهل الشام. ثم إن أهل غودش ينطقون بالأحرف الحلقية على حقها، إلا أنهم يكسرون ما قبل الواو الساكن، فيقولون: مكسور ومفتوح، ويضمون ما قبل الألف، نحو: قاعد … وهلم جرا، ويقولون منكم وعليكم بكسر الكاف وهي لغة ربيعة وقوم من كلب كما في المزهر في النوع الحادي عشر وتسمى الوكم، ويقولون أيضًا: منهم وبينهم، وهي أيضًا لغة كلب، ومن سفهاء المالطيين من يدعي النظم بلغتهم هذه الفاسدة، ويقال له: عندهم التقبيل، فمن ذلك قولهم:
وبقي هنا حل ما أعجم من الألفاظ المنكرة، قوله ين بمعنى أنا، وحنينا بمعنى حبيب منادى محذوف منه حرف النداء، ومن الغريب هنا أن المنادى إذا كان عظيمًا خطيرًا يدخلون عليه أداة النداء من الطليانية فيقولون: أو مولاي، وإذا كان حقيرًا أدخلوا عليه أداة النداء من العربية، فيقولون: يا تفاح يا عنب، وقوله: ساير نسافر، هو مثل قول عامة مصر والشام: رايح أسافر، وما ألطف هنا عبارة الإمام الزمخشري في شرحه لامية العرب؛ إذ قال: وأما المستقبل وإن كان معدومًا في الحال، ولكن هو مارٌّ إلى الوقوع، والنون في نسافر علامة للمفرد المتكلم لا الجمع فإنه نسافرو، وهي لغة أهل المغرب، والشين في ناحدكش لازمة عندهم بعد النفي، والاستفهام كما في العربية الدارجة، ومن أهل الشام من يراها أيضًا لازمة ولو بعد الجملة، فيقولون: ما هو كتيرش فكأن إبرازها ضربة لازب، وميعي أصله معي، ومور فعل أمر من مار أي ذهب، وهو في اللغة كذا، وهيا اسم فعل بمعنى أقبل، وذكره صاحب القاموس مكررًا، وفسره بأنه زجر وهو غريب، ولا يبعد أن يكون أصله حي، ويطربني ما روي عن ذلك الإعرابي الذي سمع رجلًا يدعو آخر بالفارسية يقول له زوذ، فقال لأصحابه: ما يقول؟ قالوا: يقول عجل، فقال: ألا يقول حي هلك وعلي حي هلك تخرج أحجية بديعة، ويظمك أصله إما يزمك أو يضمك، وما قبل الضمير المنصوب مضموم، وهذا من بعض آثار محاسن العربية القديمة في هذه البلاد، والباء من المحبة مفتوحة فتحة مشبعة، وكذا في كل مكان به علامة التأنيث نحو طيبة وكبيرة، وهي أيضًا من تلك الآثار، وأحسن من الإمالة.
فأما تيعي فقد خبط فيها بصراؤهم خبط عشواء، وذلك لأنهم يدخلون بين المضاف والمضاف إليه لفظة تا، فيقولون مثلًا: الدار تا الطبيب، فمنهم من زعم أنها من الطليانية، فإن المضاف فيها يُفصل عن المضاف إليه بلفظة دي، ومنهم من زعم أنها من السريانية فإنها فيها كذلك، ثم إذا أضافوا تا إلى الضمير برزت معه العين، فيقولون: تاعنا، فلهذا لم يدركوا أصلها، والصحيح أنها محرفة من متاع، فإن أهل المغرب يدخلونها كثيرًا في الإضافة، ويبتدئون بالميم ساكنة على عادتهم من الابتداء بالساكن وتقصير اللفظ، وربما قالوا نتاع، بالنون ساكنة أيضًا، فأما العين: فإن المالطيين لا يكادون ينطقون بها إذا وقعت آخر الكلمة، فيقولون تلا وقلا في طلع وقلع، كما ذكرنا آنفًا، ويحذفونها أيضًا إذا اتصل بها ضمير، فيقولون: طليت وقليت جريًا على حذفها بغير اتصال الضمير، وقلب العين ألفًا أو همزة من أساليب العرب كما في تفصى وتفصع، وأقنى وأقنع، والشما والشمع، وتكأكأ وتكعكع، وزقاء الديك وزقاعه، وزأزأ وزعزع أي حرك، وبدأ وبدع، وامرأة خبأة وخبعة؛ أي تختبئ تارة وتبدو أخرى، والخباء والخباع، والخبء والخبع … ونظائر ذلك كثيرة حتى إنهم قلبوها متوسطة كما في تأرض وتعرض، ودام الحائط ودعمه، فأما تليين الهمزة ألفًا فأشهر من البينة عليه، وممن حرف أيضًا لفظة متاع أهل مصر؛ فقلبوا الميم باء، وهي لغة لبعض العرب كما في درة الغواص، فيقولون با اسمك في ما اسمك، واعلم أن فصل المضاف عن المضاف إليه بأداة أسلوب حسن يفيد التنصيص، وذلك ما إذا كان المضاف منعوتًا بنعت صالح لأن يعود على المضاف إليه أيضًا كما في عذاب الله العظيم، بخلاف ما لو كان بينهما فاصل، والأرجح رجوعه إلى المضاف كما في المغني. ومن نظم المالطيين أيضًا، وهو معنى حسن ولكنه مكسو قبيح اللفظ والسبك:
وهو يشبه قول لسان الدين الخطيب:
ومثله قول القاضي الفاضل:
وقول إبراهيم بن سهل الأشبيلي:
ومثله ما ذكره علي بن ظافر في بدائع البدائه:
وبقي هنا إصلاح فاسد اللفظ، فنقول قد مر شرح تا أنها تكون بين المضاف والمضاف إليه، ونبكيح: الحاء مبدلة من الهاء، وهي لغة للعرب أيضًا، فيقولون المليه والمليح، والهاضوم والحاضوم، والمده والمدح، وتاء وتاح، وشقه النخل وشقحها.
وقوله البحر محركة جارٍ على القياس من أن الاسم الثلاثي الذي أوسطه حرف حلق يجوز الفتح فيه نحو شعْر وشعَر ونهْر ونهَر. قال الإمام الخفاجي في شرح درة الغواص قال ابن جنى في المحتسب: قرأ سهيل بن شعيب السهمي جهرة وزهرة، في كل موضع محركًا، ومذهب أصحابنا في كل حرف ساكن بعد فتح لا يحرك إلا على أنه لغة فيه كالنهر والنهر والشعر والشعر، ومذهب الكوفيين أنه يجوز تحريك الثاني؛ لكونه حرفًا حلقيًّا قياسًا مطردًا كالبحر والبحر، قال: وما أرى الحق إلا معهم. ا.ﻫ.
ومما أنشدنيه أحدهم بمحضر جماعة:
فقلت له: لو قلت نأخذ بوسه لكان أولى؛ لأن من يأخذ هنا خير ممن يعطي، فلم يفهم واستعادنيها قاعدتها عليه، فلم يفطن لها لا هو ولا هم أيضًا؛ لأن المعاريض والمطارحات عندهم في كساد عظيم، والمراد بالسدة عند المالطيين نفس الفراش، وهو في اللغة باب الدار، وعندي أن قدماء المالطيين كانوا همجًا يرقدون على الأبواب، فسموا كل مرقد سدة، كما أنهم سموا كل مكنسة مسلحة، وهي في الأصل آلة للسلح، وهكذا كانوا يستعملونها، ثم أطلقوها على كل ما ينظف به المكان، ولهذا نظائر كثيرة إلا أن أهل طرابلس الغرب يستعملون السدة أيضًا بمعنى الفراش، وقد ذكرت يومًا لأحد من يتوسم فيه الأدب من أهل مالطة سعة العربية في البديع وخصوصًا التورية، فقال وكذا هي المالطية، وذكر هذه الجملة وهي عندك تينا تا اللحم، فقال: تينا هنا يحتمل أن تكون مضارعًا من تيته يريد من آتيته أو أعطيته.
وتا اللحم يحتمل أن يكون معناها ما يخص اللحم؛ أي ثمنه، وعندك هنا إغراء، وعلى المعنى الثاني يحتمل أن تكون لفظة تينا مفرد التين، وتا اللحم مضاف إليها؛ أي تينة لحم، والمعنى عندك تينة لحم كناية عن الاست، وإغراؤهم بعند ليس على القياس، فإنهم يدخلونها على الأفعال خاصة، ومن سخف تورياتهم أيضًا قولهم: علاه من غير ماء، يوهمون به غلاء السعر.
ومما بقي عندهم من فصيح العربية قولهم دار نادية وحقها ندية، ولكنها أفصح من قول أهل مصر والشام ناطية، وقابلة أي داية، وخطر ومخاطرة أي رهان، وغرفة أي علية، وقولهم في الدعاء: عمروا ونمروا وبدا لي أي عنَّ لي وتطاول ويشرف وصديد وبطحاء، وتجالدوا وهو أفصح من تعاركوا، وزفن أي رقص، وبوقال وهي أفصح من قول أهل الشام شربة أو نعارة، ويماري أي لا يقنع بالحق، ويشرق بالماء ويستقصي، وفرصاد للتوت، وسفود وأهل الشام يقولون سيخ وشيش، وقد ورد في كلام النابغة الذبياني بقوله سفود شرب نسوه عند مفتاد، وتقزز أي تباعد من الأدناس، وعسلوج للقضيب، وجلوز وهو البندق الذي يؤكل … ولكن هذه الألفاظ كلها مستعملة في الغرب، وبهذا يترجح عندي أن أصل المالطيين من المغاربة، ومن ذلك ضمهم آخر الفعل المضارع أحيانًا نحو يحسبك ويبدلك، وقولهم: وعدة وزنة، وهما اسمان من وعد ووزن لا مصدران، ولذلك سلم فاؤهما كما قال الحماسي:
قال الشارح: ومن روى من وجهه، فمعناه من سفره الذي توجه إليه، ويروى لم أطَّلع ماذا وراء خبائه، ومعنى البيت: لم أعرض نفسي عليه متعرفًا ما جاء به من سفره ليشركني في طرفه، ويجعلني أسوة نفسه.
ومما يضحك من كلامهم قولهم: هذا رجل من الكلاب وامرأة من الحمير، يعنون ذكرًا وأنثى؛ لأنه ليس عندهم لفظ مرادف لهما، فيضطرون إلى هذا التعبير القبيح، ويقولون عمل اللحية أي حلق وجهه، وكذلك إذا حلق شعر عانته أيضًا، ويقول أحدهم للآخر عند الإبانة والإفصاح ين نكلمك بالمالطي، فكأنه يقول إن هذا الكلام قد بلغ من البيان بحيث لا يبقى للسامع محل للشك فيه، ويكثرون من جملة: قال لي، يكررونها في أثناء الكلام مرارًا، وإذا قصدوا توكيد خبر كرروا اللفظ خمس مرات فأكثر، فيقولون ما ريتوش قط قط قط قط قط، وما كان ليش فلوس خلاف دا بز بز بز بز بز؛ أي بس، وخاده أي أخذه كله كله كله كله كله، وما يسوى شي شي شي شي شي … ونحو ذلك.
ومن أوزان كلامهم: فاعلة للمصدر، فيقولون عملته بالواقفة أو بالقاعدة. قال شارح الشافية: اعلم أن مجيء المصدر على وزن فاعلة أقل من مجيئه على وزن مفعول، كالعافية نحو عافاه الله عافية، والعاقبة نحو عقب فلان مكان أبيه عاقبة، وكالباقية كقوله تعالى: فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ أي بقاء، وكالكاذبة كقوله تعالى: لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ أي كذب. ا.ﻫ. وأهل الشام يقولون يطلع بالطالع وينزل بالنازل، ومن ذلك وزن فُعل بالضم نحو سدد وصرر، وهو نادر، والأسماء الثلاثة التي أوائلها ضمة يتبعونها ضمة أخرى نحو عمر وشغل، وهو أيضًا جارٍ على القياس، وكذلك التي أوائلها كسرة يتبعونها كسرة أخرى نحو عجل ورجل.
ومن قبيح عادتهم في الكلام، هم وسائر الإفرنج، توجيه ما يسوء من القول للمخاطب بدون محاشاة، فيقولون مثلًا: إني أحبك ما دمت أنت حيًّا وهذا الحر يقتلك، وهذا النبات يقطع لك مصارنك؛ أي مصارينك، وهذا التراب يعميك، وإذا مت جاء الطبيب وشرح جسمك عضوا عضوًا، أو يقول لك العائد لا تله عن دائك فإنه قتال … وغير ذلك مما يقتضي فيه الإطلاق، ألا ترى ما قاله سيد الفصحاء والبلغاء: «حبك الشيء يعمي ويصم» ولم يقل يعميك ويصمك وإن يكن المعنى عليه.
فأما إمالة صوتهم عند الكلام، وهي التي تسميها الإفرنج أمفازس، فغريبة على من لم يتعود سماعها، فإن لهم مدًّا في الصوت وخفضًا غير مألوف لأهل العربية، حتى إن الإنكليز المولودين بمالطة يجرون هذه الإمالة في لغة أنفسهم انعداء من المالطيين، وقد يعد هذا النوع عند الإفرنج من لوازم الفصاحة، ولكن ليس كالذي يجريه المالطيون فإنهم فيه مشطون، وهو يكاد أن يكون في العربية مفقود الاسم والمسمى أو لعله هو اللهجة، وقد لاحظت في أثناء قراءة المشايخ أنهم كانوا يمدون صوتهم عند التباس المعنى ترويًا فيما يستقبلون، فكأن هذا المد ضرب منه.
ومما يضحك أيضًا أن للمالطيين لازمة في الكلام يكررونها، وهي سميتش محرفة عن سمعت فعلًا ماضيًا، والشين لازمة عندهم بعد الاستفهام كما هي بعد النفي، ولما كان الإنكليز يسمعونها منهم مرارًا جعلوها علمًا على من يجهلون اسمه عند النداء، وعلى الولدان الذين يخدمون على الطعام، ثم إن بقاء اللغة العربية في جزيرة مالطة ولو محرفة مع عدم تقييدها في الكتب دليل على ما لها من القوة والتمكن عند من تصل إليهم من الأجيال، ألا ترى أن مالطة قد تعاقبت عليها دول متعددة ودوا لو يحملون أهلها على التكلم بلغاتهم فلم يتهيأ لهم، وبقوا محافظين على ما عندهم منهم خلفًا بعد خلف، وهؤلاء الإنكليز يزعمون أن لغتهم ستكون أعم اللغات جميعًا وأشهرها، وما تهيأ لهم أن يعمموها عند المالطيين. نعم، إن الخاصة منهم يتعلمونها، ولكن ليسوا عليها بمطبوعين، فإن محاوراتهم بين أهليهم إنما هي بالمالطية لا غير، وليس الطبع كالتطبع ولا الكحل كالتكحل، ويقال إن الذي تحصل عند أهل مالطة من العربية مما هو مأنوس الاستعمال وغير مأنوسه يبلغ عشرة آلاف كلمة، مع أن الذي جمع ذلك جرى على طريقة الإفرنج من أنهم يقيدون في كتب اللغة جميع الألفاظ المشتقة كاسم الفاعل والمفعول والآلة والاسم المنسوب … ونحو ذلك، وإلا لكان هذا القدر باعتبار أنه مواد كافيًا في المحاورات للإفصاح عما في الخاطر، فأما في الكتب فلا، ولا أحسب الكلام المستعمل الآن في بر مصر والشام يزيد على هذا القدر، غير أن أهل الشام، فيما أظن، أكثر مواد من أهل مصر كما أن هؤلاء أحسن منهم نسق عبارة، والله أعلم.