الفصل الأول
في الساعةِ الحاديةَ عشرة من يوم الجمعة الموافق الرابع عشر من شهر أكتوبر لعام ١٨٠٣، جلست إليزابيث دارسي إلى الطاولة في غرفة الجلوس في الطابَقِ الأول من منزل بيمبرلي. لم تكن الغرفةُ كبيرةً لكنها كانت جيدةً بما يكفي، وكانت نافذتاها تُطلان على النهر. كانت تلك هي الغرفة التي اختارتها إليزابيث لاستخدامها الخاص، وكانت مجهزةً بكلِّ ما أرادت من أثاثٍ وستائرَ وسجادٍ وصورٍ اختارَتها من ثروات بيمبرلي ونظَّمَتها على النحو الذي رغبَت فيه. وكان دارسي نفسُه يُشرف على العمل، وقد أدركت من خلال نظرةِ السرور على وجه زوجها واهتمام الجميع بإطاعة رغباتها، المميزاتِ التي تتمتَّع بها السيدة دارسي سيدة منزل بيمبرلي، وكان ذلك مَدْعاةً للفخر أكثرَ حتى مِن تألُّق المنزل الذي يدعو إلى التفاخر كثيرًا.
وكانت الغرفة التي تُبهجها بقدْرِ ما تُبهجها غرفة الجلوس هي غرفةَ المكتبة بمنزل بيمبرلي. كانت تلك المكتبة نِتاجَ عملِ أجيال، والآن أصبح زوجها يستمتعُ ببهجة الإضافة إلى كنوزها. وكانت المكتبة في لونجبورن هي مِلكيةً للسيد بينيت فقط، ولم تكن إليزابيث — وهي ابنتُه المفضلة — تدخلها إلا بدعوةٍ منه. وكانت المكتبة في بيمبرلي مفتوحةً لها كما كانت مفتوحة لدارسي، وبهذا التشجيع اللبقِ الرقيق تعمَّقَت هي في القراءة كثيرًا واستمتعَت وفهمت في آخرِ ستِّ سنوات أكثرَ مما فعلت في السنوات الخمسَ عشرة السابقة، فازدادت عِلمًا، فهمت الآن بأنه لم يكن سوى بدائيٍّ. ولم تكن حفلات العشاء في بيمبرلي أكثرَ اختلافًا من الحفلات التي حضَرَتها في ميريتون حين تنشر المجموعةُ نفسها من الناس الشائعاتِ نفسَها، ويتبادلون وجهات النظر نفسَها، ولم تكن تلك الحفلات لِتُصبح مفعمةً بالحيوية إلا حين يتحدَّث السير ويليام لوكاس بإسهابٍ عن تفاصيلَ رائعةٍ من منصبه في محكمة سانت جيمس. والآن كانت إليزابيث دائمًا ما تندم على لفتِ عيون السيدات وتترك الرجال وشئونَهم الذكورية. لقد تكشَّفَ لإليزابيث أن هناك رجالًا يُقدِّرون صفة الذكاء في النساء.
كان اليوم هو السابقَ لحفل الليدي آن. وعلى مدار الساعة الأخيرة المنصرمة، كانت إليزابيث ومدبِّرة المنزل السيدة رينولدز تتأكَّدان من أن الترتيبات والتجهيزات تتمُّ بشكلٍ مناسب حتى تلك اللحظةِ وأن كل شيءٍ يسير بسلاسة، والآن كانت وحدها إليزابيث. كانت الحفلة الأولى قد أُقيمت حين كان دارسي يبلغ من العمر عامًا واحدًا. وكانت الحفلة تُقام للاحتفال بيوم ميلاد أمه — وهي حفلة تُقام في كل عام — عدا في فترة الحِداد على زوجها حين تُوفِّي، وذلك حتى وفاة الليدي آن نفسِها. وحيث إنها كانت تُقام في يوم السبت الأول بعد اكتمال قمرِ شهر أكتوبر، فإنها كانت تُقام في غضونِ أيامٍ من ذِكْرى زواج دارسي وإليزابيث السنوية، لكنهما كانا يُخطِّطان دومًا لتمضية ذِكْرى زواجهما في هدوء مع بينجلي — الذي تزوَّج في اليوم نفسِه — وكانا يشعران بأن تلك المناسبة أكثرُ حميميةً وقيمةً من أن يحتفلا بها مع العامة، وكانت حفلة الخريف — نزولًا على رغبة إليزابيث — لا تزال تُسمى على اسم الليدي آن. وكانت المقاطعة ترى أن تلك الحفلة هي الحدثُ الاجتماعي الأهمُّ خلال العام. وقد أعلن السيد دارسي عن قلقه بأن هذا العام قد لا يكون مناسبًا لتُقام فيه الحفلة؛ حيث أُعلنت بالفعل الحربُ المتوقَّعة مع فرنسا إضافةً إلى الخوف المتنامي في جنوب البلاد حيث كانوا يتوقَّعون أن يُغيرَ عليهم بونابرت في أيِّ يوم. كما أن الحصاد كان ضعيفًا دون المستوى، مع كلِّ ما يعنيه هذا بالنسبة إلى حياة الريف. وكانت هناك مجموعةٌ من الرجال الذين يميلون للاتفاق على أنه لا ينبغي أن يُقام حفل هذا العام وذلك لشعورهم بالقلق بعد النظر في دفاتر حساباتهم، لكن رأيهم هذا قُوبل بالغضب من زوجاتهم وبيقينٍ أنهم سيُواجهون مِزاجًا نكدًا منهنَّ لمدة شهرَين على الأقل، فاتفقوا في النهاية على أنه لا شيء ملائم لرفع الروح المعنوية أكثر من حدثٍ ترفيهي صغير وغير ضار، وأن باريس ستفرحُ كثيرًا وسيذوب قلبها إذا ما عرَفَت تلك المدينة المظلمة بظلام الجهل أنَّ حفل بيمبرلي الراقصَ قد أُلغي.
أحداث الترفيه واللهوِ الموسمية في حياة الريف لا تكون كثيرةً ولا مُغرية بالقدرِ الذي يجعل من أحد الالتزامات الاجتماعية لدى إحدى العائلات الكبيرة مسألةَ عدم اكتراثٍ بالنسبة إلى الجيران الذين يُحققون الاستفادةَ من تلك الفعاليات، كما أن زواج السيد دارسي — بمجرد أن تزولَ روعةُ اختياره لزوجته — كان يُبشِّر على الأقل بأنه سيُوجَد في منزله بشكلٍ أكبرَ من ذي قبل؛ وكان ذلك يُعزز آمالَ أن تعرف زوجته الجديدة مسئولياتِها. وحين عادت إليزابيث ودارسي من رحلة زواجهما — التي كانت إلى إيطاليا — كان عليهما أن تتحمَّلا تلك الزيارات الرسمية المعتادة والتهانيَ المألوفة والأحاديث الصغيرة بكياسة، بقدرِ ما يُمكنهما. وبعلم دارسي منذ صغره أن بيمبرلي تمنح مكاسبَ أكثرَ مما تتلقَّى، فقد تحمَّل تلك اللقاءاتِ برِباطة جأشٍ جديرة بالإجلال، ووجدَت فيهم إليزابيث مصدرًا سريًّا للتسلية حيث كان جيرانُها يجاهدون ليُرضوا فُضولهم فيما يُحافظون في الوقت نفسِه على سُمعتهم بأنهم يتمتَّعون بالأدب. وكان الزوار يحصلون على متعةٍ مضاعَفة، وهي استمتاعهم بقضاء نصف الساعة في فخامة وأبَّهة غرفة صالون السيدة دارسي قبل أن ينخرطوا مع جيرانهم فيما بعد في محاولة الوصول إلى حكمٍ بشأن فستان العروس وجدارتها وملاءمتها، وفرصة الزوجين في العيش في سعادة. وفي غضون شهرٍ تم التوصلُ إلى اتفاق جامع، وهو أن الرجال كانوا معجَبين بجمال إليزابيث وفطنتها، وكانت نساؤهم معجبات بأناقتها وظرفها وبجودة المرطبات التي تُقدَّم لهم. وتم الاتفاق على أن منزل بيمبرلي الآن استبشر خيرًا بأنها ستحتلُّ مكانتها المستحَقة في الحياة الاجتماعية للمقاطعة كما حدث في أيام الليدي آن دارسي؛ وذلك بالرغم من الهُوية السابقة غير الملائمة للسيدة الجديدة.
وكانت إليزابيث واقعيةً جدًّا بحيث كانت تعلم أن تلك السوابقَ لم تذهب طيَّ النسيان، وأن أي أسرةٍ جديدة لا يمكن أن تنتقل إلى الحي من دون أن تبتهجَ إعجابًا باختيار السيد دارسي لعروسه. كان المعروف عن الرجل أنه ذو كبرياء، وتحتل لديه تقاليدُ العائلة وسُمعتها المكانة العُليا، كما أن أباه رفعَ من شأن العائلة اجتماعيًّا من خلال الزواج بابنة إيرل من طبقة النُّبلاء. وقد بدا أن أيَّ امرأة لا تُعَد جديرة بأن تُصبح زوجة السيد فيتزويليام دارسي، إلا أنه اختار الابنةَ الثانية لرجلٍ كانت أملاكه — التي كانت مقيَّدة بوصيةٍ تحرم أبناءه الكثيرَ منها — كانت أكبرَ بقليل من حدائق بيمبرلي الترفيهية، وهي امرأة شابة يُشاع أن ثروتها لم تكن سوى ٥٠٠ جنيه فقط، ولها أختان غيرُ متزوجتَين وأمٌّ سوقية ثَرْثارة بحيث لا تصلح للعيش في المجتمعات الراقية. والأسوأ من ذلك أن إحدى الفتَيات اللائي يصغرنها تزوجَت من جورج ويكهام — وهو الابن الذميم لرجلٍ كان يعمل مديرَ أعمال لدى السيد دارسي — في ظل ظروفٍ يُملي الأدبُ عدمَ الخوض فيها والتحدُّث بشأنها إلا همسًا، وبهذا أثقلَت السيد دارسي وعائلته برجلٍ مكروه بشدَّة بينهم حتى إن اسم ويكهام لم يكن يُذكر قط في منزل بيمبرلي، وتم إبعاد الزوجَين تمامًا عن المنزل. وعلى نحوٍ لا يُمكن إنكاره، كانت إليزابيث نفسها تتمتع بالرُّقي وقد اتفقَ حتى المشكِّكون بشأنها أنها كانت جميلةً بما يكفي، وتتحلَّى بعينَين رائعتين، لكن الزِّيجة كانت لا تزال مصدرَ تعجُّب واستياء من قِبَل عددٍ من الشابات اليافعات اللائي رفضن — عملًا بنصيحة أمهاتهن — أن يُوافقن على عدة عروض زواجٍ لا بأس بها ليكنَّ متاحاتٍ أمام الجائزة المتألقة، وأصبحن الآن يقتربن من عمر الثلاثينَ الخَطِر من دون أن تكون هناك فرصةٌ لائحة في الأفق. وسط كلِّ ذلك كانت إليزابيث قادرةً على أن تُعزِّيَ نفسها بتذكُّر ردِّها على الليدي كاثرين دي بيرج حين أشارت تلك الأختُ الغاضبة لليدي آن إلى السلبيات التي ستلحق بإليزابيث إن كانت متعجرفةً بما يكفي لتحملِ لقب السيدة دارسي. «تلك بلايا ثقيلة، لكن لا بد لزوجة السيد دارسي أن تتحلى بمصادرَ غيرِ عادية للسعادة التي تكون مرتبطة بالضرورة بموقفها بأنها ليس لديها، على العموم، أسباب للتبرُّم.»
وكان الحفل الأول لإليزابيث كمضيفة، الذي وقفَت فيه مع زوجها على قمة الدَّرَج لتحية الضيوف القادمين يُمثِّل اختبارًا من نوعٍ ما، لكنها تخطَّت تلك المناسبةَ منتصرةً. كانت تحبُّ الرقص كثيرًا، ويُمكنها الآن أن تقول بأنها استمتعَت بالحفل بقدرِ ما استمتع به الضيوف. وكانت الليدي آن قد وضعَت بخطِّ يدها الأنيق خطةَ الحفل بدقةٍ وعناية، وكان دفترها لا يزال مستخدَمًا — بغلافه الجلديِّ الراقي المختوم بشعار دارسي — وفي ذلك الصباحِ كان مفتوحًا أمام إليزابيث والسيدة رينولدز. وكانت قائمةُ الضيوف لا تزال كما هي في الأساس لكن تمت إضافة أسماء أصدقاء دارسي وإليزابيث، بما في ذلك عمَّتها وعمها — من عائلة جاردنر — فيما كان حضورُ بينجلي وجين أمرًا مفروغًا منه، وفي ذلك العام، مثل العام الماضي، كان حضور ضيفهم هنري ألفيستون — وهو محامٍ يافعٌ ووسيم ومفعَم بالحيوية — مرحَّبًا به في منزل بيمبرلي كما كان مرحبًا به في منزل هايمارتن.
ولم تكن إليزابيث قلقةً بشأن نجاح الحفل. حيث كانت تعلم أن كل التحضيرات قد جرَت. فقد تم تقطيع الحطَب بكميات كافية لضمان إبقاءِ النار مشتعلة، خاصةً في قاعة الرقص. وسينتظر طاهي المعجنات حتى الصباح ليُعد الفطائرَ الرقيقة والمتبَّلة التي تستمتع بها النساء كثيرًا، في حين تم ذبح الطيور والحيوانات وعُلِّقَت لتقديم الوجبة الأكثر أهمية التي ينتظرها الرجال. كما تم إحضار النبيذ بالفعل من الأقبية وطَحن اللوز لصُنع الحِساء الأبيض بكميات كافية. وسيتم إضافة مشروب النيجوس في آخر لحظة، الذي سيُحسِّن من مذاق الحساء كثيرًا وسيَزيد مفعوله وسيُسهِم بصورة كبيرة في إضفاء البهجة على الحفل. وتم اختيار الأزهار والورود من الصوبات وهي جاهزةٌ ليتمَّ وضعها في دِلاء في المستنبت الزجاجي لأجل أن تُشرف كلٌّ من إليزابيث وجورجيانا — وهي أخت دارسي — على تنسيقها في ظهيرة اليوم التالي؛ وكان توماس بيدويل — الذي يسكن في كوخ في الغابة — يجلس الآن في غرفة المؤن يُلمِّع العشرات من الشمعدانات التي ستكون مطلوبةً في غرفة الرقص والمستنبت الزجاجي وغرفة الجلوس الصغيرة المحجوزة للنِّسوة من الضيوف. كان بيدويل هو كبير سائقي عرَبات السيد دارسي الراحل، كما كان والده يعمل بالوظيفة نفسِها لدى السيد دارسي الأسبق. والآن وبسبب داء التهاب المفاصل في كِلتا رُكبتَيه وظهره أصبح من المستحيل عليه أن يعمل مع الجياد، لكنَّ يدَيه كانتا لا تزالان قويتَين وكان يمضي كلَّ مساء من الأسبوع السابق للحفل في تلميع الفِضَّة والمساعدة في نفضِ الغبار عن الكراسي الإضافية المطلوبة لأجل جلوس المرافقين فكان وجوده لا غِنَى عنه. فغدًا ستتجمَّع عربات الإقطاعيِّين والعربات المستأجَرة للضيوفِ الأقلِّ شأنًا في الممرِّ لينزل منها رُكَّابها الثَّرثارون بملابسهم المصنوعة من الأنسجة القُطنية وأغطية رءوسهم المتألقة ومعاطفهم التي تَقيهم برد الخريف، وهم متحمِّسون مرةً أخرى لملذات حفل الليدي آن.
وفي كل التحضيرات كانت السيدة رينولدز مساعدة موثوقة لإليزابيث. وقد التقَتْها إليزابيث أولَ مرة حين زارت بيمبرلي — بصحبةِ عمها وعمتها — واستقبلَتها مدبرةُ المنزل واصطحبَتها في جولة، وكانت مدبرة المنزل تعرف السيد دارسي منذ كان صبيًّا وقد أسرفَت في مدحه، كسيدٍ لها وكرجل بصورة عامة، حتى إن إليزابيث كانت تتساءل للمرة الأولى ما إن كان في تحيُّزِها ضده ظلمٌ له. ولم تتحدَّث إليزابيث قط عن الماضي إلى السيدة رينولدز، لكنَّها ومدبرةَ المنزل أصبحتا صديقتَين وأصبحت السيدة رينولدز — من خلال تقديم المساعدة ببراعةٍ — مصدرَ عونٍ لا غنَى عنه بالنسبة إلى إليزابيث التي أدركَت حتى من قبل وصولها الأولِ إلى منزل بيمبرلي كعروس أن كونها سيدةَ منزلٍ كهذا — أي أن تكون مسئولة عن هذا العدد الكبير من الموظفين — سيكون أمرًا مختلفًا تمامًا عن مهمة والدتها في إدارة شئون منزل لونجبورن. لكنَّ طيبتَها واهتمامها بحياةِ خدَمِها رسَّخت يقينًا في نفوسهم بأن سيدتهم الجديدة تهتمُّ لخيرهم وصالحهم، وكان كل شيء يسير بشكلٍ أسهلَ مما توقَّعت هي، بل وفي الواقع كانت الأمور تسير بمجهودٍ أقلَّ من المجهود المبذول لإدارة منزل لونجبورن؛ ذلك أن الخَدَم في منزل بيمبرلي — الذين كان غالبيتهم يخدمون منذ مدة طويلة — كانوا قد تدرَّبوا على يد السيدة رينولدز وستاوتون كبيرِ الخَدَم على العُرف الذي يتعيَّن الالتزامُ به وهو عدم إزعاج العائلة وضمان حصولها على خِدمة جيدة للغاية.
شعرت إليزابيث بأنها تفتقدُ حياتها السابقة، لكن أفكارها في معظم الأحيان كانت تتجهُ نحو الخَدَمِ في لونجبورن؛ هيل مدبِّرة المنزل التي كانت كاتمةَ جميع أسرارهم — بما في ذلك فِرار ليديا الشائن — ورايت الطباخ الذي لم يكن يشتكي من طلبات السيدة بينيت غير المنطقية إلى حدٍّ ما، والخادمتين اللتين كانتا — إلى جانب عمَلِهما — وصيفتَين لها ولجين، فكانتا تُصفِّفان لهما شعرَيهما قبل الحفلات. لقد أصبح أولئك الخَدَم جزءًا من العائلة على نحوٍ يتعذَّر على الخدَمِ في منزل بيمبرلي أن يكونوا عليه، لكن إليزابيث كانت تعلم أن منزل بيمبرلي نفسه — متمثِّلًا في المنزل نفسِه وفي عائلة دارسي — هو الذي كان يجمع العائلة بالخَدَم والمستأجرين في علاقةِ ولاءٍ متبادَل. وكان الكثيرون من الخَدَم هم أبناء وأحفاد السابقين من الخَدَم، وكان المنزل وتاريخُه يَجْريان في دمائهم. وكانت إليزابيث تعلم أيضًا أن مولد الصبيَّين الجميلَين اللذين يتمتَّعان بالصحة في غرفة نوم الأطفال بالطابق العُلوي — وهما فيتزويليام الذي تُقارب سنُّه الخامسة، وتشارلز وعمره عامان فقط — هما آخِر ما تظفر به، فهما يُمثِّلان ضمانًا بأن العائلة وإرثها سيستمرَّان في توفير العمل للخَدَم وأطفالهم وأحفادهم وأن وجود عائلة دارسي في منزل بيمبرلي مستمر.
وقبل نحوِ ستة أعوام قالت السيدة رينولدز لإليزابيث وهي تتداولُ قائمتَي الضيوف والطعام والأزهار من أجل حفلِ عشاء إليزابيث الأول: «كان يومًا سعيدًا لنا جميعًا يا سيدتي، حين أحضر السيد دارسي عروسه إلى المنزل. كان ذلك هو أكثرَ ما تتمنَّى سيدتي، وهو أن تعيش لترى ابنها متزوجًا. لكن للأسف، لم يكن مقدَّرًا لها ذلك. كنت أعلم كم كانت تتوق لأن يكون سيدي هانئًا مستقرًّا، وذلك من أجل صالحه هو وصالح منزل بيمبرلي.»
وقد تغلَّب فضولُ إليزابيث على حذَرِها. فقالت بطريقةٍ طائشة ومن دون أن ترفعَ نظرها وهي مشغولةٌ في نقل الأوراق على مكتبها: «لكن ربما ليس بهذه الزوجة. ألم تستقرَّ السيدة آن دارسي وأختها على أن يتمَّ تزويج السيد دارسي بالآنسة دي بيرج؟»
«لا أقول يا سيدتي إن الليدي كاثرين لم تكن تُفكِّر في مثلِ هذه الخُطة. فقد كانت تُحضِر الآنسة دي بيرج إلى منزل بيمبرلي كثيرًا حين يكون السيد دارسي موجودًا هنا. لكن ذلك الزواج لم يكن لِيَحدث قط. فقد كانت الآنسة دي بيرج المسكينةُ مريضةً باستمرار، وكانت الليدي آن تُولي اهتمامًا كبيرًا إلى ضرورة أن تتمتَّع العروس بالصِّحة. وقد سمعنا أن الليدي كاثرين كانت تأمُل أن يتقدمَ الكولونيل فيتزويليام — وهو ابن العم الثاني للآنسة دي بيرج — للزواج منها، لكن ذلك لم يحدث.»
وبعد أن عادت بوعيِها إلى الوضع الراهن، دسَّت إليزابيث دفتر الليدي آن في الدُّرج، وكانت مكرَهة على أن تترك أجواءَ الهدوء والعزلة التي انقطع أمَلُها في أن تستمتع بها من ذاك الوقت حتى نهاية الحفل، ثم سارت نحو إحدى النافذتَين اللتين كانتا تُطلان على الطريق أمام المنزل والنهر، وكان ذلك الطريق مُزدانًا بأشجار منزل بيمبرلي الشهيرة. وقد زُرِعت تلك الأشجار تحت إشراف بستانيٍّ بارزٍ في مجال تنسيق الحدائق قبل عدة أجيال. وكانت كلُّ شجرة على حافة الطريق مثاليةً في شكلها ومعلَّقًا عليها رايات الخريف ذات اللون الذهبي وتقف على مسافةٍ من الأخرى، وكأنها تُؤكد على تفرُّد جمالها، وكانت كثافة الأشجار تزداد كلَّما اتجهَت الأعين صوبَ جوف الطريق الذي تفوح منه رائحةُ الطين. وكانت هناك مجموعةٌ أخرى من الأشجار لكنها أكبرُ حجمًا، باتجاه الشمال الغربي، وقد نمَت تلك الأشجار بشكلٍ طبيعي وكانت مكانًا يلعب فيه دارسي أثناء صِغره وملاذًا سريًّا له من الحضانة. وقد بنى جدُّه الأكبر بعد أن ورث التركة — وأصبح ناسكًا منعزلًا — كوخًا هناك وسطَ تلك الأشجارِ وأطلق فيها النارَ على نفسه، وأصبحت تلك الأشجارُ — التي أُطلِق عليها الغابةَ من أجل التفريق بينها وبين الحديقة الشجرية الأولى — تبثُّ في نفوس الخدَم والمستأجرين في منزل بيمبرلي شعورًا خُرافيًّا بالخوف، وكان من النادر أن يزورها أحد. وفي تلك الغابة كان هناك طريقٌ ضيق يمر عبرها ويُؤدي إلى مدخلٍ آخرَ إلى منزل بيمبرلي، لكن ذلك الطريق كان يستخدمه في الأساس التجَّار، ويسلك ضيوفُ الحفل الطريق الرئيسي، وتمكث جيادهم وعرَباتهم في الإسطبل بينما يُستضاف سائقوهم في المطبخ حين يكون الحفل جاريًا.
وقفت إليزابيث طويلًا أمام النافذة ونحَّت جانبًا كلَّ الشواغل التي تُساورها، وأرخت عينَيها على ذلك الجمال المألوف الهادئ الذي كان يتَّسمُ أيضًا بدوام التغير. كانت الشمس تسطع في السماء بلونٍ أزرقَ بهيٍّ تتناثر فيها عدةُ سحب خفيفة، وكأنها خيوطٌ من دخان. وكانت إليزابيث تعرف من خلال النزهة القصيرة التي كانت تقوم بها وزوجها في بداية كلَّ يوم أنَّ سطوع شمس الشتاء خادعٌ، وكان النسيم الباردُ يُعيدهما سريعًا إلى المنزل حيث لا تكون مستعدةً له. والآن رأت إليزابيث أن الرياح كانت تشتدُّ. وكان سطح ماء النهر مجعدًا بأمواجٍ صغيرة راحت تتخلَّل العشبَ والشجيراتِ التي تحدُّ مجرى النهر، وكانت الظلال المتقطعةُ للعشب والشجيرات تهتزُّ على سطح الماء المضطرب.
ورأت إليزابيث أن هناك اثنَين من الأشخاص يتنسَّمان هواءَ الصباح الباردَ؛ كانت جورجيانا والكولونيل فيتزويليام يسيران بجوار النهر، وكانا الآن يلتفتان نحو الأشجار والدرجات الحجرية التي تُؤدي إلى المنزل. كان الكولونيل فيتزويليام يرتدي زيَّه الرسمي، فكانت سُترته الحمراء تُشكِّل دفقةً من لونٍ زاهٍ في مقابل معطف جورجيانا ذي اللون الأزرق الخافت. وكانا يسيران وبينهما مسافةٌ صغيرة، لكن إليزابيث رأت أنهما يسيران أحدهما برفقةِ الآخر، وكانا يتوقفان بين الحين والآخَر بينما تُمسك جورجيانا بقبَّعتها المهدَّدة بأن يجرفَها الهواء بعيدًا. وبينما كانا يقتربان، انسحبت إليزابيث من أمام النافذة وعادت إلى مكتبها، وكانت متوترةً بسبب أنها ترى أنه ينبغي ألا يُساورهما الشعور بأن ثَمة شخصًا يتجسَّس عليهما. كانت هناك خطاباتٌ ينبغي كتابتها، ودعواتٌ يتعين الردُّ عليها، وقراراتٌ يجب أن تتخذها بشأن ساكني الأكواخ الواقعين تحت وطأة الفقر والأسى الذين سيُرحِّبون بزيارةٍ منها تُعبِّر فيها عن تعاطفها معهم أو ربما تُقدِّم لهم فيها مساعدةً عمَلية.
وما كادت تُمسك بقلمها حتى سمعت طرْقًا خفيفًا على الباب حيث عادت السيدة رينولدز. «عذرًا سيدتي على إزعاجك، لكن الكولونيل فيتزويليام عاد لتوِّه من نزهة وسأل إن كان بإمكانك أن تُقابليه لبضع دقائق، إن لم يكن في هذا إزعاجٌ كبير لكِ.»
قالت إليزابيث: «لستُ مشغولةً الآن، إن كان يريد أن يأتي.»
ظنَّت إليزابيث أنها تعرف ما يريد أن يتحدَّث بشأنه، وأن هذا سيكون مزعجًا لها وأنها كانت لتسعدَ كثيرًا لو استطاعت تجنُّبه. كان لدارسي عددٌ قليل فقط من العلاقات الوثيقة، ومنذ الصبا وقريبه الكولونيل فيتزويليام يزوره باستمرارٍ في بيمبرلي. وخلال بداية حياته المهنية في الجيش لم يكن يأتي للزيارةِ كثيرًا، لكن خلال الثمانية عشر شهرًا المنصرمةِ أصبحت زياراتُه أقصرَ في المدة، لكنْ أكثرَ تواترًا، ولاحظَت إليزابيث أن هناك فرقًا — ضعيفًا لكن لا لبس فيه — في تصرفاته نحو جورجيانا، فكان يبتسمُ أكثرَ حين تكون حاضرة ويُظهِر استعدادًا أكبرَ من ذي قبل ليجلسَ إلى جانبها حين يمكنُه ذلك، ويدخل معها في محادثة. ومنذ زيارته العامَ الماضيَ لحضور حفل الليدي آن أصبح هناك تغييرٌ حقيقي في حياته. كان أخوه الأكبر — وهو وريث الإيرلية — قد تُوفي خارج البلاد، وورِث هو الآن لقب الفيكونت هارتلب وأصبح هو الوريثَ الشرعي. وكان يُفضِّل ألَّا يستخدم لقَبَه الحاليَّ خاصة حين يكون بين أصدقائه، وقرَّر أن ينتظر حتى ينجح قبل أن يضطلعَ بلقَبِه الجديد وبالمسئوليات العديدة التي تأتي معه، وكان لا يزال معروفًا بوجهٍ عام باسم الكولونيل فيتزويليام.
بالطبع سيريد الكولونيل فيتزويليام أن يتزوَّج، خاصة الآن حيث إن إنجلترا في حالة حرب مع فرنسا، وربما يَلقى هو حتفه من دون أن يترك وريثًا. ورغم أن إليزابيث لم تَشغل بالها قط بشجرة العائلة، فإنها كانت تعلم أنه لا يوجد له قريبٌ ذكَر، وأن الكولونيل إذا مات من دون أن يترك طفلًا ذَكرًا فإن الإيرلية ستزول عنه. وكانت تتساءل — ولم يكن ذلك للمرة الأولى — ما إن كان يبحث عن زوجةٍ له في بيمبرلي، وإن كان يفعل، فكيف سيتصرَّف دارسي تجاهَ ذلك. لا بد أن يكون مقبولًا له أن أخته ستكون كونتيسة، وأن زوجها سيكون عضوًا في مجلس اللوردات ومشرِّعًا للبلاد. كان كل هذا سببًا ومَدْعاة للفخر في العائلة، لكن هل ستُشارك جورجيانا ذلك؟ هي الآن امرأةٌ راشدة ولم تَعُد تخضع للوصاية، لكن إليزابيث كانت تعلم أن جورجيانا ستحزن كثيرًا إن اعتزمَت الزواج من رجلٍ لا يُوافق عليه أخوها؛ ثم كان هناك مسألة هنري ألفيستون المعقَّدة. وقد رأت إليزابيث ما يكفي لكي تتأكد من أنه واقعٌ في الغرام، أو أنه على وشك الوقوع فيه، لكن ماذا عن جورجيانا؟ كانت إليزابيث واثقةً من شيء واحد فقط، لن تتزوج جورجيانا دارسي من دون أن تُحب، أو من دون انجذابٍ قوي وعاطفة واحترام يمكن للمرأة أن تُطمئنَ نفسها بأن تلك العواطف ستتعمَّق لتُصبح حبًّا. ألم يكن هذا ليُصبح كافيًا بالنسبة إلى إليزابيث لو أن الكولونيل فيتزويليام تقدَّم للزواج منها بينما كان يزور عمَّته الليدي كاثرين دي بيرج في روزينجز؟ ففكرة أنها كانت لتخسر دارسي من غير قصدٍ منها وسعادتها الحاليَّة لتتمسك بعرضٍ من قريبه كانت مُهينةً أكثرَ من ذكرى تحيُّزها لجورج ويكهام الشائن، فنحَّت تلك الفكرة جانبًا عنها بكل حزم.
كان الكولونيل قد وصل إلى بيمبرلي في المساء السابق وقت العشاء، لكن بخلاف تحيته لها فلم يمكثا معًا وقتًا طويلًا. والآن وبينما كان يطرق الباب في هدوء ويدخلُ إلى الغرفة ويجلس في الكرسيِّ المقابل لها بجوار المدفأة، الذي عرَضَته هي عليه، بدا لإليزابيث أنها كأنها تراه للمرة الأولى. كان يكبُر دارسي بخمس سنوات، لكنهما حين التقَيَا للمرة الأولى في غرفة الصالون في روزينجز كان حسُّ دعابته المبهجُ وحيويته الجذابة يؤكدان اتصافَه بالصمت وقد بدا الأصغرَ سنًّا. لكن كل هذا قد اختفى. فقد أصبح الآن يمتلك نضجًا وجدِّية جعلاه يبدو أكبرَ من سنِّه الحقيقية. وفكَّرَت إليزابيث أن جانبًا من هذا ينبغي أن يكون مردُّه إلى خدمته في الجيش والمسئوليات الكبيرة على عاتقه كقائدٍ للرجال، فيما صحِب تغيُّرَ حالتِه ليس فقط جاذبيةً أكبر، وإنما فخرٌ عائليٌّ واضح أكبر، وكذا بالطبع لمحة من الغطرسة، التي كانت أقلَّ جاذبية من الصفات الأخرى.
لم يتحدث هو من فورِه وساد الصمت برهةً قرَّرَت خلالها أنَّ عليه هو أن يتحدث أولًا؛ لأنه هو مَن طلب اللقاء. وبدا الكولونيل وكأنه لا يعرفُ أفضل طريقة لبداية الحديث، لكن لم يَبدُ عليه ارتباكٌ أو اضطراب. وفي النهاية، مال إلى الأمام نحوها وقال: «أنا واثقٌ يا قريبتي العزيزة، أنك تمتلكين عينَين ذكيتين، وتهتمِّين بحياة الآخرين وشواغلهم؛ ولذا فإنك لا تجهلين تمامًا ما أريد أن أتحدث بشأنه. إنني كما تعلمين منذ وفاة عمتي الليدي آن دارسي وأنا أتمتَّع بامتيازِ مشاركة دارسي في الوصاية على أخته، وأعتقد أنني أستطيع أن أقول بأنني أدَّيت واجبي بإحساس عميق بالمسئولية، وعاطفةٍ أخوية تجاهها لم تتغيَّر قط. وقد تحولَت تلك العاطفة إلى حبٍّ من النوع الذي يُكِنه الرجل للمرأة التي يرغب في أن يتزوَّج بها، وإن أكثر ما أتمنى الآن هو أن تقبل جورجيانا بأن تكون زوجتي. أنا لم أتقدَّم رسميًّا إلى دارسي لكنه يتمتَّع بالبصيرة، ويَحْدوني الأملُ أن يحظى عرضُ زواجي بموافقته وقَبوله.»
رأت إليزابيث في نفسها أنه من الحكمة أكثرَ ألا تخوض في هذه الجزئية؛ وذلك لأن جورجيانا بلغت سنَّ الرشد. فقالت: «وماذا عن جورجيانا؟»
«لا يُمكنني أن أجد مبررًا لحديثي إليها إلا بعد موافقة دارسي. في الوقت الراهن أدرك أن جورجيانا لم تقُل شيئًا يُعزِّز الأمل بداخلي. وسلوكها تجاهي كالعادة هو سلوك ينمُّ عن الصداقة والثقة، وأعتقد أنها تُكن لي العاطفة. وآمُل أن تتحول تلك الثقة والعاطفة إلى حبٍّ إذا ما كنتُ صَبورًا تجاه ذلك. وأنا أومن أن الحبَّ بالنسبة إلى المرأة يأتي بعد الزواج أكثرَ مما يكون قبله، ويبدو لي أنه من الصواب والطبيعي أن يحدث ذلك. ففي النهاية أنا أعرفها منذ ولادتها. وأنا أُدرك أن فارق العمر بيني وبينها قد يُمثِّل مشكلة، لكنني أكبُر دارسي بخمسِ سنوات فقط، ولا أرى أن فارق العمر هذا يُشكل مانعًا.»
شعرت إليزابيث بخطورة الحديث. فقالت: «قد لا يُشكل فارقُ العمر مانعًا، لكنَّ انحيازًا من جانبها قد يكون عائقًا.»
«أتقصدين هنري ألفيستون؟ أنا أعرف أن جورجيانا تميل إليه، لكنني لا أرى شيئًا يوحي بأنَّ هناك ارتباطًا على مستوًى أعمق. إنه شاب مقبول وماهر ومميَّز. ولا أسمع عنه سوى كلِّ خير. وربما كان لديه آمالُه أيضًا. ومن الطبيعي أن يبحث عن الزواج بالمال.»
أشاحت إليزابيث بعيدًا. فأضاف هو مسرعًا: «لا أقصد بذلك الجشعَ أو النفاق، لكن بالنسبة إلى مسئولياته واعتزامه على إعادة إحياء ثروة العائلة وجهوده الكبيرة التي يبذلها من أجل استعادة ممتلكاته، وأحدِ أجمل المنازل في إنجلترا، فإنه لا يستطيع أن يتزوَّج من امرأة فقيرة. حيث إن ذلك سيؤدِّي بهما إلى الشقاء والفقر.»
كانت إليزابيث صامتةً. وكانت تُفكر مرةً أخرى في ذلك اللقاء الأول في روزينجز، وفي حديثهما معًا بعد العشاء، وفي الموسيقى والضحك وفي زياراته الكثيرة لبيت القس، وفي اهتمامه بها الذي كان واضحًا وضوحَ الشمس، فلا يمكن إغفاله. وفي مساء يوم حفل العشاء كانت الليدي كاثرين قد رأت ما يكفي ليُثير قلقها. لم يكن هناك شيءٌ تغفل عنه عيناها الثاقبتان الفضوليَّتان. وتذكَّرت إليزابيث ما قالته: «فيمَ تتحدَّثان؟ أشركوني معكما في حديثكما.» كانت إليزابيث تعرف أنها بدأت تتساءل إن كانت ستعيش حياة سعيدة مع ذلك الرجل، لكن الأمل — لو كان قويًّا بما يكفي لنُطلقَ عليه أملًا — كان قد خبَا وانطفأ حين التقيا بعد ذلك بمدة ليست بطويلة — ربما من قبيل الصدفة وربما كان اللقاء من ترتيبه هو — حين كانت تسير وحيدةً في روزينجز، فرافَقَها في طريق عودتها إلى مقرِّ القس. كان يأسى على فقره وكانت تُمازحه بأن تسأله عن السلبيات التي جلبَها الفقرُ على الابن الأصغر لأحد حاملي لقب إيرل. وكان ردُّه بأن الأبناء الصغار «لا يمكن لهم أن يتزوجوا حيث شاءوا.» في ذلك الوقت كانت تتساءل ما إن كان ذلك الرد يُمثِّل رسالةَ تحذير، وتسبَّب شكُّها في أن تشعر بشيءٍ من الارتباك الذي قرَّرت أن تُخفِيَه بتحويل المحادثة إلى شيء من الهزل أو المزاح. لكن ذكرى تلك الواقعة كانت أبعدَ ما تكون عن الهزل والمزاح. لم تكن إليزابيث في حاجةٍ إلى تحذير الكولونيل فيتزويليام ليُذكِّرها بما يمكن أن تتوقعه فتاةٌ لديها أربَعٌ من الأخَوات غير المتزوجات ولا تمتلك ثروةً من الزواج. فهل كان يقصد أنه كان من الآمَنِ لشابٍّ محظوظ أن يتمتع برفقة امرأةٍ مثلِها، أو يُغازلها في سرية، لكن الحكمة تقتضي بألا تأمُل هي في أكثرَ من ذلك؟ ربما كان التحذير ضروريًّا، لكنه لم يُرسل بالشكل الملائم تمامًا. لو أنه لم يُفكِّر فيها قط ولو أنه كان أقلَّ إظهارًا لاهتمامه تجاهها لكان وقْعُ الأمرِ أقلَّ وطأة.
كان الكولونيل فيتزويليام مدركًا لصمتها. فقال: «هل لي أن آمُلَ في الحصول على موافقتك؟»
التفتت إليزابيث له وقالت بنبرةٍ صارمة: «أيها الكولونيل، لا يمكنني أن أضطلِع بأيِّ دور في هذا الأمر. لا بد أن تُقرر جورجيانا بنفسها أين ستكون سعادتها. جلُّ ما يمكنني قوله أنها إذا وافقت على الزواج منك فإنني سأُشارك زوجي سرورَه برِباطٍ كهذا. لكن هذا ليس أمرًا يُمكنني التأثيرُ فيه. الأمر كله في يد جورجيانا.»
«كنتُ أعتقد أنها ربما حدَّثتك؟»
«لم تَبُح لي بأي شيء، ولن يكون من اللائق بالنسبة إليَّ أن أطرح هذا الأمر للنقاش معها حتى تختارَ — أو إذا ما اختارت — هي ذلك.»
بدا للحظةٍ أن حديثها يبثُّ فيه شعورًا بالارتياح، لكنه عاد للحديث عن الرجل الذي يعتقد بأنه مُنافسه، وكأنه كان مكرَهًا على ذلك. «إن ألفيستون شابٌّ وسيم ومقبول، ويتحدَّث بطريقةٍ لبقة. لا شكَّ أن الوقت والمزيد من النضج سيُهدئان من ثقته المفرطة ونزعته لإظهار احترامٍ أقلَّ لمن يكبرونه سنًّا وذاك أمرٌ مؤسف بالنسبة إلى شخصٍ مثله. ولا شك عندي أنه ضيفٌ مرحَّب به في هايمارتن، لكنني مندهش كثيرًا من أنه يستطيع تَكرار زيارة السيد والسيدة بينجلي بهذه الكثرة. فالمحامون الناجحون لا يُبددون أوقاتهم بهذا الشكل.»
لم تردَّ عليه إليزابيث واعتقد هو أن توجيه النقد — بشكلَيه الصريح والضِّمني — ربما كان تصرفًا طائشًا. فأضاف: «لكنه عادةً ما يكون في ديربيشاير في أيام السبت أو الأحد أو حين لا تكون المحاكمُ منعقدةً. وأعتقد أنه يستغلُّ الوقت في الدراسة متى ما أُتيح له ذلك.»
قالت إليزابيث: «تقول أختي إنها لم يأتها زائرٌ قط يقضي مثلَ ما يقضي هو من وقتٍ في المكتبة.»
ساد الصمت لحظةً أخرى ثم قال هو: «هل أستنتج من ذلك أن جورج ويكهام لا يزال غيرَ مرحَّب به في بيمبرلي؟» وقد أثار ذلك دهشتها وانزعاجها.
«لا، إطلاقًا. لم أرَه أنا ولا السيد دارسي ولم نتواصَل معه منذ كان في لونجبورن بعد زواجه من ليديا.»
ساد الصمت بينهما مرةً أخرى وقتًا أطولَ ثم بعد ذلك قال الكولونيل فيتزويليام: «من المؤسف ما حدث مع ويكهام حين كان صغيرًا. لقد تربَّى مع دارسي كأخٍ وأخت. وربما كان هذا مفيدًا لهما كِلَيهما حين كانا طفلَين؛ وبالنظر إلى عاطفة السيد دارسي الراحل تجاه خادمه، كان من الإحسانِ الطبيعيِّ بعد وفاة الأخير أن يتحمَّل بعض مسئوليات الطفل. لكن بالنسبة إلى صبيٍّ بطباع ويكهام — بجشَعِه وطموحه ونزعته إلى الحسد — كان من الخطر عليه أن يتمتعَ بثروةٍ لم يكن بمقدوره أن يتشارك فيها بمجرد انتهاء مرحلة الصِّبا. وفي فترة الجامعة ارتاد كلٌّ منهما كليةً مختلفة، وبالطبع لم يُشارك في رحلة دارسي إلى أوروبا. ربما حدثَت التغيرات في أوضاعه وتوقعاته بصورةٍ جذرية ومفاجئة للغاية. ولديَّ أسبابي التي تدفعني لأن أعتقدَ أن الليدي آن دارسي كانت ترى ذلك الخطرَ قادمًا.»
قالت إليزابيث: «لا يمكن أن يكون ويكهام قد توقَّع أن يُشارك في الجولة الكبرى.»
«ليس لديَّ علمٌ بما توقَّع ويكهام، عدا أنه كان دومًا يُفرط في توقعاته.»
قالت إليزابيث: «ربما كانت المننُ الأولى التي حصل عليها في البداية غيرَ حكيمة بدرجةٍ ما، ومن السهل دومًا أن يُشكك المرء في حكم الآخرين في أمورٍ ينقصنا فيها الكثير من المعرفة.»
تململَ الكولونيل في كرسيِّه. وقال: «لكن لا يُمكن أن يكون هناك عذرٌ لخيانة ويكهام للثقة التي يحظى بها من خلال محاولة إغواء الآنسة دارسي. كان ذلك عملًا شائنًا لا يمكن لأيِّ اختلاف في ظروف الميلاد أو التربية أن يُشكِّل مبررًا له. وبصفتي وصيًّا مشاركًا على الآنسة دارسي، فإنني علمت بالطبع بتلك العلاقة الشائنة، لكنها أصبحَت أمرًا أبعدته عن تفكيري. وأنا لم أتحدَّث عن الأمر مع دارسي قط، وأعتذر عن الحديث بشأنه الآن. لقد أظهر ويكهام أنه ينتمي إلى الجانب الأيرلندي، وهو الآن بطلٌ قومي من نوعٍ ما، لكن لا يمكن لذلك أن يمحوَ ما حدث بالماضي، رغم أن ذلك قد يُمِده بالفرص ليعيش حياةً أكثرَ احترامًا ونجاحًا في المستقبَل. وقد ترك الخِدمة في الجيش — بصورةٍ غيرِ حصيفة في رأيي — لكنه لا يزال صديقًا لرفاقه العسكريِّين كالسيد ديني، الذي ستذكرين أنني عرَّفتُك به للمرة الأولى في ميريتون. لكن لم يكن ينبغي لي أن أذكر اسمه في حضورك.»
لم يصدر عن إليزابيث أيُّ رد، وبعد برهة قصيرة من الصمت، نهض الكولونيل على قدَمَيه وانحنى ثم غادر. كانت إليزابيث على علمٍ أن أيًّا مِنهما لم يَجِد ارتياحًا في هذه المحادثة. فالكولونيل فيتزويليام لم يجد ما كان يأمُل من موافقتها الصادقة والتأكيد على دعمها وخشيَت إليزابيث من أن تُدمِّر الإهانةُ والإحراج صداقةً دامت منذ الصِّبا، وتعزُّ على زوجها، وهذا إذا ما فشل الكولونيل فيتزويليام في أن يظفرَ بجورجيانا. ولم يكن لدى إليزابيث أيُّ شك في أن دارسي سيقبل بالكولونيل فيتزويليام زوجًا لجورجيانا. فما كان يطمح إليه قبل كلِّ شيء هو الأمان لها، ومعه ستكون جورجيانا في مأمن؛ وحتى فرق السن سيُرى على أنه ميزةٌ على الأرجح. وبمرور الوقت ستحصل جورجيانا على لقب كونتيسة، ولن يكون المال أمرًا يُقلق الرجلَ المحظوظ الذي سيتزوجها. وتمنَّت إليزابيث أن تُسوَّى هذه المسألة بطريقةٍ أو بأخرى. ربما ستصل الأحداث إلى ذروتها غدًا أثناء الحفل الراقص الذي ستَزْداد فيه احتمالية أن يجلسا معًا، وستُتاح فيه فرصة أن يهمسَ الراقصون بعضهم إلى بعض أثناء الرقص، فمن المعروف أن الحفلات تتسبَّب في أن تصل الأحداثُ السعيدة منها وغيرُ السعيدة إلى خاتمةٍ لها. كل ما أمَّلَت به إليزابيث هو أن يرضى كلُّ المعنيِّين، ثم ابتسمت بسبب فرضيةِ أن هذا يمكن أن يحدث.
وكانت إليزابيث تشعر بالامتنان والسرور بفعل التغيير الذي حدث لجورجيانا منذ أن تزوجَت هي بدارسي. ففي البداية كانت جورجيانا مندهشة — إلى حدٍّ يقترب من الصدمة — من ممازحة زوجته له، ومن ردِّه على ذلك بمُمازحتها. ففي بيمبرلي لم يكن هناك الكثيرُ من الضحك قبل وصول إليزابيث، وبفعل تشجيعِ إليزابيث اللبقِ والدمث فقدَت جورجيانا خجَلها من دارسي. فقد أصبحَت جورجيانا الآن واثقةً في أخذها لمكانها حين يستضيفون الزوَّار، كما أصبحت أكثرَ استعدادًا لإبداء رأيها حين يجلسون على طاولة العشاء. وحيث كان فهمُ إليزابيث لأخت زوجها يتنامى، ظنَّت أن جورجيانا تمتلك تحت ذلك الخجل والتحفُّظ صفةً أخرى من صفات دارسي؛ الإرادة القوية. لكن ما مدى إدراك دارسي لهذا؟ أليست جورجيانا لا تزال جزئيًّا بالنسبة إليه تلك الفتاة الضعيفة ابنة الخمسة عشرَ ربيعًا، تلك الطفلة التي تحتاج إلى حبِّه الآمن إذا ما كان يُريد لها أن تبتعد عن المخاطر؟ لم يكن الأمر أنه لا يثقُ في شرف أخته أو عِفَّتها — فمثل هذه الفكرة تكاد تُقارب طعنه في دينها — لكن إلى أيِّ مدًى كان يثق في حُكمها؟ وبالنسبة إلى جورجيانا، كان دارسي — منذ وفاة والدهما — هو كبيرَ العائلة والأخَ الأكبر الحكيم الذي يتمتع بشيءٍ من سُلطة الأب، كان هو الأخَ الذي تُحبه كثيرًا ولا تخاف منه — حيث إن الحبَّ والخوف لا يجتمعان في قلبٍ واحد — وإنما كانت تهابه. ولم تكن جورجيانا لتتزوَّج من دون حب، لكنها أيضًا لم تكن لتتزوَّج من دون موافقة أخيها. ولكن ماذا لو انتهى الأمرُ إلى الاختيار بين الكولونيل فيتزويليام، قريبه وصديق طفولته ووريث الإيرلية، ذلك الجندي الشجاع الذي عرَف جورجيانا طوال عمرها، وبين المحامي الشابِّ الوسيم الجذاب الذي لا شك كان يصنع لنفسه مستقبلًا، لكنهم لا يعرفون عنه سوى القليل؟ سيرثُ ذلك المحامي منزلًا قديمًا، وحينها ستمتلكُ جورجيانا منزلًا — حين يجمع ألفيستون المال ويُرمِّمه — سيكون أحدَ أجملِ المنازل في إنجلترا. لكن دارسي كان يتمتَّع بقدرٍ كبير من الفخر بعائلته، ولا يوجد شكٌّ أن أيًّا من المرشَّحين سيوفِّر أكبرَ قدرٍ من الأمان ويمتلك مستقبلًا أكثرَ إشراقًا.
كانت زيارة الكولونيل لها قد دمَّرت سلامها النفسي، فتركها قلقةً وبائسة بعضَ الشيء. وكان مُحقًّا في قوله إنه لم يكن ينبغي له أن يذكر اسم ويكهام. فدارسي نفسُه لم يتواصل معه منذ أن تقابلا في الكنيسة وقت زواج ليديا، وتلك الزيجة لم تكن لِتتمَّ لولا إسرافُه في إنفاق المال. كانت إليزابيث واثقةً من أن هذا السرَّ لم يكن قد انكشف للكولونيل فيتزويليام، لكنه بالطبع علم بأمر الزواج ولا بد أنه تشكَّك في الأمر. فتساءلت في نفسها، أكان يُحاول أن يُطمئِن نفسَه بأن ويكهام لم يكن له أيُّ تأثير على حياتهما في بيمبرلي وأن دارسي اشترى صمت ويكهام ليضمن أن العالم لن يقول أبدًا إن الآنسة دارسي من بيمبرلي لديها سُمعة مدنَّسة؟ لقد جعلتها زيارةُ الكولونيل مضطربةً وبدأت تَذْرع الأرضَ جَيئةً وذهابًا، في محاولةٍ لتهدئةِ مخاوفَ كانت تأمُل أن تكون غيرَ منطقية ومن أجل استعادةِ شيء من رِباطة جأشها السابقة.
جلس الأربعة فقط على طاولة الغداء الذي كان وجيزًا. فكان لدى دارسي موعدٌ مع مدير أعماله، وقد عاد إلى غرفةِ مكتبه لينتظره. ورتَّبَت إليزابيث لتُقابل جورجيانا في المستنبت الزجاجي حيث سيَفْحصان الزهور والأغصان الخضراء التي أحضرها كبيرُ البُستانيِّين من الصوبات. كانت الليدي آن تُحب الكثير من الألوان والترتيبات المعقَّدة، لكن إليزابيث فضَّلَت أن تستخدم لونَين فقط إضافة إلى اللون الأخضر وأن تُنسق تلك الألوانَ في مجموعة متنوعة من المزهريَّات — الكبيرة منها والصغيرة — بحيث تحتوي كلُّ غرفة على أزهارٍ زكيةِ الرائحة. ويومَ غدٍ ستكون الألوان المستخدمة هي الأبيضَ والزَّهري، وقد عملت إليزابيث وجورجيانا وتبادَلَتا الرأيَ حول الروائح النفَّاذة للأزهارِ الطويلةِ السيقان وأزهار الجرنوقي. وكان جوُّ المستنبت الزجاجي الحارُّ والرطب طاغيًا فشعرَت إليزابيث برغبةٍ مفاجئة في تنفُّس الهواء الطَّلْق والشعور بالنسيم ينساب على وجنتَيها. هل كان هذا بسبب القلق الذي تسبَّب به وجودُ جورجيانا وسر الكولونيل، اللذَين شكَّلا عِبئًا عليها في يومها؟
وفجأةً انضمَّت السيدة رينولدز إليهم. فقالت: «سيدتي، إن عربة السيد والسيدة بينجلي تقتربُ من مدخل المنزل. وإذا ما أسرَعتِ فستصلين إلى الباب في الوقت المناسب لاستقبالهما.»
أطلقت إليزابيث صيحةً تنمُّ عن السرور، وهُرعَت إلى الباب الأمامي وتبِعَتها جورجيانا. وكان ستاوتن هناك بالفعل ليفتحَ الباب فيما كانت العربةُ تتحرك ببطءٍ حتى توقفت. هُرعَت إليزابيث إلى الخارج في الهواء الباردِ الآخذِ حِدَّتُه في الارتفاع. لقد وصلت عزيزتها جين وللحظةٍ تلاشى كلُّ شعورها بالقلق وراء شعورها بالسعادة تجاه لقائهما.