الفصل الأول
حين توقفَت عربة السير سيلوين عند المدخل الأمامي لمنزل بيمبرلي ومعها عربةُ المشرحة فتح ستاوتن الباب من فوره. وتأخَّر أحدُ السائسين قليلًا في الوصول لأخذ جواد دارسي، الذي اتفق مع ستاوتن بعد محادثةٍ قصيرة بينهما على أن عربة السير سيلوين ومعها عربةُ المشرحة لن تكونا ظاهرتَين لأي شخص ينظر من النافذة إذا ما نُقِلتا من أمام المنزل، وأُخِذتا عبر الإسطبلات إلى الباحة الخلفيَّة، ومن هناك يمكن لهم نقلُ جثة ديني في سرعةٍ وسرية كما يأمُلون. وفكَّرَت إليزابيث أن من الصواب أن تستقبل رسميًّا ذلك الضيفَ المتأخر المرحَّب به بالكاد، لكن السير سيلوين أوضح أنه كان حريصًا على أن يبدأ العملَ في الحال وتوقَّف فقط للانحناءِ أمام إليزابيث وتقديم التحية المعروفة والاعتذار المقتضَب عن حضوره في وقتٍ متأخر وعدم ملاءمة زيارته؛ وذلك قبل أن يُعلن أنه سيُباشر العمل برؤية ويكهام، وسيصحبه في ذلك الدكتور بيلشر والضابطان، توماس براونريج آمِرُ البلدة والضابطُ الأحدث ميسون.
كان ويكهام تحت حراسة بينجلي وألفيستون، الذي فتح الباب عندما طرَقه دارسي. كانت الغرفةُ مصمَّمةً لتكون غرفةَ حراسة. فكانت مفروشةً بأثاثٍ بسيط متناثر، يتألَّف من فِراش واحد يقع تحت أحد النوافذ المرتفعة، وحوضٍ ودولابٍ صغير وكرسيَّين خشبيَّين منتصِبَي الظهر. وأُحضِر كرسيَّان إضافيَّان مريحَان بدرجةٍ أكبر، فوُضع كلُّ واحد منهما على كلِّ جانب من جانبَي الباب لتوفير شيء من السهولة لأيِّ شخص يتولَّى الحراسةَ أثناء الليل. أما الدكتور ماكفي الذي كان يجلس عند أحد جانبي الفراش فقد وقف عندما وصل هاردكاسل. كان السير سيلوين قد التقى بألفيستون في إحدى حفلات العشاء في هايمارتن، وكان بالطبع على معرفةٍ بالدكتور ماكفي. فانحنى وأومأ تحيةً لهما، ثم تقدَّم نحو الفِراش. وبعد أن نظر ألفيستون وبينجلي أحدهما إلى الآخر، أدركا أنه من المتوقَّع منهما أن يُغادرا الغرفة، ومن ثمَّ فقد غادرا في هدوء، في حين ظل دارسي واقفًا غير بعيد. وأخذ براونريج وميسون موضعهما، كلٌّ على جانب الباب وراحا يُحدِّقان أمامهما، وكأنهما يُعلنان أن الغرفة ومسئولية الحراسة أصبحتا الآن تحت سلطتهما، رغم أن اضطِلاعهما بدورٍ فاعل أكثرَ في التحقيق لم يكن ملائمًا في الوقت الراهن.
كان الطبيب أوباديا بيلشر هو المستشارَ الطبي الذي يستدعيه المسئول الأعلى أو القاضي لمساعدتهم في التحقيق، وهو الأمر الذي لم يُثِر الدهشةَ بالنسبة إلى رجلٍ كان معتادًا فحصَ الموتى أكثرَ من اعتياده فحصَ الأحياء؛ فقد اكتسب ذلك الطبيبُ سمعةً مشئومةً لم يُخفِّف من وطأتها مظهرُه البائس. كان شعره الناعم الرقيق، كشعر الأطفال، أشقرَ اللون حتى كاد يتحوَّل إلى الأبيض، وكان مسحوبًا للخلف من جلدٍ شاحب، وكان يرى العالمَ من خلال عينَين ضيقتين مُريبتين، تقعان تحت حاجِبَين رفيعين. كانت أصابعه طويلةً وأظافره مشذَّبة بعناية، وكان ردُّ الفعل السائدُ تجاهه قد عبَّر عنه طبَّاخُ هايمارتن ولخَّصه بقوله: «لن أسمح للطبيب بيلشر أن يضع يده عليَّ. فمن يعرف أين كان يضعها قبل ذلك؟»
كما أن سُمعته المشئومة تلك لم يُخفف وطأتها امتلاكُه لغرفة عُلوية صغيرة مجهَّزة بتجهيزات مختبر، سادت الشائعاتُ بأنه كان يُجري فيها تجارِبَ عن الوقت الذي يستغرقه الدمُ في التخثُّر في ظل ظروفٍ مختلفة، وكذلك عن سرعة التغيرات التي تحدث في الجسد بعد الوفاة. وعلى الرغم من أنه كان يُمارس الطبَّ عمومًا بصورةٍ اسمية، فقد كان لديه اثنان من المرضى فقط، وهما المسئول الأعلى والسير سيلوين هاردكاسل، وحيث لم يكن من المعروفِ عنهما أنهما يمرضان، فإنَّ مكانتهما لم تُساعد في تحسين سُمعته كطبيب. كان السير سيلوين وآخَرون من المعنيِّين بتطبيق القانون يضَعونه في مكانةٍ عالية، حيث كان الطبيب يُدلي في المحكمة برأيه كرجلِ طبٍّ مخوَّل بسُلطة. وكان من المعروف عنه أنه على صلةٍ بالجمعية الملَكية كما كان يتبادل الخطابات مع رجالٍ آخَرين منخرطين في التجارِب العلمية، وفي العموم كان أكثرُ جيرانه علمًا فَخورين بسمعته الشهيرة أكثرَ من خوفهم من الانفجارات الصغيرة العرَضية التي كانت تهزُّ أرجاءَ مختبَرِه من آنٍ لآخَر. وكان الطبيب نادرًا ما يتحدَّث إلا بعد تفكيرٍ عميق من جانبه، والآن اقترب الطبيب من الفراش ووقف ينظر في صمتٍ إلى الرجل النائم.
كانت أنفاس ويكهام خافتةً للغاية حتى إنه كان يمكن سماعُها بالكاد، وكانت شفتاه مُتباعدتَين قليلًا. وكان يرقد على ظهره وذراعه اليسرى ممدَّدةً للخارج، وذراعه اليُمنى متقوِّسةً على الوسادة.
التفت هاردكاسل إلى دارسي. وقال: «من الواضح، حسبما فهمتُ من شرحكِ، أنه ليس في الحالة التي كان عليها حين أُحضِر إلى هنا. لقد قام شخصٌ ما بتنظيف وجهه.»
ساد الصمت مدة ثانيتَين، ثم نظر دارسي في عيني هاردكاسل وقال: «أتحمَّل مسئولية كلِّ ما حدث منذ أُحضِر السيد ويكهام إلى منزلي.»
وكان ردُّ هاردكاسل مدهشًا. فقد ارتعشَت شفتاه العريضتان إلى ما يُمكن أن يُعتبَر — بالنسبة إلى أيِّ رجلٍ آخر — ابتسامةً تنمُّ عن التسامح. وقال: «تلك شهامة منك يا دارسي، لكن أظن أنه بإمكاننا أن نتصوَّر أن السيدات هنَّ مَن فعلن هذا. أليست هذه هي وظيفتَهن التي يعرفنها؛ أن يُنظِّفْن الفوضى التي نُخلِّفها في منازلنا وفي حياتنا في بعض الأحيان؟ على أي حال، سيكون هناك من الأدلة من جهة الخَدَم ما يكفي حول الحالةِ التي كان عليها ويكهام حين أُحضر إلى المنزل. ولا يبدو أن هناك علاماتٍ واضحةً تشير إلى جروحٍ في جسده، عدا خدوشٍ بسيطة على جبهته ويده. إذن فلا بد أن غالبية الدماء التي كانت على وجهه ويده تعود إلى الكابتن ديني.»
ثم التفت إلى بيلشر. وقال: «أعتقد يا بيلشر أن أصدقاءك العلماءَ المهَرة لم يكتشفوا بعدُ طريقةً للتمييز بين دماء رجلٍ وآخر؟ إننا نُرحِّب بمساعدتهم في هذا الشأن رغم أن ذلك بالطبع سيحرمني من وظيفتي، وسيجرِّد براونريج وميسون من عملهما.»
«لا أسفَ على ذلك أيها السير سيلوين. فنحن لا نطمح لأن نُضاهِيَ الآلهة في علومنا.»
«أحقًّا؟ يُسعدني سماعُ ذلك. كنت أظن أن هذا مَطْمحُكم.» وكما لو أنه أدرك بأن المحادثة أصبحت غيرَ ملائمة للموقف، التفت هاردكاسل إلى الدكتور ماكفي وقال بنبرةٍ آمرة حادة. «ماذا أعطيتَه؟ يبدو كأنه فاقدٌ للوعي، وليس نائمًا. ألم تعلم أن هذا الرجل قد يكون هو المشتبَهَ به الرئيسي في تحقيقٍ عن جريمة قتل، وأنني سأرغب في التحقيق معه؟»
قال ماكفي بنبرة هادئة: «بالنسبة إليَّ هو مجرَّد مريض. لم يكن لديَّ شكٌّ أنه كان مخمورًا حين رأيته للمرة الأولى، كما كان عُدوانيًّا ومن الصعب السيطرة عليه. وفيما بعد، وقبل أن يسريَ مفعولُ العقَّار الذي أعطيته إياه، كان قد أصبح مُشوَّشًا وغير متماسكٍ من الخوف، فكان يصيح من الفزع، لكنَّ صياحه لم يكن مفهومًا. ومن الواضح أنه كان يحلم بجثثٍ تتدلَّى من المشانق ولها أعناقٌ ممطوطة. كان الرجل يُعاني كابوسًا قبل أن يخلد حتى إلى النوم.»
قال هاردكاسل: «مشانق؟ لا يدهشني سماعُ هذا بالنظر إلى موقفه. ماذا كان العقَّار الذي أعطيتَه إياه؟ أظن أنه كان مهدئًا من نوعٍ ما.»
«إنه مهدئٌ أخلطُ مكوناته بنفسي وقد استخدمتُه من قبلُ في عددٍ من الحالات. لقد أقنعتُه بأن يتناوله من أجل أن يُخفف عنه وطأةَ الحزن والقلق. لم يكن هناك أملٌ أن تستخرج منه أيَّ شيءٍ منطقيٍّ وهو في تلك الحالة.»
«ولا في حالته الآن. في اعتقادك كم سيمرُّ عليه قبل أن يستيقظ ويُصبحَ واعيًا من أجل التحقيق معه؟»
«من الصعب تحديد هذا. فالعقل في بعض الأحيان وبعد التعرُّض للصدمة يتخذ ملجَأً له في فقدان الوعي، ويكون النوم عميقًا ولفترة طويلة. لكن وبالنظر إلى الجرعة التي أعطيتُه إياها، من المفترض أن يستيقظ بحلولِ التاسعةِ من صباح الغد، وربما استيقظ قبل ذلك، لكن لا يمكن أن أكون دقيقًا، فقد وجدتُ صعوبةً في إقناعه أن يتناول عدةَ رشفات. وبعد موافقة السيد دارسي، أقترح أن أمكثَ في المنزل حتى يستعيدَ مريضي وعيه. فالسيدة ويكهام أيضًا تخضع لإشرافي ورعايتي.»
«ولا شكَّ أيضًا أنك أعطيتَها مهدئًا، وأنها غيرُ قادرة على الخضوع للتحقيق؟»
«كانت السيدة ويكهام مصابةً بالهستيريا بفعل الصدمة. لقد أقنعَت نفسَها أن زوجها قد قُتِل. كنت أعتني بامرأةٍ منزعجة من شدَّة الحزن، وكانت في حاجةٍ إلى الراحة من خلال أخذِ قسطٍ من النوم. لم يكن في مقدورك أن تسألها عن أي شيء حتى تُصبح أكثرَ هدوءًا.»
«كنتُ لأحصل منها على الحقيقة. أعتقد بأننا يفهم بعضنا بعضًا أيها الطبيب. أنت لديك مسئولياتك ولديَّ أنا مسئولياتي. وأنا لستُ برجلٍ غيرِ واقعي. وليس لديَّ أيُّ رغبة في إزعاج السيد ويكهام حتى الصباح.» ثم التفتَ إلى بيلشر. وقال: «ألديك أيُّ ملاحظات تُبديها يا بيلشر؟»
«لا أيها السير سيلوين، عدا أنني أتفقُ مع فعل الدكتور ماكفي فيما يتعلق بإعطاء ويكهام عقَّارًا مهدئًا. ففي الحالة التي وُصِفت لنا عنه، لم يكن بمقدورنا أن نستجوبَه، وإن كان قد قُدِّم للمحاكمة فيما بعد، فإن أيَّ شيء قاله كان سيُطعَن فيه أمام المحكمة.»
ثم التفتَ هاردكاسل إلى دارسي. وقال: «إذن سأعود عند التاسعة من صباحِ الغد. وحتى ذلك الحين، سيتولَّى آمرُ البلدة براونريج والضابطُ ميسون مسئولية حراسةِ الغرفة وستئول إليهما مفاتيحُها. وإن تطلَّب الأمر من الدكتور ماكفي رعايةَ ويكهام فسيستدعونه، وفيما عدا ذلك فلن يدخل أحدٌ هذه الغرفةَ حتى عودتي. سيحتاج الضباط إلى أغطيةٍ وإلى بعض الطعام والشراب كعَونٍ لهم؛ كاللحم المجمَّد والخبز، كالمعتاد.»
قال دارسي باقتضاب: «سيُحضَر كلُّ ما يلزم.»
حينها بدا أن هاردكاسل يُلاحظ للمرة الأولى معطفَ ويكهام الكبير وهو مُلقًى على أحد الكراسيِّ والحقيبةَ الجلدية الخاصة به على الأرض بجوار الكرسي. «هل هذه هي الأمتعة التي كانت في العربة؟»
قال دارسي: «عدا صندوقٍ للملابس وصندوقٍ للقبَّعات وحقيبةٍ أخرى تعود للسيدة ويكهام، كانت هناك حقيبتان أُخريَان، إحداهما تحمل الحرفَين ج. والثانية تحمل اسم الكابتن ديني. وكما أخبرني برات فإن العربة كانت مُستأجَرةً لتوصيل الرجلَين إلى كينجز آرمز في لامتون، وقد تُرِكَت الحقائب في العربة حتى عُدنا بجثة الكابتن ديني، وحينها أُدخلت الحقائب إلى المنزل.»
قال هاردكاسل: «سنحتاج إلى أن نتسلَّم هذه الحقائب بالطبع. سأُصادر كافة الحقائب عدا تلك التي تعود إلى السيدة ويكهام. وفي غضون ذلك، لننظر ماذا كان يحمل معه.»
وأمسك هاردكاسل بمعطف ويكهام الكبير وراح يهزُّه بقوَّة. فتناثرَت منه ثلاثُ ورقات شجرٍ جافَّة، ورأى دارسي أنه كانت هناك بضعُ ورقات أخرى متعلِّقة بأكمامه. سلَّم هاردكاسل المعطف إلى ميسون ودسَّ يده في جيوبه. ومن الجيب الأيسر له أخرج الأشياءَ الصغيرة العادية التي من المتوقَّع لمسافرٍ أن يحملها معه؛ قلمَ رصاصٍ، ودفترًا صغيرًا ليس به أيُّ مدخلات، ومنديلين، وزجاجةً قال هاردكاسل بعد أن أزال غِطاءها إنها كانت تحتوي على الويسكي. أما الجيب الأيمن فأخرج شيئًا أكثرَ إثارة؛ وهو محفظةُ جيبٍ جلدية. وبعد أن فتحها، سحب هاردكاسل منها رِزْمةً من النقود مطويَّةً بعناية، فعَدَّها.
«٣٠ جنيهًا تحديدًا. من الواضح أن النقود جديدة، أو على الأقل مطبوعةٌ حديثًا. سأعطيك إيصالًا بها يا دارسي، حتى نعرف مَن هو مالكها الحقيقي. سأضع المال في خزنتي الليلة. وربما أحصل في الصباح على تفسيرٍ لكيفية وصول هذا المبلغ إليه. أحد الاحتمالات يقول إنه أخذ النقود من جثة ديني، وإن كان هذا صحيحًا فقد يكون لدينا دافعٌ هنا.»
فغَر دارسي فاه كي يُبدي اعتراضَه، لكنه قرَّر أنه سيَزيد الأمور سوءًا بهذه الطريقة، فلم يقُل شيئًا.
قال هاردكاسل: «والآن أطلب أن أرى الجثة. أعتقد أنها تحتَ الحراسة؟»
قال دارسي: «ليست تحتَ الحراسة. إن جثة الكابتن ديني في غرفة السلاح، وبابُ تلك الغرفةِ موصَد. بدَت الطاولة في تلك الغرفة ملائمةً لوضع الجثة. ولديَّ في حوزتي مفاتيحُ الغرفة والدولاب الذي يحتوي على السلاح والذخيرة؛ ومن ثَمَّ فلم تكن هناك حاجةٌ إلى وضعِ حارسٍ على الغرفة. يمكننا الذهاب الآن. وإن لم يكن لديك اعتراض على ذلك، فإنني أرغب أن يكون الدكتور ماكفي بصحبتنا. فقد تجد أن رأيًا ثانيًا عن حالة الجثة يُمثِّل أفضلية.»
وبعد أن تردَّد للحظة، قال هاردكاسل: «ليس لديَّ أيُّ اعتراض. ولا شك أنك سترغب في أن تحضر بنفسك، وسأحتاج أنا إلى الدكتور بيلشر وآمر البلدة براونريج، لكن لن يكون من الضروريِّ وجودُ أحدٍ آخر. فنحن لا نريد أن نجعل الجثة عرضًا علنيًّا للكثيرين. لكننا بالطبع سنحتاج إلى الكثير من الشموع.»
قال دارسي: «لقد توقَّعتُ ذلك. وقد وُضِع المزيد من الشموع في غرفة السلاح وهي جاهزةٌ لإشعالها. وأعتقد أنك ستجد أن الإضاءة كافيةٌ بقدْرِ ما يُمكن أثناء الليل.»
قال هاردكاسل: «أريد شخصًا ليحرسَ هذه الغرفةَ مع ميسون حين يغيبُ بروانريج. سيكون ستاوتن خيارًا مناسبًا. أيُمكنك أن تستدعيَه يا دارسي؟»
كان ستاوتن ينتظر بالقرب من الباب كما لو كان يتوقَّع أن يُستدعى. دخل ستاوتن الغرفةَ ووقف صامتًا بجوار ميسون. وبعد أن أخذوا الشمعَ في يدِهم، غادر هاردكاسل وبقية الرجال، وسمع دارسي صوتَ المفتاح وهو يوصِد البابَ خلفهم.
كان المنزل في غاية الهدوء كما لو كان مهجورًا. كانت السيدة رينولدز قد صرَفَت كل الخَدَم الذين يعملون في إعداد الطعام للغد إلى أسِرَّتِهم، ولم يتبقَّ في الخِدمة سِواها وستاوتن وبيلتون. وكانت السيدة رينولدز تنتظر في الرَّدهة بجوار طاولةٍ تحمل مجموعةً من الشموع الجديدة في شمعدان فِضيٍّ طويل. وقد أُضيئت أربعُ شمعات منها، فكان لهبُها الذي يشتعل بثباتٍ يُبرز ظلمةَ بهو المدخل الكبير أكثرَ مما يُنيرها.
قالت السيدة رينولدز: «قد يكون هناك من الشمع أكثر مما ستكونون في حاجةٍ إليه، لكنني فكَّرت أنكم قد تكونون في حاجةٍ إلى مزيد من الإضاءة.»
أخذ كلُّ رجل منهم شمعة جديدة وأشعلها. وقال هاردكاسل: «اتركوا الشموع الأخرى في مكانها للوقت الراهن. سيُحضرها الضابط إن احتجنا إليها.» ثم التفت إلى دارسي. وقال: «قلتَ إن مفاتيح غرفة السلاح في حوزتك، وإنك وضعتَ فيها كميةً مناسبة من الشموع؟»
«هناك ١٤ شمعةً بالفعل أيها السير سيلوين. لقد وضعتُها بنفسي. ولم يدخل أحدٌ إلى غرفة السلاح منذ وُضِعت جثة الكابتن ديني فيها.»
«فلنبدأ إذن. فكلما بكَّرْنا في فحص الجثة كان أفضل.»
كان دارسي يشعر بالارتياح أنْ قَبِل هاردكاسل حضورَه. فقد أُحضِرت ديني إلى بيمبرلي، وكان من الملائم أن يكون سيد المنزل حاضرًا حين تُفحصُ الجثة، رغم أنه لم يعرف كيف يكون مفيدًا لهم بأيِّ شكل من الأشكال. قاد دارسي الموكب المستنير بالشمع نحو الجزء الخلفي من المنزل، وأخرج مفتاحَين كانا في حَلْقةٍ في جيبه، أخذ المِفتاحَ الأكبر منهما ليفتحَ غرفة السلاح. كانت الغرفة كبيرة جدًّا وبها صورٌ لحفلات صيد قديمة، وللغنائم فيها، وكان بها رفٌّ يحتوي على سجلاتٍ مصنوعةٍ من الجلد الزاهي، تعودُ على أقلِّ تقدير إلى قرنٍ مضى، وكان بها أيضًا مكتبٌ من خشب الماهوجني وكرسيٌّ ودولابٌ موصَدٌ يحتوي على الأسلحة والذخيرة. وكان واضحًا أن الطاولة الطويلة قد أُزيحت من جوار الجدار، ووُضعت في منتصف الغرفة، ووُضِعت الجثة عليها وغُطِّيت بغطاءٍ نظيف.
وقبل أن ينطلق دارسي ليُبلِغ السير سيلوين بمقتل ديني، كان قد أمرَ ستاوتن بأن يأتيَ بشمعدانات متساوية في الحجم وشموعٍ طويلة من أفضلِ نوع، وكان يعرف أن تلك المغالاة ستكون سببًا للتذمُّر بين ستاوتن والسيدة رينولدز. فتلك الشموع كانت مخصصةً لغرضِ إضاءةِ غرفة الطعام. ووضع دارسي وستاوتن الشموعَ في صفَّين على الطاولة، وكان يحمل دارسي الثقاب في يده. والآن أشعل دارسي الشموع، وحيث كان لهبُ الثقاب يُلامس طرَفَ الشمعة، كانت الغرفة تُضاء أكثر، فأسبغَ الضوءُ على الوجوهِ الناظرةِ وهجًا دافئًا جعل ملامحَ هاردكاسل الحادة القوية تبدو دمثةً، وبينما كان الدخانُ يتصاعد من الشمع كدخان البخور، ذابت رائحته الطيبة المؤقتة في رائحة شمع العسل. وبدا لدارسي أن الطاولة بصفوفِ الشموع المتلألئة عليها قد تحوَّلَت إلى مذبحٍ مبالَغ في زخرفته، وأن حجرة السلاح بأثاثها القليل تحوَّلت إلى كنيسة صغيرة، وأن خمستهم كانوا يُؤدُّون مراسمَ الجنازة لديانة غريبة وشاقة.
وفيما كان الرجال يقفون حول الطاولة وكأنَّهم مساعدون للكاهن، أزاح هاردكاسل الغِطاء. كانت عينُ ديني اليُمنى سوداءَ من الدم الذي لطَّخ جزءًا كبيرًا من وجهه، لكن العين اليُسرى كانت مفتوحةً تمامًا، وكان بُؤْبُؤها مقلوبًا إلى الأعلى بحيث شعرَ دارسي — الذي كان يقف خلف رأس ديني — أنها كانت تُحدِّق إليه، لكن ليس بالتبلُّد الناتج عن الموت، وإنما كانت تحمل في نظرتها البغيضةِ كثيرًا من اللوم والتأنيب.
وضع الدكتور بيلشر يدَه على وجه ديني وذِراعيه وساقيه ثم قال: «تيبُّس الجثة واضحٌ بالفعل على الوجه. وفي تقديري المبدئي، أقول إنه مات قبل خمسِ ساعات أو نحو ذلك.»
قام هاردكاسل ببعض الحسابات البسيطة ثم قال: «هذا يؤكد ما تكهَّناه بالفعل، وهو أنه مات بعد أن غادر العربة بمدةٍ قصيرة، وعلى وجه التقدير في الوقت نفسِه الذي دوَّى فيه صوتُ الطلقات. لقد قُتل بحلول التاسعة من مساء أمس. لكن ماذا عن الجرح؟»
اقترب الدكتور بيلشر والدكتور ماكفي من الجثة، وأعطيا الشموعَ التي كانا يُمسكان بها لبراونريج الذي وضع شمعتَه على الطاولة، ورفع الشموع التي أخذها عاليًا بينما كان الطبيبان يُحدِّقان عن قربٍ إلى بقعة الدم الداكنة.
قال الدكتور بيلشر: «نحن في حاجةٍ إلى تنظيفِ ذلك قبل أن نتحققَ من عُمق الجرح، وقبل أن نفعل ذلك، ينبغي أن نأخذ في الاعتبار كِسْرةَ ورقة الشجر الجافة ومَسحةَ الوحل اللتَين فوق منبع الدم. لا بد أنه سقط على وجهه في وقتٍ ما بعد أن أُصيب بالجرح. أين الماء؟» ثم نظر حوله وكأنه كان يتوقَّع أن يخرج الماء من الأرض.
أطلَّ دارسي برأسه من الباب وأمر السيدة رينولدز أن تُحضر وعاءً من الماء وبعضَ المناشف الصغيرة. وقد أُحضِرت بسرعةٍ حتى إن دارسي اعتقد أنها كانت تتوقَّع هذا الطلب وأنها كانت تنتظرُ عند الصنبور في حجرةِ حفظِ المعاطف المجاورة. أعطت السيدة رينولدز الوعاءَ والمناشف إلى دارسي من دون أن تدخلَ الغرفة، وتوجَّه الدكتور بيلشر إلى حقيبة أدواته، وأخرج منها كُراتٍ صغيرةً من الصوف الأبيض، وراح يمسح الجلد لينظِّفه، ثم ألقى بالصوف المخضَّب بالدمِ في الماء. وتناوب هو والدكتور ماكفي على النظر عن قربٍ إلى الجرح، ثم لمسا الجلد حوله مرةً أخرى.
وكان الدكتور بيلشر هو الذي تحدَّث في النهاية. فقال: «لقد ضُرِب بشيء صُلب، مستديرِ الشكل غالبًا، لكن بما أن الجلد قد انسحقَ فلا يُمكنني أن أكون دقيقًا بشأن شكل وحجم السلاح المستخدَم. لكن ما أنا واثقٌ بشأنه هو أن الضربة لم تقتله. لقد نتجَ عنها إراقةُ كميةٍ كبيرة من الدماء، كما يحدث دائمًا في إصابات الرأس، لكن الضربة لم تكن قاتلة. ولا أدري إن كان زميلي يُوافقني الرأي.»
أخذ الطبيب وقتَه في نخز الجلد حول الجرح، ثم بعد دقيقةٍ تقريبًا قال: «أتفق معك. الجرح سطحي.»
فجاء صوتُ هاردكاسل الجهير يكسر الصمت. وقال: «إذن فلنقلِبْه.»
كان ديني ثقيلَ الجثة، لكن تمكَّن براونريج بمساعدة الدكتور ماكفي من قلبِه بحركةٍ واحدة. فقال هاردكاسل: «المزيد من الإضاءة من فضلكم.» فتحرَّك دارسي وبراونريج إلى الطاولة وأمسك كلٌّ منهما بمجموعةٍ من الشموع، واقتربا من الجثة وهما يحملان شمعةً في كل يد. وساد الصمت وكأنَّ أحدًا من الحضور لم يُرِد أن يقول ما هو واضح. ثم قال هاردكاسل: «هاكم أيها السادة، هذا هو سبب الوفاة.»
رأى الحضورُ جرحًا عميقًا طوله يبلغ أربعَ بوصات، ويمتدُّ عبر الجزء السفلي من الجمجمة، لكن طوله الكامل محجوبٌ بفعل خصلات الشعر الذي دخل بعضُه في الجرح. توجَّه الدكتور بيلشر إلى حقيبته وعاد ومعه ما بدا أنه سكِّين فضيٌّ صغير، ورفع الشعر بحذرٍ عن الجمجمة، فتكشَّف لهم جرحٌ غائر عرْضه ربع بوصة تقريبًا. وكان الشعر تحت الجرح متيبسًا ومتشابكًا، لكن كان من الصعب رؤيةُ ما إذا كان سببُ ذلك هو الدمَ أو نضْحًا من الجرح. راح دارسي ينظر بتركيزٍ أكبر، لكن تسبَّب شيءٌ من الرعب والشفقة في ارتفاع الغثيان إلى حلقه. ثم جاء صوتٌ أشبهُ بتأوُّهٍ لا إرادي، وتساءل إن كان هو مَن فعل ذلك أو شخصٌ آخر.
انكبَّ كِلا الطبيبَين على الجثة. استغرق الدكتور بيلشر وقتًا طويلًا مرةً أخرى ثم قال: «لقد ضُرِب بهِراوة لكن ليس هناك تمزُّقٌ في الجرح، الأمر الذي يدل على أن السلاح كان ثقيلًا لكنه كان ذا حافةٍ مصقولة. الجرح مشابه لجروح الرأس البليغة التي تكون فيها خصلاتٌ من الشعر والأنسجة والأوعية الدموية مغروزةً في العظم، لكن وحتى لو ظلَّت الجمجمة سليمةً، فإن نزيف الدمِ النابعِ من الأوعية الدموية تحت العظم يتسبَّب في حالة نزيفٍ داخلي بين الجُمجمة والغشاء الذي يُغطي المخ. كانت الضربة قويَّةً للغاية، إما من مهاجمٍ أطولَ قامةً من الضحية، أو مُساوٍ له في الطول. وفي رأيي أن المهاجم كان يستخدم يدَه اليُمنى وأن السلاحَ كان أشبهَ بالجهة الخلفية لفأس؛ أي إن السلاح كان ثقيلًا ومصقولًا. ولو كان الضحية قد أُصيب بنصلِ فأسٍ أو سيف، لكان الجرحُ غائرًا أكثر، ولكادت الرأسُ أن تُفصَل عن الجسد.»
قال هاردكاسل: «إذن هاجم القاتلُ ضحيتَه من الأمام أولًا، مما تسبَّب في إضعافه، ثمَّ حين ترنَّح الضحية مبتعدًا عنه وقد أعماه الدمُ — الذي حاول بصورةٍ غريزيةٍ أن يمحوَه عن عينَيه — هاجمه القاتلُ مرةً أخرى، لكن من الخلفِ هذه المرة. هل من الوارد أنَّ السلاح كان حجرًا له حافةٌ حادة؟»
قال بيلشر: «ليس ذا حافةٍ حادة، فالجرحُ ليس ممزَّقًا. من الوارد بشدةٍ أن السلاح كان حجرًا ثقيلًا، لكن ذا حافة مصقولة، ولا شك أنه كانت هناك بعضُ الأحجار المشابهة لذلك الحجرِ في الغابة. ألا يتمُّ إحضار الأحجار والخشبِ المستخدَم في إصلاحات المنزل من ذلك الطريق؟ من الممكن أن بعض الأحجار وقعَت من عربةٍ ما، ثم أُزيحت بعد ذلك تحت الشجيرات، وأغلبُ الظنِّ أنها ظلَّت في مكانها ذلك لسنوات. لكن لو كان السلاح حجرًا، فإن الأمر يحتاج إلى رجلٍ شديدِ القوة ليقومَ بمثلِ هذه الضربة. من المرجَّحِ أكثرَ أن الضحية سقط على وجهه وأن القاتلَ انهال على رأسه بالحجر بقوةٍ فيما كان الضحية يرقد منبطحًا وعاجزًا.»
فسأله هاردكاسل: «كم المدة التي يُمكن أن يكون قد ظلَّ فيها على قيد الحياة وهو مصابٌ بهذا الجرح؟»
«من الصعب تحديدُ ذلك. ربما لقي حتْفَه في غضونِ ثوانٍ من الإصابة، لكن لا شك أنه لم يبقَ على قيد الحياة طويلًا.»
ثم التفتَ إلى الدكتور ماكفي الذي قال: «مرَّت عليَّ حالاتٌ تسبَّب فيها السقوطُ على الرأس في أعراضٍ أخرى غير الصداع، وقد قام المصابُ بمواصلة شئون حياته ليموتَ بعد ذلك بساعاتٍ قليلة. لكن لا يمكن أن يكون هذا هو ما حدث في هذه الحالة. فالجرحُ غائر جدًّا، ولا يمكن النجاةُ منه سوى مدَّةٍ قصيرة للغاية، إن كانت النجاةُ منه ممكنة.»
اقترب الدكتور بيلشر برأسه من الجثة أكثر. وقال: «سأكون قادرًا على معرفة الضرر الذي أصاب الدماغَ حين أقوم بتشريح الجثة.»
كان دارسي يعلم أن هاردكاسل يُبغِض تشريح الجثة، ورغم أن الطبيب بيلشر ربح الجدالَ حين تنازعا حول ذلك، قال هاردكاسل: «هل سيكون ذلك ضروريًّا حقًّا يا بيلشر؟ أليس سببُ الوفاة واضحًا لنا جميعًا؟ يبدو أن ما حدث هو أن المهاجم وجَّه الضربةَ الأولى إلى جبهة الضحية حين كان يقفُ في مواجهته. ثم حاول الكابتن ديني — الذي أعماه الدمُ — أن يهرب ليتلقَّى الضربة القاتلة من الخلف. ونعرف من الوحل على وجهه أنه سقط على وجهه. وأعتقد يا دارسي أنك حين أبلغتَني بالجريمة وجدتَه على ظهره.»
«أجل أيها السير سيلوين، وبهذا رفعناه على النقالة. وهذه هي المرة الأولى التي أرى فيها هذا الجرح.»
ساد الصمتُ مرةً أخرى، ثم وجَّه هاردكاسل حديثه إلى بيلشر. «شكرًا لك أيها الطبيب. بالطبع ستقوم بأيِّ فحصٍ للجثة قد تجد أنه ضروري؛ فليس لديَّ أيُّ رغبة في كبح تقدُّم المعرفة العلمية. لقد فعلنا كلَّ ما يُمكننا فعْله هنا. سننقل الجثة الآن.» ثم التفت إلى دارسي. وقال: «سأحضر في تمام التاسعة من صباح الغدِ وآمُل حينها أن أتحدَّث إلى جورج ويكهام، وإلى أفراد الأسرة والخَدَم، وذلك حتى نُرسِّخ لحجج الغياب في وقت وقوع الجريمة. وأنا واثقٌ من أنك ستتقبَّل ضرورة ذلك. وكما أمرت، سيظلُّ آمر البلدة براونريج والضابطُ ميسون في الخِدمة، وسيكونان مسئولَين عن حراسة ويكهام. وستظل الحجرةُ موصدةً من الداخل ولن يُسمح لأحد بالدخول إلا في حالة الضرورة. وسيكون هناك اثنان من الحراس في أيِّ وقت من الأوقات. أريد منك أن تُؤكدَ لي الامتثالَ لهذه الأوامر.»
قال دارسي: «سيُمتَثل لها بالطبع. أيمكنني أن أُقدِّم لك أو للدكتور بيلشر أيَّ مرطِّبات قبل أن تُغادرا؟»
«لا، شكرًا لك.» ثم أضاف وكأنه أدرك أنه يجب أن يُضيف شيئًا: «أشعر بالأسف على وقوع هذه المأساةِ على أرضك. لا شك أنها ستكون مصدرَ إزعاج؛ خصوصًا لسيدات العائلة. وحقيقة أنك وويكهام لم تكونا على وفاقٍ ستجعل من الصعب تحمُّلَ هذه المأساة. وبصفتك قاضيًا زميلًا لي ستتفهَّم مسئوليتي بخصوص هذا الشأن. وسأُرسل رسالةً إلى قاضي التحقيق، وآمُل أن تُعقَد جلسات التحقيق في لامتون في غضون الأيام القليلة القادمة. ستكون هناك هيئةُ محلَّفين محليِّين. وسيُطلَب منك الحضور بالطبع مع الشهود الآخرين الذين شهدوا العثور على الجثة.»
«سأكون حاضرًا أيها السير سيلوين.»
قال هاردكاسل: «سأحتاج إلى أحدٍ يساعد في حمل النقالة لنقل الضحية إلى عربة المشرحة.» ثم التفتَ إلى براونريج. وقال: «أيُمكنك أن تضطلعَ بمسئولية حراسة ويكهام وتُرسل ستاوتن إلى هنا؟ بما أنك هنا أيها الدكتور ماكفي وترغب في تقديم المساعدة، فمن الممكنِ أن تُساعدنا في نقل الجثة.»
وفي غضون خمسِ دقائق، حُملت جثة ديني من غرفة السلاح — وكان الدكتور ماكفي يلهثُ أثناء ذلك — ووُضعت في عربة المشرحة. ثم أُوقِظ السائق، وعاد السير سيلوين والدكتور بيلشر إلى العربة، ووقف دارسي وستاوتن ينتظران عند الباب المفتوح، حتى تحرَّكَت العربات مقعقعةً وغابت عن الأنظار.
وحيث كان ستاوتن يلتفتُ ليدخل المنزل، قال دارسي: «أعطني المفاتيحَ يا ستاوتن. سأوصد أنا الأقفال. أريد أن أستنشقَ بعض الهواء العليل.»
كانت الرياحُ قد هدأت الآن، لكنَّ قطرات المطر الكبيرة الثقيلة كانت تتساقطُ على سطح النهر الأجوف تحت ضوء القمر المكتمِل. كم مرةٍ وقف فيها هنا وحيدًا ليهربَ من غرفة الموسيقى بِلَغْوها وموسيقاها لدقائقَ قليلة. والآن، كان المنزلُ خلفه صامتًا وقاتمًا، وذلك المشهد البديعُ الذي كان يجد فيه دومًا السلوانَ والسكينة لم يَعُد بإمكانه أن يؤثِّر في نفسه. لا بد أن إليزابيث قد خلدَت إلى الفراش، لكنه يشكُّ أنها نائمة. كان دارسي في حاجةٍ إلى الراحة التي يشعرُ بها في وجودها، لكنه يعرف أنها لا بد أن تكون منهَكة، ولم يكن ليُوقِظَها حتى ولو كان في أشدِّ احتياجٍ إلى سَماع صوتها والشعورِ بحبِّها وطمْأنتِها له. لكنه حين دخل المنزل وأدار المفاتيحَ فيه، ومطَّ جسده ليوصِد المزاليجَ الثقيلة، شعر بضوءٍ خافت آتٍ من خلفه، وحين التفت وجد إليزابيث تنزل على الدرَج مُمسِكة بشمعةٍ في يدها، وتتجهُ نحو ذراعَيه.
وبعد عدةِ دقائق من تنعُّمِهما بالسعادة أثناء صمتِهما، حرَّرَت إليزابيث نفسَها من بين ذراعَيه بحركةٍ لطيفة وقالت: «عزيزي، لم تتناول شيئًا من الطعام منذ العشاء وتبدو منهَكًا. لا بد أن تتزوَّد ببعض الطعام لما تبقَّى من الليل. الكولونيل وتشارلز هنا بالفعل.»
لكنه حُرِم من سعادة التنعُّم بالفراش وكذلك حِضن إليزابيث. ففي غُرفة الطعام الصغيرة وجد بينجلي والكولونيل قد تناولا الطعامَ بالفعل، وأن الكولونيل كان عازمًا على تولِّي زِمام الأمور مرةً أخرى.
قال الكولونيل: «أقترح يا دارسي أن أقضيَ الليلةَ في حجرة المكتبة، وهي قريبةٌ بما يكفي من البابِ الأماميِّ بما يسمح لي أن أحرصَ على تأمين المنزل. وقد سمحتُ لنفسي أن آمر السيدة رينولدز بإحضار الوسائد وبعض الأغطية. وليس من الضروريِّ لك أن تنضمَّ إليَّ، إن كنت في حاجةٍ إلى الحصول على قدْرٍ أكبر من الارتياح في فراشك.»
فكَّر دارسي أن الاحتياط من خلال البقاء بجوار الباب الأمامي الموصَد ليس ضروريًّا، لكنه لم يكن ليسمحَ بأن ينام ضيفٌ له قلقًا، في حين يتنعَّمُ هو في فِراشه. وحين شعر أنه لم يكن أمامه خيارٌ آخَر، قال: «لا يُمكنني أن أفترض أنَّ مَن قتل ديني سيتَّسمُ بالجُرأة أو التهور، ويُهاجم منزل بيمبرلي، لكنني سأنضمُّ إليك بالطبع.»
قالت إليزابيث: «السيدة بينجلي نائمةٌ على الأريكة في غرفة السيدة ويكهام، وستكون بيلتون مناوِبة، كما سأكون أنا في مُناوَبة بعدها. سأحرص على أن يكون كلُّ شيء على ما يُرام هناك قبل أن أخلدَ إلى النوم. ولا يسَعُني سوى أن أتمنَّى لكما ليلةً هادئة وقسطًا جيدًا من النوم. وحيث إن السير سيلوين هاردكاسل سيكون هنا بحلول التاسعة صباحًا، فسأطلب أن يُحضَّر طعام الإفطار مبكرًا. أما الآن فطابت ليلتُكما.»