الفصل السادس
تبيَّن أن زيارة السير سيلوين كانت أقلَّ إرهاقًا وأقصرَ مما كانت تخشاه عائلة دارسي. فقد كتب المسئول الأعلى — السير مايلز كالبيبر — لكبير خدَمِه يوم الخميس السابق ليُخبره بأنه سيعود إلى ديربيشاير بحلول موعد العشاء في يوم الإثنين، وفكَّر كبير الخَدَم أنَّ مِن الحصافة أن ينقل تلك الأخبارَ إلى السير سيلوين هاردكاسل. ولم يتعطَّف المسئول الأعلى ويُقدِّم شرحًا لهذا التغيير في الخطط، لكن هاردكاسل لم يجد صعوبةً في التكهُّن بالحقيقة. فزيارة السير مايلز والليدي كالبيبر إلى لندن بمتاجرها الرائعة ووسائل ترفيهها المتنوِّعة أثارت نوعًا من سوء التفاهمِ الشائعِ في الزِّيجات التي يؤمن فيها الزوجُ الأكبر سنًّا بأن المال ينبغي أن يُستخدَم لإدرارِ المزيدِ منه وتُؤمن فيها الزوجة الجميلة الأصغرُ سنًّا أن الغاية من وجود المال هو إنفاقه؛ وإلا — كما أشارت هي مرارًا — فكيف سيعرف الجميعُ أنك تمتلك المالَ؟ فبعد أن تلقَّى المسئول الأعلى الفواتير الأولى التي تُشير إلى بذخِ زوجته في الإنفاق، اكتشف أن طاقة الالتزام بمسئوليات العامة قد تجدَّدت وأخبر زوجتَه أنه من الضروري العودةُ إلى المنزل. وعلى الرغم من أن هاردكاسل كان يستبعد أن يكون خطابُه السريع الذي يحمل أخبارَ وقوع جريمة القتل قد وصل إلى السير مايلز بعد، فإنه كان على علمٍ بأن المسئول الأعلى سيطلب تقريرًا شاملًا بسير التحقيقات؛ وذلك بمجرد أن تصِلَه أخبارُ تلك الحادثة. وكان من السخيف أن يعتقد هاردكاسل أن الكولونيل الفيكونت هارتليب أو أيَّ أحد من منزل بيمبرلي مشاركٌ في مقتل ديني، ومن ثمَّ فلم يكن لدى السير سيلوين أيُّ نية في أن يقضيَ وقتًا في منزل بيمبرلي أكثرَ مما ينبغي. كان آمر البلدة براونريج قد تحقَّق لدى وصوله من أن أيًّا من الجياد أو العربات قد غادرت إسطبلات منزل بيمبرلي بعد خروج الكولونيل فيتزويليام على صهوة جواده. والمشتبَه به الذي يتوق إلى استجوابه بشكلٍ عاجل هو ويكهام، وقد وصل السير سيلوين بعربة السجن واثنَين من الضباط بنيةِ أن ينقله إلى مكانٍ ملائم أكثرَ في سجن لامتون حيث يمكن له أن يحصل منه على جميع المعلومات اللازمة ليُقدِّم إلى المسئول الأعلى تقريرًا شاملًا وافيًا بما قام به هو والضباطُ في التحقيق.
واستقبلَت عائلة دارسي السير سيلوين الذي كان دمثًا على غيرِ عادته، وقد وافق أن يتناول شرابًا مرطبًا قبل أن يشرعَ في التحقيق مع الأسرة وهنري ألفيستون والكولونيل في غرفة المكتبة. وما قدَّمَه الكولونيل عما قام به من أنشطةٍ لم يُثِر أيَّ تساؤلات. حيث بدأ حديثه بالاعتذار إلى أسرة دارسي عن التزامه الصمتَ. لقد ذهب إلى كينجز آرمز في لامتون بِناءً على اتفاقٍ مع سيدة طلبت مشورته ومساعدته في أمرٍ حسَّاس يتعلَّق بأخيها الذي كان فيما سبق أحدَ الضباط الذين يخدمون تحت إمرته. كانت المرأة تزور أحدَ أقاربها في المدينة، واقترحت أن لقاءهما في الفندق سيمتاز بخصوصيةٍ أكبرَ مما لو كان في مكتبه في لندن. ولم يُفصح الكولونيل عن هذا الاجتماع في وقتٍ سابق؛ لأنه كان يرغب في أن تُغادر المرأة المذكورة لامتون قبل أن يعرف الجميع بأمر نزولها في الحانة، وإلا لأصبحت عُرضة لأن تكون موضعَ فضولٍ للعامة. وقال إنه يمكن أن يُقدِّم اسمها وعُنوانَها في لندن إن كان من اللازم التأكُّد من حقيقةِ ما يقول؛ إلا أنه كان واثقًا أن شهادة صاحب الحانة والزبائن الذين كانوا يتناولون الشرابَ هناك لدى وصوله ومغادرته ستُؤكد حُجة غيابه.
فقال هاردكاسل بنبرةٍ تنمُّ عن الاقتناع الذاتي: «لن يكون من الضروريِّ فعلُ ذلك أيها اللورد هارتليب. كان مُلائمًا بالنسبة إليَّ أن ذهبتُ إلى كينجز آرمز في طريقي إلى هنا هذا الصباح لأتحققَ مما إن كان هناك غرباءُ يمكثون في الفندق يوم الجمعة، وقد أُخبرتُ بأمر السيدة. لقد خلَّفَت صديقتك انطباعًا مثيرًا في الفندق؛ فقد أُخبِرتُ أنها أتت في عربةٍ أنيقةٍ جدًّا ومعها خادمتها الشخصية وخادمٌ آخر. وأرى أنها أنفقَت الكثير من المال حيث كان صاحبُ الفندق آسفًا على رحيلها.»
ثم حان الوقت لكي يُحقِّق هاردكاسل مع الخَدَم الذين تجمَّعوا كما حدث من قبلُ في قاعة الخَدَم، وكان الشخص الوحيد المتغيِّب عن الاجتماع هي السيدة دونوفان التي لم تعتزم أن تترك الحَضانة من دون حماية. وحيث إنه من الشائع أن يشعر البريء بالذنب أكثرَ من شعور المذنِب به، فقد كان الجوُّ العام يُعبِّر عن الارتباكِ أكثرَ مما يُعبِّر عن الترقُّب. وقرَّر هاردكاسل أن يجعل حديثه مطمئنًا ومقتضبًا بقدْر ما يُمكنه، وهو مقصدٌ أفسدته جزئيًّا تحذيراته الصارمة المعتادة بخصوص العواقب الوخيمة التي تحُلُّ على الذين يرفضون التعاونَ مع الشرطة أو الذين يكتمون المعلومات. وبنبرةٍ معتدلةٍ أكثرَ أكمل حديثه قائلًا: «ليس لديَّ شكٌّ أن جميعكم كانت لديه أشياءُ ليقوم بها في الليلة السابقة لحفلِ الليدي آن أفضل من الخروج في ليلٍ عاصفٍ بهدف قتل رجلٍ غريب في الغابة الموحشة. وأطلب من أي شخص بينكم لديه معلومات يُدلي بها، أو غادر منزل بيمبرلي ليلةَ أمسِ في أيِّ وقت بين السابعة مساءً والسابعة من هذا الصباح أن يرفع يده.»
رُفِعَت يدٌ واحدة. فهمسَت له السيدة رينولدز: «هذه بيتسي كولارد يا سيدي، وهي إحدى الخادمات في المنزل.»
طلب منها هاردكاسل أن تقف، وهو ما فعلَته بيتسي في الحال من دون تردُّد ظاهر. كانت الفتاة تتحلَّى بالشجاعة والثقة وتحدَّثَت بنبرةٍ واضحة: «كنتُ مع جوان ميلر يا سيدي، في الغابة يوم الأربعاء الماضي، ورأينا شبح السيدة رايلي بوضوحٍ تام كما نراك الآن. كانت تختبئُ هناك بين الأشجار، وترتدي معطفًا أسودَ وقلنسوة، لكنَّ وجهها كان واضحًا تمامًا تحت ضوء القمر. ودبَّ الرعبُ في نفسي أنا وجوان وهُرعنا إلى خارج الغابة بأسرعِ ما يُمكننا، ولم تلحق هي بنا. لكننا رأيناها يا سيدي، وما أقول إلا صدقًا.»
أُمِرَت جوان ميلر أن تقف، وغمغمت في تردُّد بأنها تتفقُ مع ما قالت بيتسي، ومن الواضح أنها كانت خائفة. ومن الواضح أن هاردكاسل شعر وكأنه ينتهكُ موضوعًا أنثويًّا ملتبسًا. ثم نظر إلى السيدة رينولدز التي تولَّت زِمام الأمر. فقالت: «تعرفون تمام المعرفة يا بيتسي ويا جوان أنه من غير المسموح لكما أن تُغادرا منزل بيمبرلي بعد حلول الظلام من دون أحدٍ يصحَبُكما، ومن غير الأخلاقيِّ كما هو من الغباء أن تُصدِّقا أن الموتى يعودون إلى الأرض. إنني أخجل منكما لأنكما سمحتما لأنفسِكما أن تُصدِّقا مثل هذه الخرافات الساذجة. سأجتمع بكلتَيكما في حجرتي بمجرد أن ينتهيَ السير سيلوين هاردكاسل من تحقيقه.»
ورأى السير سيلوين أن هذا المشهد يبثُّ الرعب في الفتاتَين أكثرَ مما يُمكنه هو أن يفعل. وغمغمَت كِلتاهما قائلتَين: «أمرك يا سيدتي رينولدز.» ثم جلستا من فورهما.
أُعجِب هاردكاسل بالتأثيرِ الفوريِّ لكلماتِ مدبرةِ المنزل، فقرَّر أنه من المناسب له أن يُرسِّخ لمكانته بتحذيرٍ أخير. فقال: «يدهشني أن أيَّ فتاة تتمتَّع بميزة العمل في منزل بيمبرلي يمكن أن تسمحَ لنفسها أن تُصدِّق مثل هذه الخرافات. ألم تتلقَّيا أيَّ تعليم مسيحي؟» ولم تكن هناك إجابةٌ أكثر من: «بلى يا سيدي.»
عاد هاردكاسل إلى الجزءِ الرئيسيِّ من المنزل وانضمَّ إلى دارسي وإليزابيث، ومن الواضح أنه كان يشعر بالارتياح لأنَّ كلَّ ما تبقَّى من مهمته هو الجزءُ الأسهل وهو نقل ويكهام. وكان السجين المقيدُ الآن بالأغلال قد أُعفي من مهانةِ وجود مجموعة من الأشخاص يُشاهدونه وهو يُغادر، وشعر دارسي أن من واجبه أن يكون موجودًا ليتمنَّى له حظًّا طيبًا ويُشرِف على عملية نقله إلى عربة السجن بواسطة آمر البلدة براونريج والضابط ميسون. ثم استعدَّ هاردكاسل ليدخلَ إلى عربته، لكن وقبل أن يهزَّ السائق اللجامَ دفع برأسه خارجَ نافذة العربة ووجَّه حديثه إلى دارسي قائلًا: «التعاليم المسيحية. إنها تحتوي على وصايا بعدمِ الإيمان بالمعتقَدات الخرافية والوثنية، أليس كذلك؟»
تذكَّر دارسي أن والدته هي مَن علَّمَته التعاليم المسيحية، لكنَّ واحدًا فقط من تلك التعاليم ظلَّ معلَّقًا في ذهنه، وهو أنه ينبغي عليه ألا يسرق، وهي وصيةٌ كانت دائمًا ما تطرق أبوابَ ذاكرته بوتيرةٍ مثيرةٍ للارتباك؛ حيث إنه امتطى مُهرَه هو وجورج ويكهام حين كانا صغيرَين، وذهَبا إلى لامتون، وكانت ثمار التفاح الناضجةُ تتدلَّى مغريةً لهما من الأشجار الملاصقة لجدار البستان الذي كانت مِلكيتُه في ذلك الحين تعود إلى السير سيلوين. فقال دارسي بنبرةٍ صارمة: «أعتقد أيها السير سيلوين أن التعاليم المسيحيةَ لا تحتوي على شيء مُناقض لتعاليم الكنيسة الإنجليزية وممارساتها.»
«صحيح. صحيح. تمامًا كما اعتقدت. يا لهنَّ من فتياتٍ غبيات.»
وحين أصبح السير سيلوين على قناعةٍ بنجاح زيارته، أعطى أوامرَه بأن تتحرك العربة، فراحت تُقعقع على الطريقِ الواسعِ وتتبعها عربةُ السجن، وراح دارسي يرقبها حتى غابت عن الأنظار. وحدث لدارسي أنه فكَّر أن رؤيته للزوار يحلُّون ويُغادرون المنزل قد أصبحت أمرًا اعتياديًّا، لكن رحيل عربة السجن وفيها ويكهام ستُخفف كثيرًا من وطأة الرعب والمحنة على بيمبرلي، وكان دارسي يأمُل أيضًا ألا يكون من الضروريِّ مقابلةُ السير سيلوين أو رؤيته مرةً أخرى قبل بدء التحقيقات.