الفصل الأول
كان من المسلَّم به بالنسبة إلى الأسرة والأبرشية أن السيد والسيدة دارسي وأهل بيتهما سيحضرون إلى كنيسة سانت ماري في القرية في الحادية عشرة من صباح يوم الأحد. فقد انتشرت أخبارُ مقتل الكابتن ديني بسرعةٍ كبيرة، وعدم ظهور الأسرة سيكون بمثابةِ اعترافٍ إما باشتراكهم في الجريمة أو بإدانتهم للسيد ويكهام. ومن المتفَق عليه عمومًا أن الصلاة في الكنيسة تُوفِّر للحضور فرصةً مشروعةً من أجل تقييمهم ليس فقط لمظهر الوافدين الجدد للأبرشية وسلوكياتهم وأناقتهم وثروتهم المحتملة، وإنما أيضًا لسلوك جيرانهم الذين يكونون في موقفٍ مثيرٍ للاهتمام، يتراوحُ بين الحمل والإفلاس. ووقوعُ جريمة قتلٍ وحشيةٍ ضمن حدودِ أملاكِ رجلٍ على يد نسيبٍ له من المعروف أنَّ بينهما عداوةً لا شكَّ أنه سيتسبَّب في حضورِ مجموعةٍ كبيرة من الناس إلى الكنيسة، بما في ذلك بعض المعتلِّين المعروفين الذين منعَهم مرضُهم من الحضور إلى الكنيسة سنواتٍ طويلة. ولم يكن هناك أحدٌ بالطبع فظًّا بما يكفي ليُظهر فضوله، لكن يمكن معرفة الكثير من خلال التفريق بين الأصابع أثناء رفع اليد للدعاء، أو من خلالِ نظرةٍ واحدة من تحت القَلَنسوة أثناء ترديد الترانيم. وقد قام القسُّ بيرسيفال أوليفانت — الذي كان قد زار منزل بيمبرلي قبل الصلاة من أجل الإعراب عن تعازيه ومواساته — بكلِّ ما في وُسعه للتخفيف من محنة الأسرة، في البداية من خلال إلقاءِ خطبةٍ طويلةٍ بشكلٍ غيرِ عادي، وتكاد تكون غيرَ مفهومة، عن تحوُّل القديس بولس إلى المسيحية، ثم باحتجاز السيد والسيدة دارسي بينما كانا يُغادران الكنيسة بحديثٍ مطوَّل ممتد، بحيث إن الطابورَ الطويلَ من الأشخاص الذين كانوا ينتظرون خلفهم — ولا يُطيقون صبرًا أن يعودوا إلى منازلهم من أجلِ تناولِ الغداء المكوَّن من اللحم البارد — اكتفَوا بمجرد الانحناء أمام القسِّ قبل أن يتوجَّهوا إلى عرباتهم.
ولم تظهر ليديا أثناء ذلك الجمع، ومكثَت عائلة بينجلي في منزل بيمبرلي لرعايتها والإعداد لعودتهم إلى منزلهم بعد ظهر اليوم. وبعد بعثرةِ ليديا لملابسها منذ وصولها، استغرق ترتيبُ ثيابها في صندوقها بالشكل الذي يُرضيها وقتًا أطولَ مما استغرقَته عائلة بينجلي في إعدادِ صناديقِ ثيابهم. لكن تم الانتهاء من كل شيء بحلول الوقت الذي عاد فيه دارسي وإليزابيث لتناول الغداء، وبعد أن تجاوزت الساعة الثانية ظهرًا ﺑ ٢٠ دقيقة كانت عائلة بينجلي مستقرَّة في عربتها استعدادًا للرحيل. تم توديع الجميع وهزَّ السائق لجامَ الجياد. وبدأت العربة تتحرَّك، ثم انعطفت على طول الطريق الواسع بمُحاذاة النهر، ثم نزلَت المنحدر على الطريق واختفت عن الأنظار. وقفت إليزابيث ترقب العربة وكأنها تُحاول استحضارها مرة أخرى إلى مجال رؤيتها، ثم التفتَت المجموعة الصغيرة وعادت إلى المنزل.
وفي الرَّدهة توقَّف دارسي ثم قال موجِّهًا حديثَه إلى ألفيستون وفيتزويليام: «سأكون ممتنًّا لانضمامكما إليَّ في غرفة المكتبة في غضون نصف الساعة. نحن الثلاثة وجَدْنا جثة ديني وقد نُستدعَى جميعًا للشهادة في التحقيق. لقد أرسل السير سيلوين رسولًا بعد الإفطار هذا الصباحَ ليقول بأن قاضيَ التحقيق الدكتور جوناه ميكبيس يطلب حضورنا عند الحادية عشرة صباحَ يوم الأربعاء. وأريد أن أتأكَّد من أن ذِكرانا عن الحادثة متطابقة، خاصةً حول ما قيل حين وجدنا جثة الكابتن ديني، وقد يكون من المفيد أن نُناقش كيف سنُدلي بشهادتنا بصفةٍ عامة. إن ذِكْرى ما رأينا وما سمعنا كانت غريبة جدًّا، وكان ضوء القمر مضلَّلًا، حتى إنني أُضطَر إلى تذكير نفسي بين الحين والآخَر أن الأمر كان حقيقيًّا.»
غمغمَ الرجلان بإذعانهما، وفي الوقت نفسِه تقريبًا تقدَّم كلٌّ من الكولونيل فيتزويليام وألفيستون إلى غرفة المكتبة حيث وجدا دارسي هناك بالفعل. كان بالغرفة ثلاثةُ كراسيَّ مستقيمةِ الظهر موضوعةٍ إلى طاولةٍ مستطيلة، وكرسيَّان آخران مرتفعا الظهر، وكان كلُّ كرسيٍّ منهما موضوعًا إلى أحد جوانب المدفأة، فأشار دارسي إلى الوافدين أن يجلسا في هذَين الكرسيَّين وأحضر هو أحد الكراسي الثلاثة الأخرى وجلس بينهما. وكان ألفيستون يجلس على حافةِ كرسيِّه، فبدا لدارسي أنه يشعر بالقلق ويكاد يرقى إلى الشعورُ بالحرج، وكان هذا شيئًا مغايرًا تمامًا لثقته المعتادة بنفسه، حتى إن دارسي شعر بالاندهاش حين تحدَّث ألفيستون أولًا ووجَّه حديثه إليه.
«ستقوم بالطبع باستدعاء مُحاميك الخاصِّ يا سيدي، لكن إن كنتُ أستطيع تقديم المساعدة في غضون ذلك — إن كان هو بعيدًا عن هنا — فسأكون في خدمتكَ. بصفتي شاهدًا فلا يمكنني بالطبع أن أمثِّل السيد ويكهام أو أحدًا من منزل بيمبرلي، لكن إن وجدت أنني أستطيعُ تقديم المساعدة، فيمكنني أن أُطيل البقاء في ضيافة السيدة بينجلي مدةً أطول قليلًا. فقد كانت هي والسيد بينجلي لطيفَين بما يكفي لِيَعرضا عليَّ ذلك.»
كان ألفيستون يتحدَّث بنبرةٍ مترددة، فتحوَّل ذلك المحامي اليافعُ الماهر الناجح — وربما المتغطرِس — لوهلةٍ إلى صبيٍّ يشعر بالارتباك والحرج. وكان دارسي يعرف سبب ذلك. كان ألفيستون يخشى أن يُفسَّر عرْضُه — خصوصًا من قِبَل الكولونيل فيتزويليام — على أنه حيلةٌ لتعزيز موقفه لدى جورجيانا. وتردَّد دارسي في الردِّ لبضع ثوانٍ؛ مما أعطى ألفيستون فرصةً ليُكمل حديثه بسرعة.
«وقد يتمتع الكولونيل فيتزويليام بالخبرة في أمور المحاكم العسكرية مما يُشعرك أن أيَّ نصيحة أُقدِّمها ستكون مجردَ إطناب، خصوصًا وأن الكولونيل يتمتعُ بمعرفة بالأمور المحلية، وهو أمرٌ أفتقر إليه شخصيًّا.»
التفتَ دارسي إلى الكولونيل فيتزويليام. وقال: «أعتقد أنك ستُوافق يا فيتزويليام على الاستفادة من أي مساعدة قانونية ممكنة.»
قال الكولونيل في هدوء وغير تحيُّز: «لستُ بقاضٍ ولم أكن يومًا، وبالكاد يُمكنني القول إن تجرِبتي العرَضية بالمحاكم العسكرية تُؤهلني لادِّعاء الخبرة في القانون الجنائي المدَني. وحيث إنني لستُ من أقارب جورج ويكهام، فليس لي حقُّ المثول أمام المحكمة في هذا الأمر إلا كشاهد. والأمر متروكٌ لدارسي ليُحدِّد المشورةَ التي ستكون مفيدة. وكما يقول هو نفسُه، فمن الصعب رؤيةُ كيف يمكن للسيد ألفيستون أن يكون ذا نفعٍ في الأمر الراهن.»
التفت دارسي إلى ألفيستون. وقال: «سيكون مجيئك وذَهابك يوميًّا بين هايمارتن وبيمبرلي مضيعةً للوقت لا طائل من ورائها. لقد تحدثَت السيدة دارسي إلى أختها، ونأمُل جميعًا أن تظل هنا في بيمبرلي. وقد يطلب منك السير سيلوين هاردكاسل أن تُؤجِّل رحيلَك حتى تنتهيَ الشرطة من تحقيقها، رغم أنني لا أجد مبررًا لاستجوابك مرةً أخرى بعد أن تكون قد أدلَيت بشهادتك أمام قاضي التحقيق. لكن ألن تُواجه المتاعبَ في عملك؟ من المعروف عنك أنك مشغولٌ على الدوام. إننا لن نقبل بالمساعدة على حساب عملك.»
قال ألفيستون: «ليس لديَّ قضايا تتطلبُ حضوري الشخصيَّ لثمانية أيام أخرى، ويمكن لشريكي المتمرِّس أن يتولَّى إدارة الأمور الروتينية بسلاسةٍ حتى ذلك الحين.»
«إذن سأكون ممتنًّا لمشورتك حين تجد أنه مِن الملائم إسداؤها. إن المُحامين الذين يتعاملون مع منزل بيمبرلي يشتغلون معظمَ الوقت بالأمور المنزلية، وتأتي الوصايا في المقام الأول، وبعد ذلك شراءُ الأملاك وبيعها، والنزاعات المحليَّة وعلى حدِّ علمي فإنهم يتمتَّعون بمعرفةٍ قليلة بأمور جرائم القتل إن وُجدت، ومن المؤكد أنها لم تكن في بيمبرلي. وقد أرسلتُ إليهم بالفعل لأُخبرهم بما حدث، وسأرسل إليهم الآن بريدًا سريعًا آخرَ لأُطلِعَهم على مشاركتك في الأمر. وينبغي عليَّ أن أُنبهك إلى أن السير سيلوين هاردكاسل لن يكون متعاونًا. إنه قاضٍ متمرِّس وعادل، ويهتمُّ اهتمامًا بالغًا بالعملية التحقيقية التي يترك أمرها في الغالب إلى ضباطِ القرية، كما أنه حريصٌ على ألا ينتهكَ أحدٌ سلطاته.»
ولم يُقدِّم الكولونيل أيَّ تعليق آخر.
وقال ألفيستون: «سيكون من المفيد — أو على الأقل أجدُ الأمر كذلك — لو أننا ناقَشْنا في البداية ردَّ الفعلِ المبدئيَّ على الجريمة، خصوصًا فيما يتعلَّق باعتراف المتهَم الظاهر. هل نرى أن تأكيد ويكهام على الأمر يعني أنه لو لم يتشاجر مع صديقه، لما خرج ديني من العربة قط لِيَلقى حتْفَه؟ أم أنه لحِق بديني بنيةِ قتله؟ المسألة هنا تتعلَّق بشخصية ويكهام بصورة كبيرة. وأنا لم أعرف السيد ويكهام قط، لكنني أدرك أنه ابنُ مدير أعمال والدك الراحل وأنك كنتَ على معرفةٍ وثيقةٍ به في صِباكما. فهل ترى يا سيدي كما يرى الكولونيل أنه قادرٌ على فعل شيء كهذا؟»
نظر ألفيستون إلى دارسي، وبعد أن تردَّد لحظةً أجابه قائلًا: «قبل زواجه بالأختِ الصُّغرى لزوجتي لم نتقابَل إلا نادرًا لسنوات طويلة، وبعد زواجه منها لم نتقابل قط. في الماضي كنت أجده ناكرًا للجميل وحَقودًا وغيرَ أمين ومُخادعًا. وهو يتمتع بوجهٍ مليح، وأسلوبه مقبولٌ في المجتمع، خاصة مع النساء، الأمر الذي يضمن له الاستحسانَ العام، ومسألة استمرار هذه المحاسن مع المعارف الشخصية الطويلة هي مسألةٌ مختلفة، لكنني لم أرَ من قبلُ أنه يتَّسم بالعنف، ولم أسمع أنه مذنبٌ بتهمة العنف. إن تصرفاته من النوع الفظِّ، وأُفضِّل ألا أتحدَّث عنها، لكننا جميعًا لدينا القدرة على التغير. كلُّ ما يُمكنني أن أقوله هو أنني لا أستطيع أن أُصدِّق أن ويكهام الذي كنت أعرفه من قبل — بالرغم من عيوبه — قادرٌ على أن يرتكب جريمةَ قتلٍ شنيعةً لصديقٍ ورفيقٍ قديمٍ له. في رأيي أنه رجل يُفضِّل الإحجام عن العنف ويحاول تجنُّبَه متى أمكنه ذلك.»
قال الكولونيل فيتزويليام: «كان ويكهام يُواجه المتمردين في أيرلندا ويعترف الكثيرون بشجاعته. وينبغي علينا أن نعترف له بشجاعته.»
فقال ألفيستون: «لا شكَّ أن المرء حين يُوضع أمام خيارَين إما أن يَقتل وإما أن يُقتَل فإنه لن يُظهِر أيَّ رحمة. وأنا لا أقصد أن أنتقصَ من شجاعته، لكن يُمكن للحرب وللتعرض المباشر للمعارك بالطبع أن يُفسد حساسيةَ أي رجل، حتى ولو كان مسالمًا، بحيث يصبح أقلَّ مَقتًا للعنف؟ ألا ينبغي علينا أن نضعَ في اعتبارنا هذه الاحتمالية؟»
ورأى دارسي أن الكولونيل كان يُواجه صعوبةً في السيطرة على انفعاله. حيث قال: «لا يفسد المرء من أداء واجبه تجاهَ مَلِكِه ووطنه. ولو كان لديك أيُّ تجرِبة عن الحرب أيها الشابُّ فأقترح أن تكون أقلَّ استخفافًا بردَّة فعلك تجاه الأفعال التي تتسم بالشجاعة الاستثنائية.»
فكَّر دارسي أنه من الأفضل أن يتدخَّل. فقال: «لقد قرأتُ بعض الشهادات عن التمرد الأيرلندي في عام ١٧٩٨ في الصحف، لكنها كانت موجزةً ومقتضبة. لا شك أنني فوَّتُّ بعض التقارير. ألم يكن ذلك حين أُصيب ويكهام وحصل على ميدالية؟ ما الدور الذي لعبه بالتحديد؟»
«كان مشاركًا — مثلي — في معركة يوم ٢١ يونيو في إنيسكورثي حين هاجمنا التلَّ ودفعنا المتمرِّدين إلى التراجع. ثُم في يوم الثامن من شهر أغسطس، هبط الجنرال جين هامبرت بألفِ جندي فرنسي، وزحف بهم جنوبًا نحو كاسلبار. وحثَّ الجنرال الفرنسيُّ حلفاءه المتمرِّدين على تدشينِ ما سُمِّيَت بجمهورية كونوت، وفي يوم السابع والعشرين من شهر أغسطس زحف نحو بحيرة جينرال ليك في كاسلبار، وكانت تلك هزيمةً نَكْراء للجيش الإنجليزي. حينها طلب اللورد كورنواليس التعزيزات. وحافظ كورنواليس على قوَّاته بين المُغيرين الفرنسيين ودبلن، فحاصر هامبرت بين بحيرة جينرال ليك وقوَّاته. وكانت تلك نهاية الفرنسيِّين. وهاجم الفُرسان الإنجليز جناحَ الجيش الأيرلندي والخطوط الفرنسية، وهنا استسلم هامبرت. وقد شارك ويكهام في ذلك الهجوم، وكان مشاركًا في جمْع المتمرِّدين وتفكيكِ جمهورية كونوت. وكان ذلك العملُ عنيفًا حيث كان يتم اصطياد المتمردين ومعاقبتهم.»
كان من الواضح لدارسي أن الكولونيل قصَّ هذه القصة المفصَّلة من قبلُ مراتٍ كثيرة، وكان يُسرُّ كثيرًا بفعل هذا.
قال ألفيستون: «وكان جورج ويكهام جزءًا من ذلك؟ نحن نعرف ما تم أثناء إخمادِ التمرُّد. ألا يُعد هذا كافيًا لأن يعتاد الرجلُ على العنف إن لم يكتسب العنفَ كسِمةٍ شخصية؟ ففي النهاية، ما نُحاول فعْله هنا هو الوصولُ إلى بعض الاستنتاجات حول نوع الشخصية التي اكتسبها جورج ويكهام.»
قال الكولونيل فيتزويليام: «لقد أصبح جنديًّا شجاعًا. وأنا أتفق مع دارسي، ولا أستطيع أن أتخيلَه كمجرمٍ قاتل. هل نعرف كيف كان يعيش مع زوجته منذ ترك الجيش عام ١٨٠٠؟»
قال دارسي: «لم يأتِ قط إلى بيمبرلي ولم نتواصل قط، لكن السيدة ويكهام كانت تذهب إلى هايمارتن. ولم تكن حياتُهما الزوجية زاهرة. لقد أصبح ويكهام بطلًا قوميًّا بعد الحملة على أيرلندا، وضَمِن ذلك له أن ينجح دومًا في الحصول على الوظائف، لكن ليس في الحفاظ عليها. من الواضح أن الزوجين ذهبا إلى لونجبورن حين كان السيد ويكهام عاطلًا عن العمل، وكان المال شحيحًا معهما، ولا شك أن السيدة ويكهام كانت تستمتع بزيارة الأصدقاء القُدامى والتباهي بإنجازات زوجها، لكن زياراتها نادرًا ما كانت تدوم أكثرَ من ثلاثة أسابيع. لا بد أنه كان هناك مَن يدعمهما ماديًّا، وبصفة منتظمة، لكن السيدة ويكهام لم تُسهِب في شرح الأمر، ولم تسألها السيدة بينجلي بالطبع. معذرة إن كان هذا هو كلَّ ما أعرفه أو ما أريد أن أعرفه فعلًا.»
قال ألفيستون: «حيث إنني لم ألتقِ بالسيد ويكهام قبل ليلة يوم الجمعة، فرأيي عن براءته أو اتهامه مبنيٌّ ليس على شخصيته أو تاريخِ حياته، وإنما هو مبنيٌّ فقط على تقييمي للأدلة المتاحة حتى الآن. في اعتقادي أنه يتمتَّع بدفاعٍ ممتاز. حيث يمكن للاعترافِ المزعومِ ألا يعنيَ شيئًا أكثرَ من اتهامه بإثارة صديقه ليخرج من العربة. كان السيد ويكهام تحت تأثير الشراب، وهذا النوع من الحساسية العاطفية بعد التعرُّضِ لصدمةٍ يُعد شائعًا حين يكون المرءُ مخمورًا. لكن لننظر إلى الأدلة المادية. اللغز الرئيسي في هذه القضية هو سببُ دخول الكابتن ديني إلى الغابة. لماذا كان يخشى ويكهام؟ كان ديني هو الأقوى والأضخمَ جسدًا كما كان مسلَّحًا. ولو كانت نيَّته أن يسير عائدًا إلى الفندق، فلِم لم يسلك الطريق؟ لا شك أنه كان يمكن أن يستقلَّ العربة، لكن كما قلت، لم يكن هناك من الخطر الكبير ما يُثير قلقه. ولم يكن ويكهام ليُهاجمه في وجود السيدة ويكهام في العربة. وربما يمكن القول إن ديني شعر أنه مُكرَه ليترك صحبة ويكهام، وفي الحال، وذلك لشعوره بالاشمئزاز من خُطة رفيقه حيث سيترك السيدة ويكهام في بيمبرلي من دون أن تكون مدعوَّةً إلى الحفل، ومن دون إخطار السيدة دارسي. كانت الخطة غيرَ مهذَّبة ومستهترة بالطبع، لكنها بالكاد تكفل سببًا لهروب ديني من العربة بهذه الطريقة الدرامية. حيث كانت الغابة مظلمة وليس بها أيُّ ضوء؛ وفي رأيي أن تصرُّفه هذا غامضٌ وغير مفهوم.
وهناك دليلٌ أقوى. أين هي أسلحة الجريمة؟ لا شك أن هناك سِلاحَين. فالضربة الأولى التي وُجِّهَت إلى الجبهة تسبَّبَت في نزيفٍ منعَ ديني من أن يرى موضعه وخلَّفَته مترنِّحًا. أما الجرح الموجود في مؤخر الرأس فسببُه سلاحٌ مختلف، شيء ثقيل ذو حافةٍ مصقولة، ربما كان حجرًا. وبحسَب رواية الذين رأَوا الجرح — ومن بينهم أنت أيها السيد دارسي — فإن الجرح غائرٌ وطويل، بحيث يمكن لرجلٍ يؤمن بالخرافات أن يقول إن اليدَ التي تسبَّبت به ليست يدًا بشرية، ولا شك أنها ليست يدَ ويكهام. وأشك أنه بمقدور ويكهام أن يَحمل حجرًا بهذا الحجم بسهولةٍ ويرفعه عاليًا بما يكفي ليُسقطه على هدفه بالتحديد. هذا إذا كنا سنفترض أن الحجر كان موجودًا بالقرب منه عن طريق الصدفة؟ ثم إن هناك تلك الخدوشَ على جبهةِ ويكهام وعلى يده. لا شك أنها تُشير إلى أن ويكهام ضلَّ طريقه في الغابة بعد أن وجد جثةَ الكابتن ديني.»
قال الكولونيل فيتزويليام: «أتقول إذن إنه سيتمُّ تبرئته إذا ما أُحيلت القضية إلى المحكمة؟»
«أعتقد من خلال الأدلة الموجودة حتى الآن أن تتم تبرئته، لكن دائمًا ما تكون هناك مجازفةٌ في القضايا التي لا يكون فيها مشتبَه به آخر؛ بحيث ستسأل هيئة المحلَّفين نفسها، إن لم يفعل هو ذلك، فمَن فعله؟ فمن الصعب على قاضٍ أو محامي الدفاع تحذيرُ هيئة المحلَّفين من هذا الأمر، من دون أن يُنبِّه أذهانهم إليه في الوقت نفسِه. سيحتاج ويكهام إلى محامٍ بارع.»
قال دارسي: «ستكون تلك مسئوليتي.»
«أقترح أن تُحاول تعيين جيريميا ميكلدور. إنه رائعٌ في هذا النوع من القضايا، وفيما يتعلَّق بهيئة محلَّفي المدينة، لكنه لا يعمل إلا على القضايا التي تُثير اهتمامه ويكره ترك لندن.»
قال دارسي: «هل هناك فرصةٌ أن تُحالَ الدعوى إلى لندن؟ خلافًا لذلك، لن يُنظَر في القضية حتى تُعرَض على محكمةٍ محليَّة في ديربي في الصوم الكبير التالي أو في الصيف.» ثم نظر إلى ألفيستون. وقال: «ذكِّرْني بالإجراءات.»
قال ألفيستون: «تُفضِّل الدولة أن تتم محاكمة المدَّعى عليهم أمامَ المحاكم المحلية. والحُجة في ذلك هي أن يتمكَّن الناس من رؤية تحقيق العدالة بأنفسِهم. وإن تمَّت إحالة الدعوى، فإنها لا تُحال إلا إلى المحكمة المحلية التالية، وينبغي أن يكون هناك سببٌ وجيه لفعل ذلك؛ شيء جِدِّي وخطير بحيث سيكون من الصعب إجراءُ محاكمة عادلة في المدينة المحليَّة، كمسائلَ تتعلَّق بالنزاهة أو هيئة محلَّفين موقوفة أو قُضاة يمكن رِشوتهم. وعلى الجانب الآخر قد تكون هناك خصومةٌ محلية تجاه المدَّعى عليه بحيث يمنع ذلك من إجراءِ جلساتِ استماعٍ نزيهة. والمُدعي العامُّ هو مَن يملك الصلاحية للتحكم في المحاكمات الجنائية والفصل فيها، الأمر الذي يعني أن المحاكَمات يمكن أن تُنقل إلى مكانٍ آخرَ في نطاقِ اختصاصه.»
قال دارسي: «سيكون الأمرُ إذن بيدِ سبينسر بيرسيفال؟»
«بالضبط. وقد يُقال إنه نظرًا إلى أنَّ الجريمة ارتُكِبت ضمنَ مِلكيةِ قاضٍ محليٍّ، فقد يكون هو وأسرته مشارِكين في الأمر على نحوٍ غيرِ منطقي، أو قد تُثار شائعات محلية وتلميحاتٌ عن العلاقة بين منزل بيمبرلي والمتهم، التي قد تُعرقل سير العدالة. ولا أعتقد أنه من السهل نقلُ المتهَم، لكن حقيقة أن ويكهام قريبٌ لك وللسيد بينجلي بالمصاهَرة فقد يُمثِّل ذلك أحدَ عوامل التعقيد، الأمر الذي قد يكون له ثِقلُه أمام المدَّعي العام. ولن يتخذ المدعي العامُّ قرارَه بناءً على الرغبات الشخصية، وإنما سيكون مبنيًّا على ما إذا كان نقلُ القضية سيخدم العدالة. وفي اعتقادي أن تعيين جيريميا ميكلدور للدفاعِ عن ويكهام أمرٌ يستحق المحاولة متى ما عُقدت المحاكمة. لقد كنت محاميًا مبتدئًا لديه قبل عامَين، وأعتقد أنني قد أتمتَّع بشيء من التأثير عليه. وأقترح عليك أن تُرسل له خطابًا بالبريد السريع تصفُ له فيه الوقائع وسأُتبِع أنا ذلك بمناقشته في القضية حين أعودُ إلى لندن، حيث سيتحتَّم عليَّ العودة بعد التحقيق.»
قال دارسي بأنه ممتنٌّ لذلك وقبِل اقتراحه. ثم قال ألفيستون: «أعتقد أيها السادة أنَّ علينا أن نُذكِّر أنفسنا بالشهادة التي سنُدْلي بها حين نُسأل عن الكلمات التي قالها ويكهام حين وجدناه جاثيًا بجوار الجثة. فلا شك أنها ستكون أمرًا محوريًّا بالنسبة إلى القضية. لن ننطق إلا بالحقيقة بكلِّ تأكيد، لكن سيكون من المرغوب فيه أن نعرف ما إذا كانت ذاكرتنا جميعًا تتفقُ على ما قال ويكهام بالتحديد.»
فقال الكولونيل فيتزويليام من دون أن ينتظر حديث أيٍّ من الرجلَين الآخرين: «لقد خلَّفَت كلماتُه انطباعًا مميزًا في ذهني، وهذا أمر طبيعي، وأعتقد أنني أستطيع ترديد كلماته بحذافيرها. قال ويكهام: «لقد مات. يا إلهي، لقد مات ديني. كان صديقي الوحيد وقد قتلتُه. كانت غلطتي.» ولا شك أنَّ ما يعنيه بقوله إن مقتل ديني كان غلطتَه هي مسألة وجهة نظر.»
قال ألفيستون: «ما أذكره مماثلٌ تمامًا لما قال الكولونيل، لكنني مثله أيضًا لا أستطيع أن أُفسِّر كلماته. نحن متفقون إذن حتى الآن.»
كان هذا هو دور دارسي في الحديث. فقال: «لا يُمكنني أن أكون محدَّدًا فيما يتعلَّق بالترتيب الدقيق لكلماته، لكني يُمكنني بكل ثقة أن أقول إن ويكهام قال إنه قتل صديقه، صديقه الوحيد، وأن ذلك كان خطأَه. وأجد أيضًا تلك الكلمات الأخيرة غامضةً ومبهَمة ولن أُحاول تفسيرها إلا إذا ما اضطُرِرت إلى ذلك، وربما لا أفعل حينها أيضًا.»
قال ألفيستون: «من غيرِ المرجَّح أن يضغط علينا القاضي لفعلِ ذلك. فإن طُرِح علينا السؤال، فقد يُنوِّه إلى أن أيًّا منا لا يمكن أن يكون واثقًا مما يُفكر فيه الشخص الآخر. ومن وجهة نظري — التي تستند إلى التخمين — أنه يقصد أن ديني لم يكن ليدخل الغابة، ولم يكن ليُواجه الشخصَ الذي اعتدى عليه لو أنه لم يتشاجر معه، وأن ويكهام يتحمَّل مسئولية أي شيء أثار نفورَ ديني. لا شك أن القضية ستعتمدُ بشكل كبير جدًّا على ما يعنيه ويكهام بتلك الكلمات القليلة.»
بدا الآن أنه من الممكن اعتبارُ الاجتماع قد انتهى، لكن وقبل أن يقوموا من مقامهم، قال دارسي: «إذن فمصيرُ ويكهام — سواءٌ كانت حياته أو موته — يعتمد الآن على ١٢ رجلًا متأثِّرين بالضرورة بتحيزاتهم الشخصية وقوة بيان المتهَم وبلاغة محامي جهة الادِّعاء.»
قال الكولونيل: «كيف يمكن التعامل مع القضية بغير ذلك؟ سيمثُل الرجل أمام مواطنين، وليس هناك أيُّ شيء يضمن تحقيقَ العدالة أكثرَ من حكم ١٢ رجلًا إنجليزيًّا يتحلَّون بالنزاهة.»
قال دارسي: «ولن يكون هناك طعنٌ أو استئناف.»
«كيف يمكن أن يكون هناك طعنٌ أو استئناف؟ لطالما كان قرار هيئة المحلَّفين موقَّرًا يتعذَّر الاعتراض عليه. ماذا تقترح يا دارسي، أن تكون هناك هيئةُ محلَّفين ثانية، تُقسم يمينًا على الاتفاق أو الاختلاف مع الهيئة الأولى، وأن تكون هناك هيئةٌ أخرى تلي الثانية؟ سيكون هذا بمثابةِ حماقةٍ بالغة، وإن استمر هذا الأمرُ إلى ما لا نهاية فقد يُفضي إلى وجودِ محكمةٍ أجنبية تنظر في أمرِ القضايا الإنجليزية. وستكون هذه نهايةَ ما هو أكثرُ من نظامنا القضائي.»
قال دارسي: «ألَا يُمكن أن تكون هناك محكمةٌ خاصة بالطعون تتكوَّن من ثلاثة قُضاة أو ربما خمسة، وتُعقَد في حالة وجود خلاف على نقطة قانونية صعبة؟»
هنا تدخَّل ألفيستون. فقال: «يمكنني أن أتخيَّل ردةَ فعل هيئة محلَّفين إنجليزيةٍ على اقتراح أن يُطعَن في قرارهم أمام ثلاثة من القُضاة. ينبغي أن يكون قاضي التحقيق هو مَن يُحدِّد النقاط القانونية، وإن كان غيرَ قادر على تحديدها، فليس له الحقُّ أن يكون قاضيًا. وهناك محكمة للطُّعون بدرجةٍ ما. حيث يمكن لقاضي التحقيق الشروع في إجراءات منحِ العفو حين يكون غيرَ راضٍ بما آلَت إليه القضية، والأحكام التي تبدو للعامة غيرَ عادلة ستُؤدي دائمًا إلى غضبٍ شعبي عارم وإلى احتجاجات عنيفة في بعض الأحيان. وأؤكِّد لك أن لا شيء يفوق قوة الرجلِ الإنجليزيِّ الذي يُحرِّكه السخط بسبب الإجحاف. لكن وكما تعلم، أنا عضو في مجموعةٍ من المحامين تُعنى باختبارِ مدى فاعلية نظامنا القضائي الجنائي وهناك نقطةُ تعديل واحدة نودُّ أن نراها؛ وهي حقُّ محامي الادِّعاء في إلقاء خطابٍ أخير قبل أن ينتقلَ القرار إلى جهة الدفاع. ولست أرى شخصيًّا أيَّ سبب منطقي يمنع إحداث هذا التغيير، ويَحْدونا الأمل أن نرى هذا التغيير قبل نهاية هذا القرن.»
فسأله دارسي: «ما هي أوجهُ الاعتراض التي يمكن أن تُواجه ذلك؟»
«الوقت في الغالب. إن محاكم لندن مُثقَلةٌ بالعمل بالفعل، وهناك الكثير من القضايا التي يتناولونها بسرعةٍ غيرِ ملائمة. والمواطنون الإنجليز غيرُ مغرَمين كثيرًا بالمحامين أو بالاستماع إلى أحاديثهم وخُطبهم المطوَّلة. ويُعتقَد أنه من الوافي أن يتحدَّث المتهَم عن نفسه، وأن استجواب محاميه لشهود جهة الادعاء كافٍ لتحقيق العدالة. ولا أجد أن تلك الحُجج مقنِعة بشكلٍ كامل، لكنها تُطبَّق بأمانة وإخلاص.»
قال الكولونيل: «تبدو وكأنك راديكاليًّا بحديثك هذا يا دارسي. ولم أكن أعرف أنك مهتمٌّ بأمور القانون أو تهتمُّ بإصلاحه بهذا الشكل.»
«ولا أنا أيضًا، لكن حين يواجه المرء حقيقةَ المصير الذي ينتظر جورج ويكهام — كما نفعل الآن — وحين يُدرك مدى ضيق الفجوة بين الحياة والموت، فربما من الطبيعي أن يكون المرءُ مهتمًّا بهذا ومَعنيًّا به.» ثم صمتَ لحظة، وأردف قائلًا: «إن لم يكن هناك شيءٌ آخر لنُناقشه، فربما يمكننا الاستعداد للانضمام إلى السيدات على العشاء.»