الفصل الثاني
كان يوم الثلاثاء مبشرًا بيومٍ لطيف مع آمال أن تُشرق شمس الخريف خلالَه. كان السائق ويلكنسون يتمتَّع بسمعةٍ طيبة استحقَّها عن جدارةٍ في التنبؤ بالطقس، وكان قبل يومين قد تنبَّأ بأن شروق الشمس وبعض زخَّات المطر ستتبعُ الرياح والأمطار. وكان يوم الثلاثاء هو اليوم الذي سيلتقي فيه دارسي بجون وولر مديره المالي الذي سيتناول الغَداء في بيمبرلي، وبعد الظهر سيمتطي دارسي صَهوة جَواده ليزور ويكهام، وهو يعرف تمامًا أن هذا الأمر لن يسرَّ أيًّا منهما.
وكانت إليزابيث تُخطِّط في أثناء غيابه لزيارة كوخ الغابة مع جورجيانا والسيد ألفيستون، لِيسألا عن صحة ويل ويحملا له بعضَ النبيذ والأطعمة الشهية، حيث أمَّلت هي والسيدة رينولدز أن تُثير تلك الأطعمة شهيته. كما أرادت إليزابيث أيضًا أن تريح نفسها بأن أمَّه وأخته لم تُتركا وحدهما حين كان بيدويل يعمل في منزل بيمبرلي. وكانت جورجيانا تتوق لِتَصحبها إلى الكوخ، وفي الحال عرض هنري ألفيستون أن يُرافقهما، وهو أمرٌ رأى دارسي أنه ضروريٌّ وعرَف أن كِلتا السيدتَين ستَجدانه مطمئنًا. وكانت إليزابيث تتوق للذَّهاب في أقربِ وقتٍ ممكن بعد تناول الغداء مبكرًا؛ فقد كانت شمسُ الخريف عاملًا مساعدًا ولا يُتوقَّع أن يستمر، وكان دارسي مصرًّا على أن تُغادر المجموعة الغابة قبل أن يبدأ ضوء الظهيرة في الخفوت.
لكن كان عليها أولًا أن تكتب بعض الخطابات، وبعد أن تناولت الإفطار مبكرًا، قرَّرت أن تُخصِّص لهذه المهمة بضعَ ساعات. كانت لا تزال هناك ردودٌ متأخرة على خطابات التعاطف والاستفسار من الأصدقاء الذين دُعُوا إلى الحفل، وكانت تعلم أن عائلتها في لونجبورن — التي عرَفَت الأخبار من خطابٍ أرسله دارسي بالبريد السريع — تنتظر إطلاعها على المستجِدَّات بشكلٍ شبه يومي. وكانت هناك أيضًا مهمةُ إطلاع أختَي بينجلي — وهما السيدة هيرست والآنسة بينجلي — على التطورات، لكن يمكن لها على الأقلِّ أن تترك هذه المهمة ليقوم بها بينجلي. وكانت الأختان تزوران أخاهما وجين مرتين في كلِّ عام، لكنهما كانتا منغمستَين في مُتع الحياة في لندن، حتى إنهما كانتا لا تُطيقان أن تمكثا لأكثرَ من شهرٍ في الريف. وقد تعطَّفَتا وتلطَّفَتا أن يتمَّ الترويح عنهما في بيمبرلي حين تكونان في زيارةٍ لهايمارتن. ولكي تتمكَّنا من التفاخر بزيارتهما، كانت علاقتهما بالسيد دارسي وفخامةِ منزله وممتلَكاته أكثرَ قيمةً من أن يُضحَّى بها في سبيل آمالٍ أو ضغينةٍ مثبِّطة، لكن رؤية إليزابيث كسيدة بيمبرلي ظلَّت مذلةً لهما، ولم تتمكن أيٌّ من الأختَين من تحمُّلِها من دون ممارسةِ نوعٍ من ضبط النفس المؤلم، وما كان يُريح إليزابيث أن زيارتهما كانت نادرة.
علمت إليزابيث أنَّ أخاهما كان سيمنعُهما بكياسةٍ من زيارة بيمبرلي في ظل المحنة الراهنة، ولم يكن لديها شكٌّ أنهما كانتا ستظلَّان بعيدًا. ويمكن لجريمة قتلٍ وقَعَت بين الأسرة أن تُقدِّم شيئًا من الإثارة على حفلات العشاء الأنيقة، لكن يمكن توقُّع القليل من السُّمعة الاجتماعية الجيدة من قتلٍ وحشي لكابتن مميَّز في سلاح المُشاة، من دون وجود المال أو عروض الزواج لتجعلَ منه محلَّ اهتمام. وحيث إنه حتى أشد الأشخاص حساسيةً من بيننا لا يستطيع أن يتخطَّى سماع الشائعات المحلية البذيئة، فلا يمكن له أيضًا أن يستمتعَ بما لا يمكن تجنبُه، وكان من المعروف عامة في كلٍّ من لندن وديربيشاير أن الآنسة بينجلي متلهِّفةٌ في هذا التوقيت بالذات إلى ألا تُغادرَ العاصمة. فقد كان سعيُها للحصول على أرملٍ نبيلٍ يتمتع بثروة كبيرة يدخل مرحلةً واعدة للغاية. ولا شك أنه من دون لقب نبله وأمواله كان الرجل ليعتبر الأكثرَ إثارةً للضجر في لندن كلِّها، لكن لا يمكن للمرء أن ينال ما يتمناه من دون بعض العناء، وكانت المنافسة على ثروته ولقبِه وأيِّ شيء آخر يحرص على منحه محمومةً لأسبابٍ مفهومة. فقد كانت هناك اثنتان من الأمهات الجشعات تتمتَّعان بباعٍ طويل في المصالح الزوجية، وتعمل كلٌّ منهما بجِدٍّ نيابةً عن ابنتها، ولم يكن لدى الآنسة بينجلي أيُّ نيةٍ لأن تُغادر لندن في مثلِ هذه المرحلة الحساسة من المنافسة.
كانت إليزابيث قد انتهت لتوِّها من كتابة الخطابات إلى أسرَتِها في لونجبورن وإلى عمَّتها جاردنر حين جاء دارسي بخطابٍ وصل مساء أمسِ بالبريد السريع، لكنه لم يفتحه إلا منذ مدة قصيرة.
وقال لها حين كان يُسلِّمها الخطاب: «نقلت الليدي كاثرين — كما هو متوقَّع — الأخبارَ إلى السيد كولينز وتشارلوت، وقد أرفقَت خطاباتهما بخطابها. ولا أظن أن خطاباتهما ستُثير فيك السرورَ أو الاندهاش. سأكون في غرفة الأعمال مع جون وولر، لكنني آمُل أن أراك على الغداء قبل أن أتوجَّه إلى لامتون.»
ابن أخي العزيز
وصلَني خطابُك بالبريد السريع وقد تسبَّب لي بصدمةٍ كبيرة — كما تتوقَّع — لكن لحسن الحظ لم يتسبَّب بموتي. ومع ذلك، فقد اضطُررت لاستدعاء الطبيب إيفيريدج الذي هنَّأني على ثَباتي. ولتطمئنَّ بأنني بأفضلِ صحةٍ وحال. أما عن مقتلِ ذلك الشابِّ المأسوفِ عليه — الذي لا أعلم شيئًا عنه بالطبع — فلا شك أنه سيتسبَّب في ضجةٍ محلية لا يُمكن تفاديها؛ وذلك بسبب أهمية بيمبرلي. ويبدو أن السيد ويكهام — الذي فعلت الشرطةُ الصواب باعتقاله — يتمتَّع بموهبةِ التسبُّب بالمشكلات والإحراج لأناسٍ يتمتَّعون بالاحترام، ولا يسَعُني سوى أن أشعر أن تدليل والدَيك له أثناء طفولته — وهو الأمر الذي عبَّرت عن رأيي فيه بشدةٍ لليدي آن — كان هو السبب في الكثير من إهماله وتقصيره لاحقًا. إلا أنني أحب أن أعتقد أنه بريءٌ من هذه الجريمة النَّكْراء على الأقل، وحيث إن زواجه بتلك الطريقة الشائنة من أخت زوجتك جعلَ منه صِهرًا لك، فلا شك أنك سترغب في تحمُّلِ مصاريف الدفاع عنه. ولْنأمُل أن هذا الأمر لن يُصيبك أنت أو أولادك بأيِّ سوء. كما ستكون في حاجةٍ إلى مُحامٍ بارع. فلا تُعيِّن له محاميًا محليًّا بأي شكل من الأشكال؛ حيث إنك بذلك ستكون قد عيَّنت شخصًا تافهًا يجمع بين عدم الكفاءة والتوقُّعات غير المعقولة فيما يتعلَّق بالأتعاب. وكنتُ لأعرض عليك خدمات محامِيَّ السيد بيجورثي، لكنني في حاجةٍ إليه هنا. فالنزاع الطويل على الحدود بيني وبين جاري — الذي حدَّثتك عنه — وصل الآن إلى مرحلةٍ حاسمة، وقد ارتفعت محاولات الصيد الجائر من جانبه بشكلٍ مؤسف خلال الأشهر المنصرمة. وكنتُ سآتيك بنفسي لأُسدي لك النُّصح والإرشاد — فقد قال السيد بيجورثي إنني لو كنت امتهنتُ المحاماة لكنت قد أصبحت إضافةً رائعة إلى المحاكم الإنجليزية — لكن الأمور تتطلب وجودي هنا. فلو ذهبت إلى كل الأشخاص الذين سيستفيدون من مَشورتي ونُصحي لما مكثتُ في منزلي يومًا واحدًا. لذا أقترح عليك أن تُعيِّن محاميًا من جمعية «إنر تيمبل». حيث يُقال إنهم مجموعةٌ من الرجال النبلاء. اذكر اسمي هناك وسيتم الاعتناء بقضيتك على أكملِ وجه.
وسأنقل الأخبارَ التي أرسلتها إلى السيد كولينز حيث إننا لن نتمكَّن من إخفاء تلك الأخبارِ مدةً طويلة. وبصفته رجلَ دين، سيرغب أن يُرسل كلمات تعزيته المعتادة، وسأُرفق خطابه مع خطابي.
إنني أُرسل إليك وإلى السيدة دارسي مواساتي فيما أصابكما. لا تتردَّد أن تُرسل لي إن ساءت الأمور فيما بعدُ وحينها سأشقُّ عواصف الخريف لأكون بجانبكم.
ولم تتوقَّع إليزابيث أن تحصل على شيءٍ مثيرٍ للاهتمام من خطاب السيد كولينز سوى اللذةِ المستهجَنة الناجمة عن الاستمتاع بخليطه الفريدِ من التباهي والحماقة. كان الخطاب أطولَ مما توقَّعت. ورغم إعلان الليدي كاثرين أنها ستحظر طول الخطاب، إلا أنها كانت متسامحةً بشأن ذلك. وبدأ السيد كولينز بأن قال إنه لا يستطيع أن يجد الكلمات المناسبة ليصفَ بها صدمته وبُغضه لما حدث، ثم شرَع يتحدَّث بكلماتٍ كثيرة، القليلُ منها كان ملائمًا والبقية كانت غير مُجدية. وكما حدث في خِطبة ليديا، أرجع السيد كولينز سببَ هذه المسألة المروِّعة إلى افتقار السيد والسيدة بينيت إلى السيطرة على ابنتهما، ثم استطرد يُهنِّئ نفسه على التراجع عن عرض الزواج الذي كان سينتج عنه تورُّطه في فضيحتهم تلك دون مفر. ثم أكمل واعظًا بقائمةٍ من الكوارث التي أصابت الأسرةَ المنكوبة التي تتراوح بين الأسوأ — وهو استياء الليدي كاثرين ونَفْيهم الدائم من روزينجز — ونزولًا إلى الخزي العام والإفلاس والموت. وأنهى خطابه بأن ذكَر أن عزيزته تشارلوت ستمنحُه ابنهما الرابع في غضونِ أشهرٍ قليلة. كما ذكر أن بيت القسِّ في هانسفورد كان يضيق عليهما قليلًا بسبب أُسرتهما الآخذة في النمو، لكنه كان يثقُ أن العناية الإلهية ستُمدُّه بمنزلٍ أكبرَ وعيشةٍ رغدةٍ في الوقت المناسب. وفكَّرَت إليزابيث أن هذا كان التماسًا واضحًا — ولم يكن هو الأول — لعناية السيد دارسي وأنه سيتلقَّى الردَّ نفسَه. فالعناية الإلهية لم تُبدِ حتى الآن أيَّ رغبة في المساعدة، ولن يرغب دارسي في ذلك بالتأكيد.
أما خطاب تشارلوت — الذي لم يكن مختومًا — فكان كما توقعَته إليزابيث؛ فلم يزِد عن كونه جُمَلًا اعتياديةً مقتضَبة؛ للتعبير عن الحزن والعزاء، وعن أن عقلها هي وزوجها مشغولٌ على الأسرة المنكوبة. لا شك أن السيد كولينز كان سيقرأ الخطاب ولم تكن لتتوقَّع هي شيئًا أكثرَ حرارة أو عاطفةً منهما. لقد كانت تشارلوت لوكاس صديقة لإليزابيث في الطفولة وسنوات الأنوثة الأولى، وباستثناء جين كانت تشارلوت هي الأنثى الوحيدةَ التي بإمكانها أن تتناول معها محادثاتٍ عقلانية، ولا تزال إليزابيث تشعر بالحزن؛ بسبب أن الكثير من الثقة المتبادَلة بينهما قد خمدت وتحوَّلَت إلى إحسانٍ عام ومراسلات منتظِمة غير كاشفة. وأثناء زيارتهما هي ودارسي منذ زواجهما إلى الليدي كاثرين، كان يتعيَّن عليهما أن يزورا بيتَ القس في زيارةٍ رسمية، وبسبب عدم رغبتها في تعريض زوجها إلى تعليقات السيد كولينز ذهبَت في تلك الزيارات وحدها. وكانت إليزابيث قد حاولت أن تفهم سببَ قَبول تشارلوت بعرض السيد كولينز، الذي قدَّمَه في غضون يومٍ واحد من عرضِه لها ورفضها إياه، لكن من غير المرجَّح أن تكون تشارلوت قد نسيت استجابةَ صديقتها المندهشة الأولى تجاه تلك الأخبارِ أو سامحَتها عليها.
وظنَّت إليزابيث أن تشارلوت قد أخذت بثأرها في إحدى المناسبات. وكانت إليزابيث دائمًا ما تتساءل كيف عرَفَت الليدي كاثرين بأنها على وشكِ أن تُعقَد خِطبتها على السيد دارسي. فهي لم تتحدَّث لأي شخصٍ عن عرْضِه الكارثيِّ الأول إلا لجين، وخلصَت إلى أن تشارلوت هي التي لا بد أن تكون قد تعرضَت للخيانة من جانبه. وتذكَّرَت ذلك المساء حين ظهر دارسي لأول مرة مع عائلة بينجلي في غرفِ تجمُّعِ ميريتون حين ظنَّت تشارلوت بطريقةٍ ما أن دارسي قد يُبدي اهتمامًا بصديقتها، وحذَّرَت إليزابيث — بدافعٍ من تفضيلها لويكهام — من أن تتجاهل رجلًا ذا أهمية أكبرَ كدارسي. ثم بعد ذلك تأتي زيارة إليزابيث إلى بيت القس مع السير ويليام لوكاس وابنته. وقد علَّقَت تشارلوت بنفسها على تَكرار زيارات السيد دارسي والكولونيل فيتزويليام المتكررة أثناء مكوث الزوَّار، وقالت إنه مجاملة لإليزابيث. ثم كان عرض الزواج نفسه. وبعد أن غادر دارسي، ذهبت إليزابيث تسير وحيدة كي تُهدئ من شعورها بالارتباك، لكن عند عودتها، لا بد أن تشارلوت قد لاحظت أنَّ شيئًا غيرَ مرغوب فيه حدث أثناء غيابها.
لا، كان من المستحيل على أي شخص سِوى تشارلوت أن يُخمِّن سبب حزنها، وفي لحظةٍ من لحظات الأذى المتعمَّد لزوجها، نقلت تشارلوت شكوكها إلى السيد كولينز. وما كان السيد كولينز بالطبع ليُضيِّع وقتًا كي يحذِّر الليدي كاثرين، وربما بالغ في إظهار حجم الخطر، فحوَّل الشكوك إلى حقائقَ مؤكَّدة. وكانت دوافعه مختلطةً بشكلٍ يُثير الفضول. فإذا ما تم الزواج فلا بد أنه كان يأمُل أن يستفيد من تلك العلاقة الوثيقة مع السيد دارسي الثري؛ فما هي الأشياء التي قد لا تكون ضمن حدود طاقته ليمنحها؟ لكن ربما كانت الحيطةُ والانتقام دوافعَ أقوى وأكثرَ جاذبية. فالسيد كولينز لم يُسامح إليزابيث قط على رفضها إياه. وينبغي أن يكون عقابها الفقرَ والعُنوسَ والوحدة، وليس زيجةً متألقة تَزْدريها الفتياتُ حتى لو كانت ابنةَ إيرل. ألم تتزوج الليدي من والِد دارسي؟ ربما كان هناك سببٌ دفع تشارلوت أيضًا للشعور بغضبٍ مبرَّرٍ أكثر. فقد كانت مقتنعة — مثل ميريتون كلها — أن إليزابيث تكره دارسي؛ فهي نفسها — وهي صديقتها الوحيدة التي انتقدت زواج تشارلوت بدافع الحيطة والحاجة إلى منزل — قد قبِلت برجلٍ كان من المعروف أنها تكرهه؛ لأنها لم تستطِع مقاومة الفوز ببيمبرلي كغنيمة. وليس من الصعب أبدًا أن تُهنئ صديقتها على حظها الطيب إلا حين تبدو صديقتها غيرَ مستحقة له.
ويمكن النظر إلى زِيجة تشارلوت باعتبارها زيجةً ناجحة، كما هي الحال دومًا حين يحصل كِلا الزوجَين على ما يُبشِّر به هذا الرِّباط. فقد حصل السيد كولينز على زوجةٍ وربة منزل تتمتَّع بالكفاءة وأمٍّ لأطفاله، وكذلك على رضا راعيته، في حين سلكَت تشارلوت المسار الوحيد الذي يمكن أن تسلكَه امرأةٌ على قدْرٍ بسيط من الجمال والثراء؛ أملًا منها في الحصول على استقلاليتها. وتذكَّرَت إليزابيث كيف أن جين — وهي الطيبة والمتسامحة كعادتها دائمًا — حذَّرَتها من أن تلومَ تشارلوت على خِطبتها من دون أن تتذكَّر ما الذي كانت تتخلَّى عنه في سبيل ذلك. فلم تكن إليزابيث تُحب فتيانَ عائلة لوكاس قط. فحتى أثناء شبابهم كانوا يتَّسمون بالشدة والفَظاظة وضعف التأثير، ولم يكن لديها شكٌّ أنهم حين يصلون إلى سنِّ البلوغ سيحتقرون أختَهم العانس ويزدَرونها؛ حيث سينظرون إليها على أنها مصدرُ إحراجٍ وتكلِفة، وكانوا سيُظهرون مشاعرهم تلك ولا يُخفونها. ومنذ البداية كانت إليزابيث تتعامل مع زوجها بالمهارة نفسِها التي تتعامل بها مع خَدَمِها وحظائرِ دجاجها، ورأت إليزابيث — أثناء زيارتها الأولى لهانسفورد مع السير ويليام وابنته — الترتيباتِ التي تتَّبعها تشارلوت من أجل تقليص مَساوئ وضعها. فقد خُصِّصت حجرةٌ أمامية في بيت القس كان يقضي فيها وقتًا سعيدًا؛ حيث جعلَته إمكانيةُ رؤية المارَّة — بما في ذلك إمكانية رؤية الليدي كاثرين في عربتها — يجلس سعيدًا بجوار النافذة فيما كان يقضي معظمَ ساعات يومه — بتشجيعٍ منها — في أعمال البستنة، وهو نشاطٌ أظهر السيد كولينز تجاهَه حماسةً وموهبة كبيرة. فالعناية والاهتمام بالتربة يُعد في العموم نشاطًا فاضلًا، ورؤية بستاني يجِدُّ في أداء عمله يُثير دائمًا دافعًا نحوَ القَبول والاستحسان، وخصوصًا إزاء منظر ثمار البطاطا المحروثة حديثًا والبازلاء الجميلة المنظر. وظنَّت إليزابيث أن السيد كولينز لم يكن قط زوجًا مقبولًا حين رأته تشارلوت من بعيد وهو مُنحنٍ على رقعته النباتية.
ولم تكن تشارلوت هي الابنةَ الكبرى لعائلةٍ كبيرة من دون أن تكتسبَ بعض المهارات في التعامل مع مظاهر الجنوح الذكوري، وكان أسلوبها في التعامل مع زوجها عبقريًّا. فقد كانت دائمًا ما تُثني فيه على صفاتٍ لم يكن يمتلكُها؛ أملًا أن يكتسبها بفعل شعوره بالإطراء تجاهَ مديحها وثنائها. وقد رأت إليزابيث هذا الأسلوبَ يُؤتي ثماره حين زارتها وحدها زيارةً قصيرة — بِناءً على مناشدةٍ عاجلة من تشارلوت — بعد ١٨ شهرًا من زواجها. كانت المجموعة في طريقها إلى بيتِ القسِّ في إحدى عربات الليدي كاثرين دي بيرج حين تطرَّقوا في الحديث إلى ضيفٍ لهم وكان رجلَ دين تقلَّد منصبه مؤخَّرًا من أبرشيةٍ متاخمة، وتربطه صلةُ قرابة بعيدة بالليدي كاثرين.
كانت تشارلوت قد قالت: «لا شك أن السيد تومبسون شابٌّ رائع، لكنه يُثرثر كثيرًا بالثناء عليَّ. فمديحه لكلِّ طعام أصنعه كان مبالغًا فيه بلا داعٍ، وجعله يبدو بمظهر الشَّرِه. ورأيت مرةً أو اثنتين أثناءَ حديث الليدي كاثرين أنها لم تُحبَّ ذلك منه أيضًا. من المؤسف أنه لم يأخذك يا عزيزي مثالًا يَحتذي به. فلو فعل لما نطقَ بالكثير، ولكان هذا أقربَ إلى الصواب.»
ولم يكن عقل السيد كولينز ذكيًّا بما يكفي ليستوعبَ المفارقة أو يشكَّ في الحيلة. فقد توقَّف به غُروره عند هذا الثناء، وفي عَشائهم التالي في روزينجز جلس على طاولة الطعام صامتًا معظم الوقت، حتى إن إليزابيث خشيت أن تطرق الليدي كاثرين بملعقتها على الطاولة بحِدَّة وتسأله عن سبب امتناعه عن الحديث.
كانت إليزابيث قد وضعَت قلمها قبل ١٠ دقائق وتركَت عقلها يرجع بالزمن إلى أيام العيش في لونجبورن، إلى تشارلوت وأيام صداقتهما الطويلة. والآن كان الوقت قد حان لتضعَ الأوراق جانبًا وترى ما أعدَّته السيدة رينولدز من أجل عائلة بيدويل. وأثناء توجُّهِها إلى غرفةِ مدبِّرة المنزل تذكَّرت كيف أن الليدي كاثرين — أثناء إحدى زياراتها العامَ الماضيَ — صحبتها في رحلةٍ إلى كوخ الغابة لتوصيل الطعام إلى رجلٍ مصاب بمرضٍ عُضال. لم تكن الليدي كاثرين قد دُعِيَت لتدخل الغرفة التي يمكث بها المريض، ولم تُظهِر هي أيَّ رغبةٍ في فعل ذلك، ولم تفعل سوى أنها قالت أثناء عودتهما: «ينبغي أن نتشكَّك بشدةٍ في تشخيص الدكتور ماكفي. أنا لا أُصدِّق أبدًا ما يُدعى بالاحتضار الطويل. إنه تظاهُر وتصنُّع في الطبقة الأرستقراطية؛ وما هو إلا عذرٌ للتهرُّب من العمل لدى الطبقات الدنيا. لقد ذاع أن الابنَ الثانيَ للحدَّاد يحتضر طوال السنوات الأربع الماضية، إلا أنني حين أمرُّ بالكوخ أجده يُساعد والده، ويبدو عليه أنه يتمتَّع بتمامِ الصحة والعافية. وعائلة دي بيرج لم تَقْنع قط بالاحتضار الطويل. فينبغي على الناس أن يحسموا أمرَهم؛ إما أن يموتوا أو يبقَوا على قيد الحياة، ويفعلوا إما هذا أو ذاك بأقلِّ إزعاج ممكن للآخرين.»
وكانت إليزابيث حينها مصدومةً كثيرًا ومذهولة، فلم تستطِع أن تُعلِّق على ذلك. فكيف يمكن لليدي كاثرين أن تتحدَّث بهذه الطريقة الهادئة عن الاحتضار الطويل بعد ثلاث سنوات فقط من فقدانها طفلتَها الوحيدة بعد سنواتٍ طويلة من تدهور صحتها؟ لكن وبعد نوبة الحزن الأولى — التي تمَّت السيطرةُ عليها رغم أنها كانت شديدةً — استعادت الليدي كاثرين بسرعةٍ كبيرة رِباطةَ جأشها — ومعها الكثيرُ من عدم تسامحها. ولم تُخلِّف الآنسة دي بيرج — التي كانت فتاةً بسيطة وحساسة وصامتة — الكثيرَ من الأثر في العالم أثناء حياتها كما لم تُخلِّف أثرًا كبيرًا بموتها. وفي وقت وفاتها كانت إليزابيث قد أصبحت أمًّا، وقد فعلت كلَّ ما يمكن لها أن تفعله بدعوة الليدي كاثرين لزيارة بيمبرلي، وبالذَّهاب بنفسها إلى روزينجز من أجل دعمها في الأسابيع الأولى بعد الوفاة، وقد آتَت تلك الدعواتُ وما أظهَرَته من تعاطف — وهو ما لم تتوقَّعه الليدي كاثرين — ثمارَها. كانت الليدي كاثرين هي المرأةَ نفسَها التي لطالما كانت عليها، إلا أن ظلال بيمبرلي كانت أقلَّ تلوثًا حين كانت إليزابيث تقوم بنشاطها اليومي بالسير تحت الأشجار، وأصبحت الليدي كاثرين مغرمةً بزيارة بيمبرلي أكثرَ مما كان دارسي أو إليزابيث يَتوقان لاستقبالها.