الفصل الثالث
في كل يوم كانت هناك مهامُّ ينبغي على إليزابيث أن تُولِيَها اهتمامًا وقد وجدَت هي في مسئولياتها تجاه بيمبرلي وتجاه عائلتها وخَدَمِها ترياقًا لأكثرِ ما يُرعبها في مخيَّلتِها. كان اليوم هو أحدَ الأيام المهمة لها ولزوجها. كانت تعلم أنها لا يُمكنها أن تؤخِّر زيارةَ كوخ الغابة أكثرَ من ذلك. فصوت طلقات النار أثناءَ الليل وفكرةُ أن جريمة قتلٍ وحشيةً وقعت على بُعد ١٠٠ ياردة من الكوخ، في حين كان بيدويل في منزل بيمبرلي، لا بد أنها تركَت السيدة بيدويل في جوٍّ من الرعب والأسى يُضاف إلى حزنها الذي يُنقِض ظهرَها. كانت إليزابيث تعلم أن دارسي زار الكوخَ يوم الخميس الماضي ليقترحَ إعفاء بيدويل من مهامه عشيةَ اليوم السابق للحفل؛ حتى يتسنَّى له أن يكون مع أسرته في هذا الوقتِ الصعب، لكن الزوج وزوجته أصرَّا على أن هذا لم يكن ضروريًّا ورأى دارسي أن إلحاحه وإصراره على ذلك لم يَزِدْهما إلا حزنًا. كان بيدويل يرفض دومًا أيَّ اقتراح قد يحمل في ثناياه أن منزل بيمبرلي أو سيده يُمكنهما الاستغناء عنه — حتى ولو كان لمدة مؤقَّتة؛ فمنذ هجر منصبه ككبيرِ سائقي العربات كان دائمًا ما يُلمِّع الفِضة في اليوم السابق ليوم حفل الليدي آن، وفي رأيه لم يكن هناك في بيمبرلي مَن يُمكن أن يُؤتمَن على تلك المهمة.
وفي أثناء العام المنصرِم، حين ازداد ويل ضعفًا وتلاشى أملُ شفائه تدريجيًّا، كانت إليزابيث تزور كوخ الغابة بانتظام، وفي البداية كانت تُستقبَل في غرفةِ نومٍ صغيرة في مقدمة الكوخ حيث يرقد الصبيُّ المريض. ومؤخرًا أدركت إليزابيث أن وجودها مع السيدة بيدويل بجوار فِراشه كان مصدرَ إحراجٍ له أكثرَ مما كان مصدرَ سعادة، ويمكن بالطبع أن يُرى الأمر على أنه فرضٌ أو عبء ثقيل، فظلَّت إليزابيث في غرفة الجلوس وتخبر الأم المنكوبة بما تستطيع من عبارات العزاء. وحين كانت عائلة بينجلي تمكث في بيمبرلي، كانت جين تُرافق إليزابيث وبينجلي في الذَّهاب إلى الكوخ، وأدركَت إليزابيث مرة أخرى كم تشتاق إلى وجود أختها، وكم كان مريحًا أن تحظى برفقة أختها العزيزة التي تستطيع أن تُفضي لها حتى بأسوأ أفكارها، التي كانت طيبتها ورقتها تُخففان عنها كلَّ حزن يعتريها. وعند غياب جين، كانت جورجيانا وأحد كبار الخَدَم يُرافقانها إلى الكوخ، إلا أن جورجيانا كانت في الغالب تُقدِّم تحياتِها لها باقتضاب، ثم تجلس في الخارج على مقعد خشبي كان ويل قد صنعه قبل مدة؛ وذلك بسبب حساسيتها إزاء مسألة أن السيدة بيدويل قد تجد راحةً أكبر في الحديث سرًّا مع السيدة دارسي. وكان دارسي نادرًا ما يُرافق إليزابيث في تلك الزيارات الروتينية؛ ذلك أنَّ أخْذَ سلة الطعام التي يُعدُّها الطاهي في منزل بيمبرلي كان يُعدُّ عملًا أنثويًّا. واليوم، وبخلاف زيارته إلى ويكهام، كان دارسي مترددًا في مغادرة منزل بيمبرلي في حال وجود أيِّ تطورات تستدعي وجوده، واتُّفِق أثناء تناول الإفطار على أن خادمًا سيُرافق إليزابيث وجورجيانا. حينها قال ألفيستون بنبرة هادئة وموجهًا حديثَه إلى دارسي إنه سيكون من دواعي سروره أن يُرافق السيدة دارسي والآنسة جورجيانا؛ إذا ما كان هذا ملائمًا لهما، وقُوبل عرضُه بالامتنان. ورمقَت إليزابيث جورجيانا بنظرةٍ سريعة فرأت نظرةَ فرحٍ باديةً عليها، وسرعان ما أخْفَتها جورجيانا، فجعل هذا ردَّها على العرض المقترح واضحًا جدًّا.
وأُخِذت إليزابيث وجورجيانا إلى الغابة في عربةٍ ذاتِ ظهرٍ قابلٍ للطي، في حينِ امتطى ألفيستن صهوةَ جواده الذي يُدعى بومباي وسار إلى جوارهما. كان ضباب الصباح قد انقشعَ بعد ليلةٍ خاليةٍ من الأمطار، وكان الصباح رائعًا بهيًّا، كما كان باردًا، لكن يتخلَّله ضوء الشمس، أما الهواء فكان منعشًا وبه مسحة الخريف المألوفة — من أوراق الشجر والأرض النديَّة ورائحة الخشب المحترق. وحتى الجياد بدَت وكأنها تستمتع باليوم، فراحت تهزُّ رءوسها وتلوي شكائمها. وكانت الرياح قد هدأَت، لكن بقايا العاصفة كانت لا تزال تلوح في الأفق، وكانت أوراق الشجر الجافة تُطقطق تحت عجلات العربة وتتساقط وتدور بعد مرورهم. ولم تكن الأشجار قد تجرَّدَت من كامل أوراقها بعد، وصار لونا الخريف، وهما الأحمر القاني والذهبي، أكثرَ حدَّةً تحت السماء الزرقاء الصافية. وكان من المستحيل في مثل هذا اليوم ألا تشعر إليزابيث في نفسها بارتفاعِ معنوياتها، وللمرة الأولى منذ أن استيقظت اليومَ كانت تشعر بدَفقةٍ من الأمل. وفكَّرَت إليزابيث أن مظهرهم قد يبدو للناظرين وكأنهم في طريقهم لرحلة خلوية — وذلك من شكل الجياد وشكل سائق العربة في كِسْوته ووجود سلة المئونة، وذلك الشاب الوسيم الذي يمتطي حِصانه بجوارهم. وحين دخلوا الغابة كانت الأغصانُ الداكنة التي تمتدُّ فوقهم — والتي تبدو في قوَّتها وقتَ الغسق كسقفِ أحد السجون — مُضاءةً ببصيصٍ من ضوء الشمس الذي تخلَّلها فوصل إلى أرض الممر المفروش بورق الشجر، وبثَّ في الشجيرات الخضراء الداكنة حيويةَ الربيع وبهجتَه.
توقفَت العربة وأُعطي السائق الأوامرَ بأن يعود بعد ساعةٍ واحدة بالتحديد، ثم سار ثلاثتُهم — فكان ألفيستون يقود الحصان ويحمل السلة — بين أغصان الأشجار اللامعة على طول الممرِّ الموصل إلى الكوخ. ولم يتم إحضار الطعام باعتبارِ ذلك عملًا من أعمال الخير — فلم يكن هناك أيُّ عضو من العاملين في بيمبرلي يعيش من دون مأوًى له أو طعامٍ أو ملبس — وإنما كان الطعامُ فائضًا صنَعه الطاهي أملًا في إثارة شهية ويل؛ فكان الطعام يتكوَّن من مرقٍ لأفضل أنواع اللحم ومضاف إليه النبيذ — بحسَب وصفةٍ وضعها الدكتور ماكفي — وشطائر صغيرة شهيَّة تذوب في الفم، وحلوى هُلامية من الفواكه وخوخ وكُمَّثْرى ناضجة من المستنبتات الزجاجية. وكان من النادر أن يتحمَّل ويل تناول هذه الأطعمة الآن، لكن قبلت العائلةُ بهذا الطعام بامتنانٍ وإن لم يتمكَّن ويل من تناوله فلا شك أن أمه وأخته ستفعلان.
وعلى الرغم من خُفوت صوت أقدامهم أثناء سيرهم، فإن السيدة بيدويل لا بد أنها سمعت قدومهم؛ ذلك أنها وقفت عند الباب تُرحِّب بهم. كانت السيدة بيدويل امرأةً هزيلة ونحيلة، وكان وجهها الشاحبُ كلون الماء لا يزال يعكس شيئًا من جمال الشباب وبِشْره، لكن الآن أصبحت بفعل القلق والتوتر الناتجَين عن انتظارها لموت ابنها امرأةً عجوزًا. وقدَّمَت إليزابيث ألفيستون الذي أبدى أحرَّ تعاطفه من دون أن يذكر اسمَ ويل مباشرة، وقال إن لقاءها كان مصدرَ سرور له، وأشار إلى أنه سينتظر السيدة دارسي والآنسة جورجيانا على المقعد الخشبي بالخارج.
قالت السيدة بيدويل: «لقد صنعه ابني ويليام يا سيدي، وانتهى منه في الأسبوع السابق لمرضه. كان نجَّارًا ماهرًا كما ترى يا سيدي، ولا يزال يُحب تصميمَ قِطَع الأثاث وصنعها. والسيدة دارسي لديها كرسيٌّ للرضاعة — أليس كذلك يا سيدتي؟ — كان ويل قد صنعَه في عيد رأس السنة التالي لولادة السيد فيتزويليام.»
قالت إليزابيث: «أجل، فعلًا. إننا نحب هذا الكرسيَّ كثيرًا، ودائمًا ما نتذكر ويل حين يتسلَّق عليه الأطفال.»
انحنى ألفيستون ثم خرج وجلس على المقعد الذي كان على حافة الغابة، ويمكن رؤيته من الكوخ، في حين أخذت إليزابيث وجورجيانا الكراسيَّ التي قدَّمَتها السيدة بيدويل في غرفة المعيشة. كانت الغرفة مفروشةً بفرشٍ بسيط يتكوَّن من طاولة مستطيلة وأربعة كراسي، وكرسيٍّ مريح أكثرَ على كل جانب من جانبَي المدفأة، ورفٍّ للموقد يعج بالتذكارات العائلية. وكانت النافذة الأمامية مفتوحةً شيئًا قليلًا، لكنَّ جوَّ الغرفة كان لا يزال حارًّا، وعلى الرغم من أن غرفة ويل بيدويل كانت في الطابق العلوي فإن الرائحة الكريهة المنبعثةَ بسبب طول المرض بدَت وكأنها تتخلَّل الكوخَ كلَّه. وبالقرب من النافذة كان هناك فِراشٌ صغير يستقر على هزازات، وإلى جواره كرسيٌّ للرضاعة، وبدعوةٍ من السيدة بيدويل، ذهبت إليزابيث إليه وراحت تُحدِّق إلى الطفل النائم وتُهنِّئ جَدته على ما يتمتَّع به الوليدُ من صحةٍ وجمال. ولم يكن هناك أيُّ شيء يوحي بوجود لويزا. كانت جورجيانا تعلم أن السيدة بيدويل تُرحِّب بفرصةِ أن تتحدَّث مع إليزابيث على انفراد، وبعد أن سألَت عن ويل وأبدَت إعجابها بالطفل، قبِلت باقتراح إليزابيث الذي كانتا قد اتفقتا عليه فيما بينهما والذي يقضي بأن تنضمَّ إلى ألفيستون بالخارج. وسرعان ما أُفرِغت السلة المصنوعةُ من الخوص وأبدَت المضيفة امتنانَها على محتوياتها وجلست المرأتان على الكرسيَّين المجاورَين للمدفأة.
فقالت السيدة بيدويل: «ليس هناك الكثيرُ من الطعام الذي يمكن له أن يتناوله الآن يا سيدتي، لكنه يحبُّ مرق اللحم الخفيف هذا، وأنا أحاول أن أجعله يتناولُ شيئًا من الكاستر والنبيذ بالطبع. ومن اللطيف منكِ أن تزورينا يا سيدتي، لكنني لن أعرض عليكِ رؤيتَه. فلن يُؤدي هذا إلا إلى شعورك بالحزن، كما أنه لا يتمتَّع بالقوة ليُكثر في الحديث.»
قالت إليزابيث: «الدكتور ماكفي يزوره بانتظام، أليس كذلك؟ فهل يُطمئنُكِ عليه؟»
«إنه يأتي كلَّ يومين يا سيدتي، فهو مشغول كما تعرفين، ولا يتلقَّى أجرًا منا أبدًا. إنه يقول إن ويل ليس أمامه الكثيرُ الآن. آه يا سيدتي، لقد رأيتِ ابني العزيز حين أتيتِ إلى هنا للمرة الأولى زوجةً للسيد دارسي. فلماذا حدث له هذا يا سيدتي؟ إن كان هناك سببٌ أو غاية من ذلك فيُمكنني أن أتقبَّل الأمر.»
مدَّت إليزابيث يدَها. وقالت بنبرةٍ رقيقة: «هذا سؤال نطرحه دائمًا ولا نحصل له على إجابة. هل يزوركم القسُّ أوليفانت؟ لقد قال شيئًا عن زيارة ويل يوم الأحد بعد القدَّاس.»
«أجل، إنه يزورنا بالفعل يا سيدتي، واطمئني؛ فزيارته تُريحنا. لكن ويل طلب مني ألَّا أُدخله عليه مؤخرًا؛ لذا فإني أعتذر له وآمُل ألا يشعر بالإهانة تجاه ذلك.»
قالت إليزابيث: «أنا واثقةٌ أنه لا توجد إساءة في ذلك سيدة بيدويل. فالسيد أوليفانت رقيق الشعور ومتفهِّم. والسيد دارسي يثقُ به كثيرًا.»
«ونحن كلنا يا سيدتي.»
ساد الصمت بينهما بِضعَ دقائق، ثم قالت السيدة بيدويل: «لم أتحدَّث إلى ويل عن مقتل ذلك الشابِّ المسكين يا سيدتي. لقد انزعج ويل كثيرًا من حدوث شيءٍ كهذا في الغابة وعلى مقربةٍ من المنزل، ولم يكن قادرًا على حمايتنا.»
قالت إليزابيث: «لكن آمُل أنكم لم تتعرَّضوا للخطر سيد بيدويل. لقد أُخبِرتُ أنكم لم تسمعوا شيئًا.»
«لا يا سيدتي، عدا صوت الطلقات، غير أن هذا أثارَ في ويل شعورًا بمدى عجزِه، وبالحِمل الذي على والده أن يتحمَّله. لكني أعلم أن هذه المأساة شاقةٌ عليكِ وعلى سيدي، ومن الأفضل ألا أتحدثَ عن أمورٍ لا أعرف عنها أيَّ شيء.»
«لكنك كنتِ تعرفين السيد ويكهام حين كان طفلًا، أليس كذلك؟»
«بالفعل يا سيدتي. لقد اعتاد اللعِبَ مع سيدي في الغابة حين كان صغيرًا. كانا شقيَّين ككلِّ الصِّبية، لكن سيدي كان هو الأكثرَ هدوءًا بينهما. أنا أعرف أن السيد ويكهام أصبح في شبابه جامحًا وفظًّا وتسبَّب بالضيق لسيدي، لكن لم يأتِ أحدٌ على ذكره منذ زواجكما، ولا شك أن هذا كان من أجل مصلحة الجميع. لكن لا يُمكنني أن أُصدِّق أن الصبي الذي كنت أعرفه قد كبُر وأصبح قاتلًا.»
جلسَت المرأتان في صمتٍ مدةَ دقيقة. كان هناك اقتراحٌ حرج على إليزابيث أن تتقدَّم به، وكانت تحتار في أفضل طريقة يمكن لها أن تطرحه بها. كانت هي ودارسي يشعران بالقلق — منذ وقوع الحادث — من أن عائلة بيدويل قد تشعر بأنها في خطر، حيث إنهم معزولون في كوخ الغابة، خاصة أن لديهم صبيًّا مصابًا بداءٍ عُضال، كما أن بيدويل يكون دائمًا في منزل بيمبرلي. سيكون من المنطقيِّ أن تشعر العائلة بالقلق واتفقَت إليزابيث ودارسي على أنها ستطرح على السيدة بيدويل اقتراحًا أن تنتقل العائلة كلُّها إلى منزل بيمبرلي، حتى إلى أن يُحَل لغز الجريمة على الأقل. ومدى كون هذا الاقتراح عمَليًّا أو لا يتوقَّفُ بالطبع على ما إن كان ويل سيتحمَّل الرحلة، لكنه سيتمُّ حمله بكل حرص على نقالة طوالَ الطريق؛ وذلك من أجل تجنُّب اهتزاز العربة، كما سيتلقَّى رعايةً خاصة بمجرد أن يستقرَّ في غرفةٍ هادئة في بيمبرلي. لكن حين طرحَت إليزابيث هذا الاقتراح، ذُهِلت من رد السيدة بيدويل. فللمرةِ الأولى بدَت المرأة مرعوبةً للغاية، وجاء ردُّها مصحوبًا بنظرةٍ تملؤها الرهبة.
«أوه، لا يا سيدتي! أرجوك لا تطلبي منا فعلَ ذلك. لن يكون ويل سعيدًا وهو بعيدٌ عن الكوخ. ليس هناك ما نخشاه هنا. فحتى في غياب بيدويل، لم نكن أنا ولويزا خائفتَين. وقد فعلنا كما أُمرنا بعد أن تكرَّم الكولونيل فيتزويليام وأتى ليطمئنَّ أن كل شيء على ما يُرام. لقد أوصدتُ الباب وغلَّقتُ نوافذ الطابق الأرضي ولم يأتِ أحدٌ بالجوار. لم يكن الأمر أكثرَ من مجرد إطلاقٍ للنار يا سيدتي، وقد حدث الأمر على غفلة وكان عفويًّا، ولم يَدُر بيننا وبينه شجار. كما أنني واثقة أن الدكتور ماكفي سيقول بأن ويل لا يحتمل هذه الرحلة. من فضلكِ أخبري السيد دارسي أننا شاكرون وممتنُّون، لكن لا ينبغي أن يتم التفكير في هذا الأمر.»
بدت المرأة بنظرة عينيها وامتدادِ يدَيها وكأنها تستجديها. فقالت إليزابيث بنبرةٍ رقيقة: «لن يحدث، إن كانت تلك هي رغبتك، لكن يمكن لنا على الأقل أن نحرص على أن يكون زوجك هنا طَوال الوقت. سنفتقدُه كثيرًا، لكن يمكن للآخرين أن يقوموا بعمله بينما ويل مريضٌ للغاية ويتطلب رعايتكم.»
«لن يفعلَ زوجي ذلك يا سيدتي. سيحزنه أن يُفكِّر أن الآخَرين يمكن لهم أن يتولَّوا القيام بمهمته.»
وبقول هذا، شعرَت إليزابيث برغبةٍ في أن تقول إنه يتعيَّن عليه أن يحزن إن حدثَ ذلك، لكنها شعرت أنَّ هناك شيئًا جِديًّا أكثرَ من مجرد رغبة بيدويل في أن يشعر بأنهم في حاجةٍ إليه على الدوام. قرَّرت إليزابيث أن تترك المسألة في الوقت الراهن؛ فلا شك أن السيدة بيدويل ستُناقشها مع زوجها وربما ستُغيِّر رأيها. كما أنها كانت محقَّة بالطبع؛ فإن كان رأي الدكتور ماكفي أن ويل لن يستطيع تحمُّل الرحلة فسيكونُ من الحماقة القيامُ بها.
كانت المرأتان تُودِّع كلٌّ منهما الأخرى، وتنهضان من مكانهما حين ظهرَت قدَمان ممتلئتان من فوق حافة الفراش الصغير، وبدأ الطفل في البكاء. وبنظرةٍ خاطفة تنمُّ عن القلق ألقتها السيدة بيدويل نحوَ غرفة ابنها، اقتربَت من الفراش الصغير ومدَّت يدها لتأخذ الطفل بين ذراعيها. وفي تلك اللحظة كان هناك وقعُ أقدام على السلَّم، وأتت لويزا بيدويل. ولأنها كانت تزور الآن كوخ الغابة كخادمةٍ تعمل في منزل بيمبرلي؛ فلم تتمكَّن إليزابيث للحظةٍ من التعرُّف على الفتاة التي كانت مثالًا للصحة والسعادة، حيث كانت تتحلى بوجنتَين ورديتين وعينين صافيتين، وتبدو في ملابسِ عملِها المكوية حديثًا مرحةً كصباحِ يومٍ ربيعي. بدَت الفتاة الآن أكبرَ في العمر بعشر سنوات؛ فكانت شاحبةً مجهدة وكان شعرها غيرُ الممشَّط مسحوبًا إلى الوراء من على وجهٍ كسَتْه علاماتُ التعب والقلق، كما كانت ملابسُ عملِها ملطَّخةً ببقع الحليب. هزَّت لويزا رأسَها سريعًا تحيةً لإليزابيث، وبعد ذلك — ومن دون أن تنطق بكلمة — أمسكت الطفل من أمِّها ثم قالت: «سآخذه إلى المطبخ حتى لا يوقظ ويل. سأضع له الحليب وشيئًا من الثريد يا أمي من أجل إطعامه. سأحاول تهدئتَه بهذا.»
ثم غادرت الفتاة. فقالت إليزابيث بُغية كسر الصمت: «لا بد أنه من دواعي سرورِكم أن يكون هناك حفيدٌ لكم، لكن الأمر ينطوي أيضًا على مسئولية. كم ستطول مدةُ بقائه هنا؟ أعتقد أن أمَّه ستريد أن تستعيده.»
«بالطبع يا سيدتي. كانت رؤية الوليد مصدرَ سرور لويل، لكنه لا يحب أن يسمع بكاءه، رغم أنه لا يبكي إلا إذا كان جائعًا، وهذا طبيعي.»
سألتها إليزابيث: «متى سيعود الطفل إلى منزله؟»
«الأسبوع القادم يا سيدتي. إن زوج ابنتي الكبرى — مايكل سيمبكنز وهو رجلٌ صالح كما تعرفين — سيَلْقاهم حين ينزلون من العربة في بيرمنجهام وسيأخذه إلى المنزل. ونحن ننتظر لنعرف أيُّ يوم سيكون ملائمًا له. فهو مشغولٌ للغاية وليس من السهل عليه أن يُغادر متجره، لكنه يتوق هو وابنتي إلى رجوع جورجي إلى المنزل.» كان من المستحيل على إليزابيث ألا تلحظَ نبرة التوتر في صوتها.
أدركت إليزابيث أن الوقتَ قد حان لتُغادر. فودَّعَت السيدة بيدويل واستمعت لها وهي تشكرها، وسرعان ما أُغلق باب كوخ الغابة خلفها. وكانت إليزابيث تشعر بالكآبة بسبب التعاسة الواضحة التي رأَتها، وأصبح عقلُها مشتَّتًا. لماذا قُوبل اقتراح أن تنتقل عائلة بيدويل إلى منزل بيمبرلي بمثلِ هذا الضيق والانزعاج؟ أكان الاقتراح يفتقر إلى اللباقة ربما، كتضمينٍ غيرِ معلَن بأن الصبي المحتضَر سيتلقَّى في بيمبرلي رعايةً أفضل من تلك التي تُقدِّمها له والدته في منزله؟ لم تكن إليزابيث تعني هذا مطلقًا. هل شعرت السيدة بيدويل بأن الرحلة ستتسبَّب في موت ابنها، لكن هل ستكون هناك أيُّ مخاطرة إذا ما حُمل الصبيُّ على نقالة واعتَنى به الدكتور ماكفي في كلِّ خطوة من الطريق؟ لم يكن هناك شيءٌ يمكن أن يُتصوَّر خلافًا لهذا. لقد بدَت السيدة بيدويل منزعجةً بفكرة الانتقال أكثرَ من انزعاجها بفكرة احتمال وجود قاتل في الغابة. وشعرت إليزابيث بشيء من الشك الذي يكاد يرقى إلى اليقين، والذي لا يمكن لها أن تبوح به لرِفاقها، وكانت تتساءل بالفعل إن كان من الصواب أن تبوحَ به لأي أحد. ثم فكَّرَت إليزابيث مرةً أخرى في مدى رغبتها أن تكون جين لا تزال في منزل بيمبرلي؛ لكن كان من الصواب أن تُغادر عائلة بينجلي. فمكان جين أن تكون بجانب أطفالها، وستكون ليديا أقربَ إلى السجن المحليِّ حيث يمكن لها على الأقل أن تزور زوجها. واختلطَت مشاعر إليزابيث وتعقَّدت بإدراكها أن منزل بيمبرلي كان مثيرًا للإزعاج بصورةٍ أقل في ظل غياب ليديا بتقلباتها المزاجية العنيفة وتذمُّرها المستمر وعويلها.
وأثناء انهماكها في تلك الفوضى من الأفكار والمشاعر، لم تُولِ إليزابيث إلا القليلَ من الاهتمام إلى رفيقَيها. رأتهما الآن يسيران معًا على حافة الفُرجة في الغابة، وكانا ينظران إليها كما لو كانا يتساءلان متى ستتحرَّك من مكانها. تملَّصَت إليزابيث من شواغلها وانضمَّت إليهما. ثم قالت وهي تُخرج ساعتها: «لدينا ٢٠ دقيقة قبل أن تعود العربة. والآن وحيث إن الشمس لا تزال مشرقة — ولو بشكل جزئيٍّ — فهلَّا نجلس بعضَ الوقت قبل أن نعود؟»
كان المقعد المواجهُ للكوخ يُطل على منحدرٍ بعيدٍ يؤدي إلى النهر. جلست إليزابيث وجورجيانا على أحد جانبَيه وجلس ألفيستون على الجانب الآخر، وكانت ساقاه ممدودتَين أمامه ويداه خلف رأسه. والآن وحيث إن رياح الخريف جرَّدَت الكثير من الأشجار من أوراقها؛ كان من الممكن رؤيةُ خط الأفق اللامع الرقيق الذي يفصل بين النهر والسماء. أكان هذا هو المنظر الذي جعل جدَّ جورجيانا الأكبرَ يختار هذه البقعة؟ كان المقعد الأصلي قد أُزيل من مكانه منذ زمنٍ بعيد، لكن المقعد الجديد الذي صنعه ويل كان خشنًا وغيرَ مريح. وبجانب المقعد كانت هناك كتلةٌ تُشكِّل نصف درع من شجيرات التوت الأحمر، وجَنَبة لم تستطِع إليزابيث أن تتذكَّر اسمها، أوراقُها سميكة وأزهارها بيضاء.
وبعد بضع دقائق التفت ألفيستون إلى جورجيانا. وقال: «هل كان جَدُّك الأكبر يعيش هنا طَوال الوقت، أم أن المكان كان بمثابة معتزل مؤقَّت من أمور المنزل الكبير؟»
«أوه، كان يعيش هنا طَوال الوقت. لقد بنى الكوخ ثم انتقل للعيش فيه من دون أي خادم أو أي أحد ليطهوَ له الطعام. كان الطعام يُحمَل له بين الحين والآخر، لكنه وكلبه سولدجر لم يُريدا شيئًا سوى أن يكونا معًا. كانت حياتُه عبارة عن فضيحة كبرى في وقته، وحتى أسرته لم تكن متعاطفةً معه. فأن يعيش فردٌ من عائلة دارسي في أيِّ مكانٍ آخر عدا منزل بيمبرلي يجعل الأمر يبدو وكأنه تنصُّل من المسئولية. ثم حين أصبح الكلب سولدجر عجوزًا ومريضًا، أطلق عليه جَدِّي الأكبرُ النارَ، ثم أطلق النار على نفسه. وترك رسالةً يطلب فيها أن يُدفنا معًا في القبرِ نفسِه في الغابة، وهناك قبرٌ وشاهد له، لكنهما يخصَّان الكلب سولدجر فقط. كانت الأسرة مذعورة من فكرةِ أن فردًا من عائلة دارسي يرغب في أن يرقد في أرضٍ مدنَّسة، ويمكنك أن تتخيَّل رأيَ قس الأبرشية في هذا الأمر. لذا فإن جَدي الأكبر يرقد في الأرض المملوكة للعائلة ويرقد الكلب سولدجر في الغابة. كنتُ أشعر دومًا بالأسى على جَدِّي الأكبر، وحين كنتُ طفلة، اعتدتُ الذَّهاب مع مربيتي لأضع بعض الأزهار أو التوت على القبر. كان هذا مجرد تخيُّل طفولي أن جدي كان مع سولدجر في القبر. لكن حين علمت أمي ما يحدث صُرفت المربِّية من الخِدمة، وقيل لي إن الغابة أصبحت محظورة عليَّ.»
قالت إليزابيث: «محظورةٌ عليكِ، ولكن ليس على أخيكِ.»
«لا، لم تكن محظورةً على فيتزويليام. لكنه يكبُرني بعشَرة أعوام، وكان راشدًا حين كنت لا أزال طفلة، ولا أعتقد أنه كان يكنُّ المشاعر نفسها التي أُكنُّها تجاه جَدِّي الأكبر.»
ساد الصمت بينهم، ثم قال ألفيستون: «هل لا يزال القبر في مكانه؟ يمكنكِ أن تضَعي عليه بعض الأزهار الآن إذا ما رغبتِ في ذلك، فأنتِ لم تعودي طفلة.»
وبدا لإليزابيث أن تلك الكلمات تنطوي على معنًى أعمقَ من مجردِ زيارةِ قبرٍ يرقد فيه كلب.
قالت جورجيانا: «أرغب في هذا كثيرًا. فلم أزُر القبر منذ كنت في الحادية عشرة من عمري. أريد أن أرى إن كان هناك شيءٌ قد تغيَّر، لكن لا يُمكنني أن أعتقد أن هناك ما تغيَّر بالفعل. وأنا أعرف الطريق؛ فهو ليس ببعيد عن الممر، ومِن ثَم فلن نتأخر على الرجوع إلى العربة.»
وانطلقوا معًا، فكانت جورجيانا تُرشدهم إلى الطريق وألفيستون يسير أمامهم قليلًا، ومعه جواده بومباي ليمنع عنهم نبات القراص، ويبعد عن طريقهم فروع الأشجار التي تعترض سبيلهم. وكانت جورجيانا تحمل باقةً صغيرة من الأزهار التي قطفها ألفيستون من أجلها. وكان مذهلًا ما بثَّته مجموعة الأزهار الصغيرة تلك من إشراقٍ وما أثارته من ذكريات في يومٍ خريفي مشمِس كهذا. كان ألفيستون قد وجد باقةً من زهر الخريف الأبيض على جذعٍ خشن وبعض أزهار التوت بلونٍ أحمرَ أنيق، لكنها لم تكن جاهزة بعد للسقوط، وورقة شجر أو اثنتين معرَّقتين باللون الذهبي. ولم ينبس أحدُهم ببنتِ شفة. أما إليزابيث التي كان عقلها مشوشًا كثيرًا بالفعل بمجموعةٍ من الأفكار المسبِّبة للقلق، فكانت تتساءل في نفسِها إن كان من الحكمة القيامُ بهذه الرحلة الصغيرة، من دون أن تعرف كيف يُمكن لتلك الرحلة أن تكون غيرَ مستحسَنة بأيِّ شكل. فقد كان اليوم من الأيام التي يبدو فيها أيُّ حدثٍ خارجٍ عن المألوف واقعًا بين براثن الخوف والأخطار المحتملة.
حينها بدأت إليزابيث تُدرك أن الممر قد وطئَته الأقدام حديثًا. ففي بعض أجزائه كانت الفروع والأغصان تبدو وكأنها مفصولة بعضها عن بعض، وعند بقعةٍ معيَّنة حيث كانت الأرض منحدرة قليلًا والأوراق لا تزال ليِّنة رأت إليزابيث علاماتٍ تدل على أنها قد حملت أقدامًا ثقيلة. وتساءلت إن كان ألفيستون قد لاحظ ذلك، لكنه لم يقُل شيئًا، وفي غضون دقائق قليلة، تحرَّرَت المجموعة من الشجيرات المتشابكة، ووجدوا أنفسهم في فُرجةٍ صغيرة محاطة بأشجار الزان. وفي منتصف الفُرجة كان هناك شاهدُ قبرٍ من الجرانيت ارتفاعُه نحو قدَمَين وقمَّته منحنيةٌ بعضَ الشيء. ولم يكن القبر بارزًا عن الأرض وبدا شاهده — الذي كان يلمع الآن تحت أشعَّة الشمس — وكأنه ضاربٌ بجذوره في الأرض. ووقفوا يقرَءون الكلمات المحفورة في صمت. «سولدجر. مخلص حتى موته. مات هنا مع سيده، في الثالث من نوفمبر ١٧٣٥.»
ومن دون أن تتحدَّث، تقدَّمَت جورجيانا من القبر لتضع أزهارها تحت شاهد القبر. وبينما كانوا واقفين لدقيقةٍ يتأمَّلونه، قالت جورجيانا: «مسكينٌ جَدي الأكبر. أتمنَّى لو أنني كنت أعرفه. لم يتحدَّث عنه أحدٌ قط، حتى أولئك الذين يتذكَّرونه. كان هو الشخصَ الفاشل في العائلة، ذلك الفرد من عائلة دارسي الذي ألحق العارَ باسمه؛ لأنه قدَّم سعادته الشخصية على المسئوليات العامة. لكنني لن أزورَ القبر مرة أخرى. ففي النهاية، لا يرقد جسده هنا؛ إنما كان ذلك تصوُّرًا طفوليًّا مني أنه قد يعرف بطريقةٍ ما أنني أهتمُّ لأمره. آمُل أنه كان سعيدًا في عزلته. فقد تمكَّن من الهرب على الأقل.»
فكَّرَت إليزابيث في نفسها، «ممَّ يهرُب؟» والآن كانت إليزابيث تتوق للعودة إلى العربة. فقالت: «أعتقد أن الوقت قد حان لنعود إلى المنزل. سيعود السيد دارسي عما قريبٍ من السجن وسيقلق كثيرًا إنْ فكَّر أننا لا نزال في الغابة.»
ثم توجَّهوا عبر الممرِّ الضيق الذي تتناثر الأوراق على أرضه وانعطَفوا إلى الطريق الذي ستنتظرهم فيه العربة. ورغم أنهم كانوا في الغابة مدةً تقلُّ عن الساعة، إلا أن شمس الظهيرة الساطعة كانت قد أفلت، وشعرت إليزابيث — التي لا تحب أبدًا أن تسير في الأماكن الضيِّقة — أن الشجيرات والأشجار كأنها ثقلٌ يضغط عليها. وكانت رائحة المرض لا تزال في أنفها، وقلبها مرهقٌ من البؤس والتعاسة التي تعيشها السيدة بيدويل ومن فقدان الأمل تمامًا تجاه ويل. وحين وصلوا إلى الممرِّ الرئيسي ساروا معًا حيث كان اتساعُه يسمح لهم بذلك، وحين كان الممر ضيِّقًا أكثر، كان ألفيستون يتقدَّمهم ويسير مع جواده بومباي بمقدار بضعة أقدام أمامهم، وكان ينظر إلى الأرض ثم ينظر يَمنةً ويَسرة وكأنه يبحث عن أدلَّة. وكانت إليزابيث تُدرك أنه يفضِّل أن يتأبَّط ذراع جورجيانا، لكنه لم يكن ليترك أيَّ واحدة منهما تسير وحيدة. وكانت جورجيانا أيضًا صامتة؛ ربما لأنها كانت تشعر أيضًا بشعورِ الخوف والتهديد نفسِه.
وفجأةً توقَّف ألفيستون وتوجَّه بسرعةٍ نحو شجرة بلوط. كان من الواضح أن شيئًا ما أثار انتباهَه. ولحقت به السيدتان ورأَتا على جذع الشجرة الأحرف «ف. د—ي» منحوتةً على الجذع بارتفاع أربعة أقدام تقريبًا من الأرض.
قالت جورجيانا وهي تنظر حولها: «ألا يوجد نقشٌ مشابه لذلك على شجرة البهشية تلك؟»
وبعد فحصٍ سريع تأكَّدوا بالفعل من وجود نقشٍ بالأحرف الأولى على جذعَين آخَرَين. فقال ألفيستون: «لا يبدو كالنقش المعتاد للمحبِّين. فالأحرف الأولى فقط هي ما ينقشه المحبُّون. وأيًّا كان مَن صنَع هذا النقش فإنه كان مهتمًّا بألا يكون هناك شكٌّ أن تلك الأحرف الأولى تُشير إلى فيتزويليام دارسي.»
قالت إليزابيث: «أتساءل متى صُنع هذا النقش. فهو يبدو لي حديثَ العهد للغاية.»
قال ألفيستون: «لا شك أنه نُقِش في غضون الشهر المنصرِم، وبيدِ اثنين من الأشخاص. فحرفا الفاء والدال سطحيَّان إلى حدٍّ ما، وربما نقشَتهما امرأة، لكن الخط الفاصل الذي يتبعهما وحرف الياء منحوتان بعمقٍ أكبر، وربما كانت الأداةُ المستخدَمة أكثرَ حدةً بكل تأكيد.»
قالت إليزابيث: «لا أعتقد أن مُحبًّا نقشَ هذا التَّذكار. أعتقد أن مَن فعله عدوٌّ وكانت نيته في ذلك خبيثة. فهو منقوشٌ بكراهية وليس بحب.»
وبمجرد أن نطقَت بتلك الكلمات، تساءلت في نفسها إن كان مِن الحكمة أن تبثَّ القلق في نفس جورجيانا، لكن قال ألفيستون: «أعتقد أن الأحرف الأولى ترمز إلى ديني. هل نعرف اسمه بالمسيحية؟»
وحاولت إليزابيث أن تتذكَّر إن كانت قد سمعت من قبلُ باسمه في ميريتون، وقالت في النهاية: «أعتقد أن اسمه كان مارتن، أو ربما ماثيو، لكنني أعتقد أن الشرطة ستعرفه. فلا بد أنهم تواصلوا مع أقاربه إن كان له أقارب. لكن ديني لم يدخل هذه الغابةَ قط قبل يوم الجمعة على حدِّ علمي، ولا شك أنه لم يَزُر بيمبرلي قط.»
استدار ألفيستون ليهمَّ بالرحيل. وقال: «سنُبلغ عن الأمر حين نعود إلى المنزل، ويتعيَّن إخطار الشرطة بذلك. وإن كان الضباط قد قاموا بالبحث الدقيق الذي عليهم أن يقوموا به، فمن الممكن أنهم رأَوا هذه النقوش بالفعل وتوصَّلوا إلى استنتاجٍ بشأن معناها. في تلك الأثناء، آمل ألا يدبَّ القلق في نفسيكما كثيرًا. فقد يكون النقشُ شيئًا لا يُراد به أيُّ أذًى بعينه؛ فربما كانت فتاةً عاشقة من سكان الأكواخ أو خادمًا مشاركًا في عملٍ أحمقَ غيرِ مسببٍ لأي ضرر.»
لكن إليزابيث لم تكن مقتنعةً بذلك. ومن دون أن تنطق بكلمة سارت مبتعدةً عن الشجرة وتبِعها ألفيستون وجورجيانا. وفي صمتٍ لم يشعر أيٌّ منهم أن عليه كسره، تبِعت إليزابيث وجورجيانا ألفيستون على طول الممرِّ باتجاه العربة التي تنتظرهم. ويبدو أن حالة إليزابيث المزاجية النَّكِدة انتقلت إلى رفاقها، وحين ساعد ألفيستون السيدتين على ركوب العربة أغلق بابها وامتطى صهوة جواده وتوجَّهوا نحو المنزل.