الفصل الرابع
كان مظهرُ السجنِ المحليِّ في لامتون من الخارج — على عكس سجن المقاطعة في ديربي — أكثرَ إثارةً للرهبة والخوف من شكله من الداخل، وربما بُني على أساس الاعتقاد بأن الحفاظَ على الأموال العامة عن طريقِ ردعِ المجرمين المحتملين أفضلُ من الحفاظ عليها عن طريقِ تثبيطهم عن ارتكاب الجرائمِ بمجرد دخولهم السجن. ولم يكن دارسي يجهل السجن، حيث كان قد زاره من قبلُ بين الحين والآخَر بصفته قاضيًا، وإحدى تلك المرَّات البارزةِ كانت قبل ثمانية أعوام حين شنق أحدُ السجناء المختلين عقليًّا نفسَه في زنزانته، واستدعى رئيس حرس السجن القاضيَ الوحيد المتاح في ذلك الوقت ليطَّلع على الجثة. كانت تلك التجرِبة مؤلمةً جدًّا حتى إنها خلَّفَت في دارسي هلعًا دائمًا من الموت شنقًا، ولم يَزُر السجن يومًا من دون أن تُواتِيَه الذِّكرى الحية للجثة المتدلية والرقبة الممطوطة. واليوم كانت الذكرى أقوى من المعتاد. وكان حارس السجن ومساعده رجلَين رحيمَين، ورغم أننا لا يمكن أن نقول إن أيًّا من الزنازين تُعد واسعة، لم يلقَ المساجينُ معاملةً سيئة من جانبهما؛ إذ كان بمقدورهم أن يدفعوا مبلغًا جيدًا من المال ليحصلوا على الطعام والشراب وأن يستضيفوا زُوارهم في شيء من الراحة ولم يكن هناك الكثيرُ ليتبرَّموا بشأنه.
وحيث إن هادركاسل قد حذَّر بشدةٍ من أنه مِن الطيش أن يُقابل دارسي ويكهام قبل إجراء التحقيق، فقد تطوَّع بينجلي — بطبيعته الكريمة المعتادة — لأداء المهمَّة وزار ويكهام صباحَ يوم الإثنين، حيث تم التعامل مع كل حاجات السجين وإعطائه المال الكافيَ لضمان قدرته على شراء الطعام ووسائل الراحة الأخرى التي تُساعد في جعل السجن قابلًا للتحمُّل. لكن وبعد المزيد من التفكير، قرَّر دارسي أن مِن واجبه أن يزورَ ويكهام، ولو مرةً واحدة على الأقل قبل إجراء التحقيق. فقد يُنظر إلى عدم فعله ذلك في جميع أنحاء لامتون وقرية بيمبرلي على أنه إشارةٌ واضحة إلى اعتقاده أنَّ صِهرَه مذنب، وستُشكَّل هيئة المحلَّفين من أبرشيات لامتون وبيمبرلي. وربما لن يكون أمامه خيارٌ حيالَ استدعائه كشاهدٍ لجهة الادعاء، لكن يمكن له على الأقل أن يُبرهن وبشكلٍ هادئ أن ويكهام بريء. وكان هناك أيضًا شأنٌ أكثرُ خصوصية؛ وهو أنه مهتمٌّ كثيرًا بألا يكون هناك تخمينٌ مفتوح حول سببِ نفورِ الأسرة، الأمر الذي قد يُعرِّض أمرَ هرب جورجيانا المقترح لخطر الاكتشاف.
وقد أفاد بينجلي أنه وجد ويكهام غاضبًا وغيرَ متعاون ويميل إلى الانفجار في وجه القاضي ورجال الشرطة في فظاظة، مطالبًا إياهم بأن يُضاعفوا جهودهم لِيعرفوا مَن قتل صديقه العزيزَ والوحيد. لماذا كان يُهان في السجن في حين أن المذنبَ الحقيقيَّ حرٌّ طليق؟ لماذا تَعمَد الشرطة إلى قطع راحته من أجل إزعاجه ومضايقته بأسئلةٍ غبية وغير ضرورية؟ لماذا سألوه عن سبب قلبه لديني على ظهرِه؟ ليرى وجهَه بالطبع، كان ذلك تصرُّفًا طبيعيًّا تمامًا. لا، لم يلحظ الجرح على رأس ديني؛ فقد كان مُغطًّى بالشعر على الأرجح، كما أنه كان حزينًا جدًّا لدرجةٍ لا تسمح له بملاحظة التفاصيل على أيِّ حال. كذلك فقد سُئِل عما كان يفعل في المدة التي تفصل بين سماع دويِّ طلقات النار ولحظة اكتشاف مجموعة البحث لجثة ديني؟ كان يتعثَّر أثناء سيره في الغابة في محاولةٍ للإمساك بالقاتل، وكان هذا هو الأمرَ الذي ينبغي عليهم القيامُ به، وليس إهدار الوقت في مضايقة رجلٍ بريء وإزعاجه.
واليوم، وجد دارسي رجلًا مختلفًا للغاية. أصبح يرتدي ملابسَ نظيفة، وأصبح حليقًا وشعره مصفَّف، واستقبله ويكهام وكأنه يستقبله في بيته، وأسبغ رعايته على ذلك الزائر غيرِ المرحَّب به بشدة. وتذكَّر دارسي أن ويكهام كان متقلِّب المِزاج دائمًا، والآن رأى ويكهام القديم، ذلك الوسيم الواثق الذي يميل إلى التلذُّذ بسمعته السيئة أكثرَ من النظر إليها على أنها مصدرٌ للعار والخزي. وكان بينجلي قد أحضر له الأشياءَ التي طلبها؛ التبغ وعدة قمصان وربطات عنق ونعلًا، وفطائرَ متبَّلة مخبوزة في هايمارتن لإضافتها إلى الطعام الذي اشتُري له من المخبز المحلي، وحِبرًا وأوراقًا حيث اقترح ويكهام أن يكتبَ تقريرًا عن مشاركته في الحملة الأيرلندية وعن الظلم البيِّن الذي يتعرَّض له بوضعه الحاليِّ في السجن، سيكتب سجلًّا شخصيًّا كان واثقًا من أنه سيجد سوقًا مهيَّأة لينتشر فيها. ولم يتحدَّث أيٌّ من الرجلين عن الماضي. لم يتمكَّن دارسي من التخلُّص من سيطرة الماضي عليه لكن ويكهام كان يعيش اللحظة الراهنة، وكاد دارسي — في الوقت الراهن — يعتقد أن ويكهام قد صرَف التفكير في أسوأ ما في الأمر عن ذهنه.
قال ويكهام إن عائلة بينجلي أحضرَت ليديا من هايمارتن لزيارته في المساء السابق، لكنها كانت جامحةً في تذمُّرِها وبكائها حتى إنه وجد أن ذلك يُوقِع في نفسِه الكآبة كثيرًا بدرجةٍ لا يُمكنه تحملُها، فأشار إلى أنها ينبغي ألا تُحضَر لزيارته في المستقبل إلا بطلبٍ منه، وستكون مدة زيارتها ١٥ دقيقة فقط. لكن كان يَحْدوه الأمل ألا تكون هناك حاجةٌ إلى المزيد من الزيارات؛ فقد حُدِّد موعد التحقيق على أن يكون في الحاديةَ عشرة من صباح يوم الأربعاء، وكان واثقًا من أنه سيُطلَق سَراحُه حينها، متصوِّرًا عودتَه منتصرًا هو وليديا بعد إطلاق سراحه إلى لونجبورن وتهنئة أصدقائه القدامى له في ميريتون. ولم يأتِ على ذكر بيمبرلي، ربما لأنه بالكاد يتوقَّع أنه مرحَّب به هناك حتى في حالة نشوته بالنصر، كما أنه لا يرغب في وجوده بها. وفكَّر دارسي أن ويكهام بلا شكٍّ وفي ظل نشوته بإطلاق سراحه، سينضمُّ أولًا إلى ليديا في هايمارتن قبل أن يُسافرا إلى هيرتفوردشاير. فقد بدا من غيرِ العادل أن يتحمَّل بينجلي وجين عبءَ وجود ليديا حتى ولو ليوم واحد، لكن سيتقرَّر أمرُ كلِّ ذلك إذا ما أُطلِق سَراحُه بالفعل. وتمنَّى دارسي أن يُشارك ويكهام في ثقته بإطلاق سراحه.
لم يمكث دارسي سوى نصفِ الساعة فقط، وأُعطي لائحةً بالأشياء المطلوبة ليتمَّ إحضارها في اليوم التالي، وغادر بطلبٍ من ويكهام أن يُرسل ثناءه وشكره لكلٍّ من السيدة والآنسة دارسي. وحين غادر دارسي، فكَّر أنه من المريح رؤية ويكهام وهو لم يَعُد غارقًا في شعوره بالتشاؤم، أو أنه متورِّط في الجريمة، لكن الزيارة كانت غيرَ مريحة له كما كانت مثيرةً للإحباط الشديد.
وكان دارسي يعلم — بشيءٍ من الحسرة — أن المحاكمة إن سارت على ما يُرام فسيتحتَّم عليه أن يدعم ويكهام وليديا، ولو لوقتٍ قصير في المستقبل القريب على الأقل. ذلك أن مصروفاتهما كانت تتخطَّى دومًا حدودَ دخلهما، وخمَّن دارسي أنهما يعتمدان على الإعانات الخاصة من إليزابيث وجين لزيادة دخلهما غيرِ الكافي. وكانت جين لا تزال تدعو ليديا إلى هايمارتن بين الحين والآخر، بينما كان ويكهام — الذي يتذمَّر سرًّا بصوتٍ عالٍ — يُلهي نفسه في مجموعةٍ مختلفة من الحانات والفنادق المحلية، وكانت إليزابيث تحصل على أخبار الزوجَين من جين. ولم تُحقِّق أيٌّ من الوظائف المؤقَّتة التي حصل عليها ويكهام منذ استقالتِه من الخِدمة أيَّ نجاح له. فآخِر محاولاته لاستحقاق الجدارة والكفاءة كانت مع السير والتر إليوت، وهو حاملٌ للَقب بارون أُجبر على تأجير منزله للغرباء بسبب بذخه، وانتقل إلى باث مع اثنتَين من بناته. كانت البنت الصغرى — واسمها آن — سعيدةً في زيجتها المزدهرة من قبطان في البحرية — أصبح الآن أدميرالًا بارزًا — لكن الابنة الكبرى واسمها إليزابيث كانت لا تزال تبحث عن زوجٍ لها. وبسبب عدم رضا البارون عن الوجود في باث كان قد قرَّر الآن أنه ثريٌّ بما يكفي ليتمكَّن من العودة إلى منزله، فقدَّم إشعار المستأجر ووظَّف ويكهام سكرتيرًا له ليُساعده في العمل اللازم من أجل الانتقال. وصُرِف ويكهام من العمل في غضون ستة أشهر. وحين كان يُواجه الأخبار المحزنة أو الخلافات العائلية — وهي الأسوأ — كانت مهمة جين في التسوية ألا تُحمِّل أيًّا من الأطراف الخطأ الأكبر. لكن حين نُقِلت أخبارُ آخرِ ما أخفق فيه ويكهام إلى أختِها الأكثرِ تشككًا، اشتبهَت إليزابيث في أن الآنسة إليوت كانت قلقةً من استجابة والدها تجاه غزَل ليديا الصريح، في حين قُوبلت محاولات ويكهام في التقرُّب منها في البداية بالتشجيع الناتج من الشعور بالملل، وفي النهاية بشعورٍ بالاشمئزاز.
وبمجرد أن خرج دارسي من لامتون، كان من الجيد بالنسبة إليه أن يستنشق بعضَ الهواء العليل وأن يتحرَّر من رائحة السجن الصعبة، التي هي مزيجٌ من رائحة الأجساد والطعام والصابون الرخيص، وأن يتحرَّر كذلك من أصوات المفاتيح، ووجَّه دارسي رأسَ جَواده تجاه بيمبرلي وهو يشعر بدفقةٍ من الارتياح ولديه إحساسٌ بأنه تحرَّر من السجن.