الفصل الخامس
كان منزل بيمبرلي هادئًا وكأنه مهجور، وكان مِن الواضح أن إليزابيث وجورجيانا لم تعودا بعدُ. وبالكاد نزل دارسي من على صَهْوة جواده حين أتى أحدُ الخَدَم في الإسطبل من عند زاوية المنزل ليأخذ منه جواده، لكن لا بد أن دارسي عاد في وقتٍ مبكِّر أكثرَ ممَّا كان متوقَّعًا، ولم يكن هناك أحدٌ ينتظره عند الباب. دلف دارسي الرَّدهةَ الساكنة وتوجَّه إلى غرفة المكتبة حيث فكَّر أن من المرجَّح أن يجد الكولونيل بها ولا يُطيق صبرًا لسماع الأخبار. لكنه فوجئ حين وجد السيد بينيت وحده فيها، ويجلس مختفيًا في كرسيٍّ عالي الظهر بجوار النار ويقرأ جريدة «إدنبرة ريفيو». وكان من الواضح من الكوب والطبق الفارغَين على الطاولة الصغيرة بجانبه أنه تلقَّى بعض المرطبات بعد أن قطع تلك الرحلة. وبعد أن توقَّف دارسي للحظة، بفعل اندهاشه، أدرك أنه كان مسرورًا للغاية برؤية زائره، وحين نهض السيد بينيت من كرسيِّه صافحه دارسي بحرارة.
«فضلًا لا تُزعج نفسك يا سيدي. تسرُّني رؤيتك كثيرًا. آمُل أنك أُوليتَ قدرًا من الرعاية؟»
«كما ترى. كان ستاوتن كُفئًا في ذلك كعادته، وقد قابلت الكولونيل فيتزويليام. وبعد تحيَّتي قال إنه سيستغل حضوري في السير بجوادِه قليلًا؛ وراودَني شعورٌ أنه يجد القعود حبيس المنزل أمرًا مثيرًا للملَل بعضَ الشيء. وقد رحَّبَت السيدة رينولدز القديرة بي أيضًا وطمأنَتني أن حُجرتي المعتادة دائمًا ما تكون جاهزةً لاستقبالي.»
«متى وصلت يا سيدي؟»
«قبل ٤٠ دقيقة. لقد استأجرت عربة خفيفة. وتلك ليست هي الطريقةَ المريحة كثيرًا للسفر لمسافةٍ بعيدة؛ فقد كنت أنوي السفر بالعربة الكبيرة. لكن السيدة بينيت اشتكَت من أنها في حاجةٍ إليها كي تنقل أحدث أخبار موقف ويكهام المؤسف إلى السيدة فيليبس وعائلة لوكاس والكثير من العائلات الأخرى المهتمَّة بالأمر في ميريتون. فأن تستخدم في ذلك عربةً مستأجرة يُعد أمرًا مُهينًا ليس لها فقط، وإنما للأسرةِ كلِّها. وحيث إنني سأتركها في هذا الوقت العصيب فلم يكن بإمكاني أن أحرِمَها من مزيدٍ من الارتياح؛ العربة الكبيرة لدى السيدة بينيت. وليس لديَّ رغبةٌ في أن أكون سببًا في القيام بالمزيد من الأعمال بزيارتي المفاجئة هذه، لكنني فكَّرت أنك ستُسرُّ بوجودِ رجلٍ آخرَ في المنزل حين تكون مشغولًا مع الشرطة أو عندما تكون مهتمًّا بتوفير الراحة لويكهام. وقد أخبرَتني إليزابيث في خِطابها أنه من المرجَّح أن يعود الكولونيل عما قريبٍ لأداء مهامِّه العسكرية وأن يعود ألفيستون الشابُّ إلى لندن.»
قال دارسي: «سيرحلون بعد التحقيق الذي سمعتُ يوم الأحد أنه سيُعقد غدًا. إن وجودك هنا يا سيدي سيكون عونًا للسيدات ومطمئنًا لي. لا بد أن الكولونيل فيتزويليام قد أطلعَك على وقائع إلقاء القبض على ويكهام.»
«لقد أطلعَني بإيجاز، لكن لا شك أنه كان دقيقًا. كان يبدو عليه أكثرَ أنه يُقدِّم لي تقريرًا عسكريًّا. حتى إنني كدتُ أشعر بإلزامٍ لإعطائه التحيةَ العسكرية. في اعتقادي أن إعطاءه التحية العسكرية كان هو التعبيرَ الصحيح، لكنني لا أتمتَّع بأيِّ خبرة في الأمور العسكرية. ويبدو أن زوج ليديا تمكَّن في آخرِ أعماله تلك من الجمع بين الترفيه على العامة، ووضعِ أسرته في أقصى قدْرٍ من الحرَج. لقد أخبرني الكولونيل أنك كنتَ في لامتون لزيارة السجين. فكيف وجدتَه؟»
«بصحة جيدة. والتباين بين مظهره الحاليِّ ومظهره في اليوم التالي لوقوع الاعتداء واضحٌ جدًّا، لكنه حينها بالطبع كان تحت وطأةِ الشراب والصدمة. وقد استعاد شجاعته وهيئته المعهودة كِلتَيهما. وهو متفائلٌ بشدة بما سيَئول إليه التحقيق، ويعتقد ألفيستون أن لديه سببًا وجيهًا يدفعه لذلك. فغياب سلاح الجريمة في صالحه بكلِّ تأكيد.»
ثم جلس الرجلان. ورأى دارسي أن عينَي السيد بينيت تشردان تجاه جريدة «إدنبرة ريفيو»، لكنه قاوم الرغبة في إكمال القراءة. وقال: «أتمنى لو قرَّر ويكهام كيف يريد أن ينظر العالمُ إليه. ففي مدة زواجه كان مُلازمًا في الجيش، ويتَّسم بالاستهتار، لكنه كان جذابًا، وقد أظهر الحبَّ لنا جميعًا، فكان يبتسم وكأنه يجني ثلاثة آلافٍ في العام ويمتلك منزلًا رائعًا. وفيما بعد، وبعد أن حصل على ترقيته، تحوَّل إلى رجلٍ كثير الأفعال وإلى بطلٍ شعبي، وكان هذا التغيُّر بالطبع نحوَ الأحسن، وكان مقبولًا كثيرًا لدى السيدة بينيت. والآن نتوقَّع أن نراه كشرير ومتهَم بجريمةٍ نَكْراء وعرضة لاحتمالية أن ينتهيَ الأمر بأن يُصبح فرجةً للجميع، رغم أنني آمُل ألا يحدث هذا. كان ويكهام دائمًا ما يسعى للشهرة السيئةِ السمعة، لكن في اعتقادي أنَّ آخر ما تبقَّى من ماء وجهه أصبح مهدَّدًا الآن، وهو ما لا يرغب فيه. لا يمكنني أن أُصدِّق أنه مذنبٌ في جريمةِ قتل. فالجُنَح التي اقترفها، ورغم أنها تسبَّبت في الأذى والضرر لضحاياه، فإنها — على حد علمي — لم تكن تشتملُ على عنفٍ مُورِسَ ضدَّه أو مارسه ضدَّ الآخرين.»
قال دارسي: «لا يمكننا معرفة ما يجري في عقول الآخرين، لكنني أعتقد أنه بريءٌ، وسأحرص على أن يحصل على أفضلِ تمثيل قانوني ومشورةٍ قانونية.»
«في هذا كرمٌ منك، وأعتقد — رغم أنني لا أملك المعلوماتِ المؤكَّدة — أن هذا التصرُّف الكريم الذي تَدين به عائلتي لك ليس الأول.» ومن دون أن ينتظر منه ردًّا، أكمل حديثه بسرعة قائلًا: «فهمتُ من الكولونيل فيتزويليام أن إليزابيث والآنسة دارسي مشغولتان بعملٍ خيري الآن، حيث أخذتا سلَّة من اللوازم لإحدى الأسر المنكوبة. فمتى نتوقَّع عودتهما؟»
أخرج دارسي ساعتَه. وقال: «ينبغي أن تكونا في طريقهما الآن. إذا كنت ترغبُ في السَّير قليلًا يا سيدي، فيُمكنك أن تنضمَّ إليَّ فنسير نحو الغابة لنلقاهما.»
كان من الواضح أن السيد بينيت على استعدادٍ للتخلي عن الجريدة وعن دفء غرفة المكتبة — رغم أنه من المعروف عنه أنه محبٌّ للجلوس — من أجل متعة مفاجأة ابنته. حينها ظهر ستاوتن واعتذر عن عدم وجوده لدى عودة سيده، وأسرع في إحضار معاطف السيدَين وقبَّعتَيهما. كان دارسي يتوق كما يتوق رفيقه لرؤية العربة. كان سيمنع القيامَ بتلك الرحلة لو رأى أنها تنطوي على قدْرٍ من الخطر بأي شكلٍ من الأشكال، وكان يعرف أن ألفيستون واسعُ الحيلة وجديرٌ بالثقة، لكن دارسي ومنذ مقتل ديني أصبح غارقًا في شعورٍ بالقلق يتسم بالتشتُّت، وربما بعدم المنطقية متى تكون زوجته غائبةً عن ناظريه، وقد شعر بارتياحٍ حين رأى العربة تُبطئ وتتوقَّف على مسافة ٥٠ ياردة من بيمبرلي. ولم يكن قد أدرك بعدُ مدى سعادتِه برؤية السيد بينيت حتى رأى إليزابيث وهي تُهرَع خارج العربة وتجري نحو والدها وسمعها تقول: «أوه، يا أبي، كم تُسعدني رؤيتك!» بينما يُطوِّقها والدها بذراعَيه.