الفصل الثاني
أتى ألفيستون وجيريميا ميكلدور بعد العشاء ليُقدِّما لدارسي المشورة وتعليمات مقتضبة، وبعد أن أعرَبا عن آمالهما وأطيب أمنياتهما، غادرا في أقلَّ من ساعة. كانت تلك الليلة هي إحدى أسوأ الليالي التي تمرُّ على دارسي في حياته. كان السيد جاردنر، وهو المِضْياف بلا كلل، قد حرَص على أن يوجد كل شيء ضروري لتوفير الراحة لدارسي وإليزابيث في غرفة نومهما، فلم تكن الغرفةُ تقتصرُ فقط على الفِراشَين اللذين كان كلٌّ من دارسي وإليزابيث يتوق إليهما، وإنما كانت تحتوي أيضًا على طاولةٍ بين الفِراشَين عليها دورقٌ من الماء ومجموعةٌ من الكتب وعلبة بها بسكويت. ولم يكن شارع جريستشرش هادئًا تمامًا، لكنَّ قعقعةَ العربات وصريرَها وأصواتَ النداء العرَضية — على النقيض من هدوء بيمبرلي التامِّ — لم تكن كافيةً لتُبقي دارسي مستيقظًا. وقد حاول أن يُبعد عن ذهنه قلقَه بشأن محنة الغد، لكن ذهنه كان مشغولًا كثيرًا بأفكارٍ مزعجةٍ كثيرة. كان الأمر كما لو أن صورةً له كانت تقف بجوار الفِراش، وتنظر إليه نظراتٍ تنمُّ عن توجيه الاتهام وتكاد ترقى إلى الازدراء، وتتدرَّب على الحجج والاتهامات التي ظنَّ أنه أخضعها للسكوت قبل وقتٍ طويل، لكن حضورها تجدَّد الآن بحضور تلك الصورةِ غيرِ المرغوبِ فيها وبقوةٍ ومنطقيَّةٍ جديدتَين. كان مِن فعْلِه هو، وليس مِن فِعلِ أحدٍ آخر، أنْ جعل من ويكهام جزءًا من عائلته، وأعطاه حقَّ أن يُطلق عليه نسيبَه. وغدًا سيكون مجبرًا على تقديم شهادة إما ستُرسل عدوَّه إلى المقصلة أو ستُبرِّئ ساحته. وحتى لو جاء الحكم بأنه «غير مذنب» فإن المحاكمة ستُقرِّب ويكهام أكثرَ من بيمبرلي، وإذا ما أُدِين وشُنِق، فسيحمل دارسي أوزار الرهبة والشعور بالذنب التي سيُورِّثها إلى أولاده والأجيال المستقبلية.
ولم يكن لدارسي أن يشعر بالندمِ على زواجه؛ فلو فعل لبدا الأمرُ وكأنه يشعر بالندم على ولادته من الأساس. لقد جلَبَت عليه تلك الزِّيجة سعادةً لم يكن يظن أنها موجودة، وأمدَّته بحبٍّ كان الصغيران الجميلان اللذان يرقدان في غرفة الأطفال في منزل بيمبرلي يُمثِّلان كفلًا وضمانًا له. لكن دارسي تزوَّج في تحدٍّ صارخٍ لكلِّ معتقَدٍ مهم يحكم حياته منذ صِغَره، وكلُّ قناعةٍ مصدرها ذِكرى والدَيه، ولكل شخصٍ في بيمبرلي ولمسئوليات الطبقة الاجتماعية والثروة. وعلى الرغم من عمق انجذابه إلى إليزابيث فإنه كان بمقدوره أن يبتعد عنها، كما ظنَّ أن الكولونيل فيتزويليام قد ابتعد. إن الثمن الذي دفعه رِشوةً لويكهام لكي يتزوجَ من ليديا كان ثمنَ إليزابيث.
وتذكَّر دارسي لقاءه مع السيدة يونج. كان النُّزل في منطقةٍ مرموقة من مناطق ميريلبون، وكانت المرأة نفسُها تجسيدًا للمالكة الحنونِ صاحبةِ السمعة الطيِّبة. وتذكَّر محادثتهما معًا. «إنني لا أقبل إلا بالشُّبان الذين يتحدَّرون من أكثر العائلات جدارةً بالاحترام وتركوا منازلهم ليعملوا في العاصمة ويبدَءوا حياتهم المستقلَّة. ويعلم والدا هؤلاء أن أبناءهم سيتناولون أفضلَ الطعام وسيحصلون على أكبرِ قدْر من الرعاية وستُراقب سلوكياتِهم عيونٌ حصيفةٌ لبيبة. لسنوات طويلة، كنت أحصل على دخلٍ يتخطَّى حاجز الكفاف، والآن وبعد أن شرحتُ لكَ موقفي، يُمكننا أن نشرع بالعمل. ولكن أولًا هلَّا أعرِض عليك بعض المرطبات؟»
كان دارسي قد رفض عرْضها ذلك من دون أيِّ شكل من أشكال التحضُّر، فقالت: «إنني امرأة عمَلية ولا أجد غَضاضة أبدًا في التقيد بشيءٍ من القواعد الرسمية للكِياسة، لكن وعلى أيِّ حال لنُعفي أنفسنا من ذلك. أنا أعرف ما تريد، وهو مكان جورج ويكهام وليديا بينيت. ربما ستبدأ المفاوضاتُ بتحديدِ أكبرِ قدْر من المال أنت مستعدٌّ لدفعه للحصول على تلك المعلومة، التي أؤكِّد لك أنك لن تستطيع الحصولَ عليها من أيِّ أحد آخر سواي.»
بالطبع لم يكن عرضُه كافيًا، لكنه في النهاية تمكَّن من تسوية الأمر، وغادر المنزلَ وكأنه مصابٌ بالطاعون. وكان ذلك المبلغ هو أولَ المبالغ المالية الكبيرة التي كان عليه أن يدفعها قبل أن يتمكَّن من إقناع جورج ويكهام بالزواج من ليديا بينيت.
وحيث كانت إليزابيث منهَكة بعد السفر، فقد أوَت إلى الفِراش في الحال بعد الانتهاء من العشاء. وكانت ناعسةً حين دخل الغرفةَ ليلتحقَ بها، ووقف دارسي بضعَ دقائق إلى جوار فِراشها، وراح ينظر بحبٍّ إلى وجهِها الجميل الهادئ؛ ستكون إليزابيث متحررةً من سيطرة القلق ساعاتٍ قليلةً على الأقل. وبمجرد أن أوى دارسي إلى فِراشه، راح يتقلَّب قلقًا ويجوب الفِراشَ بحثًا عن الراحة التي لم تستطِع حتى الوسائدُ الناعمة توفيرَها، لكنه في النهاية شعر بأنه ينجرف إلى النعاس.