الفصل الثالث
خرج ألفيستون من غُرفته مبكرًا وتوجَّه إلى محكمة أولد بيلي، وكان دارسي في طريقه إلى هناك وحيدًا حين سار عبر الرِّواق المهيب الذي يُؤدي إلى قاعة المحكمة بعد العاشرة والنصف صباحًا بقليل. وكان الانطباعُ الفوريُّ الذي اعتراه أنه دخل قفصًا كبيرًا يعجُّ بالبشر الثرثارين في مستشفى المجانين. ولم تكن المحاكمة لتبدأ إلا بعد نصف الساعة، لكن المقاعد الأمامية كانت ممتلئة بالفعل بالكثير من الثَّرثارين من النساء اللائي يرتدين ثيابًا عصرية، في حينِ كانت صفوفُ المقاعد الخلفية سرعان ما تمتلئ بالحاضرين. وبدا وكأن لندن كلَّها حاضرةٌ في المحكمة، وكان الفقراء من الناس يكتظُّون في إزعاجٍ وصخب. وعلى الرغم من أن دارسي أظهر للموظف المسئول وثيقةَ استدعائه عند الباب، إلا أن أحدًا لم يُرشده إلى المكان الذي ينبغي عليه الجلوس فيه، ولم يلتفت لحضوره أحدٌ من الأساس. كان اليوم حارًّا على غير العادة في شهر مارس، وكان الهواء يزداد حرارةً ورطوبة، وصارت الأجواء خليطًا مقززًا من الروائح الكريهة والأجساد غيرِ النظيفة. وبجوار كرسيِّ القاضي كانت هناك مجموعةٌ من المحامين يتحدَّثون وهم وُقوفٌ فيما بينهم، وكان حديثهم عشوائيًّا وكأنهم يقفون في أحد غرف استقبال الضيوف. ورأى دارسي أن ألفيستون كان بينهم، وحين التقت عينا ألفيستون بعينَيه، أتاه في الحال ليُحيِّيه ولِيُريه المقاعد المخصصة لجلوس الشهود.
قال ألفيستون: «جهةُ الادعاء تستدعيك والكولونيل فقط للشهادة بشأن العثور على جثة ديني. وهناك الضغط المعتاد الخاصُّ بعامل الوقت، وسينفد صبرُ هذا القاضي إذا ما كُرِّرت الشهادة نفسُها بلا داعٍ. سأظل بالقرب منه؛ وقد نحظى بفرصةٍ للحديث أثناء المحاكمة.»
والآن أُخرِسَت الضوضاء والجلَبة، وكأنها ذُبِحت بسكِّين. ودخل القاضي القاعة. كان القاضي موبرلي مَزهوًّا بوقاره في ثقة، لكنه لم يكن رجلًا وسيمًا، وكان وجهُه ذو الملامح الضئيلة — الذي لم يبرز منه سِوى عينَيه الداكنتَين — يكاد لا يظهر من تحت شعرٍ مستعارٍ طويل، ممَّا أضفى عليه، بالنسبة إلى دارسي، مظهر حيوان فضولي يطلُّ من مخبئه. وتفرَّقَت مجموعات المحامين الذين كانوا يتناقَشون فيما بينهم، بينما كانوا يأخذون هم وكاتبُ المحكمة أماكنَهم المخصَّصة وجلسَت هيئة المحلَّفين في مقاعدهم المحجوزة لهم. وفجأةً كان المتهَم يقف في قفص الاتهام، وعلى كِلا جانبَيه وقف ضابطٌ من الشرطة. شعر دارسي بالصدمة من مظهره. فقد كان أكثرَ نحافةً بالرغم من الطعام الذي كان يصله بانتظام من الخارج، وكان وجهه الأنيق شاحبًا، وفكَّر دارسي أن السبب في هذا هو قضاءُ أشهرٍ طويلة في السجن أكثرَ مما كان بسبب محنته التي يمرُّ بها الآن. وبالتحديق فيه، كان دارسي بالكاد يعي مقدماتِ المحاكمة وتلاوةَ لائحة الاتهام بصوتٍ واضح، واختيار هيئة المحلَّفين وحلف القسَم. وفي قفص الاتهام وقف ويكهام منتصِبَ القامة، وحين سُئل عن دفاعه عن نفسِه تجاهَ التهمة المنسوبة، قال «لستُ مذنبًا» بنبرةٍ صارمة. وحتى في حالته تلك وهو شاحب الوجه مقيَّدٌ بالأغلال، كان ويكهام لا يزال وسيمًا.
ثم رأى دارسي وجهًا مألوفًا. لا بد أنها قدَّمت رِشوة لأحدهم ليحتفظَ لها بمقعدٍ في الصف الأمامي بين الجالسات من النساء، وقد اتخذَت تلك المرأةُ مجلسَها في سرعةٍ وصمت. كانت تجلس الآن في مقعدها، وبالكاد تتحرَّك بين رفرفة الهوَّايات والقبَّعات التي يخلعها أصحابها ويلبسونها. من اللمحة الأولى لم يرَ دارسي سوى جانبِ وجهها، لكنها بعد ذلك استدارت بوجهها، وعلى الرغم من أن أعينهما التقَت من دونِ إدراكٍ منها له، كان دارسي شِبهَ متأكدٍ من أنها السيدة يونج؛ فحتى تلك النظرةُ الخاطفة إلى جانبٍ من وجهها كانت كافيةً ليتعرفَ عليها.
وكان دارسي يرغب في ألا تلتقيَ أعينُهما، لكن وبالنظر بين الحين والآخَرِ عبر قاعة المحكمة استطاع أن يرى أنها كانت ترتدي ثيابًا غالية، وأنها تتصرفُ بأناقةٍ وبساطة تتعارضان مع التباهي والتفاخر المبهرج من الجالسات حولها. وكانت قبَّعتها المزركَشة بأشرطةٍ باللونَين الأخضر والأرجواني تُحيط بوجهٍ بدا يافعًا نضرًا كالوجه الذي رآه حين التقاها للمرة الأولى. وكانت ترتدي الثيابَ نفسَها التي كانت ترتديها حين دعاها هو والكولونيل إلى بيمبرلي ليُجريا معها مقابلةً لوظيفةِ مرافِقةٍ لجورجيانا، فظهرَت أمام الشابَّين بمظهر المرأة النبيلةِ الأصيلةِ المَحْتِد الطليقةِ الحديث الموثوقةِ الجانب، التي تُكِنُّ تعاطفًا عميقًا تجاه الفتيات وتُدرك تمامًا المسئوليات التي ستقع على عاتقها. وكانت السيدة يونج مختلفةً لكنه لم يكن بالاختلاف الكبير حين تتبَّعَها إلى ذلك المنزل الموقَّر في ميريلبون. وتساءل دارسي عن الرابطة التي تجمع بينها وبين ويكهام، التي هي قويةٌ بما يكفي ليجعلها من بين الحضور من النساء اللائي وجَدْن تسليةً في رؤيةِ إنسانٍ يُكافح من أجل إنقاذ حياته.