الفصل الثالث
في الليلة السابقة ليوم الحفل، قُدِّم الغداء في موعده المحدَّد في الساعة السادسة والنصف، لكن حين يكون العدد قليلًا فإن الغداء كان يُقدَّم في غرفةٍ صغيرةٍ متاخمةٍ لغرفة الطعام الرسمية، حيث يتسعُ المكان لثمانية أشخاص يجلسون بأريحية حول الطاولة المستديرة. وفي السنوات السابقة كانت الحجرة الكُبرى ضروريةً لأن عائلة جاردنرز — وكذلك أخوات بينجلي أحيانًا — كانوا ضيوفًا في بيمبرلي لحضور الحفل، لكن السيد جاردنر لم يكن يجد سهولةً قط في ترك أعماله، ولم تجد زوجته كذلك سهولةً في أن تبتعد عن أطفالها. كان ما يُحبه كلاهما أكثرَ هو زيارةً صيفية حيث يمكن للسيد جاردنر أن يستمتع بصيد السمك وتستمتعَ زوجته بالتنزُّه مع إليزابيث في عربة فيتون يجرها حصانٌ واحد. كانت الصداقة بين السيدتين تعود لسنوات طويلة كما كانت وثيقة، وكانت إليزابيث تُكنُّ تقديرًا كبيرًا لنصائح عمَّتها. والآن، هناك أمور ستسرُّ كثيرًا بأن تسمع نصيحتها بشأنها.
وعلى الرغم من أن الغداء كان ذا طابعٍ غيرِ رسمي، فقد تحركت المجموعةُ معًا بصورةٍ طبيعية ليدخلوا إلى غرفة الطعام في ثُنائيات. وفي الحال قدَّم الكولونيل يده إلى إليزابيث، وتحرَّك دارسي نحو جين، وقدَّم بينجلي ذراعه إلى جورجيانا في شيء من التودُّد. وحين رأت إليزابيث أن ألفيستون كان يسير وحيدًا خلفَ آخرِ ثنائيٍّ منهم، تمنَّت لو أنها رتَّبت الأمورَ بشكلٍ أفضل، لكن كان من الصعب دومًا إيجادُ سيدة مناسبة دون مرافق لها في وقتٍ قصير، كما أن الاجتماع على العشاء قبل الحفل لم يكن ذا أهميةٍ من قبل. وبالقرب من جورجيانا كان هناك كرسيٌّ فارغ، وحين جلس فيه ألفيستون، استطاعت إليزابيث أن تلحظ ابتسامةَ الغِبطة والسرور العابرة على وجهه.
وحيث أخذ كلٌّ منهم مجلسه، قال الكولونيل: «السيدة هوبكنز ليست معنا مرةً أخرى هذا العام. أليست هذه هي المرةَ الثانية التي تُفوِّت فيها الحفل؟ ألا تستمتع أختُك بالرقص، أم أن للقس ثيودور اعتراضاتٍ دينيةً فيما يخص الحفلات؟»
قالت إليزابيث: «لم تكن ماري مُحبة للرقص قط، وقد طلبَت أن نتغاضى عن حضورها، لكن بكل تأكيد ليس هناك أيُّ اعتراضات من جانب زوجها على مشاركتها في الحفل. لقد أخبرني في آخرِ مرة كانا يتناولان الطعام فيها هنا أن أيَّ حفل يُقام في بيمبرلي ويحضره الأصدقاء والمعارف لا يمكن أن يكون له تأثيرٌ ضارٌّ لا على الأخلاق أو الآداب.»
همس بينجلي إلى جورجيانا قائلًا: «مما يوضح أنه لم يشرب قط الحِساء الأبيض الخاصَّ ببيمبرلي.»
سمِع الآخرون تلك الملاحظة، فأثارت شيئًا من الابتسام والضحك فيما بينهم. لكن هذا المزاح لم يستمرَّ طويلًا. فقد كان الحديث الحماسيُّ المعتاد على الطاولة غائبًا، وكان هناك وهنٌ وكسل لم يستطِع بينجلي حتى بما يتمتع به من طلاقةٍ وحِس دعابة أن يُخرجهم منه. وحاولت إليزابيث ألا ترمق الكولونيل بنظرها كثيرًا، لكنها أدركَت حين كانت ترمقه كيف أن نظراته كانت مثبتةً على الثنائيِّ الجالس أمامه. وقد بدا لإليزابيث أن جورجيانا — بفستانِها الأبيضِ البسيط والمصنوع من نسيج الموسلين وبإكليل الدُّرر الذي يستقر على شعرها الداكن — كانت جميلةً أكثرَ من أيِّ وقتٍ مضى، لكن نظرة الكولونيل كانت تحمل في طياتها شيئًا ينمُّ عن التفكير والتأمل أكثرَ مما يُعبر عن الإعجاب. بالطبع كان الثنائي الشابُّ يتصرفان بطريقةٍ مثالية، فلم يكن ألفيستون يُظهِر اهتمامًا لجورجيانا أكثرَ من الطبيعي، وكانت جورجيانا تلتفت لتُوجِّه حديثها بالتساوي بين ألفيستون وبينجلي، وكأنها فتاةً صغيرةً تتبع الأعرافَ والتقاليد الاجتماعية بإخلاصٍ في عشائها الأول. وكانت هناك لحظةٌ واحدة كانت تأمُل ألا يكون الكولونيل قد التفتَ إليها. كان ألفيستون يخلط النبيذ بالماء لجورجيانا، فتلامست أياديهما ثوانيَ قليلة، ولاحظت إليزابيث توردًا خفيفًا يزداد على وجنتَي جورجيانا ثم يختفي بعد ذلك.
وبرؤيتها لألفيستون في ثيابه المسائية الرسمية، ذُهلت إليزابيث مرةً أخرى بحُسن مظهره غير العادي. لا شك أنه كان مدركًا أنه لا يُمكن له أن يدخل أيَّ مكان من دون أن تلتفت إليه كلُّ امرأة حاضرة وتُحوِّل عينها نحوه. كان شعره الكثيف بلون بُني متوسطٍ مربوط من الخلف عند مؤخر رقبته. وكانت عينه بلون بني داكنٍ أكثر، وفوقهما حاجبان مستقيمان، وفي وجهه علامات انفتاح وقوة أنقذته من أن يكون وسيمًا بدرجةٍ أكثرَ من اللازم، وكان يتحرك في ثقةٍ وطلاوة هيِّنة. وكما تعلم إليزابيث، كان ألفيستون في الغالب ضيفًا محبوبًا ومفعمًا بالحيوية، لكنه بدا الليلة متأثرًا بالإحساس العام بعدم الارتياح. وفكَّرَت في نفسها أن السبب في ذلك قد يعود إلى التعب الذي أصاب الجميع. فقد سافر كلٌّ من بينجلي وجين مسافة ١٨ ميلًا فقط، لكنهما تأخَّرا بفعل الرياح الشديدة، وبالنسبة إليها وإلى دارسي فإن اليوم الذي يسبق الحفلَ دائمًا ما يكون مشغولًا بصورة غير اعتيادية.
ولم تُساعد العاصفة القائمة في الخارج في تهدئة الأجواء في الداخل. فقد كانت الرياح تَعْوي من وقتٍ لآخَر، وكانت النار تُصدر صفيرًا وخشخشةً وكأنها كائنٌ حي، ومن حينٍ لآخر كانت إحدى القطع الخشبية فيها تتحرَّك، فتندفع منها ألسِنةُ لهبٍ مذهلةٌ فتُلقي بضوءٍ أحمرَ لَحْظيٍّ على وجوهِ مَن يتناولون الطعام فكانوا يبدون وكأنهم محمومون. وكان الخَدَم يتحركون في صمت، لكن كان ما أراح إليزابيث هو انتهاء وجبة العشاء، فاستطاعت عيناها أن تلتقيا بعينَي جين، وبذا تحركت إليزابيث وجين وجورجيانا معًا عبر الغرفة دخولًا إلى غرفة الموسيقى.