الفصل السابع
حين نُودي اسمه، استجاب دارسي بصدمةٍ جسدية تدل على تَفاجُئه رغم أنه كان يعرف أن دوره قد اقتربَ ولن يَدوم انتظاره طويلًا. تقدَّم دارسي عبر قاعة المحكمة وحاول أن يُسيطر على ذهنه. كان من المهم أن يُحافظ على رِباطة جأشه، ويُسيطر على انفعالاته. وكان عازمًا على ألَّا ينظر إلى ويكهام أو السيدة يونج أو إلى عضو هيئة المحلَّفين الذي كان يُحدِّق إليه بغِلظة في كلِّ مرة كان يجول فيها بعينَيه على هيئة المحلَّفين. وكان دارسي يُثبِّت أنظاره على محامي جهة الادعاء وهو يُجيب عن الأسئلة، وبين الحينِ والآخر كان يرمق هيئة المحلَّفين أو القاضيَ الذي جلس بلا حَراك وكأنه تمثالُ بوذا، طاويًا يدَيه الصغيرتين البدينتَين على المكتب، وعيناه شبهُ مغمَضتَين.
وكان الجزء الأول من الاستجواب مباشرًا. فرَدًّا منه عن الأسئلة التي وُجِّهت له، راح يقصُّ أحداثَ أمسية حفل العشاء، وذكر الحضورَ حينها، كما ذكر مغادرة الكولونيل والآنسة درسي، ووصولَ العربة بالسيدة ويكهام وهي في حالةٍ شديدةٍ من الاضطراب، وفي النهاية أشار إلى قراره بأخذِ العربة والعودة بها إلى الممرِّ في الغابة؛ ليعرفوا ما حدث، وما إذا كان السيد ويكهام والكابتن ديني في حاجةٍ إلى أي مساعدة.
قال سيمون كارترايت: «أكنتَ تتوقَّع وجود بعض الأخطار، أو ربما وقوع شيء مأساوي؟»
«إطلاقًا يا سيدي. بل كنت آمُل، بل وحتى أتوقَّع أن أسوأَ ما حدث للسيدَين هو أن أحدهما قد وقعت له حادثةٌ بسيطة تسبَّبت في إصابته في الغابة، وأننا سنلتقي بالكابتن ديني والسيد ويكهام كِلَيهما في طريق عودتهما إلى بيمبرلي أو إلى الحانة، وأحدهما يُساعد الآخر. وكان ما قالته السيدة ويكهام وأكَّده بعدها برات أنه سُمِع إطلاق نار وهو ما أقنعَني أنه من اللازم تشكيلُ مجموعةٍ لإنقاذهما. كان الكولونيل فيتزويليام قد عاد في الوقت المناسب؛ ليكون عضوًا في تلك المجموعة وكان مسلَّحًا.»
«سيدلي الفيكونت هارتليب بشهادته بالطبع في وقتٍ لاحق. فهل نستطيع أن نتابع؟ هلا تتفضَّل الآن بوصف الرحلة إلى داخل الغابة والأحداثِ التي أدَّت إلى اكتشاف جثة الكابتن ديني.»
لم تكن هناك حاجةٌ لدارسي لكي يتدرَّب على هذا السؤال، لكنه وعلى الرغم من ذلك أمضى بعض الوقت في اختيار الكلمات التي عليه استخدامُها، ونبرةِ صوته التي عليه أن يتحدَّث بها. كان دارسي قد أخبر نفسه بأنه سيكون حاضرًا أمام محكمةٍ قضائية، وليس مع مجموعةٍ من أصدقائه يسرد عليهم قصةً ما. وكان التفكُّر في أمر الصمت — الذي لم يكسر حاجزَه سوى صوتِ أقدامهم على الأرض وصوتِ صرير العجلات — أمرًا لا مفرَّ منه؛ فكل ما يحتاج إليه الآن هو ذِكر الحقائق بشكل صريحٍ ومقنع. والآن راح دارسي يسرد أن الكولونيل ترَك المجموعة بعض الوقت ليُحذِّر السيدة بيدويل وابنَها المحتضر وابنتها أنَّ هناك مشكلةً قد تقع، ولكي يطلب منهم أن يُغلقوا الباب.
«هل أخبرك الفيكونت هارتليب وهو ذاهبٌ إلى الكوخ أن تلك كانت نيَّتَه؟»
«أجل.»
«وكم مضى على غيابه؟»
«في اعتقادي، ليس أكثرَ من ١٥ دقيقة، لكن مدَة غيابه بدَت حينها أطولَ بطريقةٍ ما.»
«ثم أكملتم مَسيركم بعدها؟»
«صحيح. كان برات قد استطاع بشيءٍ من اليقين تحديدَ المكان الذي دلف منه الكابتن ديني إلى الغابة، فدخلنا منه وحاولت أنا ورفاقي حينها أن نكتشفَ المسار الذي سلكه أحدُهما أو كلاهما. وبعد بِضع دقائق، قد تصلُ إلى ١٠، وصلنا إلى الفُرجة ووجَدنا جثة الكابتن ديني، وكان السيد ويكهام جاثيًا عليها وينتحب.»
«وكيف كان حال السيد ويكهام؟»
«كان مضطربًا اضطرابًا شديدًا وأعتقد مِن كلامه ومن رائحة فمِه أنه كان يُعاقر الشراب بشراهة. كان وجه الكابتن ديني ملطَّخًا بالدماء وكانت هناك دماءٌ على يد السيد ويكهام ووجهه — وظننتُ حينها أن ذلك بسبب لمسِه لصديقه.»
«وهل تحدَّث السيد ويكهام بشيء؟»
«لقد فعل.»
«وماذا قال؟»
وأخيرًا كان هذا هو السؤال الذي يخشاه ولثوانٍ قليلة كان ذهنه في حالةِ فراغٍ تام. ثم نظر إلى كارترايت وقال: «أعتقد يا سيدي أنني أستطيع تذكُّرَ الكلمات بدقةٍ إن لم أكن أذكرها بالترتيب الصحيح. وقد قال ويكهام بحسَب ما أتذكَّر: «لقد قتلتُه. إنه خطَئي. كان صديقي الوحيد، وقد قتلتُه.» ثم كرَّر: «إنه خطئي».»
«وفي ذلك الوقت، ماذا كنت تعتقد أنه يقصد بكلامه هذا؟»
كان دارسي مدركًا أنَّ المحكمة بأسرِها كانت تتطلَّع إلى إجابته. فانتقل بعينه إلى القاضي الذي فتح عينَيه ببطء ونظر إليه. وقال: «أجب عن السؤال سيد دارسي.»
حينها أدركَ دارسي بشيءٍ من الذعر أنه كان عليه أن يظلَّ صامتًا عدةَ ثوانٍ. ثم قال وهو يُوجِّه حديثه إلى القاضي: «كنت أنظر إلى رجلٍ في حالةِ اضطرابٍ من أشدِّ ما يُمكن، وكان جاثيًا على جثةِ صديقه. وفي رأيي أن السيد ويكهام كان يقصد أن صديقه لم يكن ليُقتَل لو لم يكن هناك خلافٌ بينهما ترَك الكابتن ديني على إثره العرَبة وهُرِع إلى الغابة. كان ذلك هو انطباعي حينها. فلم أرَ أيَّ أسلحة. وكنت أعلم أن الكابتن ديني كان هو الأضخمَ فيهما كما كان مسلَّحًا. وسيكون من الحماقة كثيرًا أن يتبع السيد ويكهام صديقه إلى الغابة من دون إنارةٍ أو سلاح وفي نيته قتله. لم يكن السيد ويكهام حتى ليجدَ تأكيدًا على وجود الكابتن ديني بين الأشجار والشجيرات الكثيفة في ظلِّ وجود ضوء القمر كمصدر الإضاءة الوحيد له. وبدا لي أن ما حدث ليس بجريمةِ قتلٍ ارتكبها السيد ويكهام، سواءٌ بدافع أو مع سبق الإصرار.»
«هل رأيت أيَّ شخص أو سمعت بوجوده غير اللورد هارتليب أو السيد ألفيستون حين دخلتم الغابة أو في مسرح الجريمة؟»
«لا يا سيدي.»
«إذن أنت تقول وأنت تحتَ حلف اليمين إنك وجدتَ جثة الكابتن ديني وكان السيد ويكهام ملطَّخًا بالدماء ويجثو على جثته ويقول إنه مسئولٌ عن مقتل صديقه، ليس مرةً واحدة وإنما قالها مرتين.»
والآن كان الصمتُ أطول. شعر دارسي للمرة الأولى وكأنه حيوان تم اصطيادُه. وفي النهاية قال: «تلك هي الوقائع يا سيدي. أنت سألتني عن رأيي في معنى تلك الوقائعِ حينَها. وأخبرتك بما كنت أعتقد حينها ولا أزال أعتقده الآن، وهو أن السيد ويكهام لم يكن يعترف بارتكابِه جريمةَ قتل، لكنه كان يتحدَّث بما كان يُمثِّل الحقيقة في واقع الأمر، وهو أنه لولا أن الكابتن ديني غادر العربة ودخلَ الغابة لما التقى بقاتله قط.»
لكن كارترايت لم يكن قد انتهى. فقال وهو يُغيِّر مسار الحديث: «في حال وصلَت السيدة ويكهام إلى منزل بيمبرلي بشكلٍ غير متوقَّع، ومن دون إشعارٍ منها بذلك، هل كنت لتستقبلها؟»
«كنتُ لأفعل.»
«هي بالطبع أختُ زوجتك السيدة دارسي. هل كان السيد ويكهام أيضًا سيُصبح مرحَّبًا به في ظل نفس الظروف؟ هل كان هو والسيدة ويكهام مدعوَّين إلى الحفل؟»
«هذا سؤال افتراضي يا سيدي. ليس هناك سببٌ لمجيئهما الحفلَ. فنحن لم نتواصل منذ وقتٍ طويل، ولم أكن أعرف عُنوانهما.»
«أجد يا سيد دارسي أن إجابتك مخادعةٌ إلى حدٍّ ما. هل كنت لتدعوَهما لو كنت تعرف عنوانهما؟»
حينها نهض جيريميا ميكلدور وخاطب القاضيَ. «سيدي، ما هي الصلة التي يمكن أن توجد بين قائمة المدعوِّين لدى السيد دارسي وجريمة قتل الكابتن ديني؟ لا شكَّ أننا جميعًا أحرار في اختيار مَن نريد أن نستقبلهم في منازلنا، سواءٌ أكانوا على درجة من القرابة أم لم يكونوا كذلك، وذلك مِن دون الحاجة إلى تبرير أسبابنا أمام محكمةٍ قضائية في ظل ظروفٍ لا يمكن للدعوة فيها أن تكون ذاتَ صلة.»
تحرَّك القاضي في جلسته وكانت نبرته صارمةً بصورةٍ غيرِ متوقَّعة. فقال: «ألديك سببٌ لهذا السؤال سيد كارترايت؟»
«لديَّ سببٌ يا سيدي، وهو أن أُسلِّط الضوء على العلاقة بين السيد دارسي ونسيبه، ومن ثَمَّ أوضِّح لهيئة المحلَّفين بصورةٍ غيرِ مباشرة لمحةً من شخصية السيد ويكهام.»
فقال القاضي: «أشك إن كان عدمُ وجود دعوةٍ للحفل يمكن أن يُقدِّم لمحة عن الطبيعة الجوهرية للمرء.»
والآن نهض جيريميا ميكلدور. ثم التفت إلى دارسي. «أتعرف شيئًا عن تصرُّفات السيد ويكهام وسلوكه في الحملة على أيرلندا في شهر أغسطس من عام ١٧٩٨؟»
«أجل يا سيدي. أعرفُ أنه كُرِّم كجنديٍّ شجاع، وأنه أُصيب خلال الحملة.»
«على حدِّ علمك، هل سُجِن قط من أجل جنايةٍ ارتكبها أم كان في مشكلات مع الشرطة؟»
«لم يكن كذلك على حدِّ علمي يا سيدي.»
«وهل كنت لتعرفَ هذه الأشياء حيث إنه متزوِّج من أخت السيدة دارسي؟»
«لو كانت أشياءُ خطيرة أو متواترة، لكنت علمت بها.»
«قيل إن ويكهام كان تحت تأثير الشراب. فما هي الخطوات التي اتُّخِذت من أجل السيطرة عليه حين وصلتم إلى منزل بيمبرلي؟»
«أُخلِد إلى الفِراش وأرسلنا في طلب الدكتور ماكفي ليُساعد كلًّا من السيدة ويكهام وزوجها.»
«لكن الباب لم يكن موصَدًا عليه كما لم يكن هناك أحدٌ لحراسته.»
«لم يكن الباب موصدًا عليه، لكن كان هناك اثنان يُراقبانه.»
«وهل كان ذلك ضروريًّا حيث كنتَ تظنُّ أنه بريء؟»
«كان مخمورًا يا سيدي، ولم يكن بالإمكان تركه بمفرده يتجوَّل في أرجاء المنزل، خاصة وأن لديَّ أطفالًا. كما كنتُ قلقًا أيضًا من حالته الجسدية. فأنا قاضٍ يا سيدي، وعرَفت أن كل شخص مرتبطٍ بهذا الأمر ينبغي أن يكون متاحًا للاستجواب حين يصل السير سيلوين هاردكاسل.»
جلس السيد ميكلدور واستكمل سيمون كارترايت استجوابه. «سؤالٌ أخير سيد دارسي. كانت مجموعةُ البحث تتألَّف من ثلاثة أشخاص، كان أحدُهم مسلَّحًا. كما كان لديك مسدسُ الكابتن ديني الذي ربما كان استخدامه ممكنًا. ولم يكن لديك سببٌ يدفعك للشك بأن الكابتن ديني قُتل قبل مدةٍ من إيجادك لجثته. فلماذا لم تبدأ بالبحث؟»
«بدا لي أن أولَ فعلٍ من الضروريِّ القيام به هو العودة بأسرعِ ما يمكن إلى منزل بيمبرلي بجثة الكابتن ديني. كان من المستحيل تقريبًا استبيانُ ما إن كان هناك مَن يختبئ في الغابة الكثيفة، وافترضت أن القاتل هرب بالفعل.»
«قد يعتقد البعض أن تبريرك هذا غيرُ مقنع بعض الشيء. فلا شك أن الاستجابة الأولى لإيجاد رجلٍ مقتول هي محاولةُ القبض على قاتله.»
«لم يخطر ببالي ذلك يا سيدي، في ظلِّ تلك الملابسات.»
«لا، بالطبع يا سيد دارسي. يمكنني أن أفهم أن هذا لم يخطر ببالك. فقد كنتُ بالفعل في حضرة رجل كنت تعتقد أنه هو القاتل، رغم اعتراضك على ذلك. فلِم إذن ستذهب للبحث عن أي شخصٍ آخر؟»
وقبل أن يتمكَّن دارسي من الإجابة، ختم سيمون كارترايت انتصارَه بكلماتٍ أخيرة. «لا بد أن أُهنِّئك سيد دارسي، على حدَّةِ ذهنك، الذي يبدو أنه يتمتَّع بمهارةٍ بارزة في التفكير في أفكارٍ متَّسقة حتى في أثناء لحظاتٍ يكون معظمُنا فيها مصدومًا فنستجيب بصورةٍ أقلَّ عقلانية. ففي النهاية كان الأمر مسبِّبًا لذعرٍ غيرِ مسبوق. وقد سألت عن رِدَّة فعلِك تجاه الكلمات التي نطق بها المدَّعى عليه حين وجدتَه أنت ورفاقك جاثيًا على الجثة ويدُه ملطَّخة بدماء صديقه القتيل. لقد كنتَ قادرًا ومن دون تردُّد ولو لحظةً واحدة على أن تستنتجَ حتميةَ نشوبِ خلافٍ تسبَّب في خروج الكابتن ديني من العربة والهروب إلى الغابة، وعلى أن تتذكَّر الفارق في الطول والوزن بين الرجُلَين، وعلى أن تُلاحظ كذلك عدمَ وجود أي سلاح في مسرح الجريمة يمكن استخدامه في إصابة القتيل بأيٍّ من الجرحين. فلا شك أن القاتل تخلَّص من الأسلحة ولم يتركها في الأرجاء. شكرًا لك. يُمكنك مغادرة منصة الشهود الآن.»
ومما أدهش دارسي بعضَ الشيء أن السيد ميكلدور لم ينهض مجددًا ليستجوبَه وتساءل ما إذا كان هذا بسبب أن محاميَ جهة الدفاع لم يجد شيئًا يستطيع فعله للتخفيف من حدَّة الضرر الذي تسبَّب به. ولم يتذكَّر دارسي عودتَه إلى كرسيِّه. وبمجرد أن جلس دارسي في مكانه، شعر بغضبٍ عارم تجاه نفسِه جعله يائسًا. فراح يَنعت نفسَه بالغبي فاقدِ الأهلية. ألم يُرشده ألفيستون بعنايةٍ إلى كيفية الإجابة عن الاستجواب؟ «توقَّف لتُفكِّر قبل أن تُجيب، لكن لا تتوقَّف طويلًا بحيث تبدو وكأنك تمكر، وأجِب عن الأسئلة ببساطةٍ ودقة، ولا تَقُل شيئًا أكثرَ مما تُسأل بشأنه، ولا تُبالغ أبدًا؛ فلو أن كارترايت رغب في المزيد فبمقدورِه أن يسألك. وغالبًا ما تكون الكوارث التي تحدث على منصة الشهود نتيجةَ البوح بالكثير، وليس بالقليل.» لقد باح بأكثرَ مما يجب، وكان ذلك كارثيًّا. لا شك أن الكولونيل سيكون أكثرَ حصافة، لكن الضرر قد وقع.
شعر دارسي بيد ألفيستون على كتفه. فقال بنبرةٍ بائسة: «لقد ألحقتَ ضررًا بالدفاع، أليس كذلك؟»
«إطلاقًا. بل قدَّمت حديثًا مؤثِّرًا لجهة الدفاع كشاهدٍ لجهة الادِّعاء، وهذا أمرٌ لا يستطيع ميكلدور فعلَه. وقد سمعَت هيئة المحلَّفين حديثك وهذه نقطةٌ مهمة، ولا يستطيع كارترايت أن يمحو ما أودعتَه في أذهانهم.»
وراح الشهود يُدْلون بشهادتهم لجهةِ الادِّعاء واحدًا تلوَ الآخر. وشهد الدكتور بيلشر على سبب الوفاة، وسرد الضبَّاط بشيءٍ من التفصيل محاولاتهم العقيمة لتحديد الأسلحة الفعلية للجريمة، رغم أن هناك بلاطاتٍ حجريةً اكتُشِفت تحت أوراق الأشجار في الغابة؛ ورغم محاولات البحث الحثيثة والتحقيقات، لم يُكتشف أيُّ دليل على وجود هاربين أو أي شخص آخر في الغابة حينذاك.
والآن، حان النداءُ على الكولونيل الفيكونت هارتليب ليعتليَ منصةَ الشهود، صمتٌ مطبق، وتساءل دارسي لماذا قرَّر سيمون كارترايت الاحتفاظَ بهذا الشاهدِ المهمِّ لجهة الادِّعاء للنهاية. أكان يرغب في أن يجعل الانطباعَ الذي سيخلفه يدوم أكثرَ إن كان هو آخِرَ ما ستسمعه هيئةُ المحلَّفين؟ كان الكولونيل يرتدي زيَّه الرسمي وتذكَّر دارسي أنه كان لديه موعدٌ في وقتٍ لاحق من اليوم في وزارة الحرب. تقدَّم الكولونيل نحو منصة الشهود وكأنه يسير في نزهته الصباحية، وانحنى انحناءةً خفيفة لتحية القاضي، وحلف اليمين ووقف ينتظر كارترايت ليبدأَ استجوابه، وفكَّر دارسي أنه في ذلك كان يبدو قليلَ الصبر بعضَ الشيء كجنديٍّ لديه حربٌ يريد الفوزَ بها، وكان الكولونيل مستعدًّا لأن يُظهِر من الاحترام ما يكفي للمحكمة، بينما يَنْأى بنفسه عن قَرائنها. وقف الكولونيل في وقارٍ فرضه عليه زيُّه الرسمي، وكان الكولونيل ضابطًا يُوصف بأنه من بين أشجعِ الجنود وأكثرِهم وسامةً في الجيش البريطاني. ساد الهمسُ في قاعة المحكمة وسرعان ما أُسكِت، ورأى دارسي أن صفوف النساء المتأنِّقات كن يتَّكئن للأمام في مجالسهن — وفكَّر دارسي أنهن كنَّ يُشبهن كلاب الراعي الصغيرة التي ترتعش فرحًا أمام وجبة لذيذة.
واستُجوِب الكولونيل عن كل تفصيلةٍ من تفاصيل الأحداث، منذ أن عاد من نُزهته المسائية على ظهر حِصانه ليلتحقَ بمجموعة البحث حتى وصول السير سيلوين هادركاسل ليتولَّى زمام التحقيق. وكان قد انطلق بجَواده في وقتٍ مبكِّر إلى حانة كينجز آرمز في لامتون حيث انخرَط في محادثةٍ خاصة مع زائرةٍ في أثناء الوقتِ الذي كان الكابتن ديني يتعرَّض فيه للقتل. ثم سأله كارترايت عن الجنيهات الثلاثين التي وُجدت في حوزة ويكهام، وقال الكولونيل في هدوءٍ إن المال كان قد أُعطي إلى المدَّعى عليه ليُساعده في تسوية دَينٍ كان عليه، وإن ضرورة البوح بشيء كهذا في المحكمة هو ما أقنعَه بالرجوع عن وعدٍ كان قد قُطِع بينهما بأن تظلَّ هذه الأموال طيَّ الخصوصية. وأنه لا ينوي الكشف عن اسم فاعل الخير المقصود، لكنه لم يكن الكابتن ديني، وكذلك لم يكن لهذا المال أيُّ علاقة بمقتله.
هنا نهض السيد ميكلدور من مكانه. وقال: «أيها الكولونيل، أيُمكنك أن تُقدِّم للمحكمة ما يُؤكِّد أن الكابتن ديني لم يكن هو المقصودَ بهذا القرض، وأنه لا يمتُّ لجريمة قتله بأيِّ صلة؟»
«يُمكنني ذلك.»
ثم عاد كارترايت مرةً أخرى إلى معنى الكلمات التي نطق بها ويكهام على جثة صديقه. وما هو الانطباع الذي كان لدى الشاهد عمَّا تحمله من معنًى؟
هنا توقَّف الكولونيل برهةً قبل أن يتحدَّث. ثم قال: «لستُ قديرًا يا سيدي على النظر فيما بداخلِ أذهان الناس، لكنني أتفقُ مع الرأي الذي قدَّمه السيد دارسي. بالنسبة إليَّ كانت المسألة تتعلَّق بالغريزةِ أكثرَ ممَّا تتعلق بالاعتبار الفوري والمفصَّل للشهادة. وأنا لا أستخفُّ بالغريزة ولا أستهين بها؛ فقد أنقذَت حياتي في مناسبات عدة، والغريزة تستند بالفعل إلى إدراكِ كل الوقائع البارزة، وهذا أمر لا يُعد خاطئًا بالضرورة؛ لأن المرء ليس على وعي بها.»
«لم أفكِّر في هذا الأمر، سيدي. فأنا لا أُقدِم على منطقة عدائية مجهولة بقوة غير ملائمة، تاركًا ظهري مكشوفًا.»
«وماذا عن قرار ترك جثة الكابتن ديني والبدءِ في الحال بالبحث عن قاتله، ألم يَجُل ذلك بخاطرك قط؟ أظنُّ أنك لو كنت قرَّرتَ فِعل ذلك لكنتَ أمسكتَ بزِمام الأمور؛ حيث إنك قائدٌ بارز ومميَّز.»
لم يكن هناك المزيدُ من الأسئلة، وبدا من الواضح أن شهادة الشهود لجهة الادِّعاء قد تمَّت. فهمس ألفيستون إلى دارسي قائلًا: «كلام ميكلدور رائعًا. لقد أقرَّ الكولونيل بشهادتك وخيَّم الشكُّ على موثوقية شهادةِ برات. بدأت أشعرُ بالأمل، لكننا لا يزال أمامنا حديثُ ويكهام ودفاعُه عن نفسه وتوجيهاتُ القاضي إلى هيئة المحلَّفين.»