الفصل الثالث
وصلَ القس صمويل كورنبندر المبجل في اليوم التالي بعد أن كان في الكنيسة في اليوم التالي استجابةً لخطابٍ وصله من دارسي وتسلَّمه بيده. وكان مظهر الرجل غيرَ متوقَّع، حيث كان دارسي قد توقَّع استنادًا إلى خطابه أن يجد رجلًا في أواخرِ منتصف العمر أو أكبرَ من ذلك، لكن دارسي فُوجئ حين رأى أن السيد كورنبندر كان يبدو في الشكل أصغرَ من العمر الذي أوحى به أسلوبُه في الكتابة وأنه يستطيع تحمُّل صرامة وظيفته ومسئولياتها من دون أن يفقد مظهره اليافع أو عُنفوان شبابه. وعبَّر دارسي عن امتنانِه لكلِّ ما قدَّمه القسُّ المحترم من أجل مساعدة ويكهام في تحمُّل مدة سجنه، لكن من دون أن يذكر تحوُّل ويكهام الواضح تجاه نمط حياةٍ أفضل، وهو أمرٌ كان عاجزًا عن التعليق بشأنه. وأحبَّ دارسي السيد كورنبندر الذي لم يكن في غاية الجِدِّية ولا مِطواعًا أكثر من اللازم، والذي جاء بخطابٍ من أخيه وبكل المعلومات المالية اللازمةِ؛ لتمكين دارسي من اتخاذ قرارٍ مستنير بشأن مدى وجوبِ مساعدته للسيد والسيدة ويكهام في تأسيس حياة جديدة، يبدو أنهما يتوقان إليها كثيرًا، وكذلك بشأن مدى قدرته على فعل ذلك.
كان الخطاب القادم من فيرجينيا قد استُلِم قبل ثلاثة أسابيع مضَت. وفيه عبَّر السيد جيريميا كورنبندر عن ثقتِه في حكم أخيه، وبينما لم يُبالغ في المزايا التي يمكن للعالم الجديد أن يُقدِّمها، رسم صورةً مطمئنة للحياة التي يُمكن أن يحظى بها المرشَّح الموصَى به.
إن العالم الجديد ليس بملجأ للكُسالى أو المجرمين أو المنبوذين أو العجَزة، لكن بالنسبة إلى شابٍّ تمَّت تبرئة ساحته تمامًا من جريمةِ قتلٍ وأظهر جَلَدًا أثناء محنته وشجاعةً استثنائية في ميدان المعركة، فيبدو أنه يتمتَّع بالمؤهلات التي ستضمن الترحيب به. وأنا أبحث عن رجلٍ يجمع بين المهارة العَملية — ويُفضِّل لو كانت في ترويض الجياد — ودرجة جيدة من التعليم، وكلِّي ثقةٌ أنه سينضمُّ إلى مجتمعٍ يُضاهي أيَّ مدينة أوروبية متحضِّرة فيما يتعلق بالذكاء واتساعِ رُقعة اهتماماته الثقافية، الذي سيُوفِّر فرصًا تكاد تكون غيرَ محدودة. وأظنُّ أن بإمكاني أن أتوقَّع أن أحفاد مَن يرغبون في الانضمام إلى هذا المجتمع الآن سيكونون مواطنين في دولةٍ قويةٍ كالدولة التي ترَكوها إن لم تكن أقوى منها؛ دولة ستستمرُّ في ضربِ مثالٍ على الاستقلال والحرية للعالم أجمع.
قال القس كورنبندر: «كما يمكن لأخي أن يثقَ في حُكمي فيما يتعلَّق بالتوصية بالسيد ويكهام؛ فأنا أيضًا أثقُ في حسن نيته في القيام بكلِّ ما يُمكنه لمساعدة هذين الزوجَين الشابَّين في الشعور بأنهم في وطنهم وفي محاولة التألق في العالم الجديد. وهو حريصٌ للغاية على جذب المهاجرين المتزوجين من إنجلترا. وحين أرسلت إليه موصيًا بالسيد ويكهام، كان ذلك قبل شهرَين من محاكمته، لكنني كنتُ متفائلًا بأنه ستُبرَّأ ساحتُه، وأنه هو الرجل الذي يبحث أخي عنه بالتحديد. إنني أُكوِّن سريعًا آرائي عن المسجونين ولم أُخطئ من قبلُ بشأن ذلك. وبينما أحترم ثقة السيد ويكهام، فقد لمحتُ أن هناك جوانبَ في حياته تستطيع أن تجعل الحصيفَ من الرجال مترددًا، لكنني استطعت أن أطمئنَ أخي أن السيد ويكهام تغيَّر وأنه مصرٌّ على الحفاظ على ذلك التغيير. لا شك أن فضائله تفوق عيوبَه، وأخي ليس بغير منطقي بحيث يتوقَّع الكمال منه. لقد أخطأنا جميعًا، يا سيد دارسي، ولا يُمكننا أن نبحث عن العفو والصفح من دون أن نُظهِرَهما في حياتنا. وإن كنت مستعدًّا لتمويل تكلفة هذه الرحلة والمبلغ الصغير اللازم للسيد ويكهام لكي يعول نفسَه وزوجته في الأشهر القليلة الأولى من حصوله على الوظيفة، فسيكون من المتاح لهما أن يُسافرا بحرًا من ليفربول على متن السفينة «أزميرالدا» في غضون أسبوعَين. أنا أعرف القبطان ولديَّ ثقةٌ كبيرة فيه وفي وسائل الراحة في السفينة. أعتقد أنك في حاجةٍ إلى بِضع ساعات لتُفكِّر في الأمر، ولا شك أنك تُريد مناقشته مع السيد ويكهام، لكنك ستُساعدني كثيرًا لو أعلمتَني بقرارك بحلول التاسعة من مساء الغد.»
فقال دارسي: «نتوقَّع أن يصل جورج ويكهام إلى هنا مع محاميه السيد ألفيستون في هذه الظهيرة. وفي ضوءِ ما تقول فإنني واثقٌ من أن السيد ويكهام سيقبل بعرضِ أخيك بكل امتنان. أفهم أن خطة السيد والسيدة ويكهام الحاليَّة هي أن يذهَبا الآن إلى لونجبورن ويمكثا هناك حتى يتَّخذا قرارًا بشأن مستقبلهما. والسيدة ويكهام تتوق إلى رؤيةِ والدتها وأصدقاء طفولتها؛ وإن هاجرت هي وزوجها، فمن غير المرجَّح أن تراهما مرةً أخرى.»
كان صمويل كورنبندر ينهض من مكانه ليُغادر. فقال: «هذا مستبعَد للغاية. فالرحلة على متن السفينة في المحيط الأطلنطي ليست بالهيِّنة، وقلة هم فقط من معارفي في فيرجينيا مَن قاموا برحلة عودة، أو أرادوا أن يقوموا بها. أشكرك يا سيدي على استضافتي رغم قِصَر المهلة الزمنيَّة وعلى كرمك بالموافقة على العرض الذي قدَّمته لك.»
فقال دارسي: «إن امتنانك هذا هو كرمٌ منك، لكنه غيرُ مستحق. فمن غير المرجَّح أن أندم على قراري. أما السيد ويكهام فقد يفعل.»
«لا أعتقد ذلك يا سيدي.»
«ألن تنتظرَ حتى تراه حين يصل؟»
«لا يا سيدي. لقد قدَّمت له كلَّ خِدمة بوُسعي. ولن يرغبَ في رؤيتي قبل مساء اليوم.»
وبهذه الكلمات سلَّم على دارسي بقوة غير عادية، وارتدى قبعته وانصرف.