الفصل الرابع
بينما كان يُقدَّم الغداء في غرفة الطعام الصغيرة، كان توماس بيدويل قابعًا في حجرةِ كبيرِ الخَدَم يُنظِّف الفِضة. تلك كانت وظيفته منذ أربع سنوات حين استحال مع الألم في ظهره وركبته قيادةُ العربات، وكانت تلك مِهنةً يفخر بها، خاصة في تلك الليلة التي تسبق حفلَ الليدي آن. ومن الشمعدانات السبعة الكبيرة التي ستُوضع بطولِ طاولةِ الغداء، نظَّف خمسةً منها، وكان سينتهي من الاثنين الباقيَين في هذه الليلة. كانت تلك المهمة مضجِرةً وتستغرق وقتًا طويلًا ومتعِبة بشدة، وسيُؤلمه ظهره وذراعاه ويداه كثيرًا بمجرد أن ينتهيَ من عمله. لكن تلك المهمة لم تكن مخصصة للخادمات أو للصبية من الخَدَم. فقد كان كبير الخَدَم ستاوتن هو المسئولَ الأخير، لكنه كان مشغولًا في اختيار النبيذ والإشراف على تحضيرات غرفة الرقص، وعدَّ أن مسئوليته تقتضي أن يفحص الفِضة بمجرد أن يتم الانتهاء من تنظيفها، وليس تنظيف أكثرِ القطع قيمةً حتى بنفسه. وكان من المتوقع من بيدويل خلال الأسبوع السابق للحفل أن يقضيَ معظم ساعات النهار — وشيئًا من ساعات المساء في الغالب — وهو جالسٌ إلى الطاولة في حجرة المؤن يرتدي مِئزرَه ومرصوص أمامه الأشياء الفِضية التي تمتلكها عائلةُ دارسي — من سكاكين وشوك وملاعق وشمعدانات وأطباق فضِّية يُقدَّم الطعام فيها، وأطباق تقديم الفاكهة. وبينما كان بيدويل يُلمِّع الفِضة كان يتخيَّل الشمعدانات بشموعها الطويلة وهي تُلقي بالضوء على الرءوس المزيَّنة بالمجوهرات، والأوجه المتوهجة والأزهار وهي تهتزُّ في مزهرياتها.
ولم يكن يشعر بالقلق قط من أن يترك عائلته وحدها في كوخ الغابة، ولم تكن أُسرته تشعر بالخوف قط في ذلك المكان. كان الكوخ يقع في مكانٍ منعزل ومهجور سنوات طويلةً حتى قام والد دارسي بإعادة ترميمه وجعله ملائمًا للاستخدام من قِبَل أحد الخَدَم لديه. لكن على الرغم من أن الكوخ كان أكبرَ مما يتوقَّع أحدُ الخَدَم أن يقطنَه، وأنه كان يُوفِّر الهدوءَ والخصوصية، فإن قلةً من الناس فقط هم مَن كان لديهم الاستعدادُ للعيش فيه. كان جد السيد دارسي الأكبرُ هو مَن بناه، وكان ذلك الرجل منعزلًا ويكاد يكون قد عاش حياته كلَّها وحيدًا، فلم يكن يصحبه سوى كلبِه سولدجر. وكان يطهو في ذلك الكوخ وجباته البسيطة لنفسه حتى، ويقرأ ويتأمَّل جذوع الشجر القوية والشجيرات المتشابكة في الغابة التي كانت تُمثِّل حصنه الذي يَحميه من العالم الخارجي. ثم وحين بلغ جورج دارسي الستين من عمره، أصبح سولدجر مريضًا وعاجزًا وصار يتألَّم. وكان جد بيدويل — الذي كان حينها صبيًّا يُساعد في أمر الجياد — هو مَن ذهب إلى الكوخ ووجد سيده ميتًا. كان دارسي قد أطلق النارَ على كلبه سولدجر وعلى نفسه.
وكان والدا بيدويل قد عاشا في الكوخ من قبله. ولم يزعجهما تاريخُه وهكذا لم ينزعج هو بذلك. أما سُمعة أن الغابة كانت مسكونةً فقد نشأت من مأساةٍ أكثرَ حداثةً وقعَت بعد أن ورِث جد السيد دارسي مِلكية المكان. كان هناك شابٌّ يافع وهو الابن الوحيد لوالديه يعمل بستانيًّا في بيمبرلي، وقد ثبتَت إدانته بارتكاب جريمة الصيد غير المشروع لغزال في ملكيةِ قاضٍ محلي، وهو السير سيلوين هاردكاسل. ولم يكن الصيد في غالب الأمر جريمةً عقوبتها الإعدام، وكان معظم القضاة يتعاملون مع الأمر بشيءٍ من التعاطف حين تكون الظروف عصيبةً ويسود الجوع، لكن السرقة من حديقةٍ للغزلان كانت جريمةً يُعاقَب عليها بالموت وكان والد السير سيلوين مُصرًّا على أن تُطبَّق أقصى عقوبة. وكان السيد دارسي قد وجَّه مناشدةً قوية من أجل الترفُّق، لكن السير سيلوين رفض مناشدته. وفي غضونِ أسبوعٍ من مقتلِ الصبيِّ شنقت أمُّه نفسَها. كان السيد دارسي قد فعل أقصى ما يستطيع فعْله على الأقل، لكن ساد اعتقادٌ بأن المرأة كانت تُحمِّله كامل المسئولية. لقد ألقت بلعنةٍ على عائلة دارسي وجرَت الخُرافة بأن الحمقى الذين يدخلون الغابةَ بعد حلول الظلام يرَون شبحها الباكيَ وهو يتجوَّل بين الأشجار، وأن ظهور الشبح دائمًا ما يسبق وقوعَ حالة وفاة في المكان.
ولم يكن بيدويل يُطيق على تلك الحماقاتِ صبرًا، لكن في الأسبوع المنصرِم وصلت إليه الأخبارُ أن اثنتين من الخادمات — وهما بيتسي وجوان — كانتا تتهامسان في غرفة الخَدَم أنهما رأتا الشبحَ حين دخلتا إلى الغابة في تحدٍّ بينهما. وكان هو قد حذَّرهما من التفوُّه بتلك الحماقات التي قد يترتَّب عليها عواقبُ وخيمة بالنسبة إليهما إن وصلَت إلى مسامعِ السيدة رينولدز. ورغم أن ابنته لويزا لم تَعُد تعمل في بيمبرلي — حيث كان البيت في حاجةٍ إليها للمساعدة في رعاية أخيها المريض — كان بيدويل يتساءل إن كانت القصةُ قد وصلت إلى مسامعها بطريقةٍ ما. لا شك أنها وأمَّها أصبحتا شديدتَي التدقيقِ بشأن إيصاد باب الكوخ أثناء الليل، وقد نبَّهَتا عليه أن يُرسل إليهما إشارةً حين يعود في وقتٍ متأخر من بيمبرلي، وذلك بأن يطرق ثلاثَ طرقات بصوتٍ عالٍ وأربعَ طرقاتٍ خفيفةٍ قبل أن يُدخِل مفتاحه في الباب.
كان الكوخ شهيرًا بالحظِّ العاثر، لكن الحظ العاثر هذا لم يؤثِّر في عائلة بيدويل إلا في السنوات الأخيرة. وبقدْرٍ كبير من الوضوح وكأنَّ ذلك حدث بالأمس، كان بيدويل لا يزال يتذكَّر الأسى الذي شعر به في تلك اللحظة حين خلع الكِسوة الرائعة التي يرتديها كبيرُ سائقي السيد دارسي من بيمبرلي وودَّع جياده للمرة الأخيرة. والآن وعلى مدار العام السابق كان ابنه وأمله الوحيد في المستقبل يموت موتًا بطيئًا أليمًا.
ولم يقتصر الأمر على ذلك؛ إذ إن ابنته الكبرى — وهي التي لم يتوقَّع هو وزوجتُه منها قط أن تكون مصدرًا للمتاعب — كانت تتسبَّب في شعورهما بالقلق. كانت الأمور على خيرِ ما يُرام دائمًا مع سارة. فقد تزوجت ابنَ ساقي الحانة في كينجز آرمز في لامتون، وهو شابٌّ طَموح انتقل إلى بيرمنجهام وأسَّس متجرًا للشمعِ بميراثٍ ورثه عن جدِّه. وكان العمل مزدهرًا، لكن سارة أصبحت مكتئبةً ومنهَكة من كثرة العمل. وكانت سارة وزوجها يتوقعان طفلًا رابعًا بعد ما يَزيد بقليلٍ عن أربع سنوات من الزواج، فتسبَّب إجهادُ الأمومة والعمل في المتجر في أن كتبت خِطابًا يائسًا تطلب فيه مساعدةَ أختها لويزا. وقد أعطَته زوجتُه خطاب سارة من دون تعليقٍ منها، لكنه كان يعلم أنها تُشاركه قلقَه بسبب وصول ابنتهما العاقلةِ المبهجة والمفعَمة بالصحة إلى هذا الحد. وبعد أن قرأ الخطابَ أعطاه لزوجته مرةً أخرى، ولم يَزِد عن قوله: «سيحزن ويل لافتقادِه لويزا. كانا مقرَّبَين أحدهما من الآخر دومًا. هل يُمكنكِ أن تدعَميها؟»
«سيتحتَّم عليَّ ذلك. لم تكن سارة لتكتب إلينا لو أنها لم تكن يائسة. هذا ليس من شِيَم ابنتنا.»
وهكذا أمضت لويزا الأشهرَ الخمسة قبل الولادة في بيرمنجهام تُساعد في رعاية الأطفال الثلاثة الآخرين، وظلَّت بعد الولادة مدةَ ثلاثة أشهر حتى استعادت سارةُ عافيتَها. وقد عادت لويزا إلى المنزل مؤخرًا وأحضرَت معها الطفل جورجي من أجل أن تُريح أختها، ومن أجل أن تتمكَّن أمُّها وأخوها ويل من رؤيته قبل أن يموت. لكنَّ بيدويل نفسَه لم يكن مسرورًا قط من ذلك. فقد كان يتوقُ كثيرًا لرؤية حفيده بقدْرِ ما كانت زوجته تتوق لذلك، لكن ما لم يكن ملائمًا لرعاية الطفل هو كوخٌ به رجلٌ يحتضر. كان ويل مريضًا بمرضٍ عُضال، فكان اهتمامه لرؤية المولود الجديد سطحيًّا، كما أن بكاء الطفل أثناء الليل كان يُقلقه ويُزعجه. واستطاع بيدويل أن يفهم أن لويزا لم تكن سعيدة. كانت مضطربةً، وعلى الرغم من برودة جوِّ الخريف، فإنها كانت تُفضِّل السير في الغابة والطفلُ على ذراعها أكثرَ مما تُفضِّل المكوثَ في البيت مع أمِّها وويل. بل كانت غائبة — وكأنها تعمَّدَت ذلك — حين جاء الكاهنُ والقس المتعلم بيرسيفال أوليفانت في إحدى زياراته المعتادة لويل، الأمر الذي كان غريبًا لأنها كانت دائمًا ما تحب ذلك القسَّ الذي أبدى اهتمامًا بها منذ طفولتها، فكان يُعيرها الكتب، كما عرَض أن يُلحِقَها في صف اللغة اللاتينية مع مجموعته الصغيرة من التلاميذ الخصوصيِّين. كان بيدويل قد رفض تلك الدعوة — لأن هذا لن يتسبَّب إلا في تقديمِ أفكارٍ إلى لويزا تفوق مكانتها الاجتماعية — لكن القس كان قد قدَّم عرضه ذلك. بالطبع تكون الفتاة مضطربةً وعصبية حين يقترب موعد زفافها، لكن بما أنها الآن في المنزل، فلماذا لم يَعُد جوزيف بيلينجز يزور الكوخ كالمعتاد؟ لقد مرَّت مدةٌ منذ أن رأَوه. كان يتساءل ما إن كان الاعتناءُ بالطفل قد فتح عينَيْ كلٍّ من لويزا وجوزيف على مسئوليات الزواج والمخاطر المصاحبة له؛ مما تسبَّب في أن يُعيد كلٌّ منهما التفكير. وتمنَّى بيدويل ألا يكونَ الأمر كذلك. فقد كان جوزيف طَموحًا وجادًّا كما كان أكبرَ من لويزا بسنوات كثيرة — حيث يبلغ الرابعة والثلاثين — لكن الفتاة كانت مُغرَمة به. سيتزوجان في هايمارتن على بُعد ١٧ ميلًا عنه وعن مارثا زوجته، وسيكونان جزءًا من أسرةٍ مريحة، سيدتُها متسامحة وسيدها كريم سخي، وسيكون مستقبلهما آمنًا، وحياتهما رحبةً أمام ناظِرَيهما، وأحداثها آمنةً ومتوقَّعة وتليق بهما. فمع وجود كلِّ ذلك أمامها، ما جدوى التعلُّم ودروس اللاتينية بالنسبة إلى فتاةٍ يافعة؟
ربما ستنصلح الأمور من تلقاء نفسها حين يعود جورجي إلى والدته. فستُسافر لويزا معه غدًا وقد تم الترتيب لأن تُسافر هي والطفل بالعربة الخفيفة إلى كينجز آرمز في لامتون، ومن هناك ستسافر على وجه السرعة إلى بيرمنجهام حيث سيلتقيهم زوجُ سارة — واسمه مايكل سيمبكنز — فيعود هو إلى بيته في عربته وتعود لويزا إلى بيمبرلي على وجه السرعة في اليوم نفسِه. ستكون الحياة أسهلَ كثيرًا بالنسبة إليه وزوجته وويل حين يعود الطفل إلى منزله، لكنه حين يعود إلى الكوخ يوم الأحد بعد أن يكون قد ساعد في إعادةِ ترتيبِ المنزل بعد الحفل، سيكون من الغريب ألا يرى يدَ جورجي الممتلئةَ تمتدُّ له مُرحِّبةً به.
ولم تمنعه تلك الأفكارُ المضطربة من إكمال عمله، لكن — وبصورةٍ تكاد تكون غيرَ محسوسة — كان قد أبطأ من وتيرة عمله، وتساءل للمرة الأولى في نفسه ما إن كانت مهمةُ تنظيف الفضَّة قد أصبحت متعبة جدًّا له بحيث لا يستطيع القيامَ بها وحده. لكن ستكون تلك هزيمةً مخزية له. وبعد أن سحب الشمعدان الأخير نحوه في حزمٍ، أخذ قطعةَ تلميع وانكبَّ على مهمته مرةً أخرى بعد أن أراح أطرافه التي تُؤلمه على الكرسيِّ بعض الوقت.