خاتمة
في صباحِ أحد أيام بواكير شهر يونيو، تناول دارسي وإليزابيث إفطارَهما معًا في الشُّرفة. كان النهار ساطعًا، ويحمل إمكانيةَ رؤيتهما للأصدقاء ومشاركتهما البهجة. فقد تمكَّن هنري ألفيستون من أخذِ إجازةٍ قصيرة من مسئولياته في لندن، ووصل في المساء السابق، ومن المتوقَّع حضورُ عائلة بينجلي على الغداء والعشاء.
قال دارسي: «سأكون ممتنًّا كثيرًا يا إليزابيث، إن سرتِ معي بجوار النهر. هناك أشياءُ في حاجةٍ إلى أن أقولها؛ أشياء تَطْرق ذهني منذ مدة طويلة، وكان لا بد أن أبوحَ بها بيننا في وقتٍ سابق.»
أذعنَت إليزابيث، وبعد خمسِ دقائق كانا يسيران معًا على الممرِّ العُشبي المجاور للنهر. وكانا في أثناء ذلك صامتَين حتى عبَرا الجسر؛ حيث يضيق مجرى النهر، ويؤدي إلى المقعد الذي وُضع في ذلك المكان حين كانت الليدي آن تنتظر طفلَها الأول؛ ليوفِّر لها مكانًا مريحًا وملائمًا. كان المقعد يُطل على المنظر الجميل للماء، وخلفها منزل بيمبرلي، وهو مكانٌ كان دارسي وإليزابيث يُحبانه، ودائمًا ما كانا يتَّجهان إليه في مسيرهما. كان اليوم قد بدأ بضبابٍ مبكِّر، وكان كبير البستانيِّين دائمًا ما يتنبَّأ بأن هذا يُنبئ بيومٍ حارٍّ، والأشجار التي كانت قد خسرت البراعمَ الرقيقة الأولى لأوراق الربيع الخضراء، أصبحَت الآن في أبهى حُلَلِها مكسوَّةً بالأوراق، في حينِ اشتركت ضِفاف الأزهار الصيفية ومياهُ النهر المتلألئة في احتفالٍ حيٍّ بالجمال والوفاء.
وكان ما أشعرَهما بالراحة هو وصول الخطاب الذي كثيرًا ما طال انتظاره من أمريكا إلى لونجبورن، وتسلُّم إليزابيث نسخة منه هذا الصباحَ على يد كيتي. لم يكتب ويكهام سوى سردٍ مقتضَب، وأضافت إليه ليديا بضعةَ أسطُرٍ على عجَل. كانت استجابتهما تجاهَ العالم الجديد تنمُّ عن الحماسة. فكتب ويكهام بصفةٍ رئيسية عن الجياد الرائعة، وعن خططه هو والسيد كورنبندر على إنتاج جياد السباق، بينما كتبت ليديا أن ويليامزبيرج تُعدُّ متطورة في كافة المناحي والأشكال عن ميريتون المضجِرة، وأنها كوَّنت صداقاتٍ بالفعل مع بعض الضباط وزوجاتهم المتمركزين في حاميةٍ للجيش بالقرب من المدينة. وقد بدا من المحتمل أن ويكهام وجد أخيرًا مهنةً من المرجَّح كثيرًا أن يستمرَّ فيها؛ وفيما يتعلَّق بمسألةِ ما إذا كان قادرًا على الاحتفاظ بزوجته، كان آل دارسي يشعرون بالامتنان كثيرًا؛ نظرًا إلى أن ثلاثة آلاف ميلٍ من مياه المحيط تفصلهم عنها.
قال دارسي: «كنت أُفكِّر في ويكهام وفي الرحلة التي واجهها هو وأختنا، وللمرة الأولى وبكل صدقٍ أتمنى له التوفيق. إنني واثقٌ من أن المحنة الكبيرة التي مرَّ بها قد تُؤدي حقًّا إلى الإصلاح الذي كان القسُّ كورنبندر واثقًا للغاية بشأنه، وأن العالم الجديد سيستمرُّ في تحقيق كافة آماله وأمانيه، لكنَّ الماضيَ جزءٌ لا يتجزَّأ من تكوين الشخص في الحاضر، وأمنيتي الوحيدة الآن هي ألا أراه مرةً أخرى أبدًا. إن محاولته لإغواء جورجيانا كانت شائنةً وبغيضة لدرجةِ أنني لا أستطيع أن أُفكِّر فيها أبدًا من دون أن أشعر بالمقت والاشمئزاز. لقد حاولتُ أن أُبعد الحادثةَ كلَّها عن ذهني وكأنها لم تحدث، وهي حيلةٌ كنت أعتقد أنها ستكون سهلةً لو أنني وجورجيانا لم نتحدَّث عنها فيما بيننا.»
كانت إليزابيث صامتةً للحظات. لم يكن ويكهام شبحًا يُلقي بظلاله على سعادتهما، ولا يُمكن له أن يُخرِّب الثقة التامة التي كانت بينهما سواءٌ أتَحدَّثا بها أم لم يفعلا. إن لم يكن ذلك زواجًا سعيدًا لما أصبحَ للكلمات معنًى. كما أن صداقة ويكهام فيما مضى مع إليزابيث لم تذكر قط من قبل؛ وذلك بسبب دقة الأمر الذي كان كلاهما يشعر به، لكنهما كانا متفقَين على رأيهما فيما يتعلَّق بشخصية ويكهام وأسلوب حياته، وشاركَت إليزابيث زوجها عزْمَه على ألا يتمَّ استقبال ويكهام في بيمبرلي مرةً أخرى أبدًا. وباحترامها لدقة الأمرِ نفسِه لم تتحدَّث إليزابيث إلى دارسي قط عن هروب جورجيانا المقترَح، الأمر الذي رأى دارسي أنه كان خُطةً من ويكهام ليضعَ يده على ثروة جورجيانا، ولينتقم لنفسه على الإهانات التي كان يظن أنه تعرَّض لها في الماضي. كان قلب إليزابيث يمتلئ بالحب تجاه زوجها والثقةِ في حكمه وقرارِه بحيث لم تكن به مساحةٌ للانتقاد؛ ولم يكن بإمكانها أن تتخيَّل حتى أنها تصرفَت مع جورجيانا من دونِ تفكيرٍ أو اهتمام، لكن ربما حان الوقت لكي يواجهَ الأخُ وأختُه ماضيَهما، ويتحدَّثا عنه مهما كان قاسيًا.
فقالت إليزابيث بنبرةٍ رقيقة: «هل ذاك الصمت بينك وجورجيانا قد يُعد خطأً يا عزيزي؟ علينا أن نتذكَّر أن شيئًا كارثيًّا لم يقع. فقد وصلتَ إلى رامزجيت في الوقت المناسب واعترفَت جورجيانا بكل شيء، وشعرَت هي بارتياحٍ كبير لفعل ذلك. إننا حتى لا نستطيع أن نتأكد من أنها كانت ستهرب معه في الواقع. ينبغي عليك أن تنظرَ إليها من دونِ أن تتذكَّر دومًا ما هو مؤلمٌ لكما. وأعرف أنها تتوق إلى أن تشعر بأنك سامحتَها.»
فقال دارسي: «أنا مَن هو في حاجة إلى السماح. إن مقتل ديني جعلني أواجه مسئولياتي، ربما للمرة الأولى، ولم تكن جورجيانا وحدَها هي مَن أصابها الجرح من إهمالي وتقصيري. لم يكن ويكهام ليهربَ مع ليديا قط، ولم يكن ليتزوجها قط ويدخل عائلتكم إن كنتُ كبحتُ كبريائي، وأخبرتُ بحقيقته حين ظهر للمرة الأولى في ميريتون.»
قالت إليزابيث: «لم يكن بمقدورك أن تفعل ذلك من دون أن تُفشي سرَّ جورجيانا.»
«ربما كانت كلمةَ تحذيرٍ في الوقت المناسب لتؤدِّيَ الغرض. لكن السوء والإثم يمتد لما هو أبعدُ من ذلك في الماضي؛ إلى قراري بأن أبعد جورجيانا عن المدرسة وأن أضعَها في رعاية السيدة يونج. كيف لي أن أكون أعمى وغيرَ مكترثٍ ومهملًا بهذه الدرجة، تجاه أبسط الاحتياطات. ألستُ أنا أخاها، والرقيبَ عليها، والشخص الذي وثق والدي ووالدتي فيه ليرعاها ويبقيها في أمان؟ كانت في ذلك الوقت في الخامسةَ عشرة فقط من عمرها، ولم تكن سعيدةً في المدرسة. كانت تلك المدرسة عصرية ومكلِّفة، لكنها لم تكن تُقدِّم لها الحبَّ والرعاية، بل نمَت فيها الكبرياء وقيمُ عالم التأنُّق والعصرية، وليس التعليم النافع والمنطق السليم. كان من الصواب أن تُغادر جورجيانا تلك المدرسة، لكنها لم تكن مستعدَّة لذلك الوضعِ الذي أعدَدتُه لها. فهي مثلي تتَّسمُ بالخجل من المجتمع ولا تثق به؛ وقد رأيتِ ذلك بنفسكِ حين كنتِ مع السيد والسيدة جاردنر وكنت تتناولين المرطبات للمرة الأولى في بيمبرلي.»
فقالت إليزابيث: «لقد رأيت أيضًا ما كنت أراه دائمًا، وهو الثقة والحب الذي كان موجودًا بينكما.»
ثم استطرد دارسي وكأنها لم تتحدَّث. فقال: «وقد وضعتُها في ذلك الوضع — أولًا في لندن — ثم عاقبتُها بنقلها إلى رامزجيت! كانت في حاجةٍ إلى أن تبقى في بيمبرلي؛ كانت بيمبرلي هي موطنها. وكان بإمكاني أن أحضرها إلى هنا، وأن أجد لها امرأةً مناسبة لتكون رفيقتَها، وربما بحثتُ لها عن مربيةٍ لِتَزيدها علمًا، أهملت حتى توفيرَ القدر الضروري منه، وقد انشغلت حتى عن أن أكونَ بجوارها لأُقدم لها الحبَّ والدعم الذي يُقدِّمه الأخ. بدلًا من ذلك وضعتُها تحت رعايةِ امرأةٍ سأفكِّر فيها دومًا على أنها كانت تجسيدًا للشر، رغم أنها الآن ترقد ميتةً، وتتجاوز أيَّ مصالحة دنيوية. أنتِ لم تتحدَّثي عن هذا الأمر قط، لكن لا بد أنكِ تساءلت لماذا لم تظلَّ جورجيانا معي في بيمبرلي، وهو المنزل الوحيد الذي تَعدُّه هي موطنًا لها.»
«أقرُّ بأنني كنت أتساءل بين الحين والآخر، لكن بعد أن قابلتُك وجورجيانا معًا لم أستطِع أن أصدِّق أنك تصرَّفت تجاهها بفعل أيِّ دافع آخرَ سوى سعادتها ورفاهها. أما عن رامزجيت، فربما أوصى الأطباءُ بأن تنتعش بهواء البحر. ربما أصبحت بيمبرلي مشبَعة جدًّا بالحزن بعد أن مات والداك فيها، وربما تسبَّبت مسئوليتك تجاه التركة في صعوبة تخصيص وقتٍ كبير لجورجيانا كما كنت ترغب. رأيت أنها كانت سعيدةً لكونها معك وكنت واثقة من أنك كنت تتصرَّف تجاهها دومًا كأخٍ محب لها.» هنا سكتت إليزابيث لحظةً، ثم استطردَت: «ماذا عن الكولونيل فيتزويليام؟ كان يُرافقك كوصيٍّ. وأعتقد أنكما قابلتما السيدة يونج معًا؟»
«أجل، بالفعل. أرسلت عربة لتُحضرها إلى بيمبرلي من أجل لقائها ثم دعوناها بعد ذلك لتمكثَ على العشاء. وباستعراض ما حدث حينها، يمكنني أن أرى كيف تم التلاعبُ بسهولة بشابَّين سريعَي التأثُّر بها. لقد قدَّمَت نفسها كخيارٍ مثالي لمن يحصل على مسئولية فتاةٍ يافعة. وقد ظهرَت بذلك المظهر، وتحدثَت بالكلمات المناسبة، وادَّعَت بأنها ذاتُ حسب ونَسب، وأنها متعلِّمة وتكنُّ تعاطفًا تجاه اليافعين، وأنها تتمتَّع بأخلاقٍ لا تشوبها شائبةٌ وسلوكيات فوق مستوى الشبهات.»
«ألم تذكر أحدًا ممَّن يشهدون لها بذلك؟»
«كانت استشهاداتها مذهلة. كانوا بالطبع أشخاصًا مزيَّفين. وقبلناهم بصفةٍ أساسية لأنَّ مظهرها أغوانا، ولأنها بدَت مناسبةً ظاهريًّا للمهمة، وعلى الرغم من أننا كان ينبغي علينا أن نُراسل أرباب عملها السابقين، إلا أننا أهملنا فعل ذلك. لم نتواصل سوى مع شخصٍ واحدٍ ممن استشهدت به وقد برهنت الشهادة التي تلقَّيناها فيما بعد أنه كان من معارف السيدة يونج، وأنه كان مزيفًا كطلبها الأصلي. أعتقد أن فيتزويليام أرسل الخطاب، وأنه ظنَّ أن الأمر كان متروكًا لي وأتقبَّل أنا أن الأمر كان مسئوليتي؛ فقد استُدعي للعودة إلى الفوج العسكري، وكان مشغولًا بأشياءَ أكثرَ إلحاحًا. إنني أنا مَن ينبغي عليه أن يحمل عبء الذنب. لا يُمكنني أن ألتمس العذر لأيٍّ منا، لكنني التمست الأعذار لنا حينها.»
فقالت إليزابيث: «كان ذلك التزامًا شاقًّا على شابَّين مثلِكما لم يكونا متزوجَين، حتى ولو كان أحدهما أخًا. ألم يكن هناك أيُّ قريبة أو صديقة مقرَّبة للعائلة كان بمقدور الليدي آن أن تشركها كوصيةٍ على جورجيانا؟»
«تلك كانت المشكلة. كان الخيار البديهي حينها هي الليدي كاثرين دي بيرج، وهي الأخت الكبرى لأمي. ولو اختارت أمي أحدًا غيرها لدبَّ شِقاقٌ سيدومُ طويلًا بينهما. لكنهما لم تكونا مقرَّبتَين قط، وكانت تصرفاتهما مختلفةً تمامًا. كانت أمي تُعدُّ في العموم متزمِّتةً في آرائها ومشبَّعةً بكبرياءِ طبقتها الاجتماعية، لكنها كانت الأطيبَ والألطف تجاه مَن هم في حاجةٍ أو ورطة، وكان حكمها لا يُخطئ أبدًا. وأنتِ تعرفين كيف هي الليدي كاثرين، أو بالأحرى كيف كانت. إن طيبتك الكبيرةَ معها بعد الفاجعة التي أصابتها هي ما بدأ يُلين قلبها تجاهك.»
قالت إليزابيث: «لا أستطيع أبدًا أن أُفكِّر في مآخذ الليدي كاثرين من دون أن أتذكَّر أنَّ زيارتها إلى لونجبورن، وإصرارَها على معرفةِ ما إن كانت هناك خِطبةٌ بيننا، وإصرارَها على منع ذلك إن كانت هناك خِطبة هو في الواقع ما قرَّبَنا بعضنا من بعض.»
قال دارسي: «حين سردَت كيف أجبتِ على تدخُّلها، عرَفت أن هناك أملًا. لكنكِ كنتِ امرأةً بالغة؛ امرأةً تحمل الكثير من الكبرياء بما لا يسمح أن تتغاضى عن غطرسة الليدي كاثرين. كانت الليدي كاثرين ستكون وصيةً كارثية على فتاةٍ في الخامسةَ عشرة من عمرها. وكانت جورجيانا دائمًا ما تحمل في نفسها شيئًا من الخوف تجاهها. وكنا دائمًا ما نتلقَّى الدعوات في بيمبرلي التي مفادها أنه يتعيَّن على أختي أن تزور روزينجز. وكان اقتراح الليدي كاثرين أن تُشارك أختي ابنةَ خالتها في مربيةٍ لهما وأن تنشآ معًا كأختَين.»
«ربما بنيَّة أن تُصبحا أختَين. فقد أوضحت لي الليدي كاثرين أنك كنت مقدِّرًا لابنتها.»
«كانت هي مَن قدَّرَت ذلك، وليس أمي؛ وكان ذلك سببًا إضافيًّا لعدم اختيار الليدي كاثرين كواحدةٍ من الأوصياء على جورجيانا. لكنني على الرغم من أنني آسى على تدخُّلِ خالتي في حياة الآخرين، فإنها كانت ستُصبح أكثرَ مسئوليةً مما كنت. ولم تكن السيدة يونج لتؤثِّر عليها. لقد خاطرت بسعادة جورجيانا، وربما بحياتها، حين وضعَتها تحت وصاية تلك المرأة. كانت السيدة يونج تعرف منذ البداية ما تريد، وكان ويكهام جزءًا من الخطة منذ اليوم الأول. لقد انشغل بمعرفةِ كلِّ ما يحدث في بيمبرلي، وأخبرَها أننا كنا نبحث عن رفيقةٍ لجورجيانا، ولم تُضيِّع هي وقتًا في التقدُّم للوظيفة. وبقدرة ويكهام القوية في أسْرِ النساء وإيقاعهن، عرَفَت السيدة يونج أن أفضل فرصة له ليحصل على نمط الحياة الذي شعر بأنه يستحقه هو الزواج من امرأةٍ ثريَّة، وقد وقع اختياره على جورجيانا لتكونَ ضحيته.»
«إذن أنت تظن أن تلك كانت خطةً شائنةً من جانبهما منذ اللحظة الأولى التي التقيتُما فيها؟»
«بلا أدنى شك. لقد خطَّطَت هي وويكهام إلى فِرارهما منذ البداية. وقد اعترف هو بذلك حين كنا في شارع جريستشرش.»
جلس دارسي وإليزابيث بعضَ الوقت صامتَين، وكانا يُحدِّقان إلى حيث كان تيار الماء يدور ويلتفُّ على الأحجار المسطَّحة على النهر. ثم نبَّه دارسي نفسه.
وقال: «لكن هناك المزيد وينبغي أن أتفوَّه به. كيف لي أن أكون غيرَ عابئٍ ومتغطرسًا بهذه الدرجة، بحيث أرغب في التفريق بين بينجلي وجين؟ لو أنني كلَّفتُ نفسي الحديثَ معها ومحاولةَ معرفة مدى طيبتها ورقَّتها، لأدركتُ أن بينجلي سيكون رجلًا محظوظًا إن استطاع الفوزَ بحبها. أعتقد أنني كنت أخشى أنني سأجد صعوبة كبيرة في التغلُّب على حبي لكِ إن تزوج بينجلي وأختُكِ، وقد كان حبي لكِ شغفًا أصبح حاجةً ملحَّة، لكنها كانت حاجةً أقنعتُ نفسي بأنني لا بد أن أتغلَّب عليها. وبفعل الظلال التي ألقتها حياةُ جَدي الأكبر على العائلة تعلَّمتُ منذ نعومة أظفاري أن الممتلكاتِ العظيمةَ تأتي بمسئولياتٍ عظيمة، وأن مسئولية رعاية بيمبرلي والكثيرين الذين تعتمد حياتُهم وسعادتهم عليها ستقعُ على عاتقي. وتعلمتُ أيضًا أن الرغبات الشخصيةَ والسعادة الفردية تأتيان دومًا في المرتبة الثانية بعد هذه المسئولية التي تكاد تكون مقدَّسة.
كانت القناعة بأن ما أفعل كان خطأً هي ما أدَّت إلى ذلك العرض الأول الشائن، وحتى ذلك الخطاب الذي تبِعه والذي أردتُ أن أُبرِّر به جزءًا على الأقلِّ من سلوكي. لقد تقدَّمتُ للزواج منك عامدًا بكلماتٍ لا يمكن لأيِّ امرأةٍ تحبُّ عائلتها أو تحترمُها أو تتحلَّى بأي كبرياء أو احترام؛ أن تَقْبل بها، وبرفضكِ القاسي وخطابي الذي كنت أُبرِّر فيه لنفسي اقتنعتُ أن كل أفكاري تجاهك قد قُتِلت ودُفنت إلى الأبد. لكن هذا لم يحدث. فبعد أن افترقنا كنتِ لا تزالين تَشغَلين بالي وتملِكين قلبي، وحين كنتِ أنت وعمُّكِ وعمتُكِ تزورون ديربيشاير وحين التقينا صدفةً في بيمبرلي عرَفتُ بكل تأكيد أنني لا أزال أُحبك، وأنني لن أتوقَّف عن حبك أبدًا. حينها بدأتُ أُظهِر لكِ — من دون أن يحدوَني الكثير من الأمل — أنني تغيرت وأنني أصبحت الرجلَ الذي قد تظنين أنه يستحق أن يكون زوجًا لك. كنتُ كطفلٍ صغير يتباهى بألعابه ويئس من الفوز بالاستحسان.»
وبعد أن توقَّف برهةً أكمل حديثه قائلًا: «إن فجائية التغيير النابع من ذلك الخطاب الشائن الذي سلَّمته إليك في روزينجز، والغطرسة والغضب غيرَ المبرَّر، والكبرياء والإهانة التي أهنتِ بها أسرتَك، كل هذا متبوعًا بعد وقتٍ قصيرٍ بترحيبي بالسيد والسيدة جادرنر في بيمبرلي — ورغبتي في إصلاح الوضع، والتكفير عن ذنبي وكسب احترامك بطريقةٍ ما، بل وحتى أملي فيما هو أبعدُ من ذلك، كان مُلحًّا كثيرًا بحيث لم يكبح التعقُّلُ والحذرُ جِماحَه. لكن كيف لكِ أن تُصدقي أنني تغيَّرت؟ كيف يمكن لأي كائنٍ عاقل أن يُصدِّق ذلك؟ لا بد أن السيد والسيدة جاردنر حتى قد عرَفا بسمعتي أنني أتسمُ بالغطرسة والكبرياء، وأنهما ذُهِلا من تغيُّري. وسلوكي تجاه الآنسة بينجلي، لا بد أنكِ وجدتِ ذلك مستهجنًا. لقد رأيتِ ذلك حين أتيت إلى نيذرفيلد لزيارة جين حين كانت مريضة. لماذا أعطيت كارولين بينجلي أملًا بأن زرتِ العائلة كثيرًا، رغم أنني لم أكن أنتوي أيَّ شيء تجاهها؟ لا بد أن فظاظتي معها كانت مُهينةً لها في بعض الأحيان. ولا بد أن بينجلي كان يَعْقد آمالًا على وجود تحالفٍ بيننا، ذلك الصديق العزيز. بالنسبة إليَّ، لم يكن سلوكَ صديق أو رجل نبيل تجاه أيٍّ منهما. الحقيقة أنني كنتُ مشمئزًّا من نفسي كثيرًا، حتى إنني لم أعُد مناسبًا للعيش في مجتمعٍ آدمي.»
قالت إليزابيث: «لا أظن أن كارولين بينجلي تشعر بالإهانة بسهولةٍ حين تسعى وراء غرضٍ ما، لكن إذا كنت مصرًّا على الاعتقاد أن خيبة أملِ بينجلي من خَسارته لتحالفٍ أوثق تفوقُ عاقبةَ الزواج من أخته، فلن أُحاول أن أُحرِّرك من هذا الوهم. لا يمكن أن تكون متهَمًا بخداع أيٍّ منهما، فلم يكن هناك شكٌّ قط حول مشاعرك. وأما عن التغيير في سلوكك تجاهي، فلا بد أن تتذكَّر أنني كنتُ أعرفك وأقعُ في الحب. وربما صدَّقتُ أنك تغيرتَ لأنني كنت في حاجةٍ إلى أن أُصدِّق ذلك من كل قلبي. وإن كان التفكير المنطقي هو ما هداني إلى ذلك، ألم تَثبُت صحة تفكيري؟»
«أوه يا عزيزتي، أنت محقة تمامًا.»
واستطردَت إليزابيث: «لديَّ الكثير لأندم عليه كما لديك، وكان لخطابك مَيزة، وهي أنه جعَلني أُفكِّر للمرة الأولى في أنني ربما أكون مخطئةً بشأن جورج ويكهام؛ فكيف من غير المرجَّح أن الرجل النبيل الذي اختاره السيد بينجلي ليكون صديقه المقرَّب قد تصرَّف بالطريقة التي وصفها السيد ويكهام، وكان مراوغًا فيما يتعلَّق بآمال والده، ولا يُحركه سوى الحقد. إن الخطاب الذي تكرهه بهذه الدرجة كانت له فائدةٌ واحدة على الأقل.»
فقال دارسي: «كانت تلك العباراتُ عن ويكهام هي الكلماتِ الوحيدةَ الصادقةَ في الخطاب برُمَّته. من غريبٍ أنني كتبت الكثيرَ عامدًا إلى الإساءة إليكِ وإهانتك، ولكنني لم أتحمَّل فكرةَ أن تنظري إليَّ على أنني الرجل الذي وصفه لكِ ويكهام، رغم أننا كنا مفترقَين.»
اقتربَت إليزابيث منه أكثرَ وجلسا في صمتٍ مدةَ لحظات. ثم قالت: «لقد تغيَّرنا الآن عمَّا كنا عليه حينها. دعنا لا ننظر إلى الماضي إلا لنستقيَ منه البهجة، ولننظر إلى المستقبل بكلِّ ثقة وأمل.»
فقال دارسي: «كنت أُفكِّر في أمر المستقبل. أعرف أنه من الصعب أن تقتلعيني من بيمبرلي، لكن ألن يكون من المبهج أن نعود إلى إيطاليا ونُعيد زيارة الأماكن التي قضينا فيها رحلةَ زفافنا؟ يمكننا أن نسافر في نوفمبر ونتجنَّب الشتاء الإنجليزي. ولن نقضيَ وقتًا طويلًا في الخارج إن كنتِ لا تُحبين أن تتركي الأولاد.»
هنا ابتسمت إليزابيث. «سيكون الأطفالُ في أمانٍ في رعاية جين، أنت تعرف كم تحب هي أن تعتنيَ بهم. والعودة إلى إيطاليا ستكون سارةً كثيرًا، لكن ينبغي علينا أن نُؤجِّلَها. كنتُ على وشك أن أخبرك بخُططي لشهر نوفمبر القادم. في وقتٍ مبكِّر من ذلك الشهر، آمُل أن أحمل ابنتنا على ذراعي يا عزيزي.»
لم يستطِع دارسي أن يتحدَّث، لكنَّ فرحته التي غمرَت وجهه وتسببَت في ترقرُقِ عينَيه بدمعة، وكذلك قبضته القوية على يدها كانتا كافيتَين. وحين استجمع شتات صوته قال: «هل أنتِ بخير؟ ينبغي أن أُغطيَكِ بشال. هل سيكون من الأفضل لو عُدنا إلى المنزل لتستريحي. هل كان ينبغي أن تكوني جالسة هنا؟»
فضحكت إليزابيث. «إنني على ما يُرام؛ ألست كذلك دومًا؟ وهذا هو أفضلُ مكانٍ أخبرك فيه بهذا الخبر. أنت تذكر أن هذا هو المقعد الذي كانت الليدي آن تستريح فيه حين كانت تنتظر قدومَك. لا يمكنني بالطبع أن أعدك بفتاة. فهناك شعورٌ يُراودني بأنني سأكون أمًّا للأولاد فقط، لكن إن كان المولود ولدًا فسنجد له مكانًا.»
«سنفعل يا حبيبتي، في غرفة الحضَّانة وفي قلوبنا.»
وأثناء الصمت الذي تلا ذلك رأيا جورجيانا وألفيستون ينزلان عن السُّلَّم من منزل بيمبرلي نحو المرج الأخضر بجوار النهر. فقال دارسي بحدةٍ هَزْلية: «ما هذا الذي أرى أيتها السيدة دارسي؟ أختنا والسيد ألفيستون يسيران يدًا في يدٍ وعلى مرأًى من نوافذ بيمبرلي كلِّها؟ أليس هذا بصادمٍ؟ ماذا يمكن أن يعنيَ هذا؟»
«أترك لك تحديد هذا يا سيد دارسي.»
«لا يمكنني أن أستنتجَ سوى أن ألفيستون يريد أن يُخبرنا بشيء، أو أنه يريد أن يطلب مني شيئًا ربما.»
«ليس ليطلب منك يا حبيبي. ينبغي أن نتذكَّر أن جورجيانا لم تَعُد خاضعةً لوصايتك. سيكون كل شيء على ما يُرام بينهما، وقد أتيا ليس ليطلبا شيئًا وإنما ليُخبراك. لكنَّ هناك شيئًا واحدًا يحتاجان إليه ويأمُلان فيه، وهي مباركتك.»
«سيحصلان على مباركتي من كل قلبي. لا يُمكنني أن أفكِّر في رجلٍ آخرَ أفضلَ منه لأُطلق عليه أخًا. وسأتحدَّث مع جورجيانا هذا المساء. لن يكون هناك المزيدُ من الصمت بيننا.»
ثم قاما معًا من على المقعد، ووقفا يُراقبان بينما يتقدَّم ألفيستون وجورجيانا نحوهما مسرِعَين عبر العُشب اللامع، وقد تعالت أصواتُ ضحكاتهما فوق موسيقى تيار الماء، وكان كلٌّ منهما لا يزال ممسكًا بيد الآخر.