الفصل الرابع
بعد خمس دقائق كانت إليزابيث تنتظر مع دارسي عند البابِ الأماميِّ حتى يتم إحضارُ حِصانه، وما إن دخلت إليزابيث المنزلَ حتى رأت دارسي وهو يَعْدو بفرَسِه ويذوب في ظلمة الليلة المقمِرة. ستكون الرحلة أمامه غيرَ مريحة. فقد خلَّفَت الأمطار الغزيرةُ رياحًا عاصفة، لكنها كانت تعلم أن رحلته تلك كانت ضرورية. كان دارسي واحدًا من القضاة الثلاثة الذين يتولَّون شأنَ بيمبرلي ولامتون لكن لم يكن باستطاعته أن يُشارك في هذا التحقيق، وكان من الصواب أن يتم إخبارُ أحد زملائه بمقتل ديني من دون تأخير. كانت إليزابيث تأمُل أيضًا أن تُنقل الجثةُ من بيمبرلي قبل حلول الصباح حين سيتحتَّم عليها وعلى دارسي إخبارُ الخَدَم المستيقظين بما حدث. كما كان سيتحتَّم عليهما أن يُبرِّرا سبب وجود السيدة ويكهام وليس من المرجَّح أن تكون ليديا نفسُها كَتومة. وكان دارسي فارسًا بارعًا، ولم يكن الارتحال ليلًا على صَهوة جَواده يُخيفه حتى في أسوأ أنواع الطقس، لكنها حين كانت تُحدِّق إلى آخرِ طيفٍ للحِصان وهو ينطلق، كانت تُكافح خوفًا يتملَّكها بأن شيئًا سيئًا سيحدث لدارسي قبل أن يصلَ إلى هاردكاسل وأنها لن تراه ثانيةً أبدًا.
وبالنسبة إلى دارسي كان العدْوُ بحصانه في الليل بمثابةِ نوعٍ من التمتعِ بحريةٍ مؤقتة. وعلى الرغم من أن كتفَيه كانتا تُؤلمانه بسبب ثِقَل النقالة وأنه كان يعرف أنه متعَب على المستويَين الجسدي والذهني، فقد كانت نفحاتُ الهواءِ الباردِ ولطمُ حبات المطر له على وجهه بمثابةِ انعتاقٍ وتحرُّر. كان السير سيلوين هاردكاسل هو القاضيَ الوحيد المعروف أنه يظلُّ في منزله طوال الوقت، وكان يعيش على مسافة ثمانية أميال من بيمبرلي، وباستطاعته أن يتولَّى أمر هذه القضية وسيكون مسرورًا لفعل ذلك، لكنه لم يكن الزميلَ الذي كان دارسي ليختارَه لمِثل هذه المهمة. فلسوء حظِّه، كان جوزايا كليثرو — وهو القاضي المحليُّ الثالث — عاجزًا بفعل إصابته بداء النقرس، وهو داءٌ مؤلمٌ بقدْر ما كان غيرَ مستحَق له؛ حيث إن ذلك الطبيبَ وعلى الرغم من أنه مولَعٌ بتناول الطعام بشراهة، فإنه لم يكن يُعاقر النبيذ الأحمرَ قط، وهو ما يُعتقد أنه السبب الرئيسي للإصابة بهذا الداء الموهِن. وكان الدكتور كليثرو محاميًا متميزًا ويمتدُّ صيتُه لما يتجاوز حدودَ دياره في ديربيشاير، ومن ثمَّ فهو يُعدُّ إضافةً كبيرة إلى مقعدِ القضاة؛ وذلك على الرغم من ثرثرته التي تبرز مِن اعتقادٍ لديه بأن صحة الحكم تتناسب مع طول الوقت المستغرَق للتوصل إليه. كان يتعمَّق بشدة في دراسة كل تفصيلة صغيرة تخصُّ القضيةَ ويُناقش القضايا السابقة ويبحث فيها ويتعرَّض للقانون ذي الصلةِ بها. وإذا رأى أن قواعد الفلاسفة القدامى — مثل أفلاطون أو سقراط — قد تُضيف وزنًا إلى الحُجة، كان يعرضها. لكن وعلى الرغم من سلوكه كلَّ هذه الدروب عند اتخاذ قرار، فإن قراره النهائيَّ يكون منطقيًّا دائمًا وكانت هناك قلةٌ قليلة من المدَّعى عليهم الذين لم يكونوا ليشعروا بالتمييز غيرِ العادل ضدَّهم لو كان الدكتور كليثرو لم يمنَحْهم ساعةً من الزمن على الأقل ليتحدَّثوا له بأطروحة غيرِ مفهومة.
وبالنسبة إلى دارسي، كان مرض الدكتور كليثرو أمرًا غيرَ ملائم تمامًا. حيث إنه والسير سيلوين هاردكاسل لم يكونا على وِفاقٍ كزملاء — على الرغم من أن كلًّا منهما يُكنُّ للآخر الكثيرَ من الاحترام كقضاة — وظلَّت العداوة قائمةً بين العائلتَين حتى ورِث والدُ دارسي تركة بيمبرلي. وكانت جذور الخلاف تعود إلى زمنِ جَدِّ دارسي، حين أُدين خادمٌ من بيمبرلي — ويُدعى باترك رايلي — بسرقةِ أيلٍ من مزرعة الأيائل المملوكةِ حينَها للسير سيلوين، ومن ثَم شُنق جزاءً لذلك.
وتسبَّب شنقُ ذلك الخادمِ في حالةِ غضبٍ عارم بين القرويِّين في بيمبرلي، لكنهم عرَفوا أن السيد دارسي كان قد حاول أن يُنقذ حياة الفتى، ومن ثَم عُرف علنًا عن السيد دارسي بأنه القاضي العطوفُ وعن السير سيلوين بأنه يدُ القانون الصارمة، وقد ساعد اسمُ هاردكاسل في الترسيخ كثيرًا لهذا التمييز. وتبِع الخَدَم مثالَ أسيادهم وتوارثَت الأجيال بين العائلتَين العداوةَ والبغضاء. ولم يتم القيام بأي محاولةٍ لرأب الصدع بينهما إلا حين ورِث والدُ دارسي تركةَ بيمبرلي، ولم تتبع تلك المحاولةَ أيُّ محاولة ثانية إلا حين كان والدُ دارسي في فراش الموت. فقد طلب من ابنه أن يقوم بكلِّ ما يمكنه لكي يستعيدَ التوافق بين العائلتين، مشيرًا إلى أن استمرار العداء ليس في صالحِ القانون ولا في حسن العلاقات بين العائلتين. وما منع دارسي عن ذلك هو تحفُّظه واعتقاده بأن مناقشةَ نزاعٍ أو خلاف على العلَن لن يُساعد إلا في التأكيد على وجوده؛ لذا فقد سلك طريقًا أكثرَ دبلوماسية. فكان يُرسل الدعوات أحيانًا إلى هاردكاسل لحضور حفلات الصيد والمآدب العائلية، وكان هاردكاسل يقبلها. ربما كان هاردكاسل أيضًا قد أصبح أكثرَ وعيًا بخطورة العَداء المستمر، لكن ذلك التقارب لم يرْقَ قط إلى مستوى الحميميَّة. كان دارسي يعلم أنه وفي ظلِّ المشكلة الحاليَّة سيجد في هاردكاسل قاضيًا نزيهًا يتبع ضميرَه، لكنه لن يجدَ فيه صديقًا له.
وبدا الجوادُ سعيدًا بالهواء الطلْق وبالرحلة كسعادة راكبه، فنزل دارسي عن صهوته أمام منزل هاردكاسل في غضون نصف الساعة. كان جدُّ السير سيلوين قد تسلَّم البارونية في زمن الملكة إليزابيث حين بُني منزل العائلة. كان المنزل يُمثِّل صرحًا كبيرًا معقدًا وشاسعًا، وكانت مداخنه السبعةُ الفاخرة على طِراز تيودر تُمثِّل مَعْلمًا رئيسيًّا بين أشجار الدردار الطويلة التي تُحيط بالمنزل كالمتاريس. وبداخل المنزل، كانت النوافذ الصغيرة والسقف المنخفض يضيئان المنزل بإضاءةٍ خافتة. وكان والد البارون الحاليِّ — متأثرًا في ذلك ببعض المباني المجاورة له — قد أضاف إلى المنزل ملحَقًا فاخرًا لكنه ناشز، وكان استخدام العائلة لهذا الملحق نادرًا، عدا كونه مأوًى للخدم، فقد كان السير سيلوين يُفضِّل الطِّراز الإليزابيثي رغم أوجهِ عدم ملاءمته الكثيرة.
صدَح صوت الجرس الذي سحب دارسي حبله في أرجاء المنزل مما أيقظَ المنزل بأكملِه، وفي غضونِ ثوانٍ فتح له البابَ كبيرُ الخَدَم العجوز ويُدعى باكل، الذي بدا أنه لم يخلُد إلى النوم كسيِّده، حيث كان معروفًا عنه أنه سيكون في الخِدمة بغضِّ النظر عن التوقيت. كان السير سيلوين وباكل متلازمَين وكان منصبُ كبير الخَدَم في عائلة هاردكاسل يعتبر في العموم منصبًا متوارثًا؛ حيث إن والد باكل كان يَشغله قبله وكذلك جَدُّه قبلَهما. وكان التشابهُ في العائلة بين الأجيال بارزًا وملحوظًا، فكان كلُّ فرد من عائلة باكل يتَّسم بقِصَر القامة وقوَّة البِنْية وطول الذراعَين ووجهٍ يُشبه وجهَ كلب البولدوج الوَدود. أخذ باكل قبَّعة دارسي وسُترته المخصَّصة لركوب الجياد، وعلى الرغم من أنه كان يعرف الزائرَ معرفةً تامة، فإنه سأله عن اسمه وكعادته التي لا تتغير طلبَ منه الانتظار حتى يُعلِم سيده بحضوره. وبدا لدارسي أن غياب باكل عنه كان طويلًا، لكنه سمع في الأخير صوتَ وقْع أقدامه قادمًا نحوه وقال له: «السير سيلوين في غرفة التدخين الخاصةِ به يا سيدي، فهلا تتبعَني فضلًا.»
تقدَّما عبر الرَّدهة العظيمة بسقفها المقبَّب المرتفع، ونوافذها الكثيرة ومجموعة رائعة من الدروع، ورأس أيل معلَّقة أصابها شيء من العفن مع مرور الزمن. كما احتوَت الرَّدهة أيضًا على الصور العائلية، وبمرور الأجيال اكتسبت عائلة هاردكاسل سُمعة بين العائلات المجاورة بكونها عائلةً كبيرةَ العدد والحجم، وهي سُمعة تأسَّسَت على الكمِّ أكبرَ منها على الجودة. وقد ورِث كلُّ بارون رأيًا واحدًا أو تحيزًا قويًّا واحدًا على الأقل ليأمرَ به، أو ليزعج من خلاله ورثتَه، وكان يسود بينهم اعتقادٌ — تشكَّل في البداية لدى السير سيلوين من القرن السابع عشر — أن توظيف رسام يتقاضى ثمنًا باهظًا ليرسمَ نساء العائلة هو مضيعةٌ للمال. وكل ما كان ضروريًّا لإرضاء ادِّعاءات الأزواج وغرور الزوجات هو أن يجعل الرسامَ من الوجه العاديِّ جميلًا، ومن الوجه الجميل وجهًا مليحًا، وأن يقضيَ الكثير من الوقت ويتوخَّى في رسمه إبرازِ ملابسِ الشخص المرسوم أكثرَ من ملامحه. وحيث إن الرجال في عائلة هاردكاسل كانوا يتشاركون فيما بينهم نزوعًا إلى الإعجاب بالنوعِ نفسِه من الجمال الأنثوي، فقد أضاء الشمعدانُ ذو الأفرع الثلاثة الذي يُمسك به باكل صفًّا من الرسومات المتطابقة لشفاهٍ معقودةٍ وعيونٍ جاحظة عدوانية حيث تلا الساتان والدانتيل النسيج المخملي، وحلَّ الحرير محلَّ الساتان، وأفسح الحرير المجال لنسيج الموسلين. وكان حال الذُّكور من عائلة هاردكاسل أفضل. فكانت الأنفُ المتوارَثة المعقوفة قليلًا والحواجب الكثيفة ذات اللون الداكن أكثرَ من الشعر، والفم العريض الذي تكاد شفتاه تخلوان من الدماء، كانت هذه الملامح تنظر إلى دارسي من فوقٍ بثقة وثَبات. هنا يُمكن للمرء أن يعتقد أن السير سيلوين الحاليَّ قد خلد على مرِّ القرون بفعل فرشاة الرسامين البارزين في أدواره المتعددة؛ السيد وصاحب الأرض الجاد، ورب الأسرة والمحسن إلى الفقراء وقائد متطوِّعي ديربيشاير الذي يرتدي وشاح منصبه في أناقة، وأخيرًا القاضي الصارم الحصيف العادل. وكان السير سيلوين لا يزوره من البسطاء إلا قلةٌ قليلة، وكان هؤلاء لا ينبهرون كثيرًا ويرهبونه بالقدرِ المعقول بمجرد الدخول إلى حضرته.
تبع دارسي الآن باكل إلى داخل رِواق ضيِّق نحو الجزء الخلفي من المنزل، وفي نهاية هذا الرواق فتح باكل بابًا من خشب البلوط الثقيل من دون أن يطرقه، وأبلغ بصوت جهور قائلًا: «السيد دارسي من بيمبرلي هنا لرؤيتك يا سيد سيلوين.»
لم ينهض سيلوين هاردكاسل. كان يجلس في كرسيٍّ عالي الظهرِ بجوار النار ويرتدي قبعةَ التدخين، وكان شعره المستعارُ موضوعًا على الطاولة بجواره، التي كانت تحمل أيضًا زجاجةً من النبيذ الأحمر، وكأسًا مملوءةً حتى نصفها. كان الرجل يقرأ من كتابٍ كبيرِ الحجم كان مفتوحًا على ركبتَيه، والآن أغلقه هاردكاسل بتعبيرٍ واضح عن الأسف بعد أن وضع بحرصٍ مؤشرًا مرجعيًّا عند الصفحة التي كان يقرؤها. وكان المشهد كله يكاد يقترب من تصويرٍ حيٍّ لصورته كقاضٍ، وأمكنَ لدارسي أن يتخيَّل أنه رأى الرسام وهو يتحركُ بمهارة عبر الباب، بينما الرجل جالس في مكانه. ومن الواضح أن أحدَ الخَدَمِ قد اعتنى بالنار لتوِّه فكانت تشتعل بشدَّة؛ ومن بين صوتِ الفرقعة وطقطقةِ الحطب، اعتذر دارسي عن زيارته في وقتٍ متأخِّر.
قال السيد سيلوين: «لا بأس بذلك. إنني نادرًا ما أنتهي من القراءة قبل حلول الواحدة صباحًا. يبدو عليك الارتباك. وأعتقد أن هذه حالة طارئة. فما هي المشكلة التي تُزعج المقاطعة الآن؛ أهي صيدٌ جائر، أم أحداث شَغب، أم عصيانٌ جماعي؟ هل جاء بوني أخيرًا، أم أن أحدهم أغار على دواجن السيدة فيلمور مرةً أخرى؟ اجلس فضلًا. يُقال إن ذاك الكرسيَّ ذا الظهر المنحوت مريحًا وسيتحمَّل وزنك.»
بما أن ذاك كان الكرسيَّ الذي يجلس عليه دارسي عادةً فكان واثقًا تمامًا من أنه سيتحمَّل وزنه. جلس دارسي على الكرسيِّ وقصَّ قصته كاملةً لكن بإيجاز، فأشار إلى الحقائق البارزة من دون أن يُعلِّق عليها. واستمع السير سيلوين إليه في صمتٍ ثم قال: «لننظر إن كنتُ قد فهمتُ ما قلتَ بصورة صحيحة. كان السيد جورج ويكهام وحرَمه والكابتن ديني يتَّجهون على متنِ عربةٍ مستأجَرة إلى بيمبرلي حيث ستقضي السيدة ويكهام الليلة السابقة لحفل الليدي آن. وعند مرحلةٍ ما ترك الكابتن ديني العربة حيث كانت في غابة بيمبرلي، بسبب خلافٍ دبَّ بينهما على ما يبدو، وتبعه ويكهام وطلب منه أن يعودَ إلى العربة. وساد القلق حين لم يُعاود أيهما الظهور. وقالت السيدة ويكهام والسائق المدعوُّ برات إنهما سمعا طلقاتٍ ناريةً بعد مرور ١٥ دقيقة، وبالطبع حين خافت السيدة ويكهام أن تَلْقى حتفَها أُصيبت بالاهتياج وأمرَت سائق العربة أن يتقدَّم نحو بيمبرلي بأقصى سرعة. وبعد أن وصلت وقد بلَغ منها الخوفُ مبلغَه، بدأت أنت البحث في الغابة، وكان معك الكولونيل الفيكونت هارتليب والمحترم هنري ألفيستون واكتشفتم أمر جثة الكابتن ديني، وكان ويكهام جاثيًا عليه ينتحب وعلى ما يبدو أنه كان مخمورًا، وكان وجهه ويداه ملطَّخَين بالدم.» ثم توقَّف عن الحديث بعد هذا التذكُّر الفذ وأخذ بضع رشفاتٍ من النبيذ قبل أن يُعاود الحديث. «هل دُعيت السيدة ويكهام إلى الحفل؟»
كان تغييرُ مسار الأسئلة غيرَ متوقَّع، لكن دارسي تقبَّل الأمر بهدوء. «لا. كنا لنُرحبَ بها بالطبع في بيمبرلي في أيِّ وقت لو كانت حضرَت إلينا على نحوٍ غيرِ متوقَّع.»
«لم تكن مدعوَّة لكنكم كنتم لتُرحِّبوا بها، على عكس زوجها. من المعروف أن جورج ويكهام غيرُ مرحَّب به تمامًا في بيمبرلي.»
قال دارسي: «ليس الأمر على هذه الشاكلة.»
وضع السير سيلوين كتابه على الطاولة بهدوء. وقال: «شخصيته معروفة تمامًا على المستوى المحلِّي. كانت بدايته جيدة أثناء طفولته، لكنه انحدر إلى سلوكياتٍ همجية ومنحلَّة، وهذه نتيجة طبيعية لتعريضِ شابٍّ يافع إلى أسلوب حياة لم يكن ليأمُلَ الوصول إليه يومًا باجتهاده الشخصي، وإلى رفاقٍ من طبقة اجتماعية لم يكن ليطمحَ قط إلى أن ينتميَ إليها. هناك شائعاتٌ تقول بأن هناك أسبابًا أخرى إلى العَداوة بينكما، شيء له علاقة بزواجه من أخت زوجتك؟»
قال دارسي: «الشائعات موجودة دائمًا. لكن جحوده لذِكْرى والدي وقلة احترامه لها بالإضافة إلى الاختلافات بين ميولنا واهتماماتنا تُعد كافيةً لتفسير قلة أواصر المودة. لكن ألَسْنا بهذا نشردُ بعيدًا عن سبب زيارتي؟ لا يمكن أن تكون هناك صلةٌ بين علاقتي بجورج ويكهام ومقتل الكابتن ديني.»
«اعذرني يا دارسي، لكنني أخالفك الرأي. هناك صلات كثيرة. لقد وقعت جريمةُ قتل الكابتن ديني — إن كان قد قُتِل — في أملاكك والشخص المسئول هو نسيبك، ومن المعروف أنكما على خلاف. إنني أعبِّر عن الأشياء الهامَّة حين تُراود ذهني. وموقفك هذا يتَّسم بشيءٍ من الحساسية. هل تُدرك أنه لا يمكنك أن تُشارك في هذا التحقيق؟»
«هذا هو سببُ وجودي هنا.»
«سيتعيَّن علينا أن نُخبر المسئول الأعلى بالطبع. أعتقد أنك لم تفعل هذا بعد.»
«فكَّرت أنَّ من الأهم أن أخبرك أنت أولًا.»
«أنت محقٌّ في ذلك. سأخبر السير مايلز كالبيبر بنفسي وسأُقدِّم له بالطبع تقريرًا كاملًا بوضع التحقيق أولًا بأول. ولكنني أشكُّ في أنه سيُولي الأمر اهتمامًا شخصيًّا. فمنذ تزوَّج بزوجته اليافعة الجديدة وهو يقضي الكثير من الوقت في الاستمتاع بوسائل الترفيه المتعددة في لندن أكثر من انتباهه للشئون المحليَّة. ولست أنتقدُه في ذلك. فمنصب المسئول الأعلى دافع للحسد إلى حدٍّ ما. فواجباته كما تعلم هي فرض القوانين وتنفيذ القرارات التنفيذية للقُضاة، وأيضًا الإشراف على الموظَّفين الأصغرِ تحت إمرته وإدارتهم. وحيث إنه لا يتمتع بأي سُلطة رسمية عليهم فمن الصعب رؤيةُ القيام بذلك بصورةٍ فاعلة، لكن وكما هو حال الكثير من الأشياء في بلادنا، فإن النظام يعمل بصورةٍ مُرضِية ما دام متروكًا للمحليِّين. أنت تذكر السير مايلز بالطبع. لقد كنت أنا وأنت اثنين من القضاة الذين تلا القسَم أمامهم في الجلسات الفصليَّة قبل عامين. سأتواصل أيضًا مع الدكتور كليثرو. قد لا يكون قادرًا على الاضطلاعِ بدورٍ نشط في هذه القضية، لكنه ذو قيمة كبيرة في المسائل القانونية، وأنا لا أرغب في أن أتحمَّل المسئولية كلها. أجل، أعتقد أن الأمر سيسير على ما يُرام بيننا. سأصحبك الآن عائدَين إلى بيمبرلي في عربتي. سيكون من الضروريِّ إحضارُ الدكتور بيلشر قبل أن تُحرَّك الجثة، وسأحضر معي عربة المشرحة واثنين من الضبَّاط الصغار. أنت تعرفهما؛ توماس براونريج الذي يحب أن يُشار إليه بآمر البلدة لتمييز أقدميته، وويليام ميسون الشاب.»
ومن دون أن ينتظر تعليق دارسي، نهض هاردكاسل وتحرَّك نحو جرس الحبل وسحبه بقوَّة.
دخل باكل بسرعةٍ كبيرة أوحت إلى دارسي أنه كان ينتظر خارجَ الباب. قال له سيِّده: «معطفي الكبيرُ وقبعتي يا باكل، وأيقظ بوستجيت إن كان نائمًا، وإن كنت أشكُّ في ذلك. أريد تجهيز عربتي. سأذهب إلى بيمبرلي، لكنني سأُعرِّج في الطريق على اثنين من الضبَّاط الصغار والدكتور بليشر. وسيمتطي السيد دارسي صهوةَ جواده في رفقتنا.»
اختفى باكل في ظُلمة الرواق، وأغلق البابَ الضخم بما بدا أنه قوة غير ضرورية.
قال دارسي: «أعتذر أن زوجتي قد لا تكون قادرةً على الترحيب بك. آمُل أن تأخذ هي والسيدة بينجلي قسطًا من النوم هذه الليلة، لكنَّ الخَدَمَ الأعلى شأنًا لا يزالون مستيقِظين كما أن الدكتور ماكفي موجودٌ في المنزل. كانت السيدة ويكهام في حالةٍ من الإعياء الشديد حين وصلَت إلى بيمبرلي وفكَّرتُ أنا والسيدة دارسي أنه من الأفضل أن نحضر لها رعايةً طبية عاجلة.»
قال السير سيلوين: «وأعتقد أنه من الأفضل أيضًا أن يَحضُر الدكتور بيلشر التحقيقَ في هذه المرحلة المبكِّرة؛ حيث إنه الطبيبُ الذي تستدعيه الشرطة لتقديم المشورة لها في الأمور الطبِّية. لا بد أنه أصبح معتادًا على تأريقه في نومه. هل يفحص الدكتور ماكفي سجينك؟ أعتقد أن جورج ويكهام في مكانِ احتجازٍ شديد الحراسة.»
«ليس في مكانِ احتجازٍ شديد الحراسة، لكنه تحت الحراسة باستمرار. كان كبير الخَدَم لديَّ وستاوتن والسيد ألفيستون معه حين غادرت بيمبرلي. كما فحصه الدكتور ماكفي، وقد يكون الآن نائمًا، ومن غيرِ المرجَّح أن يستيقظَ قبل مرورِ بضعِ ساعات. سيكون من الأفضل لو أنك جئتَ بعد بزوغ الفجر.»
قال السير سيلوين: «من الأفضلِ لِمَن؟ إن أكثر المنزعجين في هذا الأمر هو أنا، لكن لا بأس بهذا إن كانت المسألةُ تتعلَّق بأداء الواجب. وهل تدخَّل الدكتور ماكفي بأيِّ طريقة فيما يتعلق بجثةِ ديني؟ أعتقد أنك حرَصت على ألا يمَس أحدٌ الجثةَ إلى أن أحضُر.»
«جثة الكابتن ديني ترقد على طاولةٍ في غرفة السلاح وهي تحت حراسةٍ مشددة. فكَّرت ألا نقوم بأي شيء يُمكِّننا من معرفة سبب الوفاة حتى حضورك.»
«أنت محقٌّ في ذلك. سيكون من المؤسف إن أشار أحدٌ إلى أن الجثة قد مُسَّت. حبَّذا بالطبع لو أن الجثة تُركت في الغابة حيث كانت ترقد حتى تطَّلع عليها الشرطة، لكنني أتفهَّم أنك لم تستطِع فعْل ذلك وقتها.»
كان دارسي يريد أن يقول إنه لم يُفكِّر قط في أن يترك الجثة حيث وجدها، لكنه فكَّر أنه من الحكمة أكثرَ أن يُقلل كلامه بقدْر ما يُمكنه.
كان باكل قد عاد الآن. فارتدى السير سيلوين شعرَه المستعار الذي كان يرتديه باستمرارٍ حين يؤدي عمله الرسميَّ كقاضٍ للصُّلح، وساعده خادمُه في ارتداء معطفه الكبير وأعطاه قبَّعته. وبملابسه تلك وبمظهره الذي يدلُّ على أنه مخوَّلٌ للقيام بأي شيء متوقَّعٍ منه، بدا الرجلُ أطولَ وأكثر وقارًا باعتباره ممثلًا للقانون.
تَقدَّمَهم باكل إلى الباب الأمامي وسمع دارسي صوتَ المزاليج الثلاثة الضخمة وهي تُغلَق خلفهم، فيما وقفا ينتظران العربة في الظلام. ولم يُظهر السير سيلوين أيَّ تململ من تأخُّر العربة. وقال: «هل قال جورج ويكهام أيَّ شيء حين وصلتم إليه وهو جاثٍ بجوار الجثة؟»
كان دارسي يعلم أن هذا السؤال سيُطرَح عاجلًا أو آجلًا، وليس من جانب هذا الرجل فقط. قال دارسي: «كان منفعلًا كثيرًا، بل وكان ينتحبُ حتى، وبالكاد كان كلامه مفهومًا. كان من الواضح أنه شرب الكثير. وبدا أنه يعتقد أنه مسئول بطريقةٍ ما عن وقوع تلك المأساة، ربما لأنه لم يستطِع أن يُقنع صديقه بالعدول عن مغادرة العربة. فالغابة كثيفةٌ بما يكفي لتُمثِّل ملجَأً لأي طريد يائس، ولن يقوم أيُّ رجل حصيف بالسير فيها وحيدًا بعد هبوط الظلام.»
«أُفضِّل يا دارسي أن أسمع الكلمات عينها التي نطق بها. لا بد أنها طُبِعت في ذهنك.»
كانت الكلمات قد طُبعت في ذهنه بالطبع، وكرَّر دارسي ما كان قد سمعه. «لقد قال: «لقد قتلتُ أعزَّ صديق لدي؛ صديقي الوحيد. هذا خطئي أنا.» ربما أكون قد خلطتُ بين ترتيب الكلمات لكن هذا هو فَحْوى ما سمعت.»
قال هاردكاسل: «إذن لدينا اعتراف؟»
«بالكاد يُعد اعترافًا. لا يمكن أن نكون واثقين من الشيء الذي كان يعترف به، ولا من حالته التي كان فيها في تلك اللحظة.»
كانت العربة العتيقة الضخمة والمثيرة للإعجاب تُقعقع الآن آتيةً عند زاوية المنزل. وقبل أن يركب فيها السير سيلوين، التفت إلى دارسي ليقول له كلمةً أخيرة: «أنا لا أبحث عن التعقيدات. لقد عَمِلنا معًا كقضاةٍ بضعَ سنوات، وأعتقد أننا يفهم بعضُنا بعضًا. وأنا واثقٌ تمامًا من أنك تعرف واجباتك، كما أعرف أنا واجباتي. إنني رجلٌ بسيط يا دارسي. إنني أميلُ إلى تصديق المرء حين يعترف، وهو ليس تحت الإكراه. لكننا سنرى، سنرى، ولا ينبغي لي أن أضعَ النظريات قبل رؤية الحقائق.»
وفي غضونِ دقائقَ كان جواد دارسي قد أُحضِر إليه، فامتطى صهوتَه وبدأت العربةُ تتحرك محدِثةً صوتَ قعقعة. وانطلق الرجلان في طريقهما.