١

وحين قضى نوستراداموس نحبه، دُفن على نحوٍ طولي في كنيسة كولدلييه بمنطقة «سالون». وأقامت له زوجته شاهدًا نُقش فيه: «هنا ترقد عظام ميشيل نوستراداموس العظيم، الذي شهد الجميع بأن قلمه شبه المقدس كان جديرًا بأن يسجل — بموجب دفقات الأنجم — أحداث المستقبل في العالم كله. لقد عاش ٦٢ عامًا وستة أشهر وسبعة عشر يومًا، وتُوُفِّيَ في «سالون» عام ١٥٦٦م. أيها الخَلَف، لا تزعجوا راحته العذبة! إن آن بونس جيمِل ترجو لزوجها السعادة الحقة.»

بيد أن الراحة العذبة للمتنبئ قد أُزعجت؛ ففي إبان الثورة الفرنسية، قام عدد من الجنود بكسر حائط الكنيسة كيما يروا قبره. وقيل بعد ذلك إن الجنود ألقوا نظرة فاحصة على القبر داخل الجدار، ثم ولوا صارخين في ظلمة الليل، وكانوا على حق في ذلك؛ فقد قرءُوا تاريخًا مكتوبًا على القبر، وذلك التاريخ هو اليوم والشهر والعام — بالضبط — الذي اقتحم فيه الجنود الجدار الذي يضم قبر نوستراداموس!

وقد أُعيد دفن الجثمان بعد ذلك في كنيسة «سان لوران» في «سالون»، ويمكن مشاهدة القبر وصورة المتنبئ الكبير هناك حتى اليوم.

ترك محبٌّ كنيسة المادلين وراءه، ودلَف إلى شارع روايال الأنيق الهادئ الذي كان دائمًا يبعث في نفسه سكونًا جماليًّا، وطاف ببصره في فترينات المحلات التي تلمع تحت شمس مايو الحلوة، وتسمح له بالتجول بعينيه في المعروضات البارقة الزاخرة. البوتيك الشهير لصاحبته الأميرة الروسية التي تعرض أحدث الكرافتات واللِّفاعات لبيير كاردان وإيف سان لوران، التي كان يُعجَب بها لا لرمزها الطبقي المتميز ولكن بوصفها قِطعًا فنية جمالية تهز فؤاد الفنان فيه. ثم مقهى روايال الشهير الذي كان يحب الجلوس فيه منذ أن قرأ في كتاب لتعليم الفرنسية أن هذا المقهى يقدم أفضل قهوة باللبن في باريس. وبعد أن راجع ساعة يده، عرَّج على المقهى ودخله ثم جلس إلى مائدة داخلية تطل على الشارع، وجاءته الفتاة في زي الجرسونات فطلب منها القهوة باللبن، ثم سرَّح طَرْفه في الطريق، والغاديات الرائحات. فكأنما هو في جروبي سليمان، وقد انعقد مجلس الشلة المعروفة وهو في وسطهم يطل على شارع قصر النيل ليرى الحياة من خلف النافذة، وحملته هذه الفكرة إلى العودة بخياله إلى حياته في القاهرة. لقد ترك في مصر حياة حافلة بالأصدقاء والنشاط الفني والثقافي، والتردد على دور السينما والمتاحف والمكتبات والندوات والمحاضرات والمسارح، واشترك في نادي السينما في أول إنشائه ومسرح الجيب، حيث شاهد أعمالًا طليعية تركت في نفسه أثرًا لا يُمحى.

انثالت هذه الأفكار تترى على ذهن محب وهو يحتسي القهوة باللبن في روايال، ثم وهو يسير الهُوَيْنَى في الشارع، ويظهر على ميدان الكونكورد الفسيح، أكبر ميدان في العالم … وأجمله؟ هذا فيه نظر. الميدان ضخم، ترصِّعه التماثيل من كل لون وصنف، وتعلو في جزء منه المِسلة المصرية الفارعة المحاطة بسياج حديدي، والتي لا تخلو أبدًا من كوكبات السائحين الذين يحاولون قراءة ما هو مكتوب عليها، كان نصًّا بالهيروغليفية عن رمسيس الثاني ورمسيس الثالث، كما يذكر الشرح الفرنسي، بالإضافة إلى شرح كيفية نقل المِسلة إلى فرنسا من مصر.

هذه المِسلة كانت قائمة منذ آلاف السنين أمام معبد الأَقصر، هي ومِسلة ثانية، وربما ثالثة ورابعة. ولكن أول بيان لها يذكر أنها كانت واحدة من اثنتين ملقاتين في إهمال ومطمورتين أمام بقايا معبد الأَقصر. كان ذلك في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي. وأول من فكر في نقلها إلى فرنسا هو طيب الذكر العلَّامة فرانسوا شامبليون الذي حل طلاسم اللغة المصرية القديمة. وكان ذلك إبَّان رحلة له إلى مصر، وأرسل من الأَقصر عام ١٨٢٩م إلى أخيه لأول مرة بذلك الاقتراح بعد أن شاهد المِسلتين، وبعد عودته إلى فرنسا، أرسل إلى وزير البحرية الفرنسي خطابًا يبين فيه دهشته من عدم وجود أي أثر يمثل «حملتنا المصرية المدهشة» في الأراضي الفرنسية. وقد اختار المِسلة اليُمنى؛ لأن حالتها جيدة، وهي أفضل من مِسلة كليوباترا في الإسكندرية (الأولى الآن على شاطئ التِّيمز والأخرى في سنترال بارك بنيويورك). وقد أهدى محمد علي باشا مِسلتَيِ الأَقصر لفرنسا بعد إلحاح المسيو ميمو القنصل الفرنسي بالقاهرة وقتها. وتم بناء سفينة خاصة تُدعى «الأَقصر» في فرنسا لنقل المِسلة الأولى التي اقترحها شامبليون، وعُهد إلى المهندس الفرنسي «لي باس» بنقلها من الأَقصر عبر النيل إلى البحر الأبيض إلى بحر السين في فرنسا. وتم هذا بجهد وصبر عظيمين، وجرى الاحتفال بتنصيب المسلة في هذا الموقع الذي يشخَص إليه محب ببصره الآن، في ٢٥ أكتوبر ١٨٣٦م بحضور لويس فيليب ملك فرنسا وزوجته الملكة و٢٠٠ ألف مواطن فرنسي يهتفون فرحين مع أصوات الأبواق والموسيقى.

وجالت عينا محب إلى موقع آخر، يقوم فيه تمثال من تماثيل الميدان. هنا، نعم هنا عام ١٧٩٣م. وغمرته نوبة البُحْران المذهل التي كان يظن أنها انتهت بسفره إلى فرنسا. ومن لا يفهم معنى كلمة «بُحْران» عليه بالرجوع إلى القاموس، أو إلى كتاب الدكتور عوض «على هامش الغفران».

رأى الموكب ينطلق بما فيه عربة الملك عبر شارع روايال، والملك واقف يحيط به الحرس، وألقى ببصره إذ أشرف على الميدان، الميدان الذي يعرفه باسم الثورة، إلى حيث مكان التمثال الذي ينظر محب إليه بعد كل هذه السنوات، فرأى مشهدًا آخر … المِقصلة. وترجل الملك من العربة، وصعِد الدرَج الصغير في خطًى ثابتة، في قميص أبيض ناصع. وعندما وقف على خشبة المقصلة، واجه الجماهير، وأعلن أنه يموت بريئًا، وأنه يعفو عن قاتليه، ثم دقت الطبول بعد ذلك كي تطغى على صوت الملك، الذي تقدم إليه الجلاد بخشونة وربط يديه وراء ظهره بعد اعتراض الملك، وطلب القَس منه أن يمضي في تنازله الروحي إلى هذا المدى أيضًا، ثم هوى النصل ففصل رأس الملك عن جسده، وأمسك الجلاد بالرأس يعرضه على الجمهور الذي علا هتافه وأسرع أفراده يغمسون أيديهم في دماء الملك.

هكذا كان هذا الميدان منذ ما يقرب من مائتي عام، وهو اليوم رمز لمدنية وحضارة، وأسلوب في الحياة جِدِّ مختلف عما شهده من وقائع التاريخ.

أفاق محب من هذه الرؤيا وهو ما زال في الميدان. كانت هذه النوبات الغريبة تنتابه من زمن طويل، منذ كان عمره أربعة عشر عامًا. كان متعودًا أن يستأجر دراجات مع عدد من أصدقائه يجوبون بها طرق المعادي الهادئة، ويتسابقون ويضحكون. ومرةً، كان محبٌّ مسرعًا بدراجته حين فاجأته سيارةُ نقل قادمةٌ في مواجهته، فكان رد فعله الفوري هو الانحراف سريعًا إلى اليمين، مما أنقذه من موت محقق، ولكنه اصطدم بجدار من الأسمنت على يمينه، مما جعله ينقذف من مقعد الدراجة ويصطدم رأسه بالجدار. وجاء الأصدقاء فزعين، وأعانوه على النهوض، ولم يكن هناك أي جرح في الرأس، فنفضوا الغبار عن ملابس محب، الذي كان ذاهلًا عن كل شيء، وأرجع أصدقاؤه هذا الذهول إلى الصدمة العصبية من جراء ما حدث من ظهور سيارة النقل أمامه، وإفلاته من موت محقق. ولم يكن أيامَها تفكيرٌ في الذَّهاب إلى طبيب أو مستشفى؛ فتعاون الجميع على اصطحاب محب إلى منزله، وعادوا بدراجته لإرجاعها. أما ما حدث لمحب فشيء عجيب؛ فقد بدا فترةً فاقدًا للذاكرة، وكان كذلك حين عاد للمنزل ودلَف إلى حجرته وتمدد على سريره.

ثم بدأ أول بُحْران له في زيارة مع مدرسته إلى قلعة صلاح الدين، فبينما كان ينظر إلى جامع محمد علي، إذ غامت عيناه ووجد نفسه وسط جمع غفير في ملابس مزركشة وعلى أحصِنة، بينما هو كان راجلًا وفي ملابسه العادية. كان الركب يتقدم ببطء صاعدًا إلى قلعة صلاح الدين، والأبواق تصدح، إلى أن وصل الموكب إلى باب العَزَب حيث كان الحَوْش ضيقًا، فانغلقت الأبواب وراء الفرسان، ثم بدأ جنود في كل الجوانب يطلقون النار على هؤلاء الفرسان. أدرك محب أنه يشهد أحداث مذبحة القلعة أيام محمد علي الكبير، ولكنه ليس في السينما ولا المسرح، بل هو في وسط الحدث كما وقع أيامها. وكان الرَّصاص يتناثر ويئز من حوله ولكنه لا يصيبه، بل ينحرف عنه دائمًا. واعتراه ذهول لم يُفِقْ منه إلا بعد دقائق، فهل كان ما رآه حلمًا أم واقعًا؟ لم يستطع أن يبت في ذلك الأمر إلا بعد أن حدث له البُحْران التالي بعد شهر ونصف، ودام فترة أطول من الحادثة الأولى. وجد نفسه ناظرًا مهرجانات سابغة واحتفالات عظيمة، ولكن الناس في ملابس مختلفة عن الحاضر؛ عرَف من بين الوجوه ومن الملابس الخديوي إسماعيل، يحيط به وزراؤه وحراسه، وكان في انتظار الإمبراطورة أوجيني، التي ما لبثت أن وصلت يحيط بها كوكبة من سدنتها الفرنسيين. واستقبلها الخديوي إسماعيل بتقبيل يدها، ثم اصطحبها إلى العربة الملكية التي ستُقِلُّهما إلى حفل افتتاح قناة السُّوَيس. ووجد محب نفسه في وسط الاحتفالات والصواريخ النارية، إذ الجميع يحتفلون بصخب أمام قناة السويس. ثم أفاق محب من نوبته تلك التي أكدت له أن ما يحدث مستمر، ولم يكن يدري كيف يتصرف أمام هذا «المرض» الذي أصابه. هل يخبر والديه؟ هل يذهب إلى طبيب؟ بيد أنه لم يفعل أيًّا من ذلك؛ ربما لصغر سنه وقلة خبرته. وحين التحق بقسم التاريخ، وجد أن هذه النوبات يمكن أن تكون في صالحه؛ إذ كانت تتيح له أن يشهد أحداثًا تاريخية رأي العين، مما قد يمكِّنه يومًا من كشف أسرار لا يعرفها أحد. وكانت تتيح له أيضًا إحساسات غامضة بأشياء قد تحدث مستقبلًا، والغريب أن تلك النوبات — مهما طال زمنها الخيالي — لم تكن تستغرق في الواقع سوى دقائق معدودات فحسب، وحين يعود إلى وعيه يجد نفسه في المكان ذاته، ومع من كان معهم، وهم يظنون أنه قد شرد بذهنه قليلًا، إلا من كان يعلم موضوع نوباته تلك.

وعبر محب الميدان، وتوقف أمام المِسلة، وضرب ببصره عبر البوليفار العريض؛ فرأى قوس النصر في الأفق، وبدا له قريبًا منه ولكن تجرِبته السابقة جعلته يعرف أن الطريق إليه طويل، وما هذا إلا خداع للبصر. «وما هي إلا ذكرى للبشر» «لمن أراد أن يذَّكر.»

كان اليوم يوم أحد، وهو اليوم الذي يخصصه محب في كل شهر لارتياد متحف اللوفر وغيره من المتاحف الباريسية؛ لأنه يعطي لنفسه إجازة من التوفر على الدراسة وارتياد المكتبات، ليسرِّح طرْفه في أرجاء المتاحف ممتِّعًا ذهنه وعينيه على السواء. وكان قد اتفق مع زميلته المصرية كميلة الجرَّاح التي تدرس في «البوز آر» لمقابلته أمام اللوفر ليريا معًا لأول مرة عددًا من الأجنحة التي تشوقهما. وكان عليه للوصول إلى مبنى اللوفر المهيب أن يَدلِف إلى شارع ريفولي الموازي لحدائق التويلري، ويسير فيه إلى أن يبلغ صدر المتحف الذي سيلتقي عنده بكميلة. وكان ريفولي من الشوارع المحببة إليه؛ لامتلائه بالبوتيكات الفنية التي تبيع نماذج سياحية لكل ما يجذب الزائر إلى فرنسا، وتطلَّع برهة في فترينة محل لبيع طوابع البريد والعملات التذكارية وتساءل: متى يا تُرى سيبدأ مشروعه في جمع الطوابع الخاصة بأعلام الفن والأدب الذي انتواه منذ فترة؟ وكان قد فكر في ذلك بعد أن ابتاع طابعًا نادرًا من سوق البراغيث، أي سوق الكانتو الفرنسي، عليه لوحة للرسام الشهير فان جوخ.

وهذه التماثيل المصغرة للأعمال الفنية المعروفة؛ رودان ومفكِّره وقُبلته، وحتى فينوس دي ميلو، وهي إحدى الواجبات المتكررة التي يتطلع إليها حين زيارة اللوفر. ووصل إلى الساحة التي سيلقى كميلة عندها، وكالعادة لم يجدها قد وصلت بعدُ مع أن الموعد قد حان. طبعًا، هي فنانة، والفنانون لهم طباعهم وغرائبهم. وكانت كميلة هي أول من علَّقت على نوبات البُحْران التي تنتابه، وكان تفسيرها لها مما طمأن محبًّا إلى أنها يمكن أن تكون ذات منفعة له في آخر الأمر. سألته كميلة عما إن كان ما يراه يتعلق بالماضي فقط، فقال لا؛ فهو يرى أشياء ومواقف لا يدري عنها أي شيء، وهي بالتحديد لم تحدث في الماضي، فأجابته أن ما يحدث له هو ما حدث لمتنبئ فرنسي قديم يُدعى نوستراداموس الذي كتب ما كان يراه في نوباته عن المستقبل، وهي تنصح محبًّا أن يكتب ما يراه في بُحرانه، فمن يدري؟ وقالت له إن بلدة نوستراداموس هنا في فرنسا، وقد زارتها وبها متحف عنه، وطمأنته بأن لا يقلق مما يحدث له وأن يستغله كما استغله نوستراداموس فيُكتب له الخلود!

•••

وأقبلت كميلة مسرعة ناهدة، كانت فتاة صغيرة الحجم، سمراء، سريعة الحركات. صافحت «محب» وجذبته من يده إلى الجانب الآخر من اللوفر.

– إلى أين تذهبين؟ اللوفر من هنا.

– آه، ولكني غيرت رأيي، لا بد أن أزور متحف الفن الحديث؛ الجي دي بوم، وأراهن أنك ستسعد به. هل زرته من قبل؟

– طبعًا، ولكن لا مانع من زيارته الآن معك، إني واثق أن زيارته بصحبتِكِ ستكون ممتعة ومفيدة.

وانطلقا وهما يتحادثان عن آخر أخبار دراستيهما.

– إني مضطرة للذَّهاب اليوم وربما في الأيام القادمة كذلك، فقد كلفني أستاذي في الكلية بكتابة بحث عن لوحة لِمَانيه. كنت أفضل أي لوحة أخرى لفان جوخ؛ فهو الأثير لديَّ، كما أنني لم أدرس مانيه بما فيه الكفاية، ولكن عليَّ أن أبدأ الآن.

– سنرى ما يحويه المتحف من أعماله. أنا أحب جدًّا لوحات كلود مونيه، وهي التي أتردد على الجي دي بوم لتأملها، كما أنني في بداية إعجاب غامض بسيزان ورينوار.

– رينوار! هل تحب النوع الذي يرسمه من النساء؟

قالت هذا وهي تضحك، فاحمر وجه محب.

– أعرف ما تقصدين، ولكني لا أرى في لوحاته إلا التعابير الفنية.

– قل التعابير الإيروسية. أنا أعرف أنك تهتم بالتاريخ والمؤرخين، فما اهتمامك برينوار وغيره؟

– إني أقرأ كثيرًا في الفن والتصوير، وقد شاء قدري دراسة التاريخ، وإن كنت أفضِّل أن أفعل ما تفعلينه أنت. غالبًا ما تطرح الأقدار بالمرء في غير ما يحب، هذا ما حدث مع توفيق الحكيم، أتذكرين؟

– طبعًا، طالما قرأت كتبه عن باريس قبل مجيئي، وربما تفعل أنت مثله وتتحول إلى دراسة الفن، أو الأدب إن كنت تفضل ذلك.

– تعرفين صعوبة التحويل؛ إني هنا في بعثة للجامعة، ولست مثلك في دراسة حرة.

وكانا قد وصلا إلى المتحف الصغير الذي امتد أمامه صف طويل من الزوار ينتظرون دورهم. المتحف صغير ولا بد من توسيعه.

[كان العام هو ١٩٦٩م، ولكن «محب» كان في نوباته كأنما يستشرف الغيب، فرأى كيف أن فرنسا كانت تدرك ذلك، وأنها قامت في عام ١٩٨٦م بنقل لوحات الانطباعية كلها إلى متحف جديد فخم ضخم هو متحف دورساي الذي أقامته مكان محطة دورساي للسكك الحديدية.]

كان محب في وقفته في الطابور يفكر في كميلة وحياتها في باريس، كان يعرف أنها خريجة الفنون الجميلة بالزمالك، وأن أهلها ميسورو الحال، واستطاعت أن تخرج من مصر بعد حرب ١٩٦٧م مباشرة — وكان الخروج آنذاك أشبه بالمستحيل — وأنها تدرس للأستاذية في الفن ببطء وتعيش حياة حافلة في باريس. وكان يسمع شائعات عن صداقتها التي تقارب العَلاقة الدائمة مع رامي، الملحق الثقافي المصري، وعن اعتزامهما الزواج قريبًا أو بعد أن يعودا إلى مصر، ولا يعرف كيف تتفق تلك الشائعات مع ما تقوله كميلة تلميحًا إنها تعتزم البقاء في فرنسا بعد حصولها على درجتها العلمية.

– أنا دارسة حرة نعم، وهذا يزيد من صعوبة حياتي هنا. ولكنه، من ناحية أخرى، يجعلني حرة أيضًا في حياتي ودراستي، ولست ملزمة بإشراف مكتب البعثات.

– والله عندكِ حق؛ إن ارتباطي بجامعتي في القاهرة يقيد من نطاق دراستي ويحددها بالموضوع الذي خرجت لإنجازه. ولو أردت أن أغير فيه ولو قِيد أنملة فلا بد من الرجوع إلى مكتب البعثات الذي يرجع بدوره إلى الكلية الموفِدة. لشد ما أتمنى لو كنت مثلك.

– حيلك، حيلك. إنك لا تدري الصعوبات التي تكتنف الحضور إلى عاصمة كباريس على حسابك. أنا أيضًا أكاد أحسدكم على الاستقرار الذي تعيشون فيه.

– هذه هي المسألة، كما يقول هاملت. لا أحد يجد الراحة في نظام حياته.

ودَلَفا أخيرًا إلى المتحف، وسط زحام شديد كان مألوفًا لديهما لكثرة ما ترددا عليه من قبل. وكانت هناك بضع كتابات منتثرة هنا وهناك عن الانطباعية، وجد محب كميلة تُخرج ورقة وقلمًا وتنقل منها ما تريد، ووقف هو يسرِّح الطرْف في اللوحات التي حوله، وينظر إليها من بعيد.

– ما هي لوحة مانيه التي ستكتبين عنها؟ لا بد أنها لوحة المرقص.

– لا، إنها غداء على العشب، ولكني أريد أولًا أن أنقل ما كتبوه هنا عن مانيه.

وأخذت كميلة تكتب. وتعجب محب من سهولة تعاملها مع الفرنسية المكتوبة، وود لو يصبح مثلها، وإن كان يعرف أنها قد درست في الليسيه فرانسيه في مصر.

لوحة الشعراء التي تجمع بين رامبو وفيرلين. وربما هذا أيضًا بودلير. لا بد من زيارة مقابر مونبارناس لزيارة ضريح بودلير وغيره من المشهورين. ولوحات كلود مونيه، أفضلها لديه «أزهار الخَشْخاش»، أطال النظر إليها، وشعر بنفسه في الحقل وسط الأزاهير وسنابل القمح الذهبية. هل يا تُرى سيترجم سمير اسم هذه الأزهار بالعربية أم سيغيرها كما نصحه محب، أم سيتمسك بالترجمة الحرفية لها؛ إذ من يعرف كلمة الخَشْخاش؟ ثم إنها ستختلط في ذهن القارئ أيضًا بنبات الخَشْخاش الذي يستخرجون المخدرات منه. لقد نصحه محب أن يستبدل بها اسم «شقائق النعمان». وهذا مسموح به في الترجمة، وخاصة ترجمة الشعر، كما قرأ في مقالة لفيلسوف مصر ومفكرها في مَجلة الفكر المعاصر التي كانت تصدر في العصر الزاهي الغافل، قبل وقوع حرب ١٩٦٧م التي زلزلت جذور كل شيء حي وميت، واقتلعت الجلاميد الراسخات. وتتالت اللوحات أمام بصره: مونيه، وتولوز لوتريك، و…

ولمح من على البعد لوحات مانيه، ومنها غداء على العشب. ولكن كميلة كانت لا تزال تكتب، فواصل خواطره مرة أخرى. كميلة فتاة عصرية، مثقفة، فنانة. ولكن تصرفاتها بل وحريتها تثير القلق. هنا، ربما لا تَلفِت نظر المصريين والعرب، فهم قد تعودوا على قبول تصرفاتٍ بل والقيام بأعمال قد لا يقبلونها ولا يقومون بها في بلادهم. هذا عجيب طبعًا، ولكنه واقع الحال. هل تذكر قصتك مع سناء وما جرى لك معها؟ إذا كنت فعلت ما فعلت مع سناء، فلماذا لم تفعله مع ماري كلود التي عرَفتها في أوائل أيامك في باريس؟ طبعًا لأنها فرنسية ولا يمكن أن تطلب منها الحد من حريتها بأي شكل من الأشكال. ولهذا لم تستمر عَلاقته بماري كلود، واستمرأ في خياله أن يتصور أنه يقيم عَلاقة مع كميلة ثم يفرض عليها قيوده وغَيرته التي فرضها من قبل على سهير في القاهرة حتى خضعت له تمامًا واستقامت خِطبتهما.

ولم يشعر إلا بكميلة تجره جرًّا من يده، وهي تقول له: هيه، اصحَ. هيا بنا إلى مانيه.

ووقفت معه إلى جوار لوحة «غداء على العشب»، وراحت تدرسها وتلتهمها بعينيها، ثم قالت له كأنما هي تشرح: لقد رسم مانيه هذه اللوحة عام ١٨٦٣م، وقد رفض المحكمون عرضها في الصالون الرسمي؛ فعرضها مانيه في صالون «المرفوضين». وقد صدمت اللوحة المشاعر البورجوازية التي كانت سائدة في عصر إمبراطورية نابليون الثالث، وذلك لما قدمه الرسام فيها من ثلاث شخصيات معروفة — أحدهم زوج أخته — يتناقشون وهم جالسون على العشب ومعهم امرأة عارية، وكان العري في الرسم مألوفًا قبل ذلك ولكن في الشخصيات الأسطورية والتاريخية فحسب، فجاء مانيه وهدم ذلك كله بلوحته تلك التي استوحاها من منظر المستحمات على شاطئ «أرجانتي». وقد شكلت تيمة المستحمات بعد ذلك لازمة لكل رسام أتى بعده، خاصة سيزان، وحتى بيكاسو في بعض لوحاته. وقد وجد بعض النقاد تأثيرًا إفريقيًّا في بعض لوحات بيكاسو. ولَكَم أُحبُّ أن يدرسوا الأثر العربي في لوحات البعض ممن زاروا بلادنا، مثل ديلاكروا.

فشكرها محب على ذلك الشرح، وقال لها: أتعرفين، بالمناسبة، أن العرب قد وصلوا في فتوحاتهم الأوروبية إلى أفينيون واحتلوها فترة طويلة، حتى بعد موقعة بلاط الشهداء الشهيرة؟

– لا، لم أكن أعرف ذلك. هذا رائع حقًّا، هل ذهبت لزيارة تلك المواقع؟

– ليس بعد، ولكن لا بد أن أذهب؛ فموضوعي عن الحروب والصليبية وتاريخها، وهذا يتصل بفتوحات العرب والمسلمين في أوروبا.

– كما تقول، كما أخطط أنا أيضًا لزيارة منابع الإلهام في أوروبا كلها. وأنا أضع في خيالي منذ الآن خطة لرحلتي إلى الجنوب، حيث عاش فان جوخ؛ لأنني أنوي أن أتخصص فيه.

– إنه رسامي المفضل.

– لا بد إذن أن تزور أيضًا هاته الأماكن، ولا بد أيضًا من زيارة أمستردام لرؤية لوحاته في متحف رامبرانت. إني أتعجب كيف لا يخصصون متحفًا مستقلًّا لفان جوخ في بلده.

فقال لها محب، وهو في نوبة استشرافية، إن هولندا ستقوم بتشييد متحف فان جوخ في أمستردام بالقرب من متحف رامبرانت القومي في المستقبل.

ولم تتفهم كميلة ما قاله محب، وأضافت بعد فترة صمت: تستطيع أن تأتي معي إن أردت.

وطاف في ذهن محب صورةُ رامي وماذا يمكن أن يقوله لو علم بذلك، ولكنه أجاب باختصار: فلنتركها للظروف، ولكن هيا بنا قبل أن نخرج نلقي نظرات على اللوحات الموجودة.

وطافا معًا يرمقان اللوحات بانبهار: كنيسة أوفير، صورة الدكتور جاشيه، المطعم الباريسي، غرفة الفنان في آرل، المنزل الأصفر، مجموعة من البورتريهات الشخصية للفنان.

وبعد ما يقرب من الساعتين في محراب الفن والجمال، استعدا للخروج. وسحبت كميلة محبًّا إلى صالة المشتريات، ولكنه قال لها إنه لا يريد شيئًا، أما هي فقد أخرجت رزمة من الفرنكات، واشترت كُتيبين صغيرين عن متحف جي دي بوم، ونسخة ملونة كبيرة من لوحة غداء على العشب، ثم جذبت نسخة من لوحة رينوار «المستحمات» وقالت لمحب إنها تهديها له. ورغم احتجاجات محب، أعطتها له قائلة: هذه تمثل عاريات رينوار أفضل تمثيل، إني واثقة أنها ستكون من لوحاتك المفضلة.

واحمر وجه محب وهو يتناول اللوحة من كميلة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤