١٠
وكان الفراغ من كتابة هذه الخواطر الموسومة كتاب الاعتبار التي أملاها مولاي أسامة بن منقذ، وزير الملك الصالح صلاح الدين الأيوبي في يوم الجمعة المباركة الواقعة في غُرة شعبان المبارك من سنة ٥٨٠ﻫ. أدام الله حكم سلطاننا الصالح ومد الله في عمر مولانا ابن منقذ.
إضافةً إلى ذلك، فإن المخطوط الذي بين يدَيْ محب يبدأ من أوله بالصلاة على النبي الأمي واستلهام فضائله قبل البدء في تسطير خواطر الأمير ابن منقذ. إنه اكتشاف ثمين لا يعدله اكتشاف تاريخي أو أدبي منذ فترة طويلة. وكان محب قد بدأ ينقل المخطوط في كراسات يحضرها معه. بدأ ينقل محقِّقًا، ولكنه وجد أن التحقيق والتمحيص مع الكتابة سيستغرق وقتًا طويلًا ودراسة متأنية، فآثر أن ينقل المخطوط كما هو، على أن يراجعه ويحققه ويضبطه بعد ذلك. لا يدري كم من الوقت سيتاح له المجيء إلى قصر شانتال ودراسة المخطوط؛ فعَلاقته بها تأخذ منحًى جديدًا كل يوم، ولا يسلم الأمر من وقوع أي مشكلة قد تطيح بصلته بالفتاة. كانت عَلاقته بشانتال قد تطورت بتشجيع منها وقبول منه إلى عَلاقة كاملة بين محب وحبيبته، ولم يدرِ كيف انتهت إلى ذلك الشكل، ولكنه تذكر قول كميلة العارفة بأمور الطبيعة الإنسانية، وهي التي توقعت أنه لا يمكن أن تكون هناك فتاة فرنسية مثل شانتال كما وصفها محب بمقربة من فتًى مثل محب إلا وتكون العَلاقة الحميمة هي ذروتها.
وأفاق محب من كتابته على شفتين تقبلانه، وأحس بالنشوة تسري في أوصاله. واحتضنته شانتال حين نهض لاستقبالها، وغرقا معًا في قبلة طويلة حالمة. ولاح في ذهن محب مدى الفرق في عَلاقته بين شانتال وبين سهير. مع سهير يتطلب الأمر مناوراتٍ وخُططًا للفوز بقبلة. أما ما أبعد من ذلك فيُخطف خطفًا. طبعًا الظروف تختلف، ولكن أفكار محب التحررية كانت أكثر ارتياحًا للتقاليد الغربية عنها للتقاليد المصرية. وامتدت يداه تحتوي شانتال روحًا وجسدًا، بينما شانتال تحتويه هي الأخرى، وغرقا في بعضهما البعض. ولم يشعرا بشيء إذ شانتال تأخذ بيد محب وتَدْلِف معه إلى غرفتها. وتذكر محب اليوم الذي رأى فيه حجرتها الرحيبة لأول مرة، وكيف تفحصها بسرعة كعادته مع كل شيء جديد يراه، وكيف أذهلته: أناقة وترتيب، لوحات جميلة وبوسترات فنية على الجدران.
والآن، ترك نفسه ليَدَي شانتال تصحبه إلى كنبة وثيرة جلسا عليها وغطسا في طنافسها. وتعلقت نظراتهما ببعض مرة أخرى، واتقدت فيهما الرغبة الحسية الجارفة، فتقلبا في نيرانها العذبة ما شاء لهما التقلب. وغلب الاندفاع على محب، فمد يديه ليفك البلوزة من على صدر فتاته، ولما خلعها بدا له منظر بديع يغشاه اللون الوردي الذي يحبه. وتتابع المنظر رويدًا رويدًا، ومع كل خطوة تلهث الأنفاس، ولكن محب كان مصرًّا على استيعاب الجانب الجمالي من هذه التجرِبة إلى جوار كل الجوانب الحسية والعاطفية الأخرى.
ولما اكتمل المشهد، أبعد محب جسد شانتال العاري عنه مسافة كيما يتأمل هذا الإبداع العظيم. لم يكن يصدق أن هذا الجسد الأبيض الناصع، المكتمل الصنع، أمامه، بين يديه، ملك يمينه، يفعل به ما يشاء. لم يصدق نفسه؛ هذا الجمال، كله. كانت شانتال مثالًا لفينوس ميلو التي يراها في اللوفر، وإنما هي هنا تضطرم فيها الحياة والحركة والشوق والحب، والرغبة والحس. وتطلع إلى جسدها المرمري العاجي طويلًا، حتى أحست شانتال بأبصاره تخترقها فاجتاحها خجل طفيف، فتحركت نحوه وجذبته إليها … وغرقا في دوامة رغبة عارمة، حملتهما من الأريكة إلى الأرض، ثم انتهيا إلى فراش شانتال الوثير …
وسمع محب دقات ساعة الكنيسة البعيدة ثلاث مرات، قبل أن يهدأ تنفسه العاتي ويعود إليه هدوءه، وشانتال بين ذراعيه، يتناجيان. وغرق أيضًا في الفكر.
لم تكن أول مرة يتبادل فيها العَلاقة الحميمة مع شانتال. وتذكر ثانيةً كيف كانت أول مرة، وكيف كان وجِلًا يكاد يرتجف، بينما شانتال واثقة من نفسها، تهب له نفسها في دعة وبساطة وحب وعشق، تتبدى له في كل حركة من حركاتها. وكانت أول مرة قصيرة الأجل، ولكن عميقة المعنى. وتبادلا بعدها الأسرار الخصوصية، فعرَف محب طبعًا أنه ليس الرجل الأول في حياتها، وإن كانت هي لم تهتم كثيرًا بالاعتراف بذلك، وأنها مقلَّة في عَلاقاتها، وأنها معجبة به وبأسلوب حياته وسعيه وراء المعرفة وتحصيل الفنون ومتابعتها. وحكت له عن حياتها، فهي وحيدة مع والدها المشغول دائمًا بأعماله وأمواله، والذي يعيش منذ وفاة والدتها حياة جوالة غير مستقرة. وهي قد ركزت اهتماماتها في دراستها وحبها للفن والأدب والموسيقى.
وحكى لها محب عن حياته كذلك، منذ طفولته السعيدة، ودراساته، والإرهاصات الفنية الأولى في حياته، وغرامياته الطفولية، ثم في فترة الصبا فالشباب. وقص عليها كيف أن عدم التحاقه بقسم لغات قد أثر عليه في ضرورة تعلم الإنجليزية، ثم روى لها بإيجاز قصة حبه مع سهير التي ساعدته في تعلم الفرنسية.
وكعادة الفرنسيات، لم تحمل شانتال عَلاقة محب بسهير على أي محمل، بل تركت عواطفها على طبيعتها، وانطلقت في عَلاقتها بمحب إلى مداها وغايتها، وبدا كما لو أن هذه العَلاقة قد تأصلت في قلبها وعقلها معًا، إذ عاشت معه أوقاتًا مليئة بالحب والفن والمعرفة والحس. كان قد أقبل يساعدها في قراءاتها لكتب توفيق الحكيم التي لم تترجم إلى الفرنسية، وأرشدها إلى كتاب «زهرة العمر»، وكان من أحب الكتب إلى قلب محب حين قرأه في فترة الصبا عند صدوره في سلسلة كتاب الهلال، وجذبه إلى الفن وحب الفن.
وقد وجدت شانتال أن وضع محب المالي لا يساعده على الدراسة الجادة؛ فحاولت في بداية الأمر أن تقنعه بأن تعطيه أتعابًا مقابل الساعات التي يقضيها في مساعدتها على الدراسة العربية، ولكنه رفض ذلك رفضًا باتًّا، قائلًا إنه سيساعدها في كل ما تريد دون مقابل؛ فهي قد أمدته بذخيرة عمره، وأتاحت له الاطلاع على مخطوط سيغير مستقبله الأكاديمي تمامًا. وعندها عملت شانتال على أن يتدخل والدها لدى معارفه في التبادل الثقافي الفرنسي، حتى خصصوا منحة محترمة لمحب بوصفه من دارسي تاريخ الحملات الصليبية، وهو موضوع له أهميته التاريخية بالنسبة للبلدين. وبهذا أمكن لمحب أن يتفرغ لأبحاثه، وبدأ يفكر في ترك العمل الإضافي في مكتبة المركز الثقافي المصري أو يختصره إلى وقت أقل. وزادت أحواله المالية انتعاشًا، مما أتاح له حرية أكبر لشراء الكتب وما يحتاج من ملابس ومستلزمات.
وقد واكب كل ذلك عواطفه التي تنامت تجاه شانتال، فتغيرت حياته من أساسها. وقد ساهمت شانتال بجرأتها الطبيعية في الوصول بتلك العَلاقة إلى غايتها الطبيعية، وهو ما لم يكن يجرؤ محب على البدء به من ناحيته. وكان كل ما يشغله ويؤلمه هو عَلاقته بسهير التي تركها في مصر. كانت المراسلات لا تنقطع بينهما، وكانت سهير تخطط للحصول على منحة دراسية وتلحق به في فرنسا لدراسة الدكتوراه في شعر آرثر رامبو، بعد أن تنتهي من رسالتها لدرجة الماجستير في القاهرة في أدب «ألبير كامي». وكانا من قبل قد اتفقا على الزواج بعد مناقشة رسالة الماجستير والحصول على المنحة والسفر إلى فرنسا. وقد أطال التفكير في موضوع سهير وشانتال إلى الحد الذي كاد معه يشل قدرته على التركيز في دراسته؛ فترك الأمور لفترة تجري على ما هي عليه.
كان الموضوع الذي تدرسه شانتال يستهويه تمامًا؛ فهو في الأدب المقارن، ويجمع بين الأدبين العربي والفرنسي. ومن المعروف أن إقامة توفيق الحكيم في فرنسا في فترة ما بين الحربين العالميتين؛ قد جعلته يقرأ تراث الأدب الفرنسي بحاله، وتأثر إنتاجه به تأثرًا كبيرًا. وكان محب مهتمًّا بفناني وأدباء العالم الذين تجمعوا في باريس في تلك الفترة الهامة وأنتجوا العديد من الأعمال الخالدة؛ سواء في الأدب أو الرسم أو الموسيقى أو السينما. ففي هذه الفترة ورد إلى باريس الكثيرون مثل: همنجواي وجيمس جويس وسكوت فتزجيرالد وبيكاسو وبونيويل وغيرهم. وكل هؤلاء كانوا من المقربين إلى قلب محب.
أفاق محب من تأملاته وهو يَرجِع بصره في حجرة شانتال. كان السرير واسعًا رحبًا، أمامه مرآة كبيرة متلألئة، وفي أحد جانبي الحجرة رفوف للكتب، وفي الجانب الآخر خزانة ضخمة من الخشب الثمين تضم تليفزيونًا وبيك أب وأسطوانات عديدة.
– أتحب أن تشرب شيئًا؟
– نعم، بعض العصير.
دقت شانتال جرسًا إلى جوارها؛ ففزع محب ونهض يغطي نفسه؛ فضحكت شانتال وقالت ما معناه أنه ما يزال خجولًا رغم معرفة جميع خدم البيت بعَلاقتها به. ودق الباب ودخلت خادمة طلبت منها شانتال إعداد بعض المأكولات الخفيفة والمشروبات. قام محب وارتدى ملابسه وجلس على أحد الفوتيهات الوثيرة بالحجرة. كان يتعجب من طبيعة شانتال وتلقائيتها حتى في الخصوصيات التي يخاف هو عليها من أعين المتلصصين. إنها مجبولة من طينة خاصة، صنعتها أيضًا ظروفها الأسرية المعينة. ماذا يخبئ له القدر معها؟ حياة جديدة وعادات جديدة مع شانتال؟ أم حياة عادية تقليدية مع سهير؟
وجاءت الخادمة بصحفة الأكل والشراب، ولم تجد شانتال حرجًا من مبادلتها الحديث وهي في الفراش وما تزال عارية، وضحكت الاثنتان وخرجت الخادمة. فقام محب وأدار مفتاح التليفزيون وجلس إلى جوار شانتال وتناول زجاجة من البيرة وشرب منها على الطريقة المصرية، مع بعض الجبن وحبات الزيتون. وحمل التليفزيون أخبار مذبحة جديدة في بلدة مصرية قامت بها الطائرات الإسرائيلية مما أدى إلى مصرع أطفال ومدنيين أبرياء. تابعت شانتال الأخبار على غير عادتها، ثم التفتت إلى محب مستطلعة.
– هؤلاء القتلة، متى سيكفون عن هذه المجازر؟
– أرجو ألا يؤثر ذلك فيك يا محب.
– كيف لا يؤثر فيَّ؟
– أعرف ذلك، ولكنها الحرب بكل ما فيها من خسة.
– إني لم أكن أهتم بالسياسة، مركزًا كل شيء في دراساتي وفني. ولكن هذه الأحداث تحفر في نفسي آثارًا عميقةً من الأسى والحزن والغضب.
– أنا أيضًا أحاول الابتعاد عن السياسة قدر الإمكان. ولكن ما يحدث الآن مأساة أخلاقية لا يمكن السكوت عليها. انظر، يقولون إن العرب سيقومون بمظاهرة سلمية ضد هذا العدوان. أتريد أن نشترك فيها؟
– كلا، هذا لا يفيد شيئًا. لقد شبعنا شجبًا وإدانة وهتافات.
– معك حق، عليكم أن تفعلوا شيئًا بدلًا من هذا الضعف العجيب. كيف وصل الحال بالعرب إلى هذا القدر؟ لقد قصصتَ عليَّ موضوع مخطوطك، وإني لأعجب لماذا لا يظهر بينهم صلاح الدين جديد.
– كنا نعتقد هذا في القائد الحالي حتى انهار ذلك الحلم في أيام معدودات. ولكني كنت أعرف أشياء رهيبة في تلك السنوات الماضية، مما كان العارفون بالأمور يتناقلونه همسًا. وهذا ما أدى إلى ما حدث من هزيمة وتفكك.
– إني أذكر أيام حرب يونيو هنا، وكيف كان فرنسيو الجزائر شامتين في العرب ويهتفون هتافاتٍ مناصِرةً لإسرائيل على وزن هتاف «الجزائر فرنسية».
– بالطبع، فقد كانت مصر أقوى مناصر للجزائريين في حرب استقلالهم.
– حسنا، سوف نرى ما تئول إليه الأمور. لا بد أن تحدث نهضة بعد تلك الكارثة. ولكن … فلنحاول أن ننسى هذه الفظائع. قل لي، كيف تسير دراستك للمخطوط؟
صمت محب قليلًا ثم استجمع تفكيره ثانية.
– على ما يرام.
– إني أفكر كيف أستطيع أن أعطيك نسخة من المخطوط دون إغضاب والدي لو عرَف.
– لا تقلقي من هذا الأمر، إني مستريح في عملي، رغم أنني محرج من تطفلي على منزلك وعليك بهذه الصورة.
ردت شانتال ضاحكة: ولست محرجًا من تطفلك على جسدي وقلبي أيضًا؟
قالت ذلك وهي تحتويه في أحضانها وتهبه جسدها وقلبها وعقلها. وتحسس محب مفاتن ذلك الجسد وحاول أن يصل إلى أعماق روحها عن طريق غزو تلك المفاتن شديدة الخصوصية.
وفيما بعد واصلت شانتال: إني أحب أن تكون دائمًا معي يا محب. لا أدري ما حدث لي معك. لقد عرَفت شبانًا كثيرين، ولكن عواطفي تجاهك مختلفة.
أحس محب بالنشوة، وغمره التواضع فحاول تغيير الموضوع.
– كيف تسير كتابة رسالتك عن توفيق الحكيم؟
– مثل رسالتك: على ما يرام. إني في الفصل الخامس منها الآن، وقد بدأت بعض التنقيحات في الفصول الأخرى طبقًا لنصائحك لي وبعد المعلومات التي وجدتها في كتاب زهرة العمر الذي ما زلنا نقرؤه معًا. وقد كان مهما جدًّا موضوع المحاضرات التي استمع إليها الحكيم في باريس، ومنها محاضرة جيمس جويس عن الشعر الإنجليزي، كذلك قراءته ليوليسيز. إن هذا قد غيَّر الكثير من استنتاجاتي عن المؤثرات التي تركت انطباعاتها في أعمال الحكيم.
– هيا بنا نقرأ شيئًا من زهرة العمر.
– داكور.
وقامت شانتال لتحضر الكتاب، بينما محب يراقب جسدها وطبيعيَّتَها في الحركة حتى وهي عارية. وأحضرت نسختين من الكتاب كانت قد أرسلت لشرائهما من بيروت، وأبقت واحدة معها وأعطت الأخرى لمحب، كما تعودا أن يفعلا حين يدرسان الكتاب.
بدأ محب يقرأ ببطء: «… إن اعتراضات الجميع لا تتغير. لماذا تحاول أن تتكلف الأسلوب تكلفًا؟»
شانتال: تتكلف؟ من الفعل تكلف. له عَلاقة بالتكاليف والثمن؟
– أها … فهمت.
وقفز محب إلى صفحات أخرى:
«ولشد ما توهمنا أن الأسلوب الخاص معناه التجديد وأن التجديد معناه الإغراب. وبهذا الوهم كتبتُ حماقات كنت أحسبها شعرًا. ونزعتُ إلى الإغراب خشية التقليد فإذا بي أقع دون أن أشعر في محاكاة «الداديزم» و«السورياليزم» و«الكوبيزم الأدبي».»
– هذا رائع، لا بد من الاستشهاد بهذه الفقرة، فقد عقدت فصلًا كاملًا عن التجديد في أعمال توفيق الحكيم، فهنا — رغم خوفه من المحاكاة — قد هدف دائمًا إلى «الإغراب خشية التقليد». وقد تناولت كتابه «يا طالع الشجرة» في ذلك الفصل خاصة، وسوف أضيف هنا تلك الفقرة وأحللها. لا أدري ماذا كنت أفعل دون هذا الكتاب للحكيم. إنه يضع يدي على مفاتيح هامة. إني لأعجب كيف لم يَلفت أستاذي البروفيسور نظري إليه؟
– إنه كتاب غير معروف على نطاق واسع. لكني عرَفته وأحببته منذ زمن، حين نُشر في سلسلة كتاب الهلال في أوائل الخمسينيات.
– إني مدينة لك بهذا يا محب، وأنت كذلك تقرأ على نحو يجعلني أحفظ النص حفظًا، وأرى بوضوح كيف سأستخدمه في رسالتي.
– إني مدين لك بأكثر يا شانتال.
واحتضن كل منهما الآخر، وغرقا في الحب.