١٢

هكذا كان موقف محب الصعب، ومن المؤكد أن هذا الموقف قد مر به كثيرون من المبعوثين؛ فالبعد عن الخطيبة أو الزوجة — مع الإغراءات المتاحة إذا كان المبعوث في بلد غربية — يساعد على نشوء هذا الموقف المحير. الكثيرون يقضون سنوات الغربة كما يحلو لهم، ثم يعودون إلى أوطانهم سالمين غانمين ويواصلون حياتهم الزوجية العادية. أما مع محب فكان الوضع مختلفًا؛ فخطيبته على وشك الحضور إلى باريس بعد عدة أشهر بعد أن تحصل على الماجستير. حاول جاهدًا أن يُبقي عَلاقته بشانتال مجرد مغامرة عابرة، وأن يعودا إلى العَلاقة الدراسية الأكاديمية، ولكنه كان يشعر يومًا بعد يوم ولقاءً بعد لقاء، بأنه يغوص تدريجيًّا داخل تلك الفتاة ويتعود عليها وعلى حبها وثقافتها بحيث أصبح من الصعب أن يترك هذا المجال الذي انفسح أمامه.

وفي جلسة من جلساته مع شانتال، وهو يقرأ لها سطورًا من «زهرة العمر»، وجد نفسه يقول لها فجأة دون إعداد مسبق: «لا أدري يا شانتال ماذا أفعل في مشكلتي.»

ردت شانتال: تقصد خطيبتك في مصر وأنا؟

– نعم.

– لا مشكلة هناك على الإطلاق؛ لدينا حلول كثيرة.

– كيف ذلك؟

– إما أن نفترق بعد حصولك على الدكتوراه وتعود إلى خطيبتك، وأزورك وتزورني حينما يتيسر ذلك.

وضحك محب …

– ويمكن أيضًا أن نتزوج ونقيم في مصر بعد أن تتزوج من سهير؛ فهذا مسموح به في بلدكم.

وضحك محب مقهقهًا هذه المرة.

– هذه حلول غير واقعية يا شانتال. أنت تفكرين بعقل فرنسي بحت. وأرى من الحل الأول الذي ذكرتِه أنكِ لا تحبينني بما فيه الكفاية.

– أنا متعلقة بك بالطبع، ولكني فرنسية ولا أعرف هذا النوع من الحب الذي ينحو نحو حب السيطرة والاستحواذ. هذا طبعًا هو الوله الشرقي الذي نسمع عنه.

ووجَم محب. إذن فهو لا يستطيع الاعتماد على حياة مستقرة مع شانتال، وهو أكثر أمانًا مع سهير، سواء بقيا في فرنسا أم عادا إلى مصر بعد حصولهما على الدكتوراه. ووجد أن الحل الأمثل في هذه اللحظة هو أن يستطرد في قراءته بعض سطور زهرة العمر والتعليق عليها.

«إن روح الكاتب أو الشاعر لتشف أحيانًا وتخف وتتحرك …»

وغمره العرق الكثيف، وطافت روحه إلى أمكنة أخرى، فرأى نفس هذا الكتاب الذي يقرأ منه وقد ظهرت ترجمته إلى اللغة الإسبانية ومعروضًا في المكتبات، من ترجمة أستاذة إسبانية مستعربة، توفرت هي وأستاذها على ترجمة الكثير من الكتب العربية إلى الإسبانية. وأراد شراءه؛ فهو لا شك سيفيد شانتال فهي تعرف الإسبانية. ومد يده لتناول الكتاب من على منضدة العرض، فوجد يده تندفع في فراغ، وتكرر ذلك عدة مرات. وعندما بدأ يدرك أنه قد دخل في نوبة استشرافية من نوباته المتكررة، صحا فيها ووجد نفسه يقرأ لشانتال من الكتاب العربي كأنما لم يمضِ أي وقت عليه في تلك النوبة، مما جعله يتساءل بينه وبين نفسه عن الزمن الحقيقي الذي تستغرقه تلك النوبات، وهل تستمر وقتًا أم أنها تغطي لحظة واحدة فقط كما يقول أهل الصوفية، وكما يعتقد هو من قبل. وعزم أن يدرس ذلك الأمر بعد ذلك.

«… وتتحرك في الأجواء بلطف كأنها نسيم راقص … هذا الشعور ملأ نفسي وبصري أمام لوحة مثل لوحة «الربيع» لبوتيشللي الذي يصور فيها …»

وتدخلت شانتال: أهااا … جميل أن يذكر الحكيم هذه اللوحة، ولا شك أنه درسها كذلك، ولا بد أن أذكر أثر كل تلك اللوحات في إرهاف شعوره الفني … ولكن، قل لي ما معنى كلمة «تشف» تلك؟

فشرحها لها محب، وكتبت شانتال الشرح في النسخة التي معها من الكتاب.

وبعدها، هتفت شانتال أنهما قد درسا اليوم بما فيه الكفاية، وعرضت على محب الذَّهاب لقضاء بعض الوقت في باريس، فوافق.

•••

انطلقت السيارة تتهادى في طرقات دوفيل حتى خرجت إلى الطريق السريع. ولاحظ محب مرة أخرى الحقول الزاهرة على الجانبين، والقرى الجميلة التي يمران بها، والعلامات الإرشادية التي تحدد المخرج إلى الوصول إلى وسط المدن.

ها هما يخرجان من الطرق الفرعية إلى «الأوتو روت» الذي يربط المدينة بالطريق المتجه إلى باريس، ويعودان مرة أخرى إلى طريق فرعي فيمران على مدينة «ليزييه» التي تضم كاتدرائية ضخمة احتفاء بالرؤيا التي مرت بها فتاة من المدينة تدينت منذ صغرها ووهبت نفسها للدَّير وظهرت لها كرامات كثيرة. وسألت شانتال «محب» عما إن كان يريد أن يستريح في هذه المدينة، فأجاب أنه كان يريد من زمن أن يزور الكاتدرائية المشهورة. ولكن شانتال قالت إن من الأفضل مواصلة الرحلة إلى مدينة «باييه» كي تريه النسيج الشهير فيها وقصته التاريخية. وحين وافقها محب انحرفت السيارة إلى الطريق الساحلي الذي يمتد على طريق شواطئ نورماندي المشهورة التي بدأ عندها نزول قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، فيما أصبح اليوم ما يُعرف باسم D-Day. وعبرا لافتات مدن صغيرة بينما كانا يتبادلان أحاديث عابرة، إلى أن بلغت السيارة الطريق الفرعي المؤدي إلى مدينة باييه وسارت فيه إلى أن وصلا إلى وسط المدينة؛ فأوقفت شانتال السيارة وخرجا لزيارة المدينة على الأقدام.

وأخذت شانتي تقص على مسامع محب تاريخ المدينة وهو لا يستوعب ذلك كلية؛ فالتاريخ مليء بالمؤامرات بين الملوك في المقاطعات الفرنسية والإنجليزية، وتشاغل بالنظر إلى الكاتدرائية القوطية الفخمة التي تتركز كالعادة في وسط كل مدينة. وذكَّره ذلك بالعادة الإسلامية في قرى مصر بإقامة مسجد القرية في الوسط حتى يكون قريبًا من كل السكان. ودخلا إلى الكاتدرائية بعد أن أظهرت شانتال بطاقة تحملها أعفتهما من شراء تذكرة زيارة الأماكن السياحية في الداخل. وتطلع محب كعادته إلى الزوايا الجميلة داخل المبنى والزجاج الملون المعشق فيها، وشموع النذور التي توجد في كل الكنائس، مع تماثيل المسيح والعذراء والرسل في كل الأنحاء. وجذبته شانتال سريعًا إلى الطرف الأقصى للكاتدرائية وهي تقول: «لا تهتم بهذا، فالأمر الذي جئنا لأجله ليس هنا.» وحين خرجا، لاحظ محب بناية مقابلة للكاتدرائية مكتوبًا على بابها «نسيج باييه»، ودخلا إليها ببطاقة شانتي نفسها دون دفع شيء، وصعِدت به إلى الطابق الأول من البناية.

وفوجئ محب بما رأى: دهليز طويل مضاء بنور خافت، وعلى الجدار فترينات زجاجية تعرض قطعة نسيج من الصوف المطرز تبدأ عند المدخل وتتواصل على طول الدهليز. كان نسيجًا تاريخيًّا، كما عرَف من شانتال؛ أمر بنسجه في القرن الحادي عشر أسقُف باييه المدعو «أودو» وهو الأخ غير الشقيق لوليام، دوق نورماندي بشمال فرنسا، ويبلغ طوله ٧٠ مترًا وعرضه ٥٠ سنتيمترًا. وسار محب وشانتال في الصالة المهيبة من مشهد إلى مشهد تصويري للنسيج، من المشهد رقم ١ حتى الأخير رقم ٥٨، وهي كلها مشاهد تصور قصة مطالبة الدوق وليام بعرش إنجلترا. ذلك أن إدوارد — ملك إنجلترا — حين شعر بدنو أجله، أوصى بعرش إنجلترا بعد وفاته لوليام دوق نورماندي، وأرسل زوج ابنته هارولد في بعثة كبيرة إلى نورماندي؛ لإبلاغ وليام بذلك الأمر. وتُصور مشاهد النسيج في أولها رحلة هارولد إلى نورماندي بفرنسا، ومساعدته لوليام في حربه ضد دوق «بريتاني» والانتصار عليه. ويقدم هارولد فروض الطاعة والولاء لوليام بعد إبلاغه بوصية الملك إدوارد. ولكن، بعد عودة هارولد إلى إنجلترا وفي أعقاب وفاة الملك إدوارد، يعلن هارولد نفسه ملكًا لإنجلترا. وما إن يعلم وليام بذلك حتى يقوم بتجهيز أسطول ضخم وقوات كبيرة مع عتادها تمهيدًا لغزو إنجلترا. ويصور النسيج إبحار السفن بالجنود والجياد والعتاد الحربي، ثم الإنزال في منطقة «هيستنجز» حيث تجري موقعة القتال الشهيرة بين هارولد الأنجلوسكسوني ووليام النورماندي. وتنتهي المعركة بانتصار وليام «الفاتح» على جيش السكسون في ١٤ أكتوبر ١٠٦٦م ومقتل هارولد وارتقاء وليام عرش إنجلترا.

وأضافت شانتال معلومة جديدة إلى محب، وهي أنه حين بدأت القوات الأمريكية في دخول باريس عام ١٩٤٤م وكان يحتلها النازيون، جاءت أوامر هتلر للجنرال الألماني فيها بتدمير المدينة. وطلب القادة في ألمانيا جمع بعض الآثار الخالدة من المقتنيات الباريسية الخالدة التي يمكن حملها من عيون الفن والتاريخ؛ لإنقاذها من الدمار وحملها إلى برلين. وكان على رأس المطلوب نسيج باييه!

•••

وخرجنا من الكاتدرائية وقد تشبعتُ بالمزيد من وقائع تاريخية لم أكن أعرفها، ومضيت مع شانتال يدًا في يد إلى سيارتها بعد أن اتفقنا على تناول الطعام في واحد من تلك المطاعم الأنيقة التي توجد في طريق العودة. وأنا شغوف جدًّا بمثل تلك الأماكن التي أستطيع فيها أن أتأمل ما حولي في هدوء بينما أحظى بخدمة طيبة وأنا أسرِّح البصر في الأماكن المترامية أمامي على البعد، وأنتقل منها إلى وجه شانتال الجميل. وكان المطعم من نوع النُّزل الصغير، بطابق علوي للمبيت فيه على نظام «الموتيل» الأمريكي، فبعد الانتهاء من الأكل، تلاقت نظرات شانتال مع نظرتي؛ فابتسمنا وتوافقنا على قضاء الليل في هذا الفندق، للراحة بعد هذه السياحة الطويلة.

كانت الغرفة كما تصورتها تمامًا: أنيقة، انسيابية، هادئة. وملأت شانتال البانيو في الحمام الملحق بالغرفة. وبدأت مشاعري تتجاوب مع خيالاتي الحسية المضطرمة، فتأهبت للتوجه إلى البانيو مع شانتال لآخذها في أحضاني. وإذ بي أرى نفسي جالسًا في أحد الكازينوهات على ضفاف النيل، وأمامي خطيبتي سهير. وحاولت أن أهز رأسي وأغمض عيني وأفتحهما كي أخرج نفسي من تلك الرؤيا، ولكني أجد نفسي في المكان نفسه بالقاهرة. وكان ذلك الكازينو من الأماكن المفضلة لي ولسهير حين كنت ما أزال في القاهرة قبل سفري، لقربه من الجامعة ولهدوئه النسبي؛ فتقابلنا فيه كثيرًا، حتى إن الجرسونات فيه قد عرَفونا. كنت كعادتي أشرب فنجان القهوة باللبن، وهي تشرب عصير البرتقال، وتطلب مني أن أخبرها بآخر استعداداتي للسفر إلى باريس، بينما أنا مشغول بموضوع واحد، هو كيف أخبرها أنني في تلك المرة أنوي السفر الذي قد يكون بلا عودة مرتقبة، وأننا يجب أن نؤجل زواجنا لفترة ما.

– كم أنا سعيد برؤية القاهرة الآن، ومناظر النيل الجميلة التي تفوق ما رأيته من نهر السين الفرنسي.

– تقصد كما رأيت السين في الصور … أو كما تتمنى أن تراه حين تسافر إلى باريس.

– لا يا سهير … هل نسيتِ؟ لقد سافرت فعلًا ورأيته …

– محب! ما هذا الكلام يا حبيبي … لقد اختلطت عليك الأمور لا بد بسبب الضغط النفسي.

وتاه محب في غمار الحَيرة أهو ما يزال في القاهرة ولم يسافر بعدُ في بعثته الفرنسية؟ كيف هذا؟ وأين شانتال، وأين المخطوطة الثمينة التي عثر عليها والتي ستكون فتحًا علميًّا له؟ إنه بحق كابوس رهيب. وهو الذي طلب مقابلة سهير ليعترف لها بأنه لن يستطيع إكمال الزواج في الموعد الذي حدداه من قبل، وإنما بعد حصولهما على الدكتوراه؛ وكان يهدف من ذلك إلى ما لا يستطيع البوح به لسهير، من اعتماده الكلي على شانتال وإلى أن تنتهي العَلاقة التي نشأت بينهما. هل يكون هذا أيضًا من إشراقات الزمن التي تعتاده من حين لآخر؟ وكيف يعود إلى حياته في فرنسا؟ لا بد أن يتماشى مع ذلك الموقف إذن حتى تنبلج الحقيقة. عاد إلى حديثه مع سهير …

– أقصد أنني رأيت كل ذلك بعين الخيال. تعرفين أنني مشتاق إلى القيام بتلك الرحلة، لا من أجل الدكتوراه فحسب، بل لأرى بعين الواقع مهاد الفن والحضارة التي درسناها في الكتب.

– وأنا أيضًا يا محب، عندي نفس الشوق وسأعمل على الانتهاء من دراستي هنا وألحق بك. كم سيكون كل هذا رائعًا حين نكون معًا هناك.

ودارى محب الغصة التي شعر بها عند ذلك، وتمنى أن يكون قد استمر في مصر واختار موضوعًا لرسالته لا يتطلب السفر إلى الخارج، دون أن يدخل في تلك التجرِبة الرهيبة التي تعصف بحياته وتضطره إلى خداع من أحب طويلًا، أو تكون قصته مع شانتال مجرد أوهام ولا يجدها بعد أن يعود من هذا البُحْران الزمني، وأن تكون في عداد العدم.

ولكن …

صحا على نداء شانتال تدعوه إلى البانيو، ففرك عينيه وقام متثاقلًا ليجد الماء قد ملأ البانيو الوردي الأملس، حيث تسبح فيه حورية من اللون نفسه. وأفاق تمامًا على ذلك الجمال الذي لا يمكن تحمل إغرائه، فترك أوهامه وخيالاته، وتأهب لتلبية دعوة الحورية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤