١٣

«فحياة أسامة إذن تمثل لنا الفروسية الإسلامية العربية على ما ازدهرت في ربوع الشام في أواسط القرون الوسطى، والتي بلغت حدها الكامل في صلاح الدين، وسيرته [أسامة بن منقذ] تتضمن موجز تاريخ البلاد في القرن الثاني عشر — قرن التجريدات الصليبية الثلاث الأولى، ومذكراته الموسومة «كتاب الاعتبار» مرآة تتجلى فيها المدنية الشامية في أجلى مظاهرها، وذلك ليس بحد ذاتها فقط بل بالمعارضة مع المدنية الإفرَنجية التي قامت إلى جوانبها».

«ولو أن أسامة عاش اليوم لكان بلا ريب عضوًا عاملًا في المجمع العلمي العربي، ولكان بيته «صالونًا» للأدب بدمشق، ولراسل «الهلال» و«المقطم»، ولأكثر من العيش في الهواء الطليق يدرس طبائع الحيوان ويرقب نمو النبات، ولنالت جياده العربية جوائز السبق في بيروت، ولكان بلا تردد في أثناء الحرب العظمى دَيْوَن فرقة من المتطوعة تولَّى قيادتها بنفسه.»

الدكتور فيليب حِتِّي
١٩٣٠م

جلس محب إلى مكتبه في فيلَّا شانتال في دوفيل يتابع درسه ومطالعته لصفحات المخطوط النادر في انتظار شانتال كي يقرأ معها المزيد من كتاب توفيق الحكيم. كان يضع أمامه أباجورة صغيرة ثمينة من صنع مدينة «باكارا» المشهورة بالبلور، وأمسك بيده عدسة مكبرة. كان ذلك ضروريًّا؛ لأن المخطوط — بطبيعة الحال — مكتوب بالطريقة القديمة المعروفة في عصره، بلا تنقيط يُذكر ولا تشكيل، في كلمات تكاد تكون متصلة بعضها ببعض دون فواصل ولا فقرات مما نعهده الآن. كان ما يهمه أكثر من غيره تلك الصفحات الأولى الناقصة من مخطوط الإسكوريال، وينسخها بنصها ويتحقق مما ورد بها؛ وعليه بعدها أن يضاهي بقية المخطوط بما هو منشور من الكتاب بتحقيق البروفيسور فيليب حِتِّي. لام نفسه لتأخره في ذلك العمل نتيجة انشغاله مع شانتال بالرحلات والغرام؛ فعقد العزم على مضاعفة جهده في دراسته والعمل فيها بمثابرة لازمة.

وأدرك أن عليه أن يضع خطة لعمله في المخطوط؛ ففتح كراسة أمامه، واعتزم أن يبدأ بكتابة كل كلمة ينجح في قراءتها في الصفحات الأولى النادرة التي احتواها. وبعد أن قرأ بصورة مبدئية عامة ما استطاع تفسيره من كلمات، اعترته دهشة التعرف وهزته، فها هو أسامة بن منقذ يسرد تفاصيل مزيدة عن فرقة «الحشاشين» المشهورة في زمانه، وعن نظامها وطرق معيشة أفرادها وزعيمها «شيخ الجبل» وما ابتدعه لتجنيد رجاله وإغرائهم بكل متع الدنيا، وعن هجماتها على مدن الشام ونشرها الموت والاغتيالات فيها.

«يا له من اكتشاف! كيف لي أن أحصل على صورة من هذه الصفحات، بل ومن المخطوط كله؟ لن أستطيع أكاديميًّا إثبات اكتشافي إلا بتوثيقه بنسخة منه، لا بد أن أتفاهم مع شانتال في ذلك الأمر، ولو تطلب الأمر استئجار آلة تصوير الكتب، رغم ضخامتها وتعقيد العمل بها، على ألا تفسد المخطوط الأصلي الهش.»

(لم يستطع محب، حتى بشطحاته الزمنية، أن يرى كيف أصبح ممكنًا نسخ الصفحات والوثائق والكتب وكل شيء في لحظات وبأسهل الطرق، وحفظها في ملفات ورقية ورقمية على شاشات الكومبيوتر الذي كان ما يزال في عالم الغيب في ذلك الوقت.)

وفيما كان محب يقلب بحرص أوراق المخطوط؛ كي يعرف أين تنتهي الصفحات النادرة وأين تبدأ صفحات مخطوط الإسكوريال، إذا بورقة تسقط من بينه، التقطها محب بحرص شديد؛ لأنها تبدت من عصر غابر قديم، من ورق خاص يشبه الرقاع المشدود أو رَق البارشمان. وتناول العدسة المكبرة وسلطها على الكتابة الموجودة في الرقعة التي بين يديه كي يرى ما فيها. وقرأ بصعوبة؛ لأن الكلمات لم تكن واضحة:

«مع هذا الإبلاغ عهد لاتيني من فارس الداويين غليوم الغالي من فرقة الإمبراطور فولك بن فولك للفارس المحمدي أسامة بن منقذ بالسماح له بالصلاة المحمدية بالمقر المتواجد داخل بناء قبة الصخرة حينما يكون عابرًا أورشليم التي هي تحت حكم الإمبراطور.»

وكان الرق ممهورًا بإمضاء وختم.

وذُهل محب. كانت مفاجأة مهولة للمرة الثانية في اليوم نفسه فيما يتعلق بالمخطوط محل دراسته. كانت الورقة صغيرة منفصلة، لا بد أن أحدًا دسها منذ زمن بين صفحات المخطوط ولم يلحظها أحد من أصحابه السابقين ولا الحاليين. هل رأتها شانتال يا تُرى؟ على الأرجح أنها لا تعلم شيئًا عنها، وإلا كانت قد أطلعته عليها. إنها أثر لا يقدر بثمن، هي والمخطوط وكل الكتب والمخطوطات التي بمكتبة أسرتها. ولكن، هل هي بحاجة إلى المزيد من الثروة التي يمكن أن تجنيها من ثمن تلك الكنوز؟ لا. ولكن يمكن أن تعتبرها من الآثار القومية وتُهديها إلى المتاحف العديدة التي تزخر بها فرنسا.

لقد وقع محب في مشكلةٍ عويصةٍ طرحت نفسها بقوة على ذهنه: هل يجوز أن يخون ثقة شانتال فيه ويسرق تلك الرقعة التاريخية؟ أم يطلعها عليها ويحاول إقناعها بأن تعطيها له؟

وبينما هو غارق في أفكاره وحيرته، إذ بشانتال تدخل غرفة المكتب وهي ترشف من كوب العصير. وارتبك محب لثوانيَ وهو يطوي صفحات المخطوط فوق الرقعة التي عثر عليها، وأقبل يحيي صديقته ويرحب بها. كان يفكر في طريقة يستطيع بها أن يطلب منها أن تسمح له بتصوير المخطوط.

– شانتال: هه … كيف تسير دراستك للكتاب؟

– محب: بصعوبة. تعرفين أن الكلمات غير منقوطة وبلا تشكيل. وليست هناك أي علامات ترقيم. وعلاوة على ذلك، سوف يضطرني ما فككت من عبارات فيه إلى دراسة موضوعات تاريخية وفكرية كثيرة تناولها أسامة في كتابه.

– موضوعات؟ مثل ماذا؟

– إنه يتحدث في أول الكتاب عن فرقة الحشاشين …

فضحكت شانتال وصاحت: بالطبع! لقد قرأت عنها حين علمت أن الكلمة قد انتقلت إلى اللغات الأخرى بوصفها Assasin، واستغرقني طابع السرية والفانتازيا فيها. كذلك قصة زعيمها شيخ الجبل مع نِظام المُلك وعمر الخيَّام.

– يبدو أنك على دراية واسعة بتلك الفرقة؟

– أتعلم لماذا؟ لأنها كانت متصلة بالتنظيم المسمى «فرسان المعبد» The Knights Templars المشهورة هي الأخرى. وقد قرأت عن هذا التنظيم وسمعت بعضًا من أسراره من أفراد أسرتي.

– احكِ لي عنه يا شانتال، فأنا على يقين أنه ذو صلة بالفارس أسامة بن منقذ صاحب المخطوط.

– هذا مؤكد، برغم عدم معرفتي بذلك الفارس إلا من اسمه فقط. فتنظيم فرسان المعبد قد نشأ إبان الحروب الصليبية، في مدينة أورشليم. أنشأه تسعة فرنسيين يتزعمهم «هيج دي بيَّانس» الذي تعود أصوله إلى كونتية «شامباني»، الإقليم الفرنسي الذي أنتمي إليه؛ فهو بالتالي من مؤسسي أسرتنا، وإن كان ذلك في غابر الزمن. وهو أنشأ التنظيم عام ١٠٩٤م بغرض أساسي هو حماية الحجاج المسيحيين المتوجهين لزيارة المقار المسيحية المقدسة في أورشليم. وقد استمر التنظيم قويًّا ممتدًّا ثريًّا حتى عام ١٣٠٧م حين أقدم البابا بتحريض من ملك فرنسا فيليب الرابع على اتهام أفراده بالهرطقة، وطاردوهم وأحرقوهم وصادروا أموالهم وممتلكاتهم، وهي حملة استمرت حتى عام ١٣١٤م حين أحرقوا زعيم التنظيم وقتها وهو جاك دو مُولاي.

وانفسحت أمام محب، من هذا الحديث، آفاقٌ واسعة بعد أن ضم أطراف الموضوع الذي يدرسه بعضها ببعض. فأسامة بن منقذ قد وُلد عام ١٠٩٥م، أي مع مولد تنظيم فرسان المعبد. ولما كان مؤسسه من شامباني، فلا بد أن كل تلك المخطوطات التي تمتلكها أسرة شانتال قد جاءت كلها منذ تلك الأزمنة القديمة، فهي أصيلة وغير مزورة.

محب: يا له من تاريخ! إن ذلك سيفتح أمامي موضوعات كثيرة متفرعة، عليَّ أن أدرسها. فمن المخطوط الذي قرأته في طبعة الدكتور فيليب حِتِّي غير الكاملة أعرف أنه كانت هناك عَلاقات بين الصليبيين — وخاصةً أفراد فرسان المعبد — وبين العرب والمسلمين الذين بقُوا في المدن العربية التي احتلتها قوات الصليبيين، وكذلك سكان المدن المجاورة التي لم تسقط في أيدي الصليبيين. هذا سيضاعف من موضوع دراستي كثيرًا.

– وهذا يملؤني بالغبطة يا محب، فهو يعني أنك ستمكث هنا وقتًا أطول، وأنا قد بدأت أتعود عليك ولا أدري ما سأفعل حين تعود إلى مصر.

– حين أعود؟ وليس حين تأتي خطيبتي لي هنا؟

– كلا … فلا شك أنك ستبقى معي. لا تنس أن أساس دراستك هو عندي هنا …

وضحكَتْ في سرور.

عندها أدرك محب أنه وقت غير مناسب كي يطلب منها أن يصور المخطوط أو يذكر لها موضوع رَق البرشمان، وأن أفضل شيء الآن هو أن ينقلها إلى جو معاونته لها في دراستها عن توفيق الحكيم.

– لماذا لا نطالع قليلًا في الكتاب الذي تدرسينه؟ لقد مضى وقت لم نقرأ فيه.

– وهو كذلك، لقد طالعت فيه وحدي صفحاتٍ عديدة وكتبت معاني كلمات لم أفهمها جيدًا. سأحضر الكتاب.

وحين تركت شانتال الحجرة، غادر محب مجلسه أمام المكتب وجلس على الأريكة.

وجاءت شانتال بالكتاب، وجلست إلى جواره، وفتحت كراسة معها وبدأت تسأله:

– المونولوج الداخلي؟ هل هذا هو Le Monologue Intérieur؟

– نعم … أذكر أن الحكيم ذكر تلك العبارة عند حديثه عن جيمس جويس.

– فعلًا … عن رواية يوليسيز. لقد حاولت قراءتها بالفرنسية فلم أستسغها.

– إنها من كتب البحث والدراسة الروائية. أعرف أنهم يدرسونها في قسم اللغة الإنجليزية عندنا.

– قرأت لجويس روايته الأولى «ديدالوس» وأعجبتني جدًّا.

– «ديدالوس»؟ هذا عنوانها بالفرنسية كما أظن، ولكن عنوانها الأصلي هو «صورة الفنان في شبابه». إني مندهش للغاية كيف يقوم المترجمون الفرنسيون بتغيير عناوين الروايات الأصلية!

[ولم يكن يدري أن أحد أصدقائه سيقوم في عام ١٩٧٧م بترجمة رواية جارسيا ماركيز «لا أحد يكتب للكولونيل» عن الأصل الإسباني، مغيرًا عنوانها إلى «الخطاب المنتظر»، بعد أن وجد أن العنوان الأصلي ثقيل بالعربية، ونشرها بذلك العنوان في الملحق الأدبي لجريدة الراية، وذلك قبل أن يشتهر ماركيز في البلاد العربية]

– وهناك عبارة «بدعة العصر»؟

– ممممم … ما سياق العبارة بالضبط؟ دعيني أرى …

وقرأ محب الفقرة ثم قال: أها، إنه يقصد بها الشيء المستجِد الذي يطلع به البعض في وقتٍ ما، كطراز جديد من الملابس مثلًا.

وتناولت شانتال نسخة الكتاب وبدأت تقرأ بلكنتها الفرنسية المحببة.

«على ذكر الأدب الإنجليزي أحب أن أقول لك أمرًا لفت نظري منذ غرقت في دراسة هذا الأدب: إنه أدب مغامرات ويجب ألا يطلق عليه غير هذا الوصف: مغامرات بأوسع معانيها وأجملها وأشرفها؛ فأعمال والتر رالي سكوت ودانيال ديفو «روبنسون كروسو» وروبرت لويس ستيفنسون «جزيرة الكنز» هي مغامرات بحرية، وأعمال ديكنز وجالسورثي هي مغامرات اجتماعية، وأعمال شكسبير وبيرون مغامرات نفسية إنسانية، وأعمال ماكولي وكارليل مغامرات تاريخية، وأعمال ويلز، في قصصه العلمي، وبرنارد شو خصوصًا في Back to Methuselah [شانتال: مكتوبة عندي بالإنجليزية فقط وهجاء خاطئ] ليست سوى مغامرات ذهنية. إن الأدب الإنجليزي مهما تشرحه تجد روحه وجوهره في كلمة «المغامرة».»

وقال محب: ترجمة عمل برناردشو هي «العودة إلى متوشولح» … لم أمعن الفكر في فقرة الحكيم هذه من قبل. لقد كان فعلًا موسوعيًّا في قراءاته الأدبية إذ قرأ هذه الأعمال في لغتها الإنجليزية. غير أنني لا أوافقه على نظرته إلى الأدب الإنجليزي تلك بوصفه أدب مغامرات، فهو قد ذكر فحسب ما يعضد رأيه، ولكنه غفل عن أدب القرن التاسع عشر، بروايات جورج إليوت مثلًا، ومنها «طاحونة نهر فلوص» بما فيها من تحليل نفسي دقيق. ربما اعتمد الحكيم في رأيه على تأثر الكتَّاب في دول الغرب — وليس إنجلترا فقط — بمغامرات ألف ليلة وليلة، وأدخلوا بعض ذلك الأثر في رواياتهم …

– جميل ذكرك لرواية جورج إليوت. كم أحبها! وقد ذكر مارسيل بروست أنه دومًا يبكي عند مطالعة بعض فصولها.

– هذا يدل على مدى حساسيته وتذوقه لما يعتمل في النفس الإنسانية من خواطر وانفعالات.

– أما ما ذكرته من أثر «الليالي العربية» — هذا اسمها المشهور في الترجمات — في الآداب الأوروبية، فهو موضوع شائق للبحث فيه.

– عندك حق. هناك زميلنا سامح، وهو هنا يدرس مخطوطات ألف ليلة، وسوف أنبهه إلى هذا الجانب الهام كيما يضمه إلى بحثه.

[لم يكن محب يدري وهو يقول ذلك أن صديقه «سامح» بالفعل سوف ينشر كتابًا ضخمًا بعد ذلك عن أثر ألف ليلة في الآداب العالمية، ويلاقي نجاحًا ساحقًا، حتى إن إحدى الأديبات الأردنيات قرأته فكأنما وقعت على كنز علي بابا؛ فأخذت تقتبس منه وتنقل فقرات كاملة بل ونقلت موضوعًا كاملًا بنصه وحرفه ونشرته في عدد من الصحف باسمها.]

ومضت شانتال مع محب يناقشان ما ذكره توفيق الحكيم حتى غطيا ما رغبت شانتال الاستفهام عنه في أواخر الكتاب.

– أود أن أعرف رأيك فيما ذكره الحكيم حين كتب: «إني أضع دائمًا نصب عيني هذه المصادر الثلاثة استلهمها فنيًّا: القرآن، وألف ليلة وليلة، والشعب أو المجتمع … ولكن الأسلوب. الأسلوب. لطالما شغلتك معي بالحديث عن الأسلوب الفني الذي أبحث عنه.» هل يا تُرى يمكننا القول بأن الحكيم قد وُفِّق إلى استلهام تلك العناصر الثلاثة التي ذكرها؟

– أعتقد ذلك يا شانتال؛ لو نظرتِ إلى كتبه ستجدين أنه كتب عن موضوعات قرآنية، مثل: أهل الكهف. وكتب كتابه الضخم عن حياة محمد. وكانت ألف ليلة من موضوعاته المحببة التي ترددت كثيرًا في مؤلفاته. وهو قد رصد هموم الشعب والمجتمع وأبرزها في رواياته، خاصة عودة الروح ويوميات نائب في الأرياف.

– رائع يا محب، أعتقد أنني سوف أنتهي من رسالتي قريبًا، ولك فضل كبير في تشجيعي على المضي فيها قدمًا كلما رأيتك عاكفًا على دراستك للمخطوط.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤