١٤

وقف رامي قريبًا من رَدهة شقته الرحيبة الأنيقة يستقبل زواره. ولم يكن الزوار كثيرين؛ منهم أصدقاؤه وصديقاته المقربون، ومنهم الطلاب الدارسون الذين ارتأى أن يدعوهم كي يعرف منهم وينقل إليهم ما يريد. هناك أيضًا الكبار، باستثناء السفير الذي لا يحضر عادةً هذه الحفلات من أساسه.

كان هناك بوفيه مفتوح، وثمة نادلان يطوفان بصحاف من الكانابيه والمشروبات، فيما تجمعت حلقات من المدعوين في أركان القاعة: البعض واقف، والبعض جلوس في المقاعد المتناثرة هنا وهناك. وكانت كميلة تتحادث مع هذا وذاك، وتتصرف كأنها في منزلها دون حرج، بينما وقف محب مع سامح يتبادلان الرأي في المرحلة التي قطعها كل منهما في الدكتوراه. واقترب منهما رامي يشارك في الحديث …

– أنا أحسدك يا محب؛ فموضوع دراستك محدد، تحقيق مخطوط تاريخي. أما أنا فمضطر إلى قراءة مئات الكتب التي يُرجَّح أن مؤلفيها قد اطلعوا على ألف ليلة وليلة وتأثروا بها.

– صحيح. ولكن موضوعك جميل وسيجعلك خبيرًا في الأدب المقارن.

كيف حال دارِسينا الكبار … أصحاب أسامة بن منقذ وشهريار؟

– أهلًا رامي بك. الحمد لله. وكيف حالكم والسفارة؟

عندنا الأمور سيئة؛ فالناس هنا شامتون فينا بعد النكسة، ويرون فيها انتقامًا لهم من مصر لمساعدتها الجزائريين في حربهم للاستقلال عن فرنسا …

– ونحن أيضًا نعاني من هذا الموقف الفرنسي من زملائنا وحتى بعض الأساتذة.

– نحن هنا في فرنسا في موقف لا نُحسد عليه، والسبب هذا التهور الذي دفع بنا إلى تلك الهزيمة الماحقة …

مهلًا أستاذ سامح، تقصد النكسة.

– أي نكسة؟ أنتم طبعًا مع الموقف الرسمي وتتبعون ما يبتكره الصحفي الأوحد من تعابير.

وما تقول أنت يا أستاذ محب؟

– هي مأساة بكل المعايير. وقلبي مع سكان مدن القنال الذين تركوا مدنهم وأصبحوا لاجئين في وطنهم. طبعًا، هذا نتيجة العدوان الإسرائيلي الذي لا يفرق بين المدنيين والعسكريين.

هذا هو الكلام.

– أي كلام يا رامي بك؟ ولماذا لوحنا بالحرب ما دمنا غير مستعدين لها؟ ولماذا لم يستمع القائد لرأي رئيس وزرائه؟

عن إذنكما؛ سأذهب لتحية الإخوة الآخرين …

سامح: أرأيت يا محب؟ طبعًا هو ضمن الحكومة ويخشى حتى المناقشة البريئة. وهو يعلم أن هنا من يراقب من يتحدثون، تمامًا كما يحدث في مصر …

محب: الحق لا يُعجِب الناس. غير أني أحترم رامي جدًّا وأعرف أنه رجل مثقف وفنان، ولم يأت هنا عن طريق الواسطة. على العموم نحن هنا ندرس وواجبنا هو إتمام دراستنا والعودة إلى الوطن. وهناك يمكننا المشاركة في العمل السياسي، أما هنا فلا فائدة من ذلك.

سامح: لا، لا. إننا من النخبة، وواجبنا هو المشاركة في صنع الوطن، فإذا انعزلنا عن السياسة وبقينا في ذُرى الأولمب، فقل على الوطن العفاء.

أتعلم يا محب إنني أحمد الله على أنني لست في وظيفة حكومية هنا في باريس؛ فلا يتعين علي أن أحاذر في كلامي ولا في أفعالي كما يفعل رامي.

ولكن محب كان سارحًا بفكره بعيدًا عن حديث سامح؛ فهو لم يكن يشاركه اهتماماته السياسية، بل يتابع الأحداث ويهتم بمعرفة دوافعها وأسرارها من المقربين منها، ولكن كل ذلك كمجرد شاهد على العصر.

وتنقل ببصره بين الموجودين الذين كان يعرف معظمهم. وابتسم حين شاهد رستم يتحدث إلى مبعوث الآثار عادل عبد المجيد بانفعال وحدة، بينما الأخير يتطلع إليه باستغراب. لا بد أنه يعيد عليه حديث الزودياك والسيد قشطة. وكان رستم يتجنب محب ويُشيح بنظره بعيدًا عنه إذا التقت عيونهما. ثم نقل عينيه بين كميلة ورامي، متسائلًا بينه وبين نفسه هل يكون هو حبيبَ كميلة وصاحبها الحقيقي، وتعجب أنها لم تُفض إليه بسرها رغم أنه قد اختصها بكل أسراره، بما فيها عَلاقته بشانتال. ودار في ذهنه أن رامي هو الأصلح لها. ورأى أيضًا اثنين من الطلاب الملتحين، وإن لم ير زعيمهم الذي كان لا يرضى عن إقامة مثل تلك الحفلات التي يظن أنها يمكن أن تضم مشروبات المنكر!

ودخل ساعي المكتب الثقافي الذي كان يخدم الحفل إلى الصالون؛ ليخبر رامي أن السفارة تطلبه على التليفون؛ فتوجه رامي إلى الداخل ليتلقى المكالمة ثم عاد بعد قليل مكفهر الوجه بادي الاضطراب. وتطلع إليه جميع الموجودين وهو يعلن بصوت متحشرج: البقية في حياتكم. أعلمتني السفارة أن الزعيم جمال عبد الناصر قد تُوُفِّيَ.

•••

وانتقل الكثيرون ممن تواجدوا في حفل رامي إلى مقر السفارة المصرية لتقديم العزاء والتعبير عن الحزن لفقدان الزعيم، وبقي رامي في البهو بوصفه عضوًا من أعضاء السفارة. لم يكن سامح من ضمن الحاضرين، ولا المصريون الملتحون. وقد سمع محب أحدهما يقول للآخر ببهجة مكتومة إنهما سيذهبان مع جماعتهم للاحتفال بهذا الحدث العظيم. ولم يكن محب يحب ذلك؛ فللموت حرمته مهما كانت الظروف، ولكنه يعلم كم نكَّل عبد الناصر بالإخوان وبالإسلاميين منذ عام ١٩٥٤م. ولكن لا تجوز الشماتة في حالة الموت أبدًا.

ورأى محب وزير الخارجية الفرنسي يدخل السفارة ويقدم تعازيه للسفير المصري، ويتجه إلى دفتر التعازي الذي وضعته السفارة بالبهو وكتب كلمات فيه. وهذا هو البروتوكول والعرف الدبلوماسي. غير أن الدهشة انتابته حين رأى فرنسيين عاديين، يبدون في هيئة صغار الموظفين أو حتى العمال، يدخلون إلى السفارة ليكتبوا عبارات التعزية. وكان محب يرى أن ثورة ٥٢ قد بدأت في مسار جيد، غير أنها انحرفت عن ذلك المسار بسبب المطامع الشخصية وحب السيطرة والزعامة وتأليه النفس. لقد حققت الثورة بعض العدالة الاجتماعية بالنسبة للعمال والفلاحين والفقراء عامة، ولكن تلك العدالة لم تكن مدروسة، ولم توضع لها خطة تؤمِّن نجاحها وثباتها، مما نتج عنه تفتت مساحات الأرض الزراعية، وتدفق الآلاف على الجامعات والتعليم العالي دون استعداد أو تخطيط مما أدى إلى هبوط المستوى التعليمي، ثم خطة الالتزام بتوظيف الخريجين التي انتهت إلى تضخم العمالة الوظيفية غير المنتجة. أما سيئات الثورة، فحدث ولا حرج: إلغاء الديمقراطية تمامًا، تفشي النفاق والمحسوبية والوساطات، سيطرة الضباط على كل مناحي الحياة في مصر، الدخول في حروب لا طائل من ورائها. وقد أدى ذلك إلى عدم تحقيق أي بند من بنود أهداف الثورة الستة. وأدى الانفراد بالرأي الواحد إلى الدخول في حرب ٦٧ التي خرَّبت البلاد وهجَّرت العباد وأسقطت ثقة المصريين في قادتهم وأحلامهم وتاريخهم.

وانتهز محب وصول التليفزيون الفرنسي إلى السفارة لتسجيل كلمة من السفير وتسلل خارج المبنى. كان الليل قد هبط، والأنوار تشع من كل مكان في ذلك الحي الأنيق. وتوجه ناحية الحي اللاتيني عله يرى بعض الأصدقاء هناك. فصادف في طريقه «سامح» يتمشى وقد وضع يديه في جيبه، فحياه وسارا معًا في صمت، قطعه محب متسائلًا: تُرى ماذا سيحدث لمصر، من سيخلف عبد الناصر؟

– من سيخلفه؟ واحد من الزمرة نفسها.

– نائبه الوحيد الآن أنور السادات.

– يا لبلدنا المنكوب …

– مهلًا يا سامح. مصر في مرحلة رهيبة ولا تحتمل تغييرات الآن، ومن يدري؟ يجعل سره في أضعف خلقه.

– كنا نناصر عبد الناصر وندعمه، فألقى بنا في غياهب السجون، ولو جاء السادات فسيلتف حوله الإسلاميون بما عُرِفَ عنه من دوره في المجلس الإسلامي؛ ولذلك فنحن لا نصيب لنا من مناصرينا ولا أعدائنا.

– لا حل إلا بالديمقراطية الحقيقية وتنوع الأحزاب. ولكن للأسف لن يكون عندنا تلك الديمقراطية إلى أن نقضي على الأمية في بلادنا، فكيف ينتخب معظم المصريين وهم لا يعرفون قراءة ولا كتابة.

– بالفعل يا محب، لقد نادينا دومًا بالتعليم والعلم، وبالديمقراطية، وكان نتيجة ذلك أن جاءوا لنا بجندي يعلمنا الاشتراكية، وكان فينا الدكتور لويس عوض. أرأيت شيئًا مثل ذلك أبدًا ولا في الروايات!

– لا والله. أنا أعلم ذلك؛ فأنا كنت أتقصى الأخبار خُفْية ولكن لم أشارك في شيء لسياستي في إتقان عملي الأدبي والفني فحسب. وأرى الآن بالفعل كم أوردتنا سياسة السنوات الماضية موارد الهلاك، وكل ما أرجوه أن يعمل القوم على وضع البلاد على الطريق الصحيح ثانية.

– هذا أمل ضعيف جدًّا يا محب؛ فالزمرة هي القابضة على نواصي الحكم، ولن يحيد من يخلف عبد الناصر عن سياسته أبدًا ما داموا هم هناك.

– ولكن لا تنس أن بلادنا محتلة، ويجب على من يتولى الزمام إعادة أرضنا إما بالحرب أو السلم.

– هذا صحيح. وقد سهَّل ناصر الأمر بقبوله مبادرة روجرز قبل موته؛ فلعل ذلك يكتمل بعودة ما فقده على نحو سلمي.

– هذا يتفق مع نظريتكم منذ أيام حَدِتُّو. وأنا أرجو ذلك أيضًا بشرط عدم التفريط في أي شيء من أرضنا أو سيادتنا.

– وكل ذلك سوف يتيح للرئيس الجديد أن يستمر في رفع شعار: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، ليستمر هو في وضعه الدكتاتوري.

– ندعو الله ألا يكون الأمر كذلك يا سامح.

– لو تحقق ما أقوله، فأفضل شيء هو أن أستمر في حياتي هنا حتى ينبلج بصيص من الأمل في الديمقراطية في مصر، وأنا أنصحك بأن تفعل الشيء نفسه.

– إن عليَّ واجبًا تجاه أستاذي في جامعة القاهرة ويجب ألا أخذله.

– إنني في نفس وضعك تجاه أساتذتي، ولن أخذلهم حتى وإن بقيت في فرنسا.

– على العموم، دعنا لا نستبق الأحداث؛ سنرى ما قسم الله لمصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤