١٦

«فمن أجل هؤلاء قال لويس عوض الشعر، وهو ليس بشاعر، وهو يعد بألا يكرر هذه الغلطة ولو نُفي في بلاد الخيال. ولو أنه أراد الآن أن يَقرِض الشعر لما استطاع، فقد انقطع عنه الوحي منذ أن عاد إلى مصر في الخامسة والعشرين، ولو أنه أراد الآن أن يقرض الشعر لما استطاع؛ فقد أجهز عليه كارل ماركس، ولم يعد يرى من ألوان الحياة الكثيرة ومن ألوان الموت الكثيرة إلا لونًا واحدًا، وغدت أمامه الحشائش حمراء والسماوات حمراء والرمال والمياه وأجساد النساء وأحاديث الرجال والفكر المجرد، كلها غدت أمامه حمراء بلون الدماء، حتى الأصوات والروائح والطعوم غدت حوله حمراء كأنما شب في الكون حريق هائل. وهو راضٍ بأن يعيش في هذا الحريق، فمن رأى السلاسل تمزق أجساد العبيد لم يفكر إلا في الحرية الحمراء …»

الدكتور لويس عوض
بلوتولاند وقصائد أخرى من شعر الخاصة
١٩٤٧م

«لماذا لم تصبح مصر بلدي كمثل فرنسا، وقد كانا متشابهين في العشرينيات والثلاثينيات؟ إني أشعر بالسعادة لأني عاصرت الأربعينيات والخمسينيات حين كانت مصر ما تزال جميلة ونظيفة والناس طيبة ومتسامحة. آه يا سامح، ها قد تغير النظام ولا ندري هل سيسير السادات في طريق ناصر أم سينتهج سياسة أخرى تضمن بعض الديمقراطية والأمان الداخلي لشعب. على الأقل، أرجو أن يكون في زوال حكم عبد الناصر ومجموعته التي أطلقوا عليها «مراكز القوى» أمانًا لي في استمرار بعثتي في الخارج، فقد كنت علمت أن هناك تقريرًا يتم إعداده بشأن بعض الدارسين غير المنتمين للنظام تمهيدًا لإلغاء ابتعاثهم، لا ندري من أعده، وإن كنت أعلم أنه لم يكن للمستشار الثقافي ولا لرامي دخل في ذلك الموضوع. ها قد استعرت أول أجزاء ترجمة ريتشارد بيرتون لألف ليلة لأطالع فيه وأنا استمتع بالجلوس إلى أحد مقاهي مونبارناس الرائعة. منذ صباي وأنا أحب القراءة وسط الضجيج أو وأنا أستمع إلى الراديو، فلا يهمني ضجة البوليفار هناك ولا سير الناعمات الغيد أمامي وأنا أقرأ.

آه يا سامح. لقد عانيتَ ما عانيت من أجل آرائك ومبادئك ضد الظلم والسلطة الغاشمة، وقضيت سنين في المعتقلات من أجل ذلك، وتمثلتَ بأساتذتك العظام في تحمل الآلام والتعذيب، ولكنك لم تصدح بمدح من فعلوا بك ذلك كبعضهم، فأنت دومًا كنت مع الحرية والديمقراطية. وحين دخلت في دنيا الأكاديميين، لم يكن غير من آمنوا بقدرتك الأدبية والفكرية الذين «ضمنوك» لدى السلطات حتى يسمحوا لك بالحصول على بعثة جامعية للدراسة بفرنسا. وقد حرصت على ألا تسعى للعمل في أي جهة مصرية بباريس كي تكمل دخلك كما يفعل الكثيرون، وعملت بالجامع الكبير وهو يضم كل العرب والمسلمين، بعد أن غضُّوا الطرْف عن تاريخي اليساري واكتفَوا بالنظر إلى خلفيتي اللغوية.»

وحين وصل إلى مقهى «الدوم» وجد هناك صديقًا ورفيقًا عزيزًا، فذهب إليه وحياه …

– بونجور هنري.

– أهلًا سامح. ما وراءك مع التطورات الأخيرة في مصر؟

– من ناحيتنا، هي تطورات ليست في صالحنا. السادات يمقت اليساريين، وأطلق سراح الإسلاميين كي يقضوا عليهم.

– كنت آمل أن تكون هناك فرصة لي لأعود إلى مصر آخر الأمر.

– لا … الآن أصعب من أيام عبد الناصر. على الأقل، كان عبد الناصر قد قرأ عنك منذ أن قام الجيش بحركته.

– ولكن انظر ماذا فعل بحركتي.

– لقد فعل ذلك بكل من حاول أن يظهر منافسًا له. ولا تنس أن «حَدِتُّو» كان لها شعبية كبيرة بين العمال والموظفين. لقد كنتَ مؤمنًا مخلصًا بمصر وبحركة ٢٣ يوليو وبعبد الناصر، ولكن لم يشفع لك ذلك.

– لقد فعلتُ له أكثر من ذلك؛ لقد أرسلت له خطة العدوان الثلاثي كاملة قبل أن يبدأ تنفيذه، ولكنه لم يصدقني.

– بالمناسبة، كيف عرَفت بأنباء هذا التحالف بين فرنسا وإنجلترا وإسرائيل؟

– هذه قصة طويلة سأحيكها لك في فرصة أخرى. وقد أرسلت بأنباء ذلك إلى عبد الناصر ولكنه لم يصدق ذلك إلا بعد فوات الأوان.

– وهل ما زلت مؤمنًا بتحول مصر إلى الشيوعية أو اليسارية؟

– طبعًا، إنها الحتمية. لو كنا قد نجحنا في مساعينا لوفرنا على مصر كل تلك الفواجع التي مرت بها. وقد منحتُ الحرية ومصر حياتي وكل ما أملك، وجاهدت من أجل استقلال الجزائر، وقدمت لها قصري بالزمالك ليكون مقرًّا لسفارتها في القاهرة. وها أنت ترى مصيري ها هنا محرومًا من العودة إلى بلدي مصر. ما علينا، أراك بخير يا رفيق … باي.

وحين قام مودعًا، لمح سامح محب قادمًا فلوح له بيده داعيًا إياه للجلوس معه.

– أهلًا يا محب، كيف الحال؟

– عندي مشاكل عديدة يا سامح، ولكني دائمًا أقول الحمد لله.

ثم سأله بطريقة عارضة: من هذا الشخص الذي كان معك؟

– ألا تعرفه؟ إنه هنري كيرييل.

– ماذا؟ كوريل المصري اليهودي الذي أنشأ حزب «حَدِتُّو»؟

– أجل، لو كنتَ تقدمت قليلًا لعرَّفتك به، إنه علم من أعلام عصرنا الحديث. أنا أنطق اسمه بالفرنسية الصحيحة، ولكني أعرف أنه معروف لدى المصريين باسم كوريل!

– أنت تمزح بالتأكيد. إن هنري كوريل قد اغتيل هنا في باريس.

– هههه. أنت الذي تمزح يا محب. لا «تُفَوِّل» على الشخص يا رجل.

– أفول؟ إن قبره هناك في «بير لا شيز»، وقد رأيته بعيني إلى جانب المشاهير هناك.

– لا بد أنك جننت.

وجفل محب وصمت، إذ أدرك أنه ولا بد قد عرَف ذلك في غيبوبة من النوبات التي تفاجئه، ولكنها هذه المرة شيء جاد، غاية في الخطورة، ولا يدري كيف يتصرف فيه. وبادر بتغيير موضوع الحديث مع سامح.

– كيف تسير دراستك عن ألف ليلة؟

وصمت سامح قليلًا ثم رد: على ما يرام. بدأت الآن في قراءة ترجمة ريتشارد بيرتون لها، وتصفحته فوجدته يكتب كلامًا غريبًا جدًّا عن القصص، وهذا وحده يستحق دراسة كاملة.

وقال محب ضاحكًا: ألم تجد في القصص آثارًا للأفكار الشيوعية أيضًا؟

فرد سامح مازحًا: أؤكد لك أنها موجودة.

وضحك الاثنان.

وحين غادر محب المقهى، طلب سامح زجاجة بيرة مثلجة، وفتح كتاب بيرتون بترجمته لألف ليلة وبدأ يكمل قراءة المقدمة التي كتبها المترجم.

وشيئًا فشيئًا، تأكد لسامح أن بيرتون يستعرض معلوماته عن الشرق والعرب والمصريين بكل وسيلة، وهو يسرد الترجمات الإنجليزية السابقة على ترجمته ويُظهر ما فيها من نقص وضعف، ولا يستثني إلا ترجمة «جون بين» التي ظهرت قبل ترجمته بقليل في تسعة أجزاء، ويعترف بأنه استفاد منها. ولما دقق محب في أوائل صفحات الترجمة البيرتونية، أخذ يضحك مقهقهًا؛ إذ وجد حواشي عديدة للمترجم، يشرح فيها كثيرًا من العادات والأعراف الجنسية على نحو مبالغ فيه ولا يرقى إلى أي معرفة علمية موثوق بها. وتعجب من ترجمته لبعض الكلمات والصفات العربية، مثل كلمة «كواعب»، وترجمته لما جاء في النص العربي من شعر، بشعر مماثل. وانتهى إلى الرأي بأن تلك الترجمة لن تضيف شيئًا إلى دراسته، ولكنها تحتاج إلى دارس يقوم بالتعليق عليها وعلى الحواشي والإضافات التي قام بها المترجم من عندياته؛ فهي تصلح لبحث مستقل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤