١٧

سار محب في الحي اللاتيني وهو مشغول البال بقرب وصول خطيبته سهير، يفكر فيما يمكن أن يفعل، وقد أثار ذكر سهير لأستاذها الدكتور عزيز غيرته السابقة من صلتها به قبل أن يخطبها هو، وعادت إلى ذاكرته محاولاته الدءوب كي لا يتحول إعجابها بعزيز إلى حب، ونجاحه في شغل قلبها وموافقتها على الخطوبة.

وجذب انتباهه عنوان سميك بجريدة اللُّومُوند المعروضة على جوانب الأكشاك، فلم يحاول قراءته إلا بعد أن رأى داخل المقال صورة لتمثال فرس النهر الفرعوني. واقترب عنده من الكشك وقرأ، وانتابته رعدة مفاجئة. اشترى الصحيفة وهرع إلى أحد المقاهي ليقرأ على مهل. كان العنوان السميك يقول: «سرقة أثمن تماثيل فرس النهر من اللوفر». وتابع القراءة: «اكتشف المسئولون عن إحدى غرف المقتنيات الفرعونية باللوفر مكانًا شاغرًا كان به تمثال فرس النهر. ورغم أن تمثال فرس النهر الفرعوني ذا اللون الأزرق الباهر له أمثلة عديدة موجودة في متاحف العالم، فإن هذا التمثال المفقود له قيمة ثمينة، من حيث جودته والحفاظ على ألوانه وأجزائه سليمة مكتملة. ولم يصرح أي مسئول بالمتحف عما حدث للتمثال، ولم يفسروا سبب فقده.»

وخفق قلب محب، فقد انتقل فكره منذ اللحظة الأولى إلى ذلك الطالب المصري الذي قابله في مقهى مونج، والذي سأله عن ذلك التمثال. وهو قد رآه مرة أخرى في حفلة الأستاذ رامي يتحدث مع خبير الآثار عادل عبد المجيد. رستم. نعم، رستم، اسمه رستم. وكان قد تحدث عن نيته سرقة التمثال انتقامًا لما علمه من نهب البعثات الأثرية ومنها الفرنسية للعديد من الآثار الثمينة في مصر. ولكن هل يكون هو من سرق التمثال؟ وكيف تمكن من ذلك في واحد من أعرق المتاحف وأكثرها منعة وحراسة؟ هل هو فعلًا أم شخص آخر؟

ولم يجد حلًّا للخروج من حيرته إلا التوجه إلى مقهى المصريين عله يعثر على رستم أو يسمع معلومات عنه. وحين دخل المقهى وتفرس في الموجودين به، لم يكن رستم بينهم. وحيَّا من يعرفه هناك، واختار أن يجلس مع عادل عبد المجيد لمعرفة إن كان يعلم شيئًا عن تلك الفضيحة.

– أهلًا أستاذ محب.

– أهلًا بك. أرجو ألا أكون متطفلًا عليك.

– بالعكس، مرحبًا بك.

– هل علمت بما حدث؟

– تعني سرقة تمثال فرس النهر؟ بالطبع قرأت الخبر في الصحف منذ قليل.

– وبالطبع تعلم ما قد خمنته أنا.

– تقصد رستم؟

– نعم، وأعلم أنه قد يكون حادثك في رغبته بالانتقام ممن سرقوا الآثار المصرية.

– صحيح، ولكن هذا لا يعني بالضرورة أنه وراء ما حدث. كما أننا لا نعلم كيف فُقد التمثال، فقد يظهر في مكانه ثانية. تعلم أن سرقة أي شيء من اللوفر ليست بالأمر السهل.

– أعلم. ولكن تصميم ذلك الشاب كان عجيبًا. وللمصريين ذكاء غريب في تلك الأمور.

– هل حادثك أنت أيضًا في ذلك الموضوع؟

– أجل، وباستفاضة وصراحة. كان ذلك يوم كنت أنت تحادثنا عن الزودياك وسرقته ونقله إلى فرنسا. وقد قال لي إنه لا بد من الانتقام من ذلك، بل وحدد الهدف بسرقة تمثال فرس النهر. كان يسميه تمثال سيد قشطة.

فضحك عادل وبادله محب الضحك.

عادل: إنه مجرد طالب خائب. ولكن يبدو من قولك أنه قد يكون وراء ما حدث.

– وهل ترى أنه يجب علينا أن نفعل شيئًا؟

– بالطبع.

– وماذا تقترح؟

– أولًا، علينا العثور على رستم وإقراره إن كان هو من أخفى التمثال أو سرقه. فإذا كان هو الفاعل، يجب أن نقنعه بإعادته.

– هذا صعب جدًّا من كل النواحي. فحتى إذا اقتنع، فكيف لنا أن نعيده بحيث لا يجرنا ذلك إلى أي عواقب.

– سنترك التفكير في ذلك لما بعد التأكد أن رستم هو من سرق التمثال ومعرفة ماذا فعل به.

– أوكي. ولكني أعتقد أنه سيتجنب الحضور إلى هذا المقهى الآن.

– سوف نسأل أصدقاءه عن عنوانه، وإذا لم يظهر قريبًا ذهبنا إليه حيث يقيم.

– موافق.

– سأقوم أنا الآن لأني على موعد. وأراك هنا غدًا إن شاء الله.

وبقي محب يرتشف القهوة باللبن ويغرَق في أفكاره. وبعد وقت وجد كميلة جالسة معه هاتفة به:

– اصح! ماذا بك؟

– أهااا … كميلة؟ متى جئت؟

– منذ دقائق. ظننت أنك في إحدى تلك الرؤى.

– لا يا كميلة. هناك مشكلة أمامنا.

– مشكلة؟ قل لي …

وحكى لها محب قصة رستم من أولها إلى آخرها وهي تنصت باهتمام وإن كانت مندهشة.

– ولماذا تتدخل في شيء كهذا؟

– لماذا؟ هذا سؤال غريب. إنه أمر يتعلق بجريمة أعلم من مرتكبها.

– إنك تدهشني يا محب، أنت وغيرك ممن هم على شاكلتك. أنت فنان، ليبرالي، تهتم بالفن والأدب، وتتابع السياسة ولكن دون أن تشارك فيها. وأنت تؤمن بالمثل العليا وتؤمن بالدين حتى وإن لم تقم بكل فروضه. وها أنت تتدخل في مسألة التمثال المسروق لأنها جريمة لا ترضى عنها؛ فهي تخرق القانون الأخلاقي. ولكن … أنت تخرق القانون الأخلاقي في أشياء خاصة دون أي تردد. فكيف تفسر ذلك الأمر؟

– أنت تقصدين قصتي مع شانتال بالطبع …

– طبعًا، أنت لك خطيبة في مصر، وقلت لي كم تحبها وكيف جاهدت حتى جذبتها إليك …

– هذا صحيح، وهو أمر غريب بالفعل. إن أمور الحب والفتيات لدينا نحن شبان هذا الجيل تتناقض بالفعل مع عقائدنا ومبادئنا. لقد وضعت يا كميلة يدك على صفة خطيرة من صفاتنا … التي يبدو أنك على حق فيها. أنا أذكر أن أستاذنا وصديقنا العزيز فيه هذه الصفة نفسها، ويبدو أن من أحاطوا به ونحن في مصر قد تأثروا به من تلك الناحية. ولكن لا تنسَي يا كميلة أنك مثلي وأكثر.

قال محب الجملة الأخيرة ضاحكًا.

– أكيد؛ فأنا من جيلكم ذاته.

– ولكنك أصغر سنًّا … وهذا جميل.

– أعتقد أن ذلك التضاد شائع عند المصريين كافة. أقصد أن المصريين مشهورون بالتدين، ولكنه في رأيي تدين ظاهري شكلي؛ فمعظمهم يؤدون الصلاة ويقومون بأداء فريضة الحج، والكثير يعتمرون أكثر من مرة. ولكن، حين يتعلق الأمر بأي فائدة مالية أو وظيفية، أو مغامرات نسائية، فأكثرهم لا يترددون في اقتناص الفرصة لمصلحتهم حتى ولو كان ذلك مخالفًا للعدل أو الشرع أو المنطق.

[ولم يكن محب وكميلة يدريان أن صديقًا لهما من نفس الجيل سوف يصدر كتابًا عن ذلك الجيل، يصف فيه أفراده كما يلي: إن أفراد ذلك الجيل قد عاصروا أحداثًا جسامًا في تاريخ وطنهم وأمتهم والعالم أجمع؛ فهم قد عاصروا الاحتلال البريطاني لمصر، وعاشوا عبر خمسة حكام لبلادهم: الملك فاروق، الرئيس محمد نجيب، الرئيس جمال عبد الناصر، الرئيس أنور السادات، الرئيس حسني مبارك. وهم قد عاصروا حروبًا كثيرة: الحرب العالمية الثانية، حرب فلسطين ١٩٤٨م، العدوان الثلاثي، حرب ١٩٦٧م، حرب ١٩٧٣م. وقد تأثر كل فرد من أفراد جيل الستينيات بتلك الأحداث على نحو مختلف، كما أن منهم من انخرط في العمل السياسي، ومنهم من راقب الأحداث ودرسها دون أن يتبع جماعة معينة أو ينقاد إلى أيديولوجية تعمي أبصاره عن أفكار الحياة …]

وتذكر محب أمرًا ما: بالمناسبة، سهير ستصل قريبًا إلى فرنسا.

– جاءك الموت يا تارك الصلاة.

وضحك محب.

– لا أدري إن كان يمكن أن تقيم معكِ عدة أيام.

– هذا جديد عليك. وما يحدث إن أقامت معك حتى تتزوجا؟

– إن جامعتها في ليون، ولا أدري ماذا سنفعل.

– هههه … ألن تتزوجا حال وصولها؟

– لا أعتقد ذلك؛ هناك أمور لا بد من استجلائها أولًا.

– أية أمور؟ إنها شانتال ولا شك.

– لا، شانتال تعلم بوجود سهير. ولكن موضوع ليون ذاك يقلقني. الأستاذ المعجب بسهير يزور ليون سنويًّا لإلقاء محاضرات هناك. وهو الذي اختار لها تلك الجامعة بدلًا من السوربون.

– أها … إذن هي الغيرة!

– لا أدري ماذا أفعل يا كميلة.

– طبعًا أهلًا وسهلًا بسهير معي في أي وقت. ولكني قلقة من ملابسات الموضوع كله، وكيف ستتقبل سهير ذلك التأجيل.

– عندها فكرة بالفعل. وأنا قلق أيضًا يا كميلة ولا أدري كيف سيسير موضوعنا ذاك.

– لا تهتم ودع الأمور تسير إلى أن تستطيع التحقق من عواطفك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤