١٨

مضى أسبوع ولم يظهر رستم، وانشغل محب وعادل في أمورهما، ولكن موضوع التمثال كان في فكرهما دائمًا. لهذا فحين كان محب جالسًا في المركز الثقافي المصري، لمح رستم ينظر في الصحف المصرية المعروضة هناك، وانتقى نسخة «الأهرام» واتجه ليجلس لمطالعتها. وحين وقعت عيناه على محب، استدار بسرعة معطيًا له ظهره، ثم أعاد الصحيفة وخرج من مبنى المركز. وأسرع محب خلفه وناداه، فتوقف رستم وحيَّا محب.

– أهلًا أستاذ رستم، ألا تتذكرني؟

– بلى بالطبع.

– هل يمكنني أن أدعوك إلى فنجان قهوة أو مشروب؟

– الحقيقة أنا مشغو…

– هيا هيا. لن نأخذ إلا وقتًا قصيرًا.

وجره محب إلى شرفة كافتيريا خارجية وجلس معه، وطلب زجاجتي كوكاكولا. واختار أن يدخل في الموضوع مباشرة.

– تعلم طبعًا أنني أريد أن أعرف ماذا فعلت بسيد قشطة.

– تقصد ذلك التمثال؟ لقد أخبرني صديق أنه اختفى من المتحف.

– أنت كنت تريد سرقته.

– كانت مجرد فكرة، ولكن ليست لي أية صلة باختفائه.

– تعلم طبعًا أن عليَّ أنا والأستاذ عادل عبد المجيد أن نبلغ السفارة بالموضوع.

– ليه؟ وما دخلي بذلك؟

– علينا أن نذكر ما قلته لنا ونترك التصرف للمسئولين.

– زي ما تحبوا، لكن أنا حنكر إني قلت أي حاجة عن التمثال.

– هذا يؤكد لي أنك تعرف ما جرى للتمثال. فإذا كنت تعرف من أخذه، أو كنت أنت من سرقه، فقل لي ونحن نستطيع أن نساعدك.

– كيف؟

– أعرف أن سرقة شيء كهذا من متحف مثل اللوفر بكل ما به من حراسة يحتاج لعقل مدبر ذكي.

فتهلل وجه رستم وقال دون وعي: مش كدا؟ شكرًا أستاذ محب!

وتطلع محب إلى رستم، وتطلع رستم إلى محب، ثم انفجر كلاهما في الضحك.

محب: جميل. أظن هذا أفضل. وأنا عند وعدي بمساعدتك في رد التمثال دون أن ينالك أي ضرر.

وظل رستم مطرقًا فترة قبل أن يتكلم.

– وازاي حتقدر تعمل دا؟

– اترك هذا لي. والآن، هل التمثال سليم وفي مكان آمن؟

– نعم.

– أين خبأته؟

وتردد رستم قليلًا قبل أن يجيب: إنه في صندوق الأمانات الأوتوماتيكي بمحطة سان لازار.

– أها … يا لك من مدبر! كان الأفضل أن تستخدم هذا الذكاء في شيء بنَّاء.

– أردت أن أنتقم لبلدنا من سرقة آثارنا.

– لا لا. ليس بتلك الطريقة يا رستم. نحن نعيش في فرنسا وبين الفرنسيين ويجب علينا أن نحترم قوانينهم. لا تنسَ مقولة الشيخ محمد عبده عن فرنسا بعد عودته من منفاه هناك: «كنت في باريس فوجدت فيها مسلمين ولم أجد إسلامًا، وها أنا ذا في مصر أجد إسلامًا ولم أجد مسلمين.» نعم، لنا حقوق في الآثار التي خرجت على نحو غير قانوني من بلادنا، ولكن هذا هو واجب مصر بالتفاوض من أجل إعادتها، لا بسرقتها ثانية. وبالمناسبة، كيف حالك في دراستك؟

– مش ماشي؛ اللغة صعبة وتقف عقبة في وجهي.

– أرى أن اختيار فرنسا للدراسة بالنسبة لك غير مناسب. إن أسرتك فيما يبدو قادرة على الإنفاق، فكان أجدر أن تتوجه بالدراسة في مصر، أو في دولة عربية.

– أبي صمم أن أدرس بالخارج.

– وما حال لغتك الإنجليزية؟

– متوسطة، لكني أحبها وكان يمكن أن أدرس بها.

– كان يمكنك الدراسة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، أو ببيروت. ما رأيك أن نقابل معًا الملحق الثقافي المصري هنا ونبحث معه إمكانيات دراستك في دول أخرى؟

– جميل جدًّا.

– سنتفق على ذلك في لقاءاتنا بالمقهى. والآن، هل تعطيني مفتاح الصندوق الذي وضعت فيه التمثال؟

فقام رستم بخلع حذائه وسط دهشة محب، وأخرج منه مفتاحًا صغيرًا.

رستم: من يعرف حكايتي غيرك؟

– الأستاذ عادل عبد المجيد. ولكن، اطمئن، من الآن لا صلة لك بهذا الموضوع، وسأتولى أنا وهو إعادته للمتحف أنونيموسلي.

– ما معنى الكلمة دي؟

– أقصد دون أن يعرف أحد من أخذ التمثال ومن أعاده.

– آه. شكرًا لك يا أستاذ محب، لقد أنقذتني من حِمل ثقيل كان يتعبني.

– أعلم ذلك؛ فأنت في أعماقك من أسرة طيبة ولا تحب أن تفعل شيئًا غير قانوني.

– أترك الأمر لك إذن، وسأقابلك في القهوة لنتفق على زيارة الأستاذ رامي بشأن دراستي.

•••

توجه محب لزيارة عادل في فندقه، حيث رحب به عادل، وجلس محب إليه.

– هل وصلت إلى شيء في موضوع رستم؟ إني لم أره منذ تحدثنا عن موضوعه سابقًا.

– أنا كنت أحسن حظًّا، وإن كنت قد رأيته مصادفة. لقد نجحت في حمله على الاعتراف بأنه من سرق التمثال.

– أوووه. كيف تسنى له أن يفعل ذلك؟ إن مثل ذلك الأمر يستعصي على اللصوص المحترفين.

– في الواقع لم أسأله عن كيفية السرقة، فقد اكتفيت بمعرفة المكان الذي خبَّأ فيه فرس النهر.

– هذا هو المهم بالفعل.

– لقد وضعه في صندوق آلي للأمانات في محطة سان لازار، وأعطاني المفتاح. والآن أريد استشارتك عما يمكن أن نفعله لإرسال المفتاح للمتحف أو للشرطة دون الكشف عن هوية أي أحد.

– مممممم … أفضل شيء يا أستاذ محب هو وضع المفتاح في مظروف معنون لأمين المتحف وإسقاطه في أي صندوق للبريد.

– أجل يمكننا ذلك بعد أن نزيل أي أثر لبصمات الأصابع من على المفتاح أو المظروف.

– وهكذا يضطرنا هذا الغلام إلى أن نفعل فعل محترفي الإجرام!

– المشكلة الآن هي كيف نذكر لمسئولي المتحف أن التمثال الضائع موجود في صندوق الأمانات والمفتاح هو للصندوق؟

– صحيح، هذا صعب. يجب ألا نستخدم خط اليد.

– هذا سيجعلنا نلجأ إلى الحيل الصبيانية. لا حول ولا قوة إلا بالله.

– تقصد أن نصُفَّ جملة بما نريده من حروف إحدى المَجلات؟

– ليس أمامنا سوى ذلك.

فضحك محب بمرارة وهو يقول: أفضِّل استخدام عدد من باري ماتش.

– سأترك لك هذه المهمة؛ فأنا لا أعرف الفرنسية جيدًا.

– وهو كذلك. ولكن علينا ألا نفاتح أي مخلوق بهذا الموضوع، ونعتبره منتهيًا عند ذلك.

– هذا طبيعي يا أستاذ محب، ولك تعهد مني بذلك.

•••

وكان أن قص محب في بيته حروفًا من مجلة باري ماتش قديمة تشكل جملة قصيرة بالفرنسية تفيد أن المفتاح المرفق هو لصندوق أمانات به تمثال فرس النهر الضائع. وبعد أن تأكد من إزالة أي أثر للبصمات على كل شيء، ألصق طابعًا على المظروف الموجه إلى متحف اللوفر قبل أن يخرج لإلقائه في صندوق بريد بعيد عن منطقته.

ولم تطل به الأيام كي يرى النتيجة، فبعد أيام ثلاثة من ذلك، طلعت الجرائد بنبأ العثور على التمثال الضائع، وأن خبراء المتحف تأكدوا أنه هو التمثال الأصلي وليس نسخة زائفة منه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤