١٩
خرج رامي من مبنى شقته إلى صباح يوم سبت جميل، فصاح في خفوت كعادته أحيانًا: بونجور باريس. كان قد تعود على أن يقضي بعض أيام السبت متجولًا وحده في طرقات باريس، يتطلع إلى المارة ويستطلع فترينات المحلات في غبطة وسرور. وكان يذكر دائمًا ما صاحت به أودري هيبورن في فيلم «وجه غريب» حين رأت باريس لأول مرة، ويردد ما يماثله عندما تطالعه باريس بجمالها الساطع. وسار قليلًا ثم هبط إلى المترو ليستقله إلى محطة قوس النصر، وخرج من جهة جادة الشانزليزيه، وعبر إلى الرصيف الآخر حيث كان يحب المحلات التي به.
شركات الطيران العالمية، المصارف، محلات أرجانس المشهورة بالكرافتات الحريرية الرائعة، دور السينما، الكافتيريات الجميلة التي تبسط الموائد خارجها، ومحلات الأسطوانات. ودخل محل الأسطوانات ليبحث عن الجديد فيها. وكان قد استقر عزمه بعد تفكير إلى شراء الجهاز الجديد الذي ظهر في الأسواق والمسمى «كاسيت ريكوردر»، الذي يستخدم شريطًا في علبة صغيرة مسجلًا عليه الموسيقى والأغاني، ومعه ميكروفون للتسجيل على الأشرطة الخام. وكان لديه جهاز التسجيل الضخم بالبكرات، ولكنه ثقيل ويتطلب الكثير من الإجراءات للتسجيل عليه ثم تحديد مكان ما قام الشخص بتسجيله، أما الجهاز الجديد فكان صغير الحجم وسهل الاستعمال. وكان قد درس الموضوع قبل ذلك واستقر رأيه على جهاز من ماركة فيليبس، وعليه فلم يأخذ الأمر منه وقتًا طويلًا، إذ ابتاع الجهاز ومعه الضمان وبعض الأشرطة الخام للتسجيل عليها، واشترى كذلك شريطًا مسجلًا لبعض أغاني «أدامو» التي يحبها، وشريطًا آخر عليه قطع «كارمينا بورانا» التي وضع موسيقاها كارل أورف. وخرج فرحًا بغنيمته الفنية التي ستفتح له آفاقًا جديدة للاستمتاع بالموسيقى والأغاني على نحو أكثر سهولة. ورأى بخياله كيف ستُسَر ماريسول بذلك وكميلة أيضًا.
ولما كان حَمله خفيفًا، استمر في مِشيته الهادئة في البوليفار الواسع الفخم. لمح مكتبًا للصرافة ورأى كيف انخفض الدولار الأمريكي في مقابل الفرنك الفرنسي، بما يعني تأثر مرتباتهم، ولكنه لم يهتم بل ابتسم حين تخيل مدى امتعاض من جاءوا هنا لجمع الأموال فحسب، ووصل إلى مكان الكافتيريا الجميلة التي تعودت الشخصيات العربية على الجلوس في شرفتها الخارجية يتبادلون الأخبار والآراء. وجلس يستمتع بالنظر إلى المارة من حِسان باريس والعشاق الذين يمضون متلاقي الأيدي، ويستمع إلى مناقشات من بجواره من العرب، وكان معظمهم يتحدثون بالفرنسية حتى لا يَلفتون إليهم الأنظار. كان أكثرهم مذهولين من هزيمة مصر بتلك السهولة بعد أن تحدت الجميع قبل الحرب، وبعضهم يبدي ضرورة التكاتف الاقتصادي لمساعدة دول المواجهة، وخصوصًا أن الحرب قد أدت إلى الزواج في بعض الدول الأخرى.
وأخرج رامي دليل جهاز الكاسيت الجديد وأخذ يقرؤه وهو يحتسي مشروبه، وتعجب من إمكانيات ذلك الاختراع الجديد الذي يمكن اصطحابه وحمله في الأسفار والرحلات للاستمتاع به في كل مكان، وكذلك تسجيل ما يريد كتابته من مقالات وترجمات حتى وهو في سياحاته المختلفة بأقاليم فرنسا وفي بلاد أوروبا. وكان قد وضع في خططه الاستفادة من وجوده في فرنسا لزيارة بعض الدول القريبة، فزار بالفعل إنجلترا — بطبيعة الحال — مرتين، وإسبانيا وهولندا، وهو يعد العدة الآن لزيارة النمسا. كانت فيينا دائمًا في باله بما فيها من طبيعة خلابة وموسيقى عالمية وجمال تغنت به الآفاق. وكان يذهب إلى البلاد التي لا يعرف لغاتها ضمن زيارة منظمة يصحبهم مرشد سياحي عليم باللغة. ولكن كانت هناك بالطبع أيام حرة يذهب فيها كل سائح حيث يريد، وكان رامي يستغلها لزيارة المكتبات والأماكن التي لا يتضمنها برنامج الرحلة المنظمة، وينتهز فرصة أنه بمنجًى من أن يصادف أحدًا يعرفه، فيدخل إلى محلات الجنس ليرى ما فيها مستطلعًا، وإلى دور سينما «الأفلام الزرقاء» ويُبهَت بما يشاهده فيها. كان كل ذلك متواجدًا بوفرة في باريس، ولكنه كان يخجل من التردد عليها خشية أن يراه أحد من الطلاب المصريين أو العرب. كانت هولندا في مقدمة البلاد التي افتتحت مثل تلك المحلات، وبها أيضًا تلك الفترينات التي تعرض فيها بائعات الهوى أجسادهن، ورأى في لندن الفتيات يشرحن في محلات الجنس ما تبيعه دون حرج أو خجل. وهو يتطلع في زيارة النمسا إلى الذَّهاب إلى ضاحية «جرينزنج» حيث قرأ عن الساقيات الحِسان يقدمن الشراب ولا يغطي صدورهن إلا شريط رقيق! غير أنه كان يطمح أيضًا إلى مشاهدة الأوبرا هناك، وزيارة «مايرلنج» الشهيرة وحضور تمثيليات المقاهي إذا ما كانت إحداها تقدم شيئًا بالإنجليزية أو الفرنسية.
ونهض مستمدًّا مزيدًا من النشاط، ماضيًا في جادة الشانزليزيه إلى «الروند بوان»، حيث المباني الجميلة لبعض الصحف الفرنسية المشهورة، هادفًا بعد ذلك إلى الوصول — كعادته — إلى ميدان الكونكورد. وهناك جلس يستريح ويملِّي بصره من رحابة الميدان ومن المسلة الفرعونية تَسمُق في منتصفه بينما التماثيل الأربعة تحتل جوانبه. وحين قام ليكمل مسيرته إلى شارع ريفولي حيث يتناول طعامه، لمح كميلة وماجد يقفان في الصف لدخول متحف «جي دي بوم» في جانب الميدان، فبذل جهده أن يتوارى عنهما حتى لا يعطلانه بدعوته للانضمام إليهما. وتفكر في عَلاقة كميلة وماجد التي سبق أن شرحتها له كميلة حين ألح أن يعرف بها، وتعجب من تلك الفتاة الجميلة الذكية التي ترفض الزواج من ذلك الشاب الوسيم الثري وتفضل أن تكون عَلاقتهما حرة.
وأهل على شارع ريفولي العتيد بما فيه من حوانيت العاديات والتذكارات الفرنسية، وكان كالعادة يعج بالسياح الذين يبتاعون تلك الأشياء. ولم يكن رامي يحب أن يكون بينهم، فتوجه من فوره إلى «مطعمه العجيب» كما كان يسميه؛ لأنه شُغِف به منذ زمن وأصبح هو معروفًا فيه، وكان يقدم خدماته طوال اليوم على غير عادة المطاعم الفرنسية التي تتقيد بمواعيد محددة للغداء والعشاء. وكان يوم رامي جميلًا كعادته في أيام السبت، ثريًّا بما رآه وشعر به من أحاسيس الفن والجمال.
وكان قد واعد ماريسول على اللقاء أمام واجهة اللوفر الرئيسية، لتمضية ليل السبت ويوم الأحد معًا كالعادة. وحين التقيا سألها أي الأفلام تود أن ترى، وأعربت ماريسول عن رغبتها في مشاهدة فيلم «الأب الروحي» الذي كان قد بدأ عرضه في فرنسا، ولكن رامي أبدى اعتراضه على مشاهدة ذلك الفيلم بالذات بدوبلاج باللغة الفرنسية؛ لأنه قرأ عن براعة مارلون براندو في التحدث كزعيم من زعماء المافيا الإيطالية في نيويورك، ولذلك هو يرغب في مشاهدة الفيلم في إحدى السينمات التي تعرض الأفلام بصوتها الأصلي بترجمة فرنسية. ولما ألحت صاحبته وافق رامي، على أن يعيد رؤيته للفيلم كما يريده بعد ذلك.
واستمتعا بالفيلم حتى في نطقه الفرنسي أيما استمتاع. وطاف في ذهن رامي أنه لا حاجة به الآن لأن يقتنص من صاحبته قبلات أو لمسات في ظلام السينما كما كانوا يفعلون في مصر، فعنده هنا شقته الخاصة والحرية الفردية التي يتيحها له المجتمع الفرنسي، بأن يقابل من يقابل ويصطحب إلى بيته من يصطحب، دون رقابة من أحد ولا نظرات استهجان من الجيران.
وبعد الفيلم، عادا إلى شقة رامي وهما يتناقشان فيه ويبديان إعجابهما بتمثيل مارلون براندو وآل باتشينو المعجز، وبالموسيقى الرائعة المصاحبة للفيلم. وكانا يتعجبان من أمر عصابات المافيا في نيويورك في مطلع القرن؛ إذ كانا يظنان أن مرتع الجريمة في أمريكا مدينة شيكاغو، ولكن الفيلم قدم تلك العصابات بالتفصيل وكيف كانت تعيث فسادًا هناك ويمتد نشاطها إلى كل الولايات الأمريكية. وكالعادة، انهمكت ماريسول في إعداد العشاء، بينما أخذ رامي يطالع كتابًا عربيًّا ويترقب الحب الذي سوف تمنحه إياه ماريسول.