٢

كان محب قد حضر إلى باريس في بعثة للحصول على الدكتوراه من جامعة باريس في التاريخ الإسلامي، فبعد أن التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، حاول الالتحاق بقسم اللغة الإنجليزية، ولكنه وجد أنه يُشترط التخصص في اللغة في الثانوية العامة، وكان تخصصه في التاريخ، فلم يُقبل طلبه، وحُولت أوراقه إلى قسم التاريخ، وكان قسم التاريخ يقع في نفس مبنى قسم اللغة الإنجليزية، في الطابق العلوي، فكان ذلك يذكره دائمًا بخيبته في الالتحاق بالقسم الآخر، خاصة حين يرى طلبة وطالبات قسم اللغة الإنجليزية وما يمثلونه له من حلم لم يتحقق. وقد دفعه هذا الشعور إلى محاولة بذل الجهد في الدراسة والتفوق فيها، فتخرج من القسم بتقدير ممتاز، مما سهل له العمل معيدًا والحصول على الماجستير تحت إشراف أستاذه وراعيه الدكتور الشافعي، وهو الذي ساعده أيضًا في الحصول على بعثة إلى فرنسا لنيل الدكتوراه. وكان محب يفضل الذَّهاب إلى بلد لغته إنجليزية، فهو قد عكف أيام الجامعة على دراسة تلك اللغة وقراءة المراجع بها، والتحق بدورات اللغة في المجلس البريطاني والجامعة الأمريكية. ولكن حظه قد ألقى به إلى بعثة في فرنسا بالذات، طبقًا للتخصص الذي رسمه له أستاذه بدراسة التاريخ الإسلامي، وخاصة عَلاقات الشرق والغرب في عصر المؤلف الفارس أسامة بن منقذ. ورغم أن المخطوط الأصلي لكتاب ابن منقذ موجود في ضاحية من ضواحي مدريد بإسبانيا، فإن أخبار العثور حديثًا على مخطوط آخر للكتاب في الجناح الشرقي للمكتبة القومية بباريس دفعت الدكتور الشافعي إلى تعديل خطة الدراسة للذهاب إلى فرنسا، وإعداد الرسالة اعتمادًا على ذلك المخطوط الجديد. وقد سهل له الأمر أن الفتاة التي أغرم بها أيام الجامعة كانت في قسم اللغة الفرنسية، وكان دائمًا معها ويسألها عن دراساتها وقراءاتها وهي معظمها بالفرنسية. وكانت قصة حبهما أسطورة عرَف بها كل من كان في كلية الآداب، ومن يتردد على المكتبة والبوفيه. ولكن كان لديه هوس يخالجه ويقضُّ مضاجعه من جراء الصلة التي ربطت سهير بأستاذها في قسم اللغة الفرنسية، فقد كانت دائمًا معه وتتحدث عنه كثيرًا مع محب، مما جعله دائم الانشغال والغَيرة، بالإضافة إلى أن سهير قد ذكرت له عرَضًا أنها تشعر باهتمام غير عادي للدكتور عزيز — أستاذها — بها، بل وحبه لها.

وحين كان يترقب البعثة شجعته سهير على الالتحاق بدورة لغوية سريعة في المركز الثقافي الفرنسي في المنيرة، أعطته الأسس اللازمة لدراسة اللغة، وأضاف لها هو من عنده دراساته وقراءاته الخاصة المتوسعة، بالإضافة إلى الاستماع إلى الإذاعات الفرنسية ومحاولة رؤية ما هو موجود من أشرطة الأفلام الفرنسية. وطبعًا بالإضافة إلى المحادثة مع سهير التي أصبحت بالفرنسية منذ ذلك الوقت.

وكانت رحلته إلى باريس على متن الطائرة المصرية، أول مرة يستقل فيها الطائرة في حياته، وما يزال يذكر الرهبة التي انتابته إذ الطائرة تقلع وقد جلس متصلبًا في مقعده لا يجرؤ على الالتفات يمينًا أو يسارًا. ولما مضى وقت لم يحدث فيه شيء، تطلع على يساره إلى النافذة، فرأى ما يشبه الطريق الممهد الحريري، فظن أنه الطريق الصحراوي الذي يربط بين القاهرة والإسكندرية، وذلك قبل أن يتبين، مع إنعام النظر وبعد فترة طويلة، أنه إنما يتطلع إلى جناح الطائرة! وكانت أيامه الأولى في باريس تخطر على باله كالحلم، إذ يتلمس خطواته في هذا العالم الجديد، ويجد نفسه ضائعًا في هذه المدينة، وهو في نفس الوقت مبهور بما يراه وبما كان يحلم برؤيته. واستعمل المفردات التي كان يعرفها من دراسته العاجلة للغة الفرنسية في العثور على فندق رخيص، ثم استعان بخريطة للمدينة على التوجه إلى مكتب البعثات في السفارة المصرية بباريس. وما زال محب يذكر الفترة الطويلة التي قضاها في المكتب، في انتظار إنهاء الأوراق اللازمة له، من صرف مرتب البعثة، وتوجيه خطاب للجامعة التي سيدرس بها، إلى تسجيل نفسه لدى المكتب. وكان يظن أن عون المكتب سيكون أكبر من هذا، ولكنه كان معتادًا على معاملات المكاتب المصرية وما هذا إلا امتداد لها، وإن كان قد وجد في أحد الملحقين الثقافيين بالمكتب ودًّا وبشاشة، إذ جاذبه أطراف الحديث واستفسر منه عن دراساته وقراءاته، وقال له إنه هو نفسه كان يعمل في متابعة دراساته هنا، ولكن اعتبارات العمل تمنعه من المضي قدمًا في إعداد رسالة الماجستير التي سجلها فعلًا، وإن كان لا يجد وقتًا للذَّهاب إلى المكتبات والبدء في الرسالة. وقامت صداقة بين محب وذلك الملحق واسمه رامي، تمثلت في عدة دعوات على الغذاء أو القهوة ومناقشات في التاريخ والفن، وكان رامي أعزبَ لا يرغب في الزواج، على غير عادة الدبلوماسيين المصريين حين يُوفدون إلى الخارج، وزاره محب في شقته الأنيقة في الحي البعيد عن السفارة، وأُعجب بذوقه في معيشته، واستمعا معًا عدة مرات للموسيقى من الأسطوانات العديدة التي زود بها رامي شقته.

•••

وصل محب إلى فندقه بعد أن أكل وجبة سريعة في المطعم الصغير الذي اعتاد ارتياده. كان فندقًا متواضعًا في حي سان لازار، يديره بعض الشبان المغاربة، ويبدو أن مالكه يهودي فرنسي. وكان محب ضائقًا به، نظرًا للضوضاء الشديدة التي تصله على الدوام في حجرته الصغيرة به. كان الفندق يقع في قلب الحي، على بعد أمتار قليلة من محطة القطارات المشهورة. كان قد انتقل إليه منذ شهرين، وهو مصمم الآن على تغييره في أول فرصة تسنح له. وكان قد هام بحي سان لازار منذ قرأ قصيدة لويس عوض الشهيرة في ديوانه الشهير بلوتولاند، الذي كان قد نفد من الأسواق ولم يُعَد طبعه، ولكنه استعاره من مكتبة الجامعة ونسخه كله تقريبًا.

دخل حجرته في حوالَي الساعة الرابعة بعد الظهر، وكانت معتمة رغم وجود شيء من الشمس في السماء، فخلع ملابسه وتمدد على السرير وأخرج لوحة رينوار وأخذ يتأملها. هذا حصاد الصباح من الزاد الفني والأدبي، هل يا تُرى سيتاح له قريبًا أن تكون له شقة صغيرة رخيصة يمكن أن يجمع فيها ما يريد شراءه من كتب وأوراق؟ إن مرتب البعثة لا يكاد يفي بمصروفاته ولا بد من استكماله بعمل ما، وهو قد أوصى كل من يعرف أن يدله على أي مكان يعمل فيه بعض الوقت. ورغم علمه أن ذلك سيؤثر على وقت الدراسة والبحث، فإن الاستمرار على هذا الوضع المالي أمر محبط، فكيف له أن ينهل من الثقافة والفن والمعرفة دون أن يتمكن من الولوج إلى كل هذا، وهذه الأمور تكلف نقودًا. ويكفيه النهل من الجمال، فهذا شيء مجاني، وأوقات المتاحف المجانية، والمكتبات العامة. ولكن في داخل نفس كل فنان وأديب تكمن بذرة حب امتلاك مصادر الفن والمعرفة، حب الكتب، بل جنون الكتب، واقتنائها جنبًا إلى جنب مع أدوات الفن التي لا غنى عنها: راديو رائق الصوت، بيك أب وأسطوانات أساسية، نسخٌ من اللوحات العالمية، وغير ذلك كثير. كان قد استبدل بسور الأزبكية بالقاهرة سور نهر السين، حيث «الورَّاقون» على قول الجاحظ، ومكتباتهم العديدة، التي ابتاع منها عددًا من الكتب التي تهمه. وهو لم يكن يجسر على عمل ما قام به توفيق الحكيم في فترة ما قبل الحربين في باريس، حين كان يمكث طوال اليوم في مكتبة لبيع الكتب يقرأ ما يريد، ثم ينصرف آخر النهار بعد أن يشتري كتابًا رخيص الثمن «مداراة لصاحب المكتبة.»

وجال في خاطره ما تطوعت به كميلة من محادثة رامي لإلحاقه بوظيفة مشرف مناوب على مكتبة المركز الثقافي. لو نجحتْ في ذلك سيكون الأمر عظيمًا من كل الوجوه؛ فبالإضافة إلى زيادة دخله بحيث يستطيع استئجار شقة صغيرة، فالعمل يستهويه حيث سيكون بين الكتب على الدوام، كما أنه لن يُعيقه كثيرًا عن دراسته؛ لأنه فهم منها أنه سيكون ثلاثة أيام في الأسبوع فقط. وهو سيعمل تحت رئاسة مساعد الملحق الثقافي الذي هو مدير المركز، ذلك الرسام المثقف الذي يحبه كثيرًا، والذي هو قريب جدًّا للناس ولطلبة البعثات من الملحق الذي تضفي عليه صفته الدبلوماسية نوعًا من الجمود رغم كل شيء.

وأحس عند ذلك بالضجر، وانتابته حالة من الضيق من حجرته، فلبس سُترته وخرج قاصدًا مقهًى يتجمع فيه عدد من المصريين في كل الأوقات، وكان مقهى ريتز في شارع «مونج». وسار على قدميه ينهل من ثراء المحلات الباريسية التي كان يحب دائمًا أن يتأملها. أما حين كان يمر على مكتبة، فلزامٌ عليه أن يقف أمامها يطالع عناوين الكتب المعروضة ويحلم بشراء ما يريده منها. هذا هو الكتاب الشهير عن التحدي الأمريكي؛ هل يا تُرى ستفلح فرنسا في التصدي لهذا التحدي وتسير على خطى ديجول وخليفته، أم أن أمريكا ستمضي في سيطرتها على الكتلة الغربية، مقابل الاتحاد السوفيتي ومعه الكتلة الشرقية؟ وانتابته تلك الحالة الغريبة التي كان يمر بها، فأحس بأنه في بُحران. وإذا به وقدماه تسيران في الطريق إلى مقهى مونج شيئًا فشيئًا، بينما ذهنه ومخيلته في واد آخر، وتجلى الطيف الزمني الهائل من جديد، فإذا به يشعر بأنه في زمن غير الزمن الذي هو فيه، وصور له ذلك الطيف أحداثًا يظن أنها وقعت، وعلم بها واستقرت في وعيه. وعاد إلى ذهنه غِلاف الكتاب مرة أخرى، فإذا عنوانه هو البيريسترويكا، ولم يفهم ماذا تعني. وإذا كتاب آخر يتحدث عن سقوط الإمبراطورية السوفيتية. عم يتحدثون؟ وتتالت في ذهنه صورة نيكسون وهو يزور البلاد المختلفة، وهو يعبُر في موكب طويل جسرًا بدا كأنه كوبري قصر النيل والأعلام المصرية والأمريكية ترفرف عليه، والاستقبال الرسمي له في مصر، وإذا بمن يستقبله ليس رئيس مصر الذي يعرفه بل رئيس آخر، ثم رأى نيكسون على شاشة التليفزيون يلوِّح بذراعه مودعًا وهو يغادر البيت الأبيض في طائرة هِليكوبتر، ثم رأى رئيسًا أمريكيًّا آخر ذا وجه صلد وهو يسقط متعثرًا على سُلم طائرة، ثم رئيسًا آخر بشوشًا، ثم آخر كان قد عرَفه ممثلًا سينمائيًّا رأى له فيلمًا عن قصة لهمنجواي. ثم وصل زعيم آخر أصبح يُشار له بوصفه زعيم العالم الوحيد، بعد أن زال الاتحاد السوفيتي ودالت دولته. وأين الشيوعية؟ ورأى زعيمًا آخر يُعتقل ويواجه مِنصة الإعدام ويحاول الإفلات بالجري هو وزوجته، وثورات شعبية تنشب هنا وهناك، وحائط برلين الحجري وهو ينهار، وتباع حجارته تذكارًا للذاكرين، وهكذا سادت أمريكا وساد التحدي الأمريكي في كل شيء.

وأفاق محب من بُحرانه، بعد أن اختفى طيف الزمن، ولكنه لم يفهم شيئًا مما رآه بعين ذهنه، واعتبر ما حدث كابوسَ يقظةٍ آخر. وواصل مسيرته حتى وصل إلى المقهى، ورأى الشلة التي يستريح إليها جالسة في ركن بعيد، يحتسي أفرادها الشاي أو القهوة باللبن؛ فاتجه للانضمام إليهم.

كانت المناضد متناثرة هنا وهناك، يلتف حول كل منها ما بين أربعة أو خمسة أشخاص. وكانت كل منضدة تجمع شلة معينة تآلف أعضاؤها على شيء ما، أو اختلفوا على شيء ما. فهذه شلة الطلبة الجامعيين، الذين يدرسون للحصول على الليسانس أو البكالوريوس، وهم ينقسمون عمومًا إلى فئتين رئيسيتين بحسب مستواهم الاقتصادي؛ الفئة الأولى: هي التي أرسلها الآباء للدراسة إلى فرنسا على حسابهم الخاص، وهم ممن يعملون في البلاد العربية ويستطيعون اقتطاع جزء من رواتبهم للصرف على أبنائهم الذين لم يفلحوا في دخول الجامعة في مصر، وقرروا بناءً على ذلك أن يحمل الابن أو تحمل الابنة شهادة جامعية «عالمية». والفئة الأخرى: هي ممن يعمل أفرادها للصرف على دراستهم الجامعية، وهؤلاء طبعًا أشقى حالًا وأقل دخلًا من الفئة الأولى. وعدد هؤلاء في باريس كثير، ولا تكاد تخلو مقابلاتهم من شجار ومعارك، كما أن حديثهم يدور عمومًا حول الفتيات ووسائل اجتذابهن. وكان موجودًا حول المنضدة يومها أربعة.

وشلة أخرى متقدمة عن هذه هي شلة طلبة الدراسات العليا، من دارسي الماجستير أو الدكتوراه، المُوفَدين على بعثات أو منح، أو الذين يدرسون على حسابهم، وهؤلاء أيضًا تنتشر بينهم طبقية قاسية؛ فالذي يدرس للماجستير ليس كالذي يدرس للدكتوراه، ودكتوراه الدولة ليست كدكتوراه الجامعة، ومن يدرس العلوم ليس كمن يدرس الآداب، وكلاهما ليس كمن يدرس الفنون. وهناك تقسيمات أخرى: فمثلًا، هناك شلة الفلاسفة، يقودها الدكتور سيد الذي أنهى الدراسة في جامعة السوربون ولكنه لم يعد بعدُ إلى مصر. وكان محب يسعد بالاستماع إلى مناقشاتهم، بل ويجلس إليهم أحيانًا، خاصة حين يكون بينهم أستاذ الفلسفة العظيم الذي طالما قرأ له في الأدب والشعر والفن. وكان يعتمد عليهم أيضًا في حضور المحاضرات المهمة في الكوليج دي فرانس، وتعرَّف بفضلهم على فكر البنيويين؛ فوكوه ولاكان وألتوسير وبارت وغيرِهم.

ومن الشلل الهامة أيضًا والمثيرة للعجب تلك التي كانوا يطلقون على أفرادها شلة أصحاب الذقون، ممن كانوا يدرسون فروعًا مختلفة متعددة ولكن جمعت بينهم أواصر الشعور الديني الغامر الذي جعلهم ينصِّبون أنفسهم حماةً للدين ومدافعين عنه ضد كل ما يتصورونه بِدَعًا. كانوا من الغلاة المتشددين في كل شيء، حتى يقال إن وقت فراغهم الوحيد يُمضونه في هذا المقهى لا غير …

وكان للمصريات أيضًا شللهن الخاصة، رغم وجود الفتيات في شلل الشبان أيضًا، ولكنهن كن يجتمعن أحيانًا مع بعض المصريات اللاتي لا يرغبن في الاختلاط بالرجال، وكانت تغطية شعر المرأة قد بدأت تظهر لدى قليل من المصريات هناك.

ثم هناك أصحاب الأعمال، ولكنها الأعمال المتوسطة أو الصغيرة، والموظفون الذين استقروا في باريس في وظائف صغيرة أو متوسطة هي الأخرى. وكان منهم التجار الذين نجحوا في افتتاح مطعم، أو بوتيك صغير في حي شعبي؛ والموظفون الذين يعملون في شركات فرنسية، في أعمال المحاسبة والصرافة، واحيانًا في الفنادق والشركات السياحية التي توظفهم لأعمالها مع الدول العربية والزوار العرب. وكانت أعداد المصريين في فرنسا وفي الدول الغربية الأخرى قد زادت بعد هزيمة ١٩٦٧م، حين عمل الكثيرون على الهجرة إلى الأصقاع الأجنبية — وخاصة إلى أمريكا — طلبًا لحياة أفضل وعلم أعمق، وتحقيقًا لآمال لم يستطيعوا تحقيقها في ظل ما يحدث في بلادهم.

وعلى هذا المنوال كانت تنقسم تجمعات المصريين في ذلك المقهى العجيب، وهو يمثل مكانًا وسطًا للتجمع المصري؛ ففي القمة توجد كافتيريات وسط المدينة الضخمة، خاصة في شارع الشانزليزيه، ومنها الكافتيريا الحمراء على ناصية أفنيو جورج الخامس التي يرتادها الدبلوماسيون العرب، ومنهم صاحبنا رامي؛ لتبادل الأخبار فيما بينهم، ومع الكثير من «المنفيين» العرب، الذين اتخذوا ذلك المكان أيضًا نقطة انطلاق، كما يقولون. أما ما دون مقهى مونج فهو ذلك المقهى الشعبي الصرف في شارع سان أنطوان، حيث يتجمع الشباب من طالبي العمل اليدوي صباحًا في انتظار من يختارهم للعمل، ثم مساءً لشرب الشاي والمسامرة، إن كان لديهم وقت أو جهد بعد عملهم اليدوي الشاق طوال اليوم.

وجد محب صديقًا من شلته أمام مائدة جانبية بعيدة عن الصخب، سامح. وكان من أحب الصِّحاب إليه؛ إذ كان مبعوثًا لدراسة الأدب، وأوفدته جامعة القاهرة للحصول على درجة الدكتوراه، وقد تَسجَّل في السوربون معه، ويعمل على تأصيل وتحقيق نصوص ألف ليلة وليلة الموجودة في فرنسا. وكان مثله مثل محب، فنانًا يتذوق كل ألوان الفنون ولا يحصر همه في فرع الدراسة الذي يعمل فيه، كما يفعل معظم زملائهما الدارسين، بل إن مجال دراسة سامح كان يطيب لمحب أكثر من دراسته هو؛ فالأدب العربي أوثق صلة بالفن منه بالتاريخ، وإن كان مما يقرِّب بين الدراستين أن أجواء ألف ليلة فيها الكثير من الظروف والملابسات المتناثرة في تأليف كتاب أسامة بن منقذ. وكان الصديقان كثيرًا ما يتناقشان في الأمور المشتركة التي يتعمقان في القراءة عنها، سواء اتصلت بتخصصهما أو لم تتصل. وكان محب يعلم أن وراء سامح خلفيةً سياسيةً تسببت له في كثير من المشاكل مع السلطة، ولكنه كان يحرص على عدم الدخول في تلك الأمور الشخصية معه. والحقيقة أن ثالث هذين الصديقين، أو ثالثتهما، كانت كميلة، التي كثيرًا ما كانت تأتي إلى هذا المقهى وتمثل عضوًا هامًّا في شلتهم. ولكنها لم تكن تخطط للذَّهاب إليهم ذلك المساء؛ إذ أسرَّت إلى محب أنها سوف تلتقي صديقًا لها وسيتعشيان معًا في الشانزليزيه. وكان لدى سامح ما يطمح إليه محب، إذ كان قد عثر — وهو خريج قسم اللغة العربية — على وظيفة في المدرسة الملحقة بجامع باريس، لتدريس اللغة العربية؛ وكان في فصله الكثير من أبناء العرب المقيمين في العاصمة الفرنسية.

وكان هناك شخص آخر يجلس مع سامح، لم يكن محب يعرفه. وسلم محب على سامح، الذي بادره بقوله: أقدم لك الأستاذ عادل عبد المجيد، في دراسة تدريبية بباريس، ووصل منذ شهرين.

– أهلًا وسهلًا، محب فوزي.

– تشرفنا.

وقال سامح إن «عادل» يعمل في المتحف المصري بعد أن تخرج في قسم الآثار منذ ثلاث سنوات، وإنه قد حصل على منحة للتدريب في فرنسا، خاصة في متحف اللوفر.

– وكيف وجدت باريس واللوفر؟

– أنا ما زلت أستكشف كل شيء، واللغة أيضًا مشكلة رغم أني تلقيت التدريب المعهود في مركز المنيرة، ولكني سعيد جدًّا بوجودي في اللوفر الذي كنت أسمع عنه. وسعيد أيضًا بالتدريب الذي أتلقاه في حفظ الآثار وترميمها.

– وما الذي جذب انتباهك أكثر من معروضات المتحف يا أستاذ عادل، بعد كل ما رأيته من الآثار العظيمة في المتحف المصري؟

– كل شيء. إنني لا أصدق ما أجد في القسم المصري في اللوفر، إن به أكثر مما قرأت عنه من قبل. يبدو أنهم يخشون أن نطالب بآثارنا التي ذهبت إليهم عن طريق السرقة.

– لا بد أنك تبالغ!

– كلا؛ إن باللوفر آثارًا لا يمكن لأحد أن يتصور كيف انتقلت إلى فرنسا من مصر. خذ مثلًا تمثال أبي الهول الجسيم الذي يرقد هناك.

– أو المسلة المصرية في الكونكورد. لقد مررت عليها هذا الصباح.

– وهناك تحف لا يدري بها أحد، إن أهم ما يشغلني الآن هو دراسة دائرة الأبراج التي كانت في سقف معبد دندرة.

– ولكنها موجودة في معبد دندرة. لقد رأيتها عند زيارتي للمعبد.

– إن ما رأيته هو صورة من الأصل، أما الأصل فهو هنا يا أستاذ سامح. ولقد نقله الفرنسيون، أو بمعنى أصح سرقوه في واحدة من أغرب المغامرات في تاريخ الآثار.

– احكِ لنا، احكِ.

قال محب ذلك وهو يلْمَح من طرْف عينه أن أحد الشبان على منضدة طلبة الجامعة يحاول أن يتنصت على ما يقال.

– باختصار شديد، الموضوع يرجع إلى المنافسة الشديدة بين قنصلي فرنسا وإنجلترا في مصر أيام محمد علي؛ دروفيتي وصولت. ويدخل فيه أيضًا واحد من جامعي الآثار هو الفرنسي سولنييه، الذي كلف خبيرًا في البناء هو «لي لوران» بالذَّهاب إلى صعيد مصر ونشر أحجار «الزودياك» من سقف معبد دندرة وإحضارها إلى فرنسا. وعمل الرجل أعمالًا أشبه بما يحدث في الروايات البوليسية كي ينجو من الرقابة الصارمة التي كان صولت وأعوانه يفرضونها على كل من ينقب عن الآثار في مصر. ولكن «لي لوران» استطاع بدهائه ومكره أن يقوم بنشر أحجار السقف السميك وأن ينقله عبر النيل إلى القاهرة ثم إلى الإسكندرية، حيث شُحن بعد ذلك إلى مارسيليا كي يُستقبل هناك بوصفه كنزًا حضاريًّا ثمينًا لا يقدر بمال. وقد استقر في اللوفر عام ١٩٠٧م، وهو الآن زينة المتحف، وكان من أثمن ما أردت مشاهدته عند وصولي إلى هنا.

[وبعد ذلك، ذهب مصري إلى اللوفر خِصِّيصَى لكي يرى الزودياك، ففوجئ بأن القسم المصري القديم في المتحف مغلق للتحسينات والتوسيعات، ولم يره. ثم تم افتتاح المعرض المصري باللوفر في ديسمبر من نفس العام، بحضور كبار الشخصيات، بعد التجديدات التي جعلت من الجناح المصري هناك ثالث أكبر متحف من نوعه، بعد متحف القاهرة طبعًا، ومتحف تورين بإيطاليا. تورين! ولكن هذه قصة أخرى.]

وتعجب محب وسامح من تلك المعلومات، ومن تحمس عادل الشديد لموضوعه. وواصلوا بعد ذلك حديثهم عن اللوفر وما به من تحف مصرية، بينما الطالب المصري الشاب يكاد يكون مستمعًا دائمًا لما يدور بينهم. وفجأة، وقف وتقدم إليهم وخاطب «عادل» قائلًا: لو سمحت أقدر أناقش معاك التحفة المصرية اللي كنت بتتكلم عنها من شوية؟

– تحفة؟ أي تحفة؟

– التحفة دي، الأبراج، الدوزياك.

– تقصد الزودياك، طبعًا، تفضل معنا.

– لا، شكرًا، اعذرني. إنما لو ممكن أناقشك فيها لوحدنا، مش دلوقتي يعني، في أي وقت تكون حضرتك فاضي فيه.

– وهو كذلك. غدًا ربما في نفس هذا المقهى مساءً إن شاء الله.

– ماشي. أنا اسمي رستم.

وعاد الشاب إلى شلته ومنضدته، بينما كان الأصدقاء الثلاثة في غاية العجب من ذلك الطلب الغريب.

سرقة الزودياك١

في ربيع عام ١٨٢٠م، جلس مسيو سباستيان سولنيير، النائب في البرلمان الفرنسي وأحد مشاهير جامعي الآثار القديمة التي يبيعها بعد ذلك للدولة بربح قليل، يفكر كيف يجد أثرًا مصريًّا هامًّا يفوق الآثار التي بدأت تتوالى تترى على أوروبا على يد القناصل والمستكشفين الأوروبيين. وبعد قراءات وأبحاث عديدة، وقع اختياره على اللوحة المجسمة للزودياك الفرعوني، أي الأبراج السماوية عند المصريين القدماء، الذي يشكل سقفًا لمعبد دندرة في الأَقصر، والذي يحتوي أيضًا على علامات رمزية توحي بأن المصريين في ذلك العصر عرَفوا كُروية الأرض منذ القِدم، وبدا له ممكنًا رفع ذلك السقف الحجري كاملًا برغم حجمه الكبير ووزنه الثقيل: ١٢ قدمًا في الطول، ٨ أقدام عرضًا، ٣ أقدام كثافة، بينما يزن ٦٠ طنًّا! وكان العالِم الفرنسي «دينون» الذي صاحب حملة نابليون على مصر هو أول من أجرى رسمًا تفصيليًّا لذلك الزودياك؛ لذلك فقد اعتبر مسيو سوليير أن هذا الأثر هو اكتشاف فرنسي خالص ويجب أن يكون ملكًا لفرنسا. وشارك صديقه المعماري «لي لوران» حماسه وتطوع بأن يقوم بنزع اللوحة الصخرية من معبد دندرة بالأَقصر وإرسالها إلى فرنسا.

وقد جهز «لي لوران» كل الأدوات المطلوبة لذلك العمل في بداية أكتوبر ١٨٢٠م. ولسوء حظه، وجد عند وصوله إلى القاهرة أن «دروفيتي» الشهير بجمع الآثار المصرية والاستيلاء عليها كان قد تم تعيينه مرة ثانية قنصلًا عامًّا لفرنسا في مصر. وكان دروفيتي وغريمه القنصل الإنجليزي «هنري صولت» قد حصلا لنفسيهما على حق غير مكتوب في كل ما بقي من الآثار الفرعونية، وأصبحا يعملان على وضع العراقيل في وجه كل غريب يجرؤ على التعدي على ما اعتبراه «ممتلكاتهما»؛ ولذلك عمد «لي لوران» إلى اللجوء للحيلة، فأشاع أنه قد جاء إلى مصر لزيارة الأَقصر، وهي المكان الذي يعمل فيه عادة الهواة لإجراء حفريات. وقد حصل على فرمان من الوالي يمنحه حرية التنقل، ثم استأجر قاربًا وغادر القاهرة مصطحبًا جنديًّا من جنود الباشا، ومترجمًا لمعاونته في عمله. وفي طريقه إلى «دندرة»، استعان بكثير من العمال لدفع القارب إلى الأمام، ووصل إليها في منتصف الليل، حيث رحب بهم شيخ القرية. ومع أول خيط من الفجر، ذهب «لي لوران» ليستطلع المعبد الذي جاء بغرض نقل الزودياك منه.

وكان المعبد في ذلك الوقت قد غطته الأتربة تمامًا، ولكن «لي لوران» دخل إلى قاعة من قاعاته وتطلع إلى السقف … ووجد الزودياك سليمًا لم يمسه سوء، بيد أنه فوجئ بحجم الدائرة المهول الذي لم يطرأ على باله من قبل. ثم اكتشف أنه يحتاج إلى استخدام ثلاثة مناشير بدلًا من منشار واحد لاستخلاص الدائرة الضخمة من السقف. وبعد أن استخدم بعض الديناميت الخفيف كيما يمهد لنفسه وللعاملين معه الطريق، بدءوا في العمل بهمة في عملية النشر في ثلاث مناطق في نفس الوقت. وقد عملت حرارة الجو والأتربة والجهد الشاق على إصابة «لي لوران» بحمى أقعدته لعدة أيام، رفض أثناءها استدعاء أي طبيب؛ حتى لا يلفت الأنظار إلى ما يفعله، واكتفى بما قدمه له فلاحو القرية القريبة من علاجهم الطبيعي البُدائي. ولم يؤخر مرضه العمل، فقد استمر العمال الذين جلبهم في عملية النشر حتى شفي من الحمى وانضم إليهم ثانية.

وحين تمت أعمال نشر الحجارة، رفعوا صخور الزودياك ووضعوها أعلى المعبد. واستغرق العمل حتى تلك المرحلة اثنين وعشرين يومًا. بيد أن نقل الصخور الزودياكية من مكانها إلى منطقة النيل، حيث جهز «لي لوران» قاربًا كبيرًا لنقلها فيه، تمهيدًا لشحنها إلى فرنسا، كان عملًا شاقًّا هو الآخر، فقد ترك «لي لوران» القارب على مبعدة أربعة أميال من المعبد؛ إذ إنه لم يجد منطقة مناسبة لرسو القارب أقرب من تلك المسافة. وبدأ العمال في جر الصخور فوق زحافة خشبية ذات عجلات كانوا يستبدلونها من حين لآخر بعد أن تُستهلك. ولما لم يعد هناك مزيد منها، استخدم العمال العشرون آلة الرفع التي جلبها «لي لوران» معه لإكمال عملية الجر. وقد استغرقت مرحلة الوصول بالزودياك إلى القارب في النيل ستة عشر يومًا أخرى.

وكان النيل حين وصلوا في حالة جزر، مما اضطر «لي لوران» إلى عمل ممر من التراب يصل ما بين القارب والرافعة التي تحمل صخور الزودياك. وفي أثناء التحميل، انزلقت الرافعة بما تحمل بقوة شديدة أطاحت بمن حولها من العمال وألقت بحِملها في الطين الذي كان يفصل القارب عن الشاطئ. وقد ظهرت براعة العمال المصريين الأقوياء وتفننهم عند ذلك، فقد تعاونوا معًا لرفع المِحفة التي تحمل الزودياك بطرقهم الفريدة حتى أوصلوها إلى القارب.

وحين تهيأ «لي لوران» للإبحار، فوجئ بأخطر عائق صادفه منذ بدأ مشروعه، إذ رفض صاحب القارب التحرك به، وبعد البحث والتحري، تبين أن القنصل البريطاني في القاهرة — مستر صولت — قد علم بما يفعله «لي لوران»، فأوفد رجلًا من طرَفه وعد صاحب القارب بدفع ألف قرش له إذا نجح في تعطيل الإبحار. وعند ذلك، عرض «لي لوران» على صاحب القارب أن يدفع له المبلغ نفسه في الحال، مما جعل الأخير يعتذر ويعلن طاعته للفرنسي؛ وسار القارب آخر الأمر في طريقه. وقبل أن يصل إلى محطته الأولى — القاهرة — يفاجأ «لي لوران» بسفينة تقترب من قاربه وعليها أحد رجال القنصل البريطاني الذي يخطر «لي لوران» أن معه أمرًا من نائب الباشا يمنحه حق الحصول على الزودياك؛ فما كان من «لي لوران» إلا أن رفع علم بلاده الفرنسي على القارب، وأعلنه أرضًا فرنسية يحظر على أي شخص الصعود إليه، مُعلنًا أن لديه فرمانًا من محمد علي باشا نفسه بحق التنقيب عن الزودياك. وبعد عدة مناوشات، انسحب مندوب مستر صولت وواصل «لي لوران» طريقه. وقام القنصل البريطاني بمحاولة أخيرة فقابل الباشا وعرض عليه الأمر، وحين سأل محمد علي عما إن كان لدى «لي لوران» فرمان منه بالبحث عن الزودياك، وكان الرد بالإيجاب، أعلن الباشا أن الزودياك هو للفرنسي. وقد قيل آنذاك أن حاشية محمد علي باشا كانوا يتعجبون من اهتمام هؤلاء الأجانب بمثل هذه القطع الحجرية بالغة القدم، والصراع عليها في حين أن هناك الكثير منها بما يكفي الجميع!

وفي مقابل عدم الاهتمام ذاك، نجد الاحتفالات التي أقيمت في مارسيليا عند وصول الزودياك إليها، بعد أن ذهب «لي لوران» به إلى الإسكندرية ثم إلى الميناء الفرنسي. وقد تطلب الأمر تجهيز مقطورة خاصة لنقل الزودياك الثقيل إلى باريس. وهناك، توافد الجمهور على المكان العام الذي وضعوه فيه بادئ الأمر. وقد كلَّف سولنييه الرسام والمعماري الفرنسي «فرانسوا جو» بعمل نُسخ ليتوجراف للأثر العظيم، بيعت كلها من فورها بخمسة فرنكات للنسخة. وفي نفس العام، اقتنى الملك لويس الثامن عشر الزودياك بمبلغ ١٥٠ ألف فرنك — وهو مبلغ جسيم بحساب تلك الأيام — ثم استقر في المكتبة الأهلية حتى عام ١٩١٩م حين انتقل إلى اللوفر.

١  من كتاب The Discovery of Egypt تأليف لزلي جرينر، ١٩٦٦م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤