٢٠

ياجو:

مولاي، حذار من الغيرة! ذلك مخلوق شائه
يتحلى بعيون خضر لكن يسخر ممن ينهش كبده!
شكسبير: مسرحية عطيل
ترجمة: د. محمد عناني

وجاء صباح اليوم الموعود. اليوم الخطير. اليوم الذي ستصل فيه سهير إلى باريس. وكان على محب أن يكون في انتظارها في مطار أورلي، ولما لم يكن يعرف القيادة، أخذته شانتال في سيارتها بعد نقاش قصير، ذكرت له فيه أن سهير تعرفها من خطاباته لخطيبته، وأن مجيئها معه يؤكد أن ما بينهما صداقة وعمل ليس إلا. وكان ذهن محب وأفكاره في غاية الحيرة والتدافع: كيف سيستقبل سهير؟ هل سترى قلقه وشكوكه؟ هل يقبِّلها أو يحتضنها بعد تلك الغيبة؟ وتذكر كيف كان يذهب معها إلى سينما في مصر الجديدة كي يختلس منها قبلات عديدة، وكيف أنهما شاهدا الفيلم الهندي «سانجام» مرات عديدة من أجل ذلك … بَيْد أن قصة ذَهابها إلى ليون باختيار غريمه الدكتور عزيز، وهو الذي يعلم أنه يذهب إلى هناك من حين لآخر لإلقاء محاضرات في الأدب المقارن، لم تكن إلا لتثير لديه مشاعر القلق وعدم الاستقرار على رأي. ولم يملك إلا أن يتذكر قول كميلة كيف أن الرجال الشرقيين يمتعون أنفسهم كما يشتهون بينما لا يسمحون للمرأة حتى أن تنظر لرجل آخر. وهو لا يعلم على وجه الدقة: هل تكون غيرته تلك مجرد تَعِلَّة كيما يبتعد عن سهير ويقترب من شانتال؟ يا لأعمال فرويد وهواجسه!

وكأنما أدركت شانتال قلقه فابتسمت وهي تسأله:

– فيم تفكر؟

– تعلمين فيما أفكر، إني مقبل على موقف صعب، ولا أدري ما سيكون عليه المستقبل، حتى القريب منه.

– لا تهتم. فكر في اليوم الذي أنت فيه، ودع الغد ينظم نفسه. أنت مسلم، وهذا يعني أن تترك الأمور لله، بعد أن تبذل بالطبع كل ما يمكنك عمله في أي مشكلة تصادفك. هل اتفقت مع كميلة أن نذهب إلى منزلها من هنا مع سهير؟

– نعم، فهي قد رحبت باستقبال سهير عندها أسبوعًا أو اثنين حتى تحضِّر أوراقها مع مكتب البعثات ثم تتوجه إلى ليون.

– أنا لا أفهم تلك العادات الشرقية. سهير خطيبتك وهي تأتي هنا فكيف لا تقيم معك؟

– أنت لا تدركين معنى هذا بالنسبة لها وللجميع هنا، فلا يمكن أن نعيش معًا ما دمنا لم نتزوج.

– أأنت الذي تقول ذلك وأنا أعهدك ليبراليًّا متفتح الذهن سابقًا لعصره؟

– هذا ما تقوله كميلة أيضًا. لو أن الأمر راجع لي أنا فقط لكانت الأمور تختلف، ولكن هناك سهير والكثير من الأشياء الأخرى.

– ولماذا لم توافق على أن أقوم أنا باستضافة سهير تلك المدة؟

– سيكون ذلك صعبًا علي وعليها وعليك.

وعند ذلك الحد كانا قد وصلا إلى حرم المطار؛ فأدخلت شانتال السيارة في مكان الانتظار، وسارت مع محب نحو صالة الانتظار. وحين تطلع محب إلى مكان المطار الذي يعرفه جيدًا، انتابته حالة البُحْران، ووجد نفسه ينظر إلى مطار آخر جديد، ينطق بالحداثة ويشع بلافتات الإرشاد المضيئة، ويزدحم بالمسافرين والمستقبلين، بينما الطائرات الضخمة تهبط وتقلع كل لحظة. وأدرك محب أنه يعاين لحظات نوستراداموسية مستقبلية، ورفع عينيه إلى أعلى فرأى لافتة تقول «مطار شارل ديجول الدولي». وبعدها، تراجعت أبصاره ثانية نحو البؤرة الصغيرة من عينيه، ورأى مرة أخرى نفسه يسير إلى جوار شانتال، وهو يفتح لها الباب الخارجي لمطار أورلي ثم يدْلِف وراءها إلى صالة الاستقبال، وتطلعا إلى قائمة الطائرات القادمة ووجدا أن الطائرة المصرية على وشك الوصول، فتوجها إلى الصالة التي يخرج منها من يصل من الخارج، وجلسا في الانتظار وقد انشغل كل منهما بأفكاره.

وأعلن الميكروفون عن وصول الطائرة المصرية، فقاما إلى الحاجز في انتظار الخارجين. واستغرق الأمر وقتًا إلى أن بدأ المسافرون في الخروج مع أمتعتهم، وبدت سهير وهي تسير خلف حمال وضع حقيبتين لها على الشاريو؛ فهرع محب نحوها وقد نسي كل قلقه، واحتضنها وطبع قبلة على جبينها وهو يمطرها بكلمات الترحيب والشوق. ثم أخذها من يدها وقدمها لشانتال وقدم شانتال لها، وتصافحا في ود. وذكرت شانتال للحمال أن يتبعهم إلى حيث كانت السيارة. وكان الحديث يدور بين محب وسهير عن الأحوال والأصدقاء والأقارب في مصر، وكان يبدو على سهير أنها تعلم أنها لن تذهب للإقامة مع محب، وإنما في فندق مؤقت. وذكر لها محب أنه قد رتب لإقامتها مع كميلة المصرية التي تدرس الفنون، والتي حكى لها عنها في خطاباته.

ووصلوا إلى السيارة، وحاسبت شانتال الحمال بعد وضعه الحقيبتين في شنطة السيارة، وأبدى محب اعتراضه، وركبت سهير بجوار شانتال بينما شغل محب مقعدًا في الخلف. ولاحظ محب دهشة خفيفة في عينَي سهير بعد أن رأت سيارة شانتال الفخمة ومبادرتها بدفع أجر الحمال مع «بقشيش» سخي. وبدأت شانتال تحادث سهير بالفرنسية واستجابت سهير لها حين رأتها تحادثها بود وبلا تكلف. وكان محب يتدخل في الحديث حين يكون لديه ما يقوله. ورأت سهير طرقات فرنسا وسياراتها … الطرق هي الطرق والسيارات هي السيارات، ولكن حين خرجت السيارة من نطاق المطار وبدأت تدخل أرباض المدينة، رأت سهير قمة برج إيفل على البعد فدق قلبها وأفاقت على أنها الآن في المدينة التي حلمت دومًا بزيارتها واستشراف مغانيها التي قرأت عنها طويلًا في كتابات من تحبهم من الفرنسيين؛ كبروست، وكذلك في كتب طه حسين وعبد الرحمن بدوي وتوفيق الحكيم. وطفِقت شانتال توجه نظر سهير إلى ما يمرون به وهي تقول لها إنها بالطبع تعرف كل ذلك من قبل، وها هي تراه رأي العين: برج إيفل، الأنفاليد، قوس النصر، الشانزليزيه … ويبدو أنها تعمدت أداء جولة سريعة في المنطقة قبل أن تتجه إلى مسكن كميلة الذي أعطاها محب عنوانه.

وتوقفت السيارة أمام المبنى السكني الأنيق، فنزل محب وفتح باب السيارة لسهير، ثم فتح شنطة السيارة وأخرج الحقيبتين، وانحنى يشكر شانتال ويودعها. وتساءلت سهير ألن تصعد شانتال معنا إلى كميلة، فأجاب محب بالنفي، ثم توجه إلى المبنى وضغط على زر في شماله، وتحدث إلى كميلة أنهما قد وصلا، ففتحت لهما باب المبنى من شقتها. وحمل محب الحقيبتين إلى الداخل ووضعهما في الأسانسير ودخله وراء سهير.

كانت كميلة تقطن في الطابق الرابع من المبنى، وحين توقف المصعد أمامه وخرجت سهير ومحب وجدا كميلة في انتظارهما، ورحبت بسهير على الطريقة المصرية، وأخذتها من يدها إلى داخل الشقة، وتركت محب يدخل بالحقيبتين ويغلق الباب. وجلس الجميع في الأنتريه، ثم صحبت كميلة سهير لتريها الشقة، وحجرة النوم الثانية الصغيرة التي خصصتها للضيفة. وحين عادا، قال محب لسهير إنه سيتركها الآن كي تستريح من السفر، وسيحضر غدًا ليصطحبها إلى مكتب البعثات المصري.

•••

دخلا إلى مبنى السفارة المصرية بعد أن أبرزا جوازي سفرهما، وصعِدا إلى طابق مكتب البعثات. استقبلهما السكرتير ثم قادهما إلى مكتب الملحق الثقافي: رامي. ووجد محب رستم جالسًا في طرف الحجرة فسلم عليه وسأله عن أحواله فرد في سعادة أن كل شيء يسير على ما يرام وفقًا لنصيحته. وهش رامي لهما، وسلم على سهير وهو يقول لها: «حمدًا لله على السلامة» بعد أن خمن أنها خطيبة صديقه.

– أرجو أن تكون رحلتك طيبة يا آنسة سهير. لقد تلقينا أوراق بعثتك، كما أن رئيس القسم قد حادث المستشار بشأنك؛ فكل شيء جاهز الآن.

محب: من رئيس القسم؟

– الدكتور عزيز، الأستاذ بقسم اللغة الفرنسية، المشرف على دراسة الآنسة سهير.

سهير: ماذا جرى يا محب؟

محب: آه، لا شيء. لقد سهوت بعض الشيء.

وناول رامي سهير عدة أوراق طالعتها بسرعة ووقعت على بعضها قبل أن تعيدها إلى رامي. وطلب الأخير السكرتير تليفونيًّا وأخبره أن يجهز الشيك الخاص بالآنسة سهير فهمي.

رامي: سنصرف لك مستحقاتك كطالبة بعثة، وهي مصروفات الاستعداد ومرتب شهر وتذكرة سفر بالقطار إلى ليون مقر الدراسة. وأرجو حال وصولك إلى ليون أن توافينا بعنوانك وبالمصرف الذي تريدين تحويل مرتب البعثة إليه. سيساعدونك في الجامعة على إنجاز كل شيء. وهم يعرفون الدكتور عزيز جيدًا؛ فهو يُنتدب كثيرًا إلى هناك لإلقاء محاضرات، وقد يأتي عن قريب إلى فرنسا.

واكفهر وجه محب عند سماعه ذلك، ولكنه لم يعقِّب. وأحضر السكرتير الشيك فوقعه رامي، وبعدها اصطحبهما إلى غرفة المستشار الثقافي للتعرف إلى المبعوثة الجيدة التي ستكون تحت إشراف المكتب. وكان لقاء المستشار قصيرًا، كرر فيه صلته الوثيقة بالدكتور عزيز، مما زاد من حنق محب وشعوره العميق بالقلق.

وما إن خرجا من مبنى السفارة حتى قال محب إنه يريد الجلوس في مكان ما لشعوره بتعب مفاجئ؛ فتوجها إلى كافتيريا قريبة يعرفها. ولما كان الوقت ظهرًا فقد طلبا أكلة سريعة بينما يتبادلان الحديث.

سهير: ماذا جرى يا محب. أرى بك ضيقًا شديدًا.

– بالطبع، فها هو عزيز يبرز ثانية في حياتنا مما يعيد النوبة عندي.

– أي نوبة؟ أنت لا تدري ما تقول. إنه أستاذي منذ دخلت الكلية وأنت تعلم الصلة التي بيني وبينه تمامًا، وهي صلة الأستاذ بتلميذته.

– قد يكون ذلك من ناحيتك أنت، ولكنه لا يبدو أن الصلة لديه تقتصر على ذلك.

– أظن أننا انتهينا من هذا النقاش الفارغ منذ أعلنا خطوبتنا. لقد اخترتك عن حب وبصيرة.

– ولكني لن أشعر بالراحة طول ما هو وراءك في كل شيء.

– وأنت وشانتال هذه؟ يبدو أنك تسارع باتهامي قبل أن أتهمك أنا. إنها تعرف عنك كل شيء. هل أنت واثق أن العَلاقة بينكما هي عَلاقة زمالة فقط؟

– هي عَلاقة زمالة وصداقة. وبالإضافة إلى ذلك، أنا مدين لها بالكثير في دراستي وحياتي هنا.

– سنرى ذلك في مستقبل الأيام. ثم إنك أنت يا محب الذي تضع العوائق في حياتنا، فلم تقبل أن نستأجر شقة في مصر، ولا إجراء الزواج هناك قبل أن أجيء. هل غيرت رأيك في الزواج بيننا؟

– كيف تقولين ذلك! إني فقط أود إتمام الزواج على أرضية واضحة منكِ ومني على حد سواء. وبدوري أسألك هل لا تزالين تحبينني وترغبين في الزواج مني؟

– بالطبع يا حبيبي.

وكما لو أن محب فوجئ بتلك الكلمة المحببة تنطقها سهير لأول مرة منذ مجيئها، مما شجعه على قول الجملة التالية.

– إذن، يجب عليك قطع كل صلة بالدكتور عزيز.

فبُهتت سهير من ذلك الطلب العجيب، وقالت بصوت ذاهل: ماذا؟ كيف؟ إنه أستاذي طوال ست سنوات، كيف لا أتعامل معه بعد كل ذلك وبعد كل ما فعله من أجلي؟

– هذا هو الحل الأمثل، وإلا فسوف نستمر وسط المشاكل والجدل طوال الوقت.

– إذن أنت جاد في كلامك. إن هذا جنون.

– تصِفِينني بالجنون لأني أحبك وأغار عليك؟

– ليس هذا بالحب ولا بالغيرة. كل شيء له حدود. وإذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع.

– لو أنت تحبينني لفعلتِ ذلك.

– والله أنت سوف تزيل حبك من قلبي بأفعالك تلك.

– ها أنت تعترفين …

– بِمَ أعترف؟ لقد تغير تفكيرك وأصبحت غير محب الذي أعرفه والذي أحببته. تُرى هل تفتعل كل هذا حتى تتخلص مني وتخلو إلى شانتال؟

– أظن أننا قد جاوزنا الحد في النقاش والحوار ولا بد أن نهدأ ونناقش مشاكلنا في وقت آخر يا سهير. وبالمناسبة، تدعونا شانتال أنا وأنت لزيارة منزلها في دوفيل وتريدك أن تشاهدي مجموعة كتبها النادرة لكامي وسارتر وكذلك رامبو.

– والله أنا لا أدري أأقبل أم أعتذر حتى أعرف حقيقة العَلاقة بينكما.

– عَلاقة عمل ليس إلا. وقد قلنا أن نؤجل النقاش لما بعد، هيا بنا، سأسير معك إلى شقة كميلة. أرجو أن تكوني مستريحة معها؟

– جدًّا؛ إنها فنانة رائعة. ستذهب معي لزيارة معالم باريس التي أحلم بها، وكنت أحب أن تكون أنت معي.

– سأكون معك.

ونهضا متثاقلين بعد أن دفع محب الحساب وخرجا من الكافتيريا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤