٢١

«في الحقيقة إن باريس لا تنام، وفيها أماكن وجماعات وأفراد لا يعرفون الكَرَى، وإن كانت الحقيقة في أغلب الأشياء لا تنطبق على الخيال الذي يرتسم في الذهن قبل المشاهدة، فإن باريس بلا ريب استثناء لتلك القاعدة؛ لأن حقيقتها أعظم من خيال يرتسم في ذهن القادم عليها؛ لأنها مدينة جميلة، وذكية، وعالمة، وعفيفة، وحاذقة، وفاجرة، وصريحة، وماكرة، ولعوب، وذات جد ووقار، ومباحة، وذات أسرار … بل هي سجل للحياة وقاموس للوجود، ومعرض لكل أنيق ودقيق وجليل وذميم وحقير. ومثلها لدى عالِم النفس والاجتماع كمثل طبقات الأرض التي تكونت في مدى ملايين السنين.»

محمد لطفي جمعة

خرجت سهير مع كميلة كيما تزور معالم باريس قبل التوجه إلى ليون. كانت يقظة سعيدة تترقب ما سوف تشاهده عِيانًا بعد قراءاتها عنه وأحلامها برؤيته. كان نوم البارحة قد غسلها غسلًا من مناقشاتها الغريبة مع محب، وتتوق الآن إلى العودة إلى براءة الوجود. وقالت لها كميلة إنهما سيبدآن اليوم بمشاهدة المعالم الخارجية، حيث إن زيارة المتاحف تتطلب وقتًا سيخصصانه لها بعد ذلك.

وطفقت سهير تتنقل ببصرها ووجدانها بين الجمال والتاريخ والذكريات، كفراشة تتنقل بين أنواع الزهور، ما تهبط فوق زهرة إلا لتنطلق إلى أخرى تمتص من رحيقها ما تستطيع. كان في يد كميلة خريطة مترو باريس، وذكرت لسهير أن المترو هو خير وسيلة للانتقال السريع من منطقة لأخرى في باريس، ولكن الأتوبيس هو الأجمل بعد ذلك لمروره بين المعالم الباريسية كلها فوق الأرض. وهبطا معًا إلى محطة المترو القريبة من بيت كميلة التي كان معها دفتر تذاكر، فدَلَفا من أحد المنافذ، متجهتين إلى محطة قوس النصر. كانت أول مرة ترى سهير مترو أنفاق، وتذكرت المشروعات الكثيرة التي وضعتها مصر لإنشاء مترو تحت الأرض بالقاهرة، والتي لم يتم تنفيذها أبدًا. وراعها النظام والسيولة في مترو باريس، والأدب الفروسي الذي غاب عن مصر، حين لم يكن هناك سوى مقعد واحد شاغر أجلستها كميلة فيه، فقام الراكب الذي بجوارها يقدم مقعده لكميلة التي شكرته بلهجة باريسية أصيلة وجلست إلى جوار صديقتها وتبادلا نظرة تشي بما في قلبيهما.

وصعِدت الفتاتان، فما راع سهير إلا منظر قوس النصر المهيب منتصبًا أمامها، وسارت حيث تقودها كميلة كأنها منوَّمة. وحين وقفا تحته أمام شعلة الجندي المجهول، وجهتها كميلة إلى النظر عبر شارع الشانزليزيه الذي يمتد أمام البصر.

كميلة: هذا هو أجمل شارع في العالم برأيي. وهناك ترَين أقصاه فيبدو لك نهايته قريبة منك، ولكن حين تَغُذِّين السير فيه تجدين المسافة طويلة جدًّا. هيا … سنصعد قوس النصر.

ولم تكن سهير تتصور أن هناك سُلمًا للصعود، ولكنها تبعت كميلة فإذا بها في السطح وأمامها كل معالم باريس على مشارف البصر. وأخرجت كاميرتها المتواضعة وبدأت في التقاط الصور وهي متقطعة الأنفاس من روعة ما ترى. وأخذت كميلة الكاميرا منها وصورتها مرات وهي على قوس النصر ووراءها ما وراءها.

كميلة: من خبرتي بالأماكن السياحية يا سهير، فإن الأفضل أن تصوري منها ما تحبين ولكن وأنت فيها أو أمامها، فتكون الصورة تذكارا لوجودك. أما الأشياء ذاتها فيمكنك شراء صورها على الكارت بوستال.

وبعد أن شبعا من المكان، هبطا وأخذا يسيران في الشانزليزيه.

كميلة: هل تحبين المشي يا سهير؟ إنه أحسن وسيلة لرؤية الأماكن والتوقف أمامها.

سهير: أحب المشي جدًّا، وقد طفت بالقاهرة والإسكندرية سيرًا على الأقدام.

كميلة: عظيم. ولكن أرجو أن تقولي لي لو شعرت بالتعب، فيمكننا الجلوس حينذاك.

ومضيا في الطريق الواسع الجميل، يمران بالمحلات الأنيقة التي تعرض كل شيء، وبالمعالم المعروفة في عاصمة النور، كالقصر الكبير والقصر الصغير، بينما سهير تلمح على البعد برج إيفل شامخًا، إلى أن وصلا إلى ميدان الكونكورد الذي توقفا عنده. وكانت سهير قد شاهدت صورًا كثيرة للميدان، غير أنها بُهرت باتساعه ونظامه الفريد من نوعه. وقادتها كميلة إلى المسلة الفرعونية والتقطت الصور بجانبها، وطفِقت تروي لسهير التاريخ الذي شهده الميدان وأهمه إعدام الملك لويس السادس عشر فيه، وأشارت إلى مبنًى في طرف الميدان وذكرت لها أن هذا هو متحف الجي دي بوم الذي يضم أشهر اللوحات الحديثة نسبيًّا وخاصة لوحات الانطباعيين. ومشيا معًا إلى طريق جانبي بالميدان وهو شارع روايال حيث عرضت كميلة أن يتناولا وجبة في كافتيريا هناك تحمل الاسم نفسه وهي تقدم أفضل قهوة باللبن في باريس، قائلة لها إن محب هو الذي نبهها إلى تلك الكافتيريا بعد أن قرأ ذلك في كتاب تعليم الفرنسية.

ووجدت سهير المكان هادئًا وأنيقًا، وأكلا وجبة خفيفة، وبعدها «الكريب» بالسكر، متبوعا بالقهوة باللبن. وتحادثا وهما يرتشفان.

سهير: هل تعرفين محب منذ فترة طويلة؟

كميلة: نعم. منذ جاء إلى هنا تقريبًا. قابلته في مكتب رامي الملحق الثقافي. كان جديدًا على باريس، فقُدته في أول خطواته هنا. هو شخص رائع جاد وأرجو أن تكونا موفقَين معًا.

– أوافقك. ولكني أجده الآن مختلفًا عمن عرَفته في مصر. أصبح شديد الحساسية غير واثق في نفسه، وكذلك صداقته مع شانتال، التي لا أعرف مداها.

– ههههه. تعرفين الشباب حين يحضرون إلى هنا. ولكن أعتقد أن صلتهما مساعدة متبادلة، وقد قدمت له شانتال فرصًا نادرة كيما يكمل عمله.

– أعرف هذا. ولكني غير مطمئنة. ثم إنه يثير مرة أخرى موضوع الأستاذ المشرف على دراستي، وهو موضوع كنا قد انتهينا منه.

– على العموم، هذه العَلاقات يجب أن نتعامل معها بهدوء وحكمة.

– أرجو أن تنتهي على خير.

– هل نكمل غدًا تَجوالنا في باريس؟

– غدًا يأخذني محب إلى منزل شانتال في دوفيل لأرى مكتبتها، فإذا لم يكن عندك مانع استأنفنا زياراتنا بعد غد.

– وهو كذلك.

وهبط عليهما شاب أنيق الملبس وسيم الطلعة، حيا كميلة وقبلها على خدها في تلقائية، فقدمته إلى سهير:

– سهير، هذا ماجد، صديقي. وهذه سهير خطيبة محب فوزي.

ورحب بها ماجد، وأصر على دعوتهما إلى جولة في سيارته المرسيدس في أنحاء باريس وتخومها كيما تراها سهير، ثم دعوة إلى العشاء في المطعم المجاور للمقهى، وهو مطعم «مكسيم» الشهير. وحاولت سهير الاعتذار ولكن ماجد أصر بطريقته المحببة الودود. وأحست سهير أن ما بين كميلة وماجد هو أكثر من مجرد الصداقة. واستمتعت أيما استمتاع بالجولة الباريسية التي شاهدت فيها الكثير مما كان يتطلب وقتًا كبيرًا لرؤيته، ولم يزعجها إلا طريقة ماجد في قيادة السيارة بتهور في الطرق المزدحمة، برغم تحذيرات كميلة له بالتمهل والحذر.

وكانت تجرِبة الأكل في مكسيم تجرِبة مذهلة، في المعاملة والجمال والذوق والطعام والشراب. وتذكرت سهير ما كان يقال من أن أثرياء مصر في العهد الملكي كانوا كثيرًا ما يطلبون الطعام في مناسباتهم الخاصة من مكسيم الباريسي فيأتي لهم إلى مصر بالطائرة! وتعجبت أن ماجد طلب لهم جميعًا أفخر الأطعمة والأشربة، وذُهلت من قيمة المبلغ الذي دفعه والبقشيش بعد أن انتهوا من العشاء، على نحو أنبأ بأنه متعود على الأكل هناك في كثير من الأوقات.

•••

كان اليوم الذي خصصه محب لسهير عاصفًا بشكل خطير، لا من ناحية الطقس ولكن من ناحية المشاعر. ذهب إليها في شقة كميلة مبكرًا وتحادثا بلطف وشوق، وهبطا أمام المبنى حين اقترب حضور شانتال. ولما جاءت السيارة دعت سهير محب إلى الجلوس بجوار شانتال في المقعد الأمامي متعللة بحاجتها إلى «مد ساقيها». وتحادث الثلاثة الأحاديث المعتادة في تلك المناسبات. ولفت انتباه سهير الثقافة العالية التي تميز شانتال؛ إذ تكلمت عن رموز الأدب الفرنسي بوعي وبصيرة ثاقبة، وذكرت لها أمورًا عن دراسة رامبو وعتها سهير لأنها ستساهم في بحثها عنه. واستمتعت سهير كذلك بالمناظر الطبيعية الجميلة في طرق فرنسا ما بين باريس ودوفيل، وكذلك أدهشتها فيلا شانتال وما يحيط بها من حديقة باسقة بتماثيل متناسقة مع كل ذلك الجمال.

وداخل الفيلا، بعد استراحة قصيرة قُدمت فيها مشروبات منعشة، ذهب الجميع إلى الجناح الذي يضم الكتب والمخطوطات النادرة. وطافت سهير بأعداد من الطبعات الأولى والنسخ الممهورة بتوقيع مؤلفيها، ليس للكتب الفرنسية وحسب، بل الكثير من اللغات، ومنها العربية بتوقيع توفيق الحكيم ويوسف السباعي ونجيب محفوظ وطه حسين. وشاهدت بشوق مؤلفات ألبير كامي الذي درست أعماله وفكره في درجة الماجستير بإشراف الدكتور عزيز، ووجدت نفسها تفكر رغمًا عنها في المتعة التي كان سيشعر بها أستاذها لو أهدته نسخة نادرة مثل تلك الكتب التي تراها أمامها. وشعرت بالانبهار تجاه شانتال ووقر في وجدانها أن محب قد شعر بالانبهار نفسه ولا بد أنه يحبها أي نوع من الحب، فهي مخلوقة براقة من كل جانب. وغلب على شانتال طبعها الكريم فقامت بإهداء سهير طبعة جديدة من الأعمال الكاملة لرامبو، مع عرضها أن تتابع تزويدها بأي كتب نقدية لأعماله. وشكرتها سهير من كل قلبها، وهي تشعر أن محب سعيد جدًّا بتقاربها مع شانتال.

•••

وانشغلت سهير في الأيام الثلاثة التالية بزيارة المتاحف الباريسية والمعالم المهمة بالعاصمة، سواء وحدها أو مع كميلة أو محب، فزارت الجي دي بوم واللوفر وغيرهما، وبرج إيفل وقبر نابليون بالأنفاليد وكاتدرائية نوتردام وعشرات الأبنية والأماكن التي كانت سهير تحلم برؤيتها.

وحدث أن كانت مع محب، ومرا أثناء جولتهما بكنيسة قديمة تدعى «كنيسة سان سلبيس»، فوقفا يتطلعان إلى بنائها القوطي المدهش، وإذا بنوبة بُحران تطغى على محب، فيرى جموعًا كثيرة من السياح أمام الكنيسة، وكل جمع معه دليل يشرح بلغات مختلفة، ووجد الكثير من أولئك السياح يحملون كتابًا بعينه، ويلتقطون صورًا للكنيسة وهم أمامها ويُظهرون الكتاب في الصورة. وتعجب محب، فجاهد كيما يرى عنوان الكتاب، ولكن نسخًا كثيرة منه كانت بلغات لا يعرفها، مع السياح اليابانيين والصينيين، فطاف بمجموعات أخرى وقرأ اسم الكتاب: «شفرة دافنشي». ولم يتذكر محب أنه سمع بكتاب يحمل ذلك العنوان منتشرًا بهذا الشكل، قبل أن يفيق من نوبته ويدعو سهير للغداء في مطعم برج إيفل، حيث تخلل حديثهما مشاحنات وتوترات كانا يتجنبانها بعدم اللقاء على انفراد لفترة. وبدا لهما مدى الهوة التي بدأت تفغر فاها بينهما. وكان ذروة ذلك حين صعِدا إلى أعلى مكان بالبرج، ووقفت سهير تتطلع منه إلى كل باريس من حولها، ومحب وراءها لأنه كان يشعر بالدوار من الأماكن المرتفعة، وإذا به يقول لها:

– تعرفين يا سهير، يمكننا أن ننهي كل مشاكلنا في لحظة واحدة، أن أقوم بدفعك من هنا إلى أسفل ثم ألحق بك. ما رأيك؟

وفزعت سهير وهي تراه يضع يده على ظهرها فتراجعت إلى الوراء ومحب يضحك ويقول: هل صدقتِ ما أقول؟

ولكن الوقت كان قد فات؛ إذ امتلأ قلب سهير بالخوف من محب بدلًا من الحب منذ تلك اللحظة.

•••

وفي محطة ليون بباريس، كان محب وكميلة في وداع سهير، حيث جلست بالقطار إلى جوار النافذة، ولوحت بيدها مودعة حين بدأ السير، وهي تشعر في أعماقها أنها لن ترى محب ثانية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤