٢٢
قضت سهير الشهر الأول لها في ليون ما بين إجراءات الالتحاق بالجامعة، بما فيها من تقديم أوراق وشهادات، وبين ترتيب إقامتها بالمدينة، من مسكن وفتح حساب بالبنك والتسجيل في التأمين الصحي، وما إلى ذلك من أمور. كذلك طافت في أرجاء المدينة تشاهد معالمها، ووقفت في انبهار أمام كاتدرائية ليون الفخمة التي رأت صورتها أول مرة في كتاب تعليم اللغة الفرنسية القديم «موجيه». وكانت على صلة بالتليفون مع محب، وعلى صلة بمكتب البعثات لموافاته برقم حسابها وإجراءات التسجيل بالجامعة. وبالإضافة إلى ذلك، كانت على صلة بأستاذها عزيز الذي كان يحادثها تليفونيًّا من القاهرة كل أسبوع.
كانت في مفترق طرق!
«ألا يعلم محب — ذلك الأحمق — أنني كنت أحبه حبًّا صادقًا، وأن شكوكه وتصرفاته هي التي ستدفعني آخر الأمر إلى الجنوح ناحية عزيز؟ لو يعرف الشكاكون والذين تطغى الغيرة على مشاعرهم أن تلك المشاعر هي التي تنتهي بتحقيق أسوأ ما كانوا يتوقعون من حيث يدرون أو لا يدرون؟»
•••
– أهلًا محب … ما أخبارك؟
– الحمد لله … أسير في دراساتي جيدًا.
– (ضاحكة) البركة في شانتال …
– بالفعل، رغم ضحكك … وما أحوالك؟ أرجو أن تبدئي دراستك بعد أن استقرت أحوال معيشتك إلى حد ما. وأرجو كما ذكرت لك دائمًا أن تقولي لي إذا احتجت لأي شيء.
– طبعًا يا محب، أنا الآن سأقابل الأستاذ الفرنسي الذي سيشرف على رسالتي.
– وكيف اخترتِه؟
(صمت قصير على التليفون.)
– لقد ذكره لي الدكتور عزيز. هو كما تعلم يعرف جميع الأساتذة هنا.
– سهير … ألا تستطيعين اتخاذ خطوة واحدة دون ذلك الرجل؟
– إنه أيضًا مشرف على رسالتي، وسيكون ضمن اللجنة التي ستناقشها، ولا بد أن أكون على عَلاقة به …
– عَلاقة؟ ألا تستطيعين اختيار كلماتك يا سهير؟
– أنت عصبي الآن يا محب، نتكلم يومًا آخر. مع السلامة.
•••
– أهلًا سهير.
– أهلًا محب. إزيك؟
– تمام.
– أردت أن أخبرك بأمر قبل أن تسمع به فتفسره خطأً.
– ما هو؟
– سيحضر الدكتور عزيز هذا الأسبوع ليقضي ثلاثة شهور في فرنسا.
– وفي ليون طبعًا؟
– نعم.
– وهكذا تعود لي النوبة مجددًا …
– دعك من هذا الكلام.
– سهير، إن أسوأ ما أتوقع يحدث أمامي وتقولين لي دعك من ذلك؟
– لا أشاركك أوهامك.
– أوهامي؟ أنت لا تدرين بي وبحالي …
– توقف عن هذا يا محب.
– أنا أتعذب ولا تحاولين شيئًا للتخفيف عني …
– محب.
– وها أنا أجد أمامي كل ما تخوفت منه …
(تغلق سهير التليفون.)
•••
– محب؟
– ماذا تريدين؟ بعد أن أغلقت التليفون في وجهي.
– متأسفة يا محب، لقد اضطُررت لذلك؛ كنتَ في نوبة هياج.
– لله الأمر من قبل ومن بعد.
– لماذا تقول ذلك؟
– أنا في حالة بائسة يا سهير.
– لا أدري كيف أخفف عنك.
– تعرفين جيدًا يا سهير.
– كيف؟
– ابتعدي عن ذلك الرجل ولا تقابليه أبدًا.
– إذن فلتقطع عَلاقتك بشانتال.
– ها أنت تؤكدين شكوكي بمساواة عَلاقتك بعزيز بعَلاقتي بشانتال.
– وها أنت دون أن تدري تعترف بوجود عَلاقة بينك وبين شانتال.
(وكان دور محب أن يقطع الاتصال.)
•••
– متأسف يا سهير على ما فعلته الأسبوع الماضي من إغلاق التليفون.
– لا أدري لماذا تتصل الآن.
– أتصل لأرى كيف يمكن أن نصلح من عَلاقتنا.
– أعتقد أن الإصلاح بات صعبًا.
– تقولين هذا لأن عزيز عندك الآن.
– إنك أنت من قطعت الصلة بيني وبينك بغيرتك وشكوكك، وأيضًا بعَلاقتك بشانتال التي أنا متأكدة منها الآن. وأحب أن أقول لك إنني ذاهبة في رحلة دراسية إلى مدينة رامبو لمدة أسبوع.
– مع الجامعة؟
– لا، رحلة خاصة مع الدكتور عزيز.
– الله الله … كيف؟
– لقد دعاني إلى تلك الرحلة وسيتحمل كل نفقاتها.
– سهير، إذا نفَّذتِ ذلك الأمر فهذا معناه قطيعة بيني وبينك.
– ألا تدري يا محب أن القطيعة بيننا قد تمت منذ زمن؟
– هذا يعني أنك مصممة على تلك الرحلة.
– بالتأكيد.
– الوداع إذن يا سهير. اعتبري أن خِطبتنا قد فُصمت.
•••
أمضى محب وقتًا عصيبًا بعد سفر سهير إلى ليون وحين كان يحادثها وتحادثه وهي هناك. وبعد المكالمة الأخيرة التي أخبرته فيها بعزمها السفر برفقة عزيز إلى بلدة رامبو وانفصام عَلاقته بسهير، وقع في براثن الحمَّى، وكانت شانتال إلى جانبه ترعاه وتمرضه. وتنامت بينهما عاطفة لم تكن متواجدة من قبل، وأصبحا أكثر محبة وفهمًا. كانت العَلاقة بينهما قائمة على المتعة وقضاء الأوقات الجميلة وتذوق الجمال والمعرفة، وتطورت تدريجيًّا إلى شعور عميق بالحب، حين وجدت شانتال أنها لم تلتق بشخص يماثل محب في تكوينه واهتماماته وعواطفه الرقيقة وثقافته الفنية الواسعة. ومن ناحية أخرى، تماهي محب مع عاطفة شانتال المتعمقة ووجد أنها تغيرت تغيرًا جذريًّا في حياتها المنفتحة وبدأت تحصر أوقاتها وعنايتها في شخص محب.
وبدأ محب يتعافى مع مرور الوقت، ولم يكن أمامه سوى دراسته وعَلاقته بشانتال. وعملت شانتال كل ما في وسعها لراحته، فلما وجدت صعوبته في السفر إلى دوفيل حيث مخطوط أسامة بن منقذ، جلبت أحدث ماكينات التصوير الآمنة، ونسخت كل صفحة من المخطوط بعناية، حتى يتمكن محب من مواصلة دراسته في البيت.
محب: كيف أشكرك يا شانتي على كل ما تفعلينه من أجلي؟ كنت أخشى أن يضر التصوير بمخطوط قديم كهذا.
شانتال: لقد درست الموضوع جيدًا وشاورت المختصين فوجدت الطريقة الآمنة للتصوير الواضح دون إلحاق أي ضرر بالأصل.
– إنك تبذلين من أجلي الكثير يا شانتال.
– كف عن هذا … ألسنا حبيبين؟
وفوجئ محب بهذه الكلمة وبنبرة الصدق التي قالتها بها.
– بالطبع.
ومالت عليه شانتال وقبَّلته في حنان.
وتطورت الأمور بينهما بسرعة بعد ذلك، ووهبت شانتال كل جوارحها لمحب، وخرجت معه إلى كل مكان، وجعلته يجالس الكثيرين من الفنانين والأدباء الذين تعرفهم، وحضر مقابلاتها مع البروفيسور جاك بيرك وتناقش معه في الترجمة التي يقوم بها للقرآن الكريم. وكانا يرحلان إلى أماكن رائعة رومانسية، رعت حبهما الجديد الذي نما في القلب بعد أن نما في الجسد. وازدادت الثقة بينهما مع زيادة الحب، حتى قام محب ذات يوم بالاعتراف لشانتال بأنه قد وجد بين صفحات المخطوط ذلك البارشمان التاريخي المهم، ولما تأكدت شانتال أن الورقة لا صلة لها بالكتاب الأصلي، قالت له إنها تعطيه الورقة هدية خالصة له، يفعل بها ما يشاء.
وجاءت لحظة فاصلة في عَلاقتهما حين كانت شانتال بين أحضانه في منزلها الباريسي، وهما غارقان في نشوة الحب، فإذا بها ترفع جسدها عن جسده، وتنظر في عينيه نظرة تعبَق بالشجن. ولما سألها محب: ما الأمر؟ أجابت بتلك العبارة التي أصبحت منذ خرجت من شفتيها معلما هامًّا خالدًا في قصة حبهما: وماذا سأفعل بعد أن تسافر أنت إلى مصر؟
وكانت هِزة التحقق لكل منهما. وغرَّق محب ناظريه في ناظريها برهة، ثم احتضنها ثانية وألصق جسدها بجسده، ثم همس في أذنها: لن أفترق عنك أبدًا يا شانتال.
•••
وتغيرت العَلاقة بين شانتال ومحب منذ تلك الليلة أكثر فأكثر، وأخذ حديثهما يدور كثيرًا عن المستقبل.
محب: المشكلة هي أني لا بد أن أعود إلى مصر ولو لفترة من الزمن؛ لأن أستاذي الدكتور الشافعي قد وضع أملًا كبيرًا في اكتشاف ذلك المخطوط، وهو الذي سيشرف على رسالتي وسيَزيد ذلك الموضوع من مركزه الأكاديمي.
شانتال: يمكنك العودة لمناقشة الرسالة وإرضاء أستاذك، ثم تعود.
– وحين أعود، ماذا أفعل هنا؟
وصمتت شانتال، فهي تعلم أنها لا تستطيع أن تقول لمحب إنه لا يحتاج إلى شيء ما دامت معه.
– يمكن أن تعمل بالتدريس في التاريخ المقارن، وموضوع الحروب الصليبية مطلوب جدًّا هنا.
– وكيف يختارونني وعندهم أساتذة متخصصون؟ هذا صعب جدًّا ولا يمكن أن أتركه للظروف.
•••
شانتال: تأكد يا محب إني أرحب بالحياة في مصر ما دمت معك.
محب: أنت قد شاهدت مصر كزائرة، وتنقلت ما بين الهيلتون وسميراميس، ولم تجربي الحياة هناك كربة منزل، ويجوز كأم.
– لا لا. لقد تنقلت أيضًا في الأحياء الشعبية لزيارة الآثار وأماكن نجيب محفوظ …
– كل هذا جميل، ولكن الإقامة شيء آخر.
– سنتمكن من العيش في مستوى رفيع، وأنا كما تعلم سأناقش الدكتوراه الشهر القادم وبذلك أستطيع التدريس في الجامعة الأمريكية بالقاهرة. وفضلًا عن ذلك، فإنه يمكننا السفر وقتما نحب، فسوف تكون لديك الجنسية الفرنسية أيضًا.
– وماذا يكون موقفي من زملائي وأسرتي حينذاك؟
– لا أفهم ماذا تعني يا محب.
– نحن في مأزق حقيقي.
– ليس هناك أي مأزق ما دام هناك حب.
– يا لك من حبوبة جميلة يا شانتي!
وبعد أن نالا ما ينالان من حب وعناق، جلسا يأكلان ويعيدان النقاش عما يمكن أن يفعلاه. وكان محب يركز على عَلاقته مع الدكتور شافعي التي تحتم عليه ألا يخذله، وأن يعود إلى مصر بما يحمل من كنوز يتقاسمان نتائجها معًا. وكانت شانتال تسلِّم بذلك، وهي تؤكد دومًا استعدادها للحياة في مصر ما دامت مع محب. وقالت إنها ستبدأ أول خطوة بأن تخبر والدها بأنها تعرفت على محب وأنها تنوي الزواج منه، على أن تترك محل إقامتهما بعد الزواج إلى وقت آخر.
– مستعدة لمناقشة الدكتوراه يا حبيبتي؟
– بالتأكيد. الموضوع قتلته بحثًا ولذلك سيسهل علي المناقشة فيه، علاوة على أن الأستاذ المشرف راض تمامًا عن الرسالة.
– أرجو ألا تكون السوربون قد دعت الدكتور عزيز ليشارك في مناقشة الرسالة؟
فضحكت شانتال وقالت:
– لا لا. لقد أرسلوها لأستاذ في قسم اللغة الفرنسية بجامعة الإسكندرية، والبروفيسور بيرك هو المشرف ومعه أستاذ فرنسي آخر. لا تقلق.
– لا قلق بالمرة؛ لقد نسيت موضوع سهير وعزيز تمامًا، والفضل لك يا شانتال.
– لقد وجهت دعوة للأستاذ توفيق الحكيم لحضور الرسالة، وأرجو أن تساعده صحته على الحضور.
– سيكون ذلك شيئًا رائعًا، وإذا حضر يسعدني أن أرافقه في أي مكان يريد.