٢٣

«لا يوجد محب للشعر الإنساني دارس له في أي مكان من العالم إلا ويعرف اسم رامبو، إنه شاعر مهم وموهوب، وأشعاره تزداد تألقًا مع الأيام، ويجتهد الباحثون في تقديم تفسير لها كلما ظهرت مناهج جديدة للبحث في الشعر ودراسته.»

رجاء النقاش

كانت رحلة سهير مع عزيز خير تعويض لها عما رأته من محب طوال الشهور التي قضتها في ليون، ففضلًا عن أنها قضت وقتًا سعيدًا على طرق فرنسا، فهي كانت زادًا ثقافيًّا لها عن الشاعر الذي ستدرسه، آرثر رامبو.

رأت عينا آرثر رامبو الدنيا في ٢٤ أكتوبر ١٨٥٤م في بلدة شارلفيل، وكان أبوه ضابطًا مغامرًا لا يستقر له قرار، ما لبث أن هجر الأسرة حين كان رامبو في السادسة من عمره ولم يره بعد ذلك أبدًا. ولا شك أن رامبو قد ورث عن أبيه حب التَّرحال وعدم الاستقرار وجموح الطباع والثورة على كل شيء، بينما ورث عن أمه ما اشتُهر به بعد أن عمل بالتجارة من حسن التدبير في كسب المال. وقد التحق رامبو بمعهد «روسا» ثم بالمدرسة الثانوية بالبلدة، وتلقى بها التعليم الفرنسي التقليدي أيامها، الذي كان يركز على تعلم اللغتين اليونانية واللاتينية، والتاريخ واللغة الفرنسية والرياضيات. وكانت فترة صباه التعليمية فترة عاصفة؛ فهو لم يكن يطيق النظام والقيود التي كان يفرضها عليه البيت والمدرسة، فكان دائم التمرد عليهما. وبرغم ذلك، مكنه ذكاؤه الحاد من التفوق في دروسه دون جهد؛ فكان يحصد الجوائز المدرسية على الدوام. وقد أتقن اللغة اللاتينية إلى الحد الذي كان يَنظم بها شعرًا، وحازت بعض قصائده على جوائز عامة. وكان يقضي وقته هائمًا في الريف وعلى ضفاف نهر «الميز»، ويقرأ كل ما تقع عليه يداه. وقد شجعه على طموحاته الأدبية والتحررية أستاذه «إيزمبار» الذي أقرضه الكتب الجديدة التي كانت محرمة في بيئة إقليمية منغلقة مثل بيئة شارلفيل. وطالع رامبو كتب هوجو وبودلير وسان سيمون وميشليه، وسرعان ما بدأ يدبج القصائد بالفرنسية، ويضع تصوره الخاص لما يجب أن يكون عليه الشعر والشعراء.

ولما بلغ رامبو السابعة عشرة من عمره، كان قد حاول بالفعل أن يهجر منزله وبلدته أربع مرات على الأقل، منها المرة التي توجه فيها إلى باريس كي يشترك في ثورة الكوميون، تلك الثورة التي أعقبت هزيمة فرنسا عام ١٨٧٠م أمام القوات البروسية الألمانية، والتي أدت إلى سقوط الإمبراطور نابليون الثالث. وبعد ذلك، عكف رامبو على تعويض إحساسه بالمرارة بالانكباب على الكتابة، وكان نتاج ذلك مقالته عن الفن والشعر التي ذكر فيها أن الفن الحقيقي يجب أن ينبع من «الذات الأخرى الخفية لدى الفنان، وأن سبيله إلى الكشف عن تلك الذات هو الحب والألم والجنون، وعلى الفنان أن يخلط في ذاته بين كل أنواع الحواس بحيث يمكنه في النهاية أن يصبح بصيرًا، وتكون جميع حواسه في اتصال وتآلف، كما لو أنه عاد إلى ينبوع واحد لها جميعًا؛ فالعين ترى رفيف الأجنحة، والأذن تسمع عبور الرؤى، وكل جارحة من جوارح الإنسان تزدهر وتنتعش أمام تألق الأشياء بالألوان والأضواء وتفيض بالشعر.» (من كتاب صدقي إسماعيل عن رامبو).

وواكب كتابة تلك المقالة تدبيجه قصيدتين طويلتين من أبرز أشعاره؛ الأولى: بعنوان «ما يقال للشاعر عن الأزهار»، أما الثانية: فهي قصيدته الشهيرة «السفينة النشوى». وقرر رامبو أن يبدأ حياته كشاعر؛ فأرسل مجموعة من قصائده إلى «بول فيرلين» الذي قرأها وأدرك على الفور أنه أمام ظاهرة جديدة في الشعر الفرنسي؛ فأرسل يستدعيه إلى باريس وقدمه إلى كبار شعراء زمنه. وارتبط رامبو وفيرلين ارتباطًا وثيقًا جعلهما لا يفترقان. وتبدأ بذلك المأساة في حياة الشاعرين، والتي انتهت بإطلاق فيرلين النار على رامبو في فندق ببلجيكا. ويُسجن فيرلين، بينما يعود رامبو إلى أسرته في شارلفيل، حيث يقوم بكتابة آخر ما خطت يداه: «فصل في الجحيم»، وهو كتاب من النثر الشعري لم يُكتشف إلا بعد وفاته. ومع آخر حرف من ذلك الكتاب، يهجر رامبو الكتابة والشعر والأدب، ويبدأ حياة من الأسفار والمغامرات والتجارة، أخذته إلى أصقاع نائية في الشرق الأقصى، ثم إلى أفريقيا؛ في الحبشة وزيلع وجيبوتي. وكان على وشك أن يعمل مفتشًا في الجمارك بالإسكندرية لولا أنه لم يطق الانتظار لإتمام الأوراق الخاصة بذلك. وزار القاهرة عدة مرات، وأودع في مصرف «الكريدي ليونيه» في حي الغورية أموالًا ذهبية كوديعة لمدة ستة أشهر بفائدة ٤٪. وقد أصيب رامبو بعد ذلك بسرطان العظام الذي أدى إلى وفاته عام ١٨٩١م.

•••

وقام الدكتور عزيز باستئجار سيارة صغيرة مريحة، استقلها هو وسهير من ليون متجهَين إلى شارلفيل. وسار عزيز بالسيارة على مهل، ونهلت سهير من جمال الطبيعة التي يمران عليها في الطريق. وتوقفا في بلدة «شاتو-تيري» لتناول الغداء. وكانت سهير مستسلمة لعزيز في كل ما يقول ويفعل، وكان هو يعاملها كما يعامل الأستاذ تلميذته وكما يعامل المحب حبيبته، دون أن يطغى أي جانب منهما على الآخر. وبلغا منتصف الطريق في مدينة «رانس» المشهورة، وقال عزيز إنهما سيقضيان الليلة فيها للراحة وزيارة المدينة. واختار فندقًا جميلًا ذا نجوم ثلاث، وطلب حجرتين متجاورتين له ولسهير. وبعد شيء من الراحة، اصطحبها إلى الخارج ومعه دليل وخريطة للمدينة، فسارا معًا وزارا الكاتدرائية والمتحف الرئيسي هناك. وحين جلسا في نهاية اليوم للعشاء، إذا بعزيز يطلب زجاجة من النبيذ الفاخر، وصب منها كأسًا لسهير التي ترددت مغمغمة بأنها لا تشرب، ولكن عزيز شجعها بأن النبيذ لا غبار عليه وأنه يشربه للمساعدة على النوم.

وفي اليوم التالي، استيقظت سهير نشطة بعد نوم عميق بالفعل، وهبطت لتلتقي بعزيز في بهو الفندق. وتكررت بهجتها والسيارة تمضي في الطريق إلى شارلفيل وتمر بجمال الطبيعة في تلك المنطقة. وهناك، اختار عزيز فندقًا ذا خمسة نجوم رغم اعتراض سهير، ولكنه قال لها إنه يريد أن يحتفظ كلاهما بأجمل الذكريات لهذه الزيارة. وكانت سهير تشعر شعورًا مبهمًا بأن الزيارة تحمل في طياتها أمورًا غير مجرد دراسة رامبو، وكانت تسير كأنها في حلم يظللها الرؤى والخيال.

وفي بدء التَّجوال، تناول عزيز يد سهير ووضعها في يده، فاستجابت وتركته يقودها حيث يريد. وبدآ بزيارة ميدان كبير، يفضي إلى مبنى متحف رامبو. ودخلته سهير في خشوع كأنها تدخل معبدًا مقدسًا، وأخذت تتأمل ما بداخل أول حجرة: آثار مما تركه رامبو، حقيبة جلدية متوسطة الحجم كان يستخدمها في أسفاره الإفريقية، أدوات الحلاقة الذقن من القرن التاسع عشر، صور فوتوغرافية مكبرة للشاعر في بعض مراحل حياته … وهامت سهير بكل ما ترى، وهي تناقش عزيز في كل ما يرونه، وحين وقعت عيناها على صور فوتوغرافية لقصيدة «السفينة النشوى» مكتوبة بخط اليد، أحست كأنها بلغت منتهى آمالها. ولم تكن الكتابة بخط رامبو للأسف، بل بخط بول فيرلين. وأخذت تقرأ مع عزيز …

«بينما كنتُ أسرِي عبر أنهار جامدة،
لم أعد أشعر بالملاحين يقودون خطاي،
إذ صوب إليهم ذوو البشرة الحمراء سهامهم،
وأوثقوهم عرايا إلى الصواري الملونة.
وكنت قد خلعتُ عني كل أثقال وأحمال؛
أحمال القمح الفلمنكي والقطن الإنجليزي.
وحين ذهب كل هذا الصخب بالمجداف مني،
تركتني الأمواج أسير كيفما أريد وأبغي.»

وسأل عزيز حارس المتحف عما إن كانت الصور مسموحًا بها بداخله، فلما أجاب نعم، التقط بعض الصور لسهير وهي تتطلع إلى صور رامبو، وصوَّر الصفحة الأولى من القصيدة بخط فيرلين. ثم عثرا على قصيدة «حروف العلة» بخط رامبو نفسه، فكان اكتشافًا فريدًا وقفا أمامه فترة طويلة. ووجدا عددًا من اللوحات الحديثة تصور مشاهد خيالية لفقرات من السفينة النشوى …

«في خضم المياه التي تهدر ثائرة،
أنا، في الشتاء الماضي، جريت ثم جريت،
في صمم يفوق عقول الأطفال،
ولم تعرف أشباه الجزر الطليقة
انطلاقًا أكثر انتصارًا من انطلاقاتي.»

وقبل أن يخرجا من المتحف، اشترى عزيز كثيرًا من بطاقات البوستال والكتيبات التي تستنسخ ما في المتحف، وبعض الكتب الحديثة عن رامبو. وخرجا يلتمسان الأماكن المعروفة بالبلدة ذات الصلة بالشاعر. وقبل ذلك، دعا عزيز سهير لتناول قهوة في أحد المقاهي ذات الشرفة الخارجية، وأخذ يشرح لها بعض ما قرأه عن البلدة في الدليل الذي معه: نعرف الآن لماذا تسمى البلدة «شارلفيل-ميزيير». كانت ميزيير بلدة مجاورة لشارلفيل، ثم تم إدماجهما معًا عام ١٩٦٦م، ومن هنا جاء الاسم المزدوج. وكان رامبو يطلق على بلدته اسم «شارلتاون». وقد بدأت البلدة تحتفي بشاعرها منذ عام ١٩٠١م، على نحو متواضع أولًا، ثم بتخصيص صالة له في «المتحف البلدي» عام ١٩٥٤م احتفالًا بمئوية مولده. ثم اختاروا مبنى «الطاحونة القديمة» منذ عامين فقط (١٩٦٩م) ليكون هذا المتحف الذي زرناه لتونا. وهناك الكثير من الأماكن المتعلقة به في البلدة، وهي ما سنحاول الطواف به.

وبالفعل، انطلقا في حبور وجذل فزارا مبنى المدرسة التي تعلم فيها رامبو والتي تحولت إلى مكتبة البلدية، والبيت الذي وُلد فيه الشاعر، بينما تتردد في ذهنيهما القصيدة الخالدة:

«لقد باركتِ العاصفة يقظاتي البحرية،
فرقصتُ بخفة الفلين على صفحة الأمواج
التي تطوي فيما يقال فريستها أبد الدهر.
عشر ليالٍ دون أن أحيد عن عين الفنار البلهاء.
وتسربت المياه الخضراء إلى قشرتي الذهبية
برفق يضاهي ملمس الصبي للتفاح المر،
وغسلتني دفعات من النبيذ الأزرق ومن المطهرات،
فأحالت الدفة والمخطاف حطامًا منثورًا.»

ووقفا معًا على ضفاف نهر «الميز»، يتصوران الشاعر الهائم على وجهه وهو يطوف بتلك الضفاف جيئة وذَهابًا وهو يردد أشعاره بينه وبين نفسه.

«ومنذ تلك اللحظة غمرتني مياه القصيدة؛
قصيدة البحر، ترصعها الكواكب ويندى منها الحليب
ملتهمًا الزرقة الخضراء،
حيث يهبط أحيانًا غريق غارق في الفكر
طافيًا، شاحبًا، تغمره نشوة ذاهلة.»

ثم خرجا إلى أطراف المدينة فوجدا جسرًا طويلًا معلقًا، جلسا أمامه في نشوة ذاهلة عن كل شيء:

«هناك حيث تختمر احمرارات الحب المريرة،
وتصبغ فجأة — تحت توهجات الأيام —
الزرقة، والهذيان، والإيقاعات البطيئة،
التي تفوق الصهباء قوةً والقياثير رحابةً.
لقد خبرتُ السماوات المنصدعة في بروق،
والزوابع، والأعاصير، والتيارات.
خبرتُ المساء، والفجر الطالع كأنه رهط من الحمائم.
ورأيتُ أحيانًا كل ما ظن الإنسان أنه رآه!
رأيت الشمس غاربة يلطخها رعب صوفي،
تنير جمادات بنفسجية طويلة،
كأنها الممثلون في أدوار الدراما القديمة.
والأمواج على البعد تطوي رجفاتها المصراعية!»

وقاما ليعبرا الجسر الجميل الذي يفضي إلى حديقة غناء، وفي وسط الجسر توقف عزيز، وأمسك يدي سهير، وهمس لها: «أتتزوجينني يا سهير؟» فدارت بها الدنيا وأحست أنها في السماء السابعة وهي تجيب «نعم». وعندها أحاط عزيز بخصرها وجذبها إليه ثم طبع على شفتيها قبلة رقيقة ذابت على إثرها سهير بين ذراعيه:

«وحلَمتُ بالليلة الخضراء للثلوج الباهرة،
قبلة تصَّاعد إلى عيون المِلاح في رَويَّة،
ودوران العصارات الغريبة القصية،
واستيقاظ الوهجات الشادية
تظللها الصفرة والزرقة!
لقد تتبعتُ شهورًا بطولها
دفقات الموج تعصف بالصخور البحرية،
كأنها أبقار هائجة،
ولم يخطر ببالي لحظة
أن أقدام العذراء الوضَّاءة
بوسعها كبح جماح المحيطات لاهثة الأنفاس!»

وبعد أن عبر عزيز وسهير الجسر المعلق، وجدا بالحديقة مطعمًا صغيرًا أنيقًا في الخلاء الطلق. نظر عزيز إليها دون كلمة فأومأت برأسها. وجلسا وطلبا طعامًا خفيفًا.

عزيز: أرجو أن تعلمي يا سهير أني لم أنقطع عن حبك يومًا؛ لكني احترمت اختيارك المبدئي لمحب رغم إدراكي بأنه ليس مناسبًا لكِ.

سهير: إنه صفحة من حياتي طويتها بلا رجعة يا دكتور عزيز.

– أنا خطيبك الآن يا سهير، ناديني باسمي دون ألقاب.

– وهو كذلك، رغم صعوبة ذلك.

– ستتعودين. والآن، متي تودين أن نعلن خِطبتنا وترتيبات زواجنا؟

– يبدو أنك متعجل لذلك؟

– جدًّا، ما رأيك أن تأخذي إجازة من الدراسة ونطير إلى مصر حيث أطلب يدك من أسرتك؟

– سيكون ذلك مكلفًا.

– لا تقلقي؛ خير الله كثير.

ضحكت سهير وأبدت موافقتها.

«لقد اصطدمتُ بخُلجان غريبة، أتعلم ذلك؟
تُقرن بالأزاهير عيون فهود لها جلد الإنسان،
وأقواس قزح منبسطة تحت آفاق البحار،
كأنها أعنَّة القطعان الخضراء الزاهرة!
لقد رأيت المستنقعات الهائلة تفور،
وشبَكاتٍ يتحلل في أحراشها حوت هائل بكامله،
وانهياراتٍ مائية وسط سكون العواصف،
وآفاق قصية تسَّاقط كالشلالات إلى الهاوية السحيقة!
رأيتُ أنهارًا جليدية، وشموسًا فِضية،
وأمواجًا لؤلؤية، وسماوات نارية،
وجنوحًا شائنًا في أعماق خُلجان سمراء،
حيث أفاعٍ عملاقة تلتهمها الحشرات الضئيلة،
فتهوي من الأشجار الملتفة يحتويها الشذى الأسود!
لقد رغبتُ أن أكشف للأطفال عن سمك المَرجان،
وعن الموجة الزرقاء،
وتلك السمكات الذهبيات والملكات المنشدات.
بيد أن زبَدًا كالأزاهير هَدهد من انطلاقاتي،
ورياحٌ تفوق الخيال خلعتْ عليَّ أجنحة من حين لحين.»

– كيف تفضلين أن يكون خاتما الخِطبة؟

– الأفضل أن نشتريهما في مصر.

– جميل، وعليك أن تختاري ما ننقشه عليهما. والآن، ماذا نفعل بسنوات دراستك في فرنسا؟

«وأحيانًا، كان يرفع لي البحر
— الذي هَدهد نشيجه من مسيري —
أزاهيره الظلالية ذات الكئوس الصفراء.
لي أنا، الشهيدة المنهكة من ارتياد الأقطاب والمناطق.
وبقيتُ هكذا … كامرأة جاثية على ركبتيها …
وأصبحتُ كالجزيرة، تتمايل على جانبي النزاعات،
وروَث الطيور النابحة ذات العيون الشقراء.
وطفِقتُ أجدف، بينما هبط الغرقى ليناموا
عبر حبالي الواهية، مرتدِّين على أعقابهم!»

– هذه مشكلة بالفعل. لا يمكن أن تكون أنت في مصر وأنا بفرنسا طوال تلك الفترة.

– أنا لا أستطيع الانتظار.

قالها عزيز ضاحكًا.

– إذن ماذا تقترح؟

«وها أنا الآن: سفينة ضائعة تحت أعواد الطحالب،
ألقتها العاصفة في الأثير الخالي من العصافير.
أنا التي لم تكن قوارب الحراسة ولا حراس الشاطئ
لتنتشل جثتي التي أفعمَتْها المياه بالنشوة.
طليقة، مبخرة، تظللني الضبابات البنفسجية.
أنا التي نقبتُ السماء الاحمرارية كأنها الجدار.
أنا التي تحمل المربى الشهية إلى الشعراء النابهين،
ونباتات الشمس المغطاة بالمخاط اللازوردي.
أنا التي جريتُ، تبرقشني الأظفار الكهربية،
لوح أحمق تخفيه أفراس النهر السوداء،
بينما شهور يوليو تهدم بالهراوات
السماوات اللازوردية ذات الأقماع المتوهجة.»

– دعينا نفكر معًا؛ لا أريد أن أفرض عليك شيئًا يا سهير. ستكون حياتنا معًا بالتوافق دون طغيان أحد على الآخر.

– أنا اثق فيك ثقة عمياء، وأنا واثقة أنك لن تفكر في شيء يكون فيه أي أذًى لي.

– إذن دعينا نفكر في حلول محتملة ونختار واحدًا منها إن شاء الله.

«أنا التي كنتُ أرتعد،
إذ أشعر بعواء أفراس البحر وبالدوامات الخفيضة،
تخور على بُعد خمسين فرسخًا،
وأنا أنسج دومًا خيوط الجمود الأزرق …
آه … كم أحن إلى أوروبا ذات المتراسات العتيقة!
لقد رأيت أرخبيلات نجمية، وجزيرات
تفتح سماواتها الهاذية أمام الضاربين بالمجداف.
أفي مثل هذه الليالي التي لا نهاية لها تنامين وتنئين بنفسك
يا ملايين الطيور الذهبية، يا قوة المستقبل؟
ولكن، حقًّا، لقد بكيتُ بما فيه الكفاية …
لكم يصدع الفجر الفؤاد!
كل الأقمار مريعة وكل الشموس مريرة.
لقد أفعمتْني آلام الحب بأخدار مسكرة.
آه، فلينحطم قاعي … آه، فلأغرق في الأعماق!»

– كم أنا سعيد بك يا حبيبتي سهير.

وأُخذت سهير بكلمة حبيبتي وأفعمتها بالنشوة.

– وأنا سعيدة بك جدًّا.

– فقط؟

– جدًّا جدًّا.

– تعرفين أني لا أقصد ذلك …

واحمر وجه سهير وتمتمت في خفوت: يا حبيبي عزيز.

«لو أنني هفوتُ إلى المياه الأوروبية،
فلتكن بحيرةً سوداء باردة،
يُقعِي أمامها صبي مفعم بالأحزان،
قرب الغسق العاطر،
ويطلق قاربًا هشًّا إلى المياه،
كأنما هو فراشة من فراشات الربيع.
لا أستطيع بعد ذلك أيتها الموجات،
وقد استحممتُ في كآبتكِ وأشجانك،
أن أرفع المِرساة للسفن حاملات الأقطان،
ولا أن أعبُر زهو البيارق والمشاعل،
ولا أن أسبح تحت الجسور العائمة المخيفة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤