٢٥

وداعًا يا خريف باريس.
أيتها السفينة الزرقاء،
يا بحر المحبة،
وداعًا أيتها الأنهار،
أيتها الجسور وداعًا،
وداعًا أيها الخبز المقدَّد العاطر،
أيها النبيذ المعتَّق الحلو وداعًا،
ووداعًا أيها الأصدقاء،
يا من أحببتموني.
إنني أرحل منشدًا في البحار،
أعود لاستنشاق الجذور.
غامض هو عنواني،
أعيش في أعالي البحار،
وفي مرتفعات الأرض،
مدينتي هي الكرة الأرضية،
شارعي هو «أنا ذاهب»،
ورقمه «حيث لا عودة».
بابلو نيرودا

كان كل المصريين في باريس يعتصرهم الحزن للأخبار التي تأتي لهم من مصر وما يقع فيها من قلاقل الإسلاميين وطلبة الجامعات الذين يطالبون بالاستعداد الجدي للحرب لاستعادة سيناء. وقد جعل ذلك كثيرًا من المصريين يفكرون في العودة ولو مؤقتًا إلى بلادهم ليعضدوها في محنتها. وقد أعطى ذلك الشعور حلًّا لمحب وشانتال لمشكلتهما؛ إذ انتهيا إلى أنه لا محل لمحب أن يبقى ويناقش رسالته في فرنسا، ولكن يجب العودة إلى مصر بما يحمله من وثائق ومراجع ليُتِم رسالته تحت إشراف أستاذه هناك، على أن يعود بعد ذلك للعمل والإقامة في فرنسا. وبقيت مسألة هل ترافقه شانتال في مُقامه المصري أم تنتظره في بلدها؟

وحل شهر رمضان، وكان من عادة المكتب الثقافي أن يدعو المبعوثين المصريين إلى اجتماع عام واحتفالية في قاعة المركز الثقافي، يحضرها كل موظفي المكتب ومن شاء من أعضاء السفارة. ولما كان محب موظفًا مؤقتًا بالمركز، فقد حرص على إبلاغ أصدقائه بتلك المناسبة، وقال لهم إنه يمكنهم اصطحاب من يشاءون من أصدقاء من غير المصريين. واصطحب هو شانتال حيث قدمها إلى المستشار ورامي والملحقَين الثقافيين الآخرَين، وطاف معها بأبهاء المركز؛ يريها معروضاته من لوحات وتماثيل مصرية.

كانت الاحتفالية تبدأ في الواحدة ظهرًا بخطاب المستشار الثقافي، تتبعه مناقشة مفتوحة مع المبعوثين المصريين عن أحوالهم ومشاكلهم، وبعض العروض التي يقدمها أطفال مصريون. وبعد ذلك تُمد موائد إفطار رمضان حين يحين الموعد، وتنتهي الاحتفالية بعرض فيلم مصري، كان يومها فيلم «ثرثرة فوق النيل».

كان عدد الحضور ليس كبيرًا؛ فكثير من الطلاب لا يرحبون بتلك الاجتماعات الرسمية ولا يجدون منها فائدة. وصعِد المستشار الثقافي إلى المنصة يحيط به رامي وأحد الملحقَين الآخرَين، ولمح رامي عددًا ممن يعرفهم جيدًا وسط الحضور. وحين بدأ المستشار الثقافي الحديث، كان يردد المقولات التي تبثها الدولة عن الاستعدادات للحرب والتي لم يعد يصدقها أحد. ولذلك، حين جاء الدور عليه ليجيب عن أسئلة المبعوثين، وجد نفسه يواجه وابلًا من الامتعاض لموقف المكتب من المعلومات التي يعرفونها عن عدم جدية الأمور في مصر.

وفي وسط السؤال والجواب، حضر أحدهم وأسرَّ شيئًا في أذن المستشار الذي كان جالسًا على المنصة وإلى جواره مساعداه الملحقان الثقافيان. وعلت الدهشة وجه المستشار ورد متسائلًا لمن جاءه، وسمع رامي الحديث ومفاده أنه يبدو أن حربًا قد نشِبت بين مصر وإسرائيل!

كان اليوم هو العاشر من رمضان، السادس من أكتوبر ١٩٧٣م.

وأسرع المستشار بإعلان الخبر الذي جاءه للتو، فإذا بعض الحضور يخرجون راديوهات صغيرة ويستمعون إلى أخبار تؤكد حدوث هجوم متبادل بين ضفتي قناة السويس، وطلب رامي من أحد سعاة المركز الثقافي إحضار الراديو الحديث الذي لديهم والذي يمكنه التقاط راديو القاهرة، واستمعوا في جلال ورهبة بهجوم الطائرات المصرية على مطارات العدو وأنجزت مهمتها وعادت أغلبها سالمة.

وانقسم الحضور بين مصدق ومكذب، وبين متفائل ومتشائم. في حين اعتذر المستشار وأسرع إلى السفارة المصرية كي يوجد هناك ويتلقى أي تعليمات بشأن الموقف. والتف حول رامي جمع من الحضور يواصلون الاستماع إلى البيانات العسكرية الصادرة عن القوات المسلحة المصرية، ويديرون المؤشر بين محطات أجنبية أخرى لسماع ما تذيعه. وغادر محب المركز ومعه شانتال قاصدين شقتها في باريس حيث كان لديها هناك راديو ساتلايت قوي الذبذبات يلتقط كل الإذاعات العالمية. ولاحظت شانتال مدى تأثير الأحداث على محب، الذي أصبح عصبيًّا فاقد الصبر يتمتم الدعاء لله لنصر وطنه الحبيب.

وفي المنزل، ومع توالي الأخبار بنجاح الهجوم المصري، عمت الفرحة قلب محب وبالتالي شانتال، وجاء نبأ تدمير خط بارليف الإسرائيلي وعبور الجنود المصريين إلى الضفة الشرقية القناة السويس ليُتِم تلك الفرحة، وإن صاحبها القلق أيضًا والدعوات كي يتم الله نصر مصر.

وجاء ذلك الحدث الكبير فأوضح لمحب الطريق الذي عليه أن يتبعه، وهو العودة إلى مصر في أقرب وقت بما معه من الكتب والمعلومات كي تكون بلاده هي التي قدمت اكتشافه التاريخي، كما أنه أوضح لشانتال طريقها، وهو الوقوف إلى جوار حبيبها في ذلك الوقت العصيب، فأعلنت لمحب أن عليه العودة إلى مصر وأنها ستصحبه إلى هناك مهما كانت الظروف. وكانا يخططان لحياتهما المقبلة، فكان على محب أن يستكمل رسالة الدكتوراه مع أستاذه الشافعي ويحضِّر لنشر كتاب أسامة بن منقذ كاملًا، مع إلقاء المحاضرات عن اكتشافه، وعن رقعة البرشمان التاريخية وإهدائها إلى المتحف الإسلامي. أما شانتال فهي ستتقدم للعمل بالجامعة الأمريكية بعد أن حصلت مؤخرًا على الدكتوراه في الأدب المقارن. وقبل كل ذلك، كانا يخططان لعقد زواجهما في الأيام الأولى لوصولهما إلى القاهرة، وحملت شانتال كل الأوراق اللازمة لذلك، وكان والدها قد وافق — بصعوبة — على زواجها حين رأي مدى تصميمها على ذلك. وقد وضعا مُقامهما في مصر على نحو يحتمل التغيير حسب ظروفهما؛ فمحب سوف يتقدم للحصول على الجنسية الفرنسية، مما يتيح لهما حرية التنقل.

وتتابعت أحداث الحرب بحلوها ومرها، ولكن كان العديد من المصريين في فرنسا يرغبون في السفر إلى مصر، كل واحد بهدف مختلف، ويترددون على السفارة أو يتصلون بها لمعرفة الوقت الذي ستُستأنف فيه رحلات الطيران والبواخر إليها. وكانت السفارة قد دبرت رحلات خاصة من باريس ومارسيليا إلى ليبيا، حيث يقوم المصريون بعدها بالذَّهاب إلى مصر بريًّا عن طريق ليبيا-مصر. وقد سافر على تلك الرحلات الحالات العاجلة فقط من بين المصريين في فرنسا.

وانتظر محب وشانتال حتى انتظمت الرحلات البحرية ثانية بين مارسيليا والإسكندرية؛ فحجزا مكانيهما على واحدة من السفن المتجهة إلى هناك، وفضَّلا ذلك لأنهما كانا يصطحبان الكثير من المنقولات، ومعظمها كتب، وكذلك سيارة شانتال.

وكانت الرحلة البحرية لهما بمثابة مرحلة انتقال تفصل ما بين زمنهما الباريسي وزمنهما القاهري. وكانت أيضًا نهاية لهذه الرواية، فمع انتهاء الزمن الباريسي، كان لزامًا أن تنتهي القصة، احترامًا لعنوانها والتزامًا به.

وكان الفراغ من هذا الكتاب في يوم الاثنين ٣٠ ذي القعدة عام ١٤٣٦ الهجري، الموافق ١٤ سبتمبر/أيلول من عام ٢٠١٥م.

بعون من الله العلي القدير.

على يد المؤلف الفقير إلى الله تعالى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤