٣
جلست كميلة على المقعد المريح الوثير، ووضعت طبق الفستق على مسنده الخشبي، وأخذت تتابع الأخبار في التليفزيون. كان الحدث الرئيسي هو استمرار أحداث العنف والقتل في أيرلندا الشمالية بين الكاثوليك والبروتستانت. وأفاضت التعليقات في شرح أصل المشكلة، وتتابعت صور الانفجارات والمظاهرات التي تُدين هذا الفريق أو ذاك، وبعد عدد من الأنباء الفرنسية المحلية، أبرز التليفزيون ردود الفعل الغاضبة تجاه الغارة الإسرائيلية على مدرسة بحر البقر في مصر، التي أسفرت عن مقتل عدد كبير من الأطفال الأبرياء. كان هذا الحادث العدواني البشع لا يزال يسيطر على المصريين في غربتهم، وقد أعدوا تظاهرة احتجاج سلمية في ميدان «لا ريببليك»؛ حيث لم تسمح لهم شرطة باريس بإقامتها في جانب من جوانب الشانزليزيه. كان موقف فرنسا عمومًا متعاطفًا مع مصر، ولكنها كانت محكومة أيضًا إلى حد ما بوجود عدد ضخم من الصهاينة الذين يتحكمون في كثير من المجالات الحيوية كالاقتصاد والوسائط الإعلامية والفنية. وكانت كميلة تنوي الاشتراك في تلك التظاهرة في الغد.
•••
كانت كميلة شخصية فريدة، مرت حياتها بكثير من الأحداث والتطورات التي حفرت آثارها في نفسيتها، كانت منذ صغرها فتاة متمردة على كل شيء رفضت رغبة والديها ميسورَي الحال في الدراسة بالكليات التي يدعونها كليات القمة، رغم حصولها على مجموع عالٍ في الثانوية العامة. وفضلت على ذلك أن تحيا حياتها بالطريقة التي تريدها والتي تمكنها من إطلاق العِنان لأحاسيسها الخلاقة. كانت تعشق الفن، والحرية، وتُمضي وقتها في قراءات ومطالعات أدبية وفنية. واكتشفت منذ وقت مبكر موهبتها في الرسم؛ فنشأ صراع مرير في داخلها بين أي التخصصات تنحو في دراستها: المسرح الذي أُغرمت به، أم الرسم الذي اعتبرته — مع الموسيقى — أرقى أنواع الفنون «الخالصة». كانت تقرأ عن حيوات الفنانين المشهورين: فان جوخ، ومونيه، وتولوز لوتريك، ومودلياني، فترى أن هذه هي الحياة الجديرة بالإنسان، رغم كل الشقاء والألم والنهايات المريرة التي يلقاها معظم الفنانين الذين يعيشون حياتهم بعمق، لا الرسامون فحسب، بل وأيضًا الكتَّاب والأدباء والمفكرون: نيتشة، نوفاليس، لوتريامون …
وتمثلت في ذاكرتها مشاكلها مع والديها وهي في القاهرة، وكيف أن تمردها على رغبة والديها في التحاقها بكلية الهندسة أو الطب أو العلوم السياسية، كان مجرد بداية لتمردها على القيم والتقاليد والأعراف السائدة في المجتمع من حولها، وخاصة لدى الطبقة البرجوازية العليا التي تعبد المظاهر الفارغة. عادت إلى ذاكرتها سنواتها الأربع في الزمالك، في كلية الفنون الجميلة، والثورة النفسية التي اعتملت في أعماقها حين تحتم عليها دراسة الجسم البشري لإبداع حركاته على الورق وعلى قماش الرسم. لقد أحست إحساسًا غريبًا لدى رؤيتها أجساد الموديلات العارية، وانقضى وقت قبل أن تتجرد من الإحساس بالخجل وتنظر إلى الجسد الإنساني بوصفه رمزًا للجمال في أقصى درجاته، ورمزًا للخلق والإبداع. ولا تزال تذكر المعاناة التي لاقتها في سبيل نقل هذه النماذج على اللوحات البيضاء. وساعدها مدرسوها وأساتذتها في الأخذ بيدها في ذلك الطريق الوعر؛ طريق الفن. وتراوحت عَلاقاتها بأساتذتها بين الاهتمام بتقدمها الفني، وبين العَلاقة السطحية التي تربط الطالب بأستاذه. ولكن عَلاقتها بأحد هؤلاء الأساتذة في الكلية هي التي خطَّت آثارها العميقة في روحها وحياتها، وكان أول رجل ارتبطت به. كان «جان آرتير» أستاذًا زائرًا من فرنسا، أحب مصر وجو مصر؛ فرغب في العمل بها، واشترك في البرنامج الفرنسي الذي يتيح للفرنسيين الشبان قضاء فترة تجنيدهم الإجباري في العمل في الدول النامية. ولما كان قد تم ترشيحه للعمل في مصر فقد وافق على الفور، بل ومدد عمله فيها بعد انتهاء المدة المقررة، فتزامن بقاؤه في القاهرة مع السنوات الأربع التي أمضتها كميلة في الكلية. ولم تُخف كميلة إعجابها بجان، حتى عرَف به الجميع. أما شعور جان ناحيتها فكان شعورًا بالصداقة الرومانسية، إن صح ذلك القول. وأصبحت كميلة هي مرشدة جان ودليله إلى القاهرة، تزور معه آثارها وأحياءها، وتعرِّفه منها ما كان يجهل، وتطلعه على ما يجب أن يعرف. وفي المقابل، بذل جان لكميلة من معلوماته الفنية وإرشاداته ما جعلها تركز قراءاتها ودراساتها على ما هو مهم وأساسي. والأهم أنها قد أجادت الفرنسية من كثرة حديثها معه، فهو لم يكن يريد من العربية إلا القليل الذي يمكِّنه من التعامل مع الناس. وكانت كميلة تزوره بلا حرج في شقته في وسط البلد، وكانت شقة صغيرة، من حجرة نوم وصالون ومطبخ وحمام، مؤثثة على الطريقة الأوروبية. وكان مرتب جان، على قلته بالمقياس الأوروبي، يسمح له بالعيش في بحبوحة في قاهرة أوائل الستينيات. كان ينفق على راحته على نفسه وأصدقائه وزواره، ويقوم بسفريات عدة إلى المناطق السياحية في مصر، وخاصة الصعيد لرؤية الآثار ودراستها، وكذلك سفريات لزيارة أهله في فرنسا. وطبعًا، تطورت عَلاقة جان بكميلة، بعد كل هذا التآلف معه. وهي لا تنسى أول قبلة بينهما في شقته، بعد أن كان يتصفح معها مجلدًا عن لوحات عصر النهضة في إيطاليا، حين نحى الكتاب جانبًا وتناولها بين ذراعيه يجذبها نحوه في دَعة، فلما لم تُبدِ ممانعة، ذاب في أحضانها وذابت في أحضانه، بينما شفتاهما تلتهمان بعضهما البعض. ومر وقت لم تتجاوز العَلاقة هذا الحد، ولكن … كان لا بد أن يتطور الأمر شيئًا فشيئًا إلى النهاية الطبيعية. وكي لا تقع التبعة على أحد من الطرفين، لا بد من النظر إلى أن أفكار كميلة التحررية هي المسئولة عن تطور عَلاقتهما إلى تلك النهاية الطبيعية. ذلك أن أخبار صداقتها بجان وصلت إلى أسرتها، التي عارضتها بشدة، وأخذت الأم تنصحها بعدم التمادي في تلك الصداقة حرصًا على التقاليد، ولكن كميلة كانت تهزأ بهذه الآراء وتقول لأمها إنها حرة تفعل ما تشاء. وحين تطور النقاش مرة إلى موضوع العذرية وجوهرية ذلك في الحياة الأسرية المصرية بخلاف رأي الغربيين مثل جان، فاجأت كميلة أمها بقولها إن ذلك لا يفيد؛ إذ إنها لم تعد بعدُ عذراء!
ولم يكن ذلك صحيحًا آنذاك، ولكنها افتعلت تلك الفرية حتى تضع أمها أمام الأمر الواقع فتضع حدًّا للمناقشات العقيمة معها. وطبعًا انهارت الأم، ولكنها طوت حزنها ولم تذكر شيئًا للأب، وانتهى بها الأمر إلى رفع يدها عن كميلة.
وفعلت تلك الحادثة فعل السحر في حياة كميلة الشخصية؛ إذ إن انطواء الأم على نفسها الذي بدا وكأنها قد تجاهلت الأمر تمامًا قد وضع كميلة في مواجهة مع نفسها: هل تقدم على ما كانت تعتزمه أم لا؟ كانت تنظر إلى العذرية باعتبارها أقسى صفات العبودية أمام المرأة، وكانت ترى أن هذه العذرية هي فحسب من حق من تحبه حبًّا صادقًا خالصًا، وكانت تجد ذلك الحب مجسدًا في شخص جان. وهي قد عقدت العزم منذ زمن على أن تهبه نفسها.
كان يومًا حارًّا من أيام شهر يونية في السنة الثالثة من الكلية، وكان جان يعد لسفرته السنوية إلى فرنسا وينهي آخر أعمال الامتحانات في الكلية. وكانت كميلة تشعر بالحرج من لقائه في تلك الأيام بالذات، حيث إنها لا تريد أن يفسر أحد عَلاقتها به بأنها تسعى إلى الحصول على أية امتيازات خاصة في الامتحانات. ولكن كان يساعدها في ذلك الأمر ما عُرِفَ عنها من تميز وتفوق في دراستها بصفة عامة، حتى إنها لا تحتاج إلى عون في ذلك الصدد.
وكانت تشعر إلى جانب ميلها النفسي إلى جان، ميلًا جسديًّا كذلك؛ ولهذا فهي لا تنسى ذلك الأصيل الذي كان يحتضنها فيه وهما يستمعان معًا إلى موسيقى مالر الذي عرَّفها هو به. وتمادت هي في أحضانه، حتى إن نظراته تطلعت إليها في دهشة، فقالت له عيناها ما لا يمكن أن تصرح به الشفاه. كانت تود أن تذكر دخولها إلى عالم الحياة مرتبطًا بجان، بعد أن قرأت أن أول من يمتلك الفتاة يطبعها بعد ذلك بطابعه الذي لا ينتهي طوال حياتها، وتساءلت عينا جان بما كان يريد أن يقوله لها: هل هي على ثقة مما تريد حقًّا؟ وأجابته عيناها دون كلام أيضًا: كل الثقة. وهكذا كان. وكان أصيلًا لا تنساه كميلة أبدًا. فرغم علمها بأن عَلاقتها بجان لن تسفر عن زواج أو حتى دوام؛ لأنه كان يعبر لها دائمًا عن اعتزامه البقاء دون زواج للتفرغ لفنه ودراساته، فهي لم تفكر في ذلك عند اتخاذ قرارها، بل فكرت وحسب أنها تريد أن تدخل إلى عالم الحس الروحي والنشوة الصوفية على يد جان!
وكان لسفر كميلة إلى باريس حكاية أخرى؛ فبعد تخرجها، كان والداها يأملان أن تقبل العمل الذي اقترحاه عليها في شركة كبرى بمرتب مغرٍ، كما يقال في إعلانات الصحف، وإن لم يكن في تخصصها. ولما تحججت برغبتها في العمل في الفن، عرض والدها التوسط لتعيينها في متحف أو أحد جاليريهات اللوحات في القاهرة ذاتها، بل وعرض عليها أن يزودها باستوديو خاص لها تنتج فيه لوحاتها. ولكن السفر كان هو الهدف الذي وضعته نصب العين منذ العامين الأخيرين من دراستها. ذلك أنها رأت أن دراستها لم تقدم لها إلا أقل القليل من الزاد الفني والحِرفي، ولا بد من تكملتها في مهبط من مهابط الفن المعروفة؛ إيطاليا، فرنسا، إسبانيا، هولندا … والاطلاع على النماذج الفنية العليا، مع دراسة تكميلية للحصول على درجة الأستاذية في الرسم أو النحت أو غير ذلك من التخصصات، وقد استقر رأيها على فرنسا، رغم غلاء المعيشة فيها، نظرًا لتأثير جان عليها، ومعرفتها بالفرنسية. ولم يمثل التمويل مشكلة أمامها، حيث إن أباها قد أذعن لعنادها ووعد بالعمل على إيصال النقود الكافية لها. وكان سفرها في صيف عام ١٩٦٨م، والأزمة السياسية والاقتصادية والعمرانية تأخذ بخناق مصر. كان قد مضى عام على كارثة ٦٧، وبدأ المجتمع في التحول تدريجيًّا وفي بطء إلى شيء آخر. كانت البلد ما تزال تسير بقوة الدفع الماضية، وإن جدت أشياء لم تكن تخطر على البال.
وقد بهرتها الحياة في باريس ووجدتها كما كانت تتصورها تمامًا. وأخذت تكتشف المدينة حيًّا حيًّا، بل وشارعًا شارعًا. وطالما شهدتها باريس وهي متقطعة الأنفاس من المشي طوال النهار، ومن احتواء مشاهد الجمال التي تراها في الأركان، وفي فترينات المحلات، وفي كل شيء حولها. وبدأت تتعود على اللغة بلهجة أهلها، وعززتها بالاستماع الطويل إلى الراديو والتليفزيون.
•••
وأخذت كميلة تفكر كعادتها فيما وقع لها من أحداث في يومها، فتمثل لها وجه محب ولقاؤها معه. إنه شاب مثقف ومؤدب، ليس كبعض المصريين ممن تعرفهم. أولئك الذين يتغامزون عليها ويلمحون إلى عَلاقتها برامي. وهي أعلم طبعًا بما بينها وبين رامي. لقد عاونها معاونة مخلصة حتى استطاعت أن تقف على قدميها في الغربة، وأن تستقل بحياتها في هذا الاستوديو الجميل، الذي تتخذ منه مسكنًا ومحترَفًا فنيًّا لرسوماتها في نفس الوقت، كما يفعل الجميع في أوائل خطواتهم الفنية. وكان جميع أفراد الجالية المصرية من المبعوثين والعاملين يعتقدون أن ثمة عَلاقة تربط بين رامي وكميلة، وكانت هي تضحك حين يصل إلى سمعها مثل هذه الشائعات، وتشفق على رامي من آثارها. وإن كان من طبيعة الشائعات من هذا القبيل أن تجبن عند ملاقاة أي شخص ذي مسئولية، فكان الناس جميعًا يتعاملون مع رامي بكل احترام وينسون ما يسمعون عنه. والحق أن «رامي» بريء تمامًا من مثل هذه العَلاقة، وأما مساعدته لكميلة إنما جاءت من باب الصداقة ليس غير، ومن أنه رأى فيها صورة لابنة عمه التي توفيت منذ مدة في حادث في مصر، وهذا هو ما قرَّبه أساسًا منها. وكان أيضًا معجبًا بها بوصفها فتاة مكافحة فنانة يراها مثالًا للفتاة المصرية العصرية التي تشق طريقها غير آبهة للتقاليد أو القيل والقال. وكان يعرف وهي تعرف أن مساعدته لها لم يكن وراءها أي غرض آخر، وهي لم تكن مساعدة مالية في المقام الأول بقدر ما كانت دعمًا معنويًّا. ولم تكن كميلة في حاجة إلى المال، فكانت تأتيها دومًا مبالغ من أسرتها من فائض مبيعات تجاراتها في خارج مصر، كما أنها أحرزت نجاحًا في تسويق لوحاتها وتستعد لتنظيم معرضها الأول في باريس.