٤

– لو سئلت عن كتاب واحد جعل منك ما هو أنت عليه الآن، فماذا تختار؟
– «ألف ليلة وليلة».
سلمان رشدي
٢٠١٥م

هكذا هكذا وإلا فلا لا … صبحك الله بالخير يا أبا الطيب، ها هي المخطوطات يحملها لي الموظف في هدوء.

– Voilà Monsieur.
– Merci Bien.

وأتناولها بحرص، إنها ليست المرة الأولى التي أفحصها فيها، منذ أن جئت إلى باريس لهذه المهمة، ها هو محب في الزاوية البعيدة من القاعة الجميلة، وأمامه لا شك مخطوطاته الخاصة بدراسته ليدرسها ويفحصها. إنه محظوظ إذ يدرس التاريخ وليس الأدب مثلي؛ فمخطوطات التاريخ محدودة ومعروفة، أما الأدب، وخاصة موضوعي، فلا حدود له ولا قرار. غير أني محظوظ أيضًا؛ إذ أهيم بدراستي وأبحاثي وقراءاتي، وحب أساتذتي لي، وإرشاد أستاذتي الدكتورة التي تعلمتُ منها الكثير وكانت هي دافعي ومرشدي إلى ما أقوم به الآن. صحيح أنها هي رائدة هذا الميدان، بتوجيه من أستاذها العميد، ولكن ها هي تعيد الدورة فتصبح أستاذة لي في نفس الموضوع.

مخطوطات أرقام ٣٦٠٩ إلى ٣٦١١، و١٤٩١ ألف، و٣٥٦. لقد أصبحت الآن أليفًا بهذه الأرقام بعد كل هذا الوقت. ليس بالكثير رغم ذلك. ستة شهور. ولكن، يا لها من شهور تغيرت فيها حياتي كلها. إن أمامي مهمة محددة لا بد أن أنجزها في أقرب فترة ممكنة وأعود إلى وطني. ولكن، هل يا تُرى أنجح في هذا، مع كل ما أرى هنا من إغراءات الحياة والثقافة والجمال؟ بعد أحداث ٦٧ الفاجعة، قررت أن أفضل وسيلة هي الخروج من مصر لدراسة الدكتوراه، أو على الأقل جمع المعلومات من مكتبات الخارج ثم مناقشة الدرجة في مصر.

ولكن مهلًا مهلًا؛ فحياتي مع ألف ليلة والأدب ليست إلا وجهًا واحدًا من العملة، أما الوجه الثاني فهو أكثر درامية، وجه المجاهد السياسي من أجل مبادئه. فمنذ دراستي الثانوية، وقعت على كتب الاشتراكية والشيوعية، وانضممت إلى حزب منها سرًّا منذ أيام الملكية، وطوردت مع أصدقائي في الحزب. وعند قيام ثورة ١٩٥٢م، استبشرنا خيرًا بحرية الاعتقاد السياسي، وتزامن ذلك مع تخرجي من الجامعة بامتياز، فعُينت معيدًا، وظللت أحضر لقاءات ومحاضرات الحزب. غير أن انقلاب مارس ٥٤ — وهو الانقلاب ضد الديمقراطية — جلب علينا المطاردة والنقمة؛ ففُصلت من عملي، وذقت مرارة المعتقلات، وبقيت عاطلًا طريدًا، وأقمت أَوَدي بالدروس الخصوصية وأعمال الترجمة. وظننت أن تاريخي الأكاديمي قد انتهى، ولكن أساتذتي ممن يعرفون قدراتي أمدوا لي يد العون ثانية. وكنت قد قضيت الوقت في دراسة لدرجة الماجستير من معهد الدراسات العربية العالية بالقاهرة التابع للجامعة العربية؛ لذلك حين عدت للكلية كان بوسعي التقدم لدراسة الدكتوراه. وكنت أعلم أن أساتذتي قد بذلوا الجهود لدى سلطات الأمن للسماح لي بالعودة للجامعة، بضمانتهم لي، لذلك التزمت الحرص السياسي بعد ذلك، ولم أعد أعبر عن ميولي اليسارية إلا مع من أثق، وإلا بعد أن سافرت إلى باريس، فقد دبروا لي منحة دراسية لإتمام الرسالة في فرنسا. وموضوعي …؟ آه من موضوعي الذي أبحث فيه والذي سيطر عليَّ سيطرة كاملة؛ ألف ليلة وليلة، بين مخطوطاتها المختلفة. كنت أفضِّل أن أبحث فقط في أثر ألف ليلة في الآداب الغربية، إلا إن ذلك الموضوع لم يكن يصلح لدراسة أكاديمية صرف، فوجهتني الأستاذة، المتخصصة أصلًا في ذلك الموضوع، نحو دراسة المخطوطات. وها أنا في صالة المخطوطات، ربما للمرة الثلاثين.

ما زلت أذكر أول معرفة لي بألف ليلة، من أفواه القُصَّاص، ومن برامج الإذاعة، ثم اشتريت مجموعة كاملة من أربعة مجلدات من على سور الأزبكية بعد انتقالنا إلى القاهرة عام ١٩٥٥م. وقد تزامن ذلك مع ثورة الأحاسيس الحسية في نفسي وجسدي، وانطبعت مع الصور العجيبة والعبارات الأعجب التي وجدتها في تلك القصص. ولكن ذلك لم يحجب الأثر الكلي الذي تخلفه ألف ليلة في نفس قارئها؛ الدهشة والإمتاع، وحفز الخيال كيما يصل إلى أقصى درجاته واحتمالاته.

القاهرة، القاهرة … أين أنتِ الآن مني يا قاهرتي العزيزة؟ والأصدقاء والشلة، ومن سافر ومن بقي. وكنت أنت من أواخر المسافرين من أصدقائي، بعد سفر عدلي وسامر وعبد العزيز للدراسة في إنجلترا وأمريكا. وأنت تتراسل مع عدلي الذي يدرس في جامعة لندن، ولا بد له أن يزورك في باريس، كما لا بد لك أن تزوره في إنجلترا. على الأقل سيتحتم عليك الاطلاع على بعض مخطوطات ألف ليلة وليلة في مكتبة المتحف البريطاني. وماذا عن طبعة برسلاو؟ ولا بد من قراءة ترجمة بيرتون ولين وتعليقاتهما على النص. إن أمامي عملًا شاقًّا وطويلًا من القراءة والبحث، لا بد أن أغرَق في ذلك العمل، على ألا أنسى ما عاهدت نفسي عليه من الإحاطة بالجديد في الفن والأدب والموسيقى على نحو عام، منتهزًا فرصة وجودي في هذا المركز الثقافي الإشعاعي المهم.

ها أنا أفتح المخطوط ٣٦٠٩، وهو مصور عن الأصل الذي يحتفظون به في الدار داخل فترينة زجاجية. هو أصل ألف ليلة، مخطوط جالان الشهير الذي بدأ الحكاية كلها. وقد لعب جالان دورًا كبيرًا في اكتشاف ألف ليلة وليلة، إذ كان هو أول من ترجم مخطوطها العربي ونشره بالفرنسية ما بين عامي ١٧٠٤ و١٧١٧م. وتاريخ هذا الرجل غريب، فهو قد درس في الكلية الملكية والسوربون، وصحب الماركيز نوانتل عام ١٦٧٠م في بعثته الفرنسية إلى سلطان تركيا العثمانية، حيث مكث خمس سنوات في دار الخلافة، تعلم فيها التركية والعربية واليونانية، مما مكنه بعد عودته إلى باريس من العمل مساعدًا لبارتليمي دي إربيلو في مشروعه الكبير المعنون «المكتبة الشرقية»، وأكمل إصداره وحده عام ١٦٩٧م بعد وفاة إربيلو. ولكن العمل الذي أضفى شهرة خاصة على جالان هو ترجمته لألف ليلة؛ ففي بدايات التسعينيات من القرن السابع عشر، تحصَّل جالان على مخطوطة رحلات السندباد فنشر ترجمتها عام ١٧٠١م، وحفزه نجاحها على البدء في ترجمة المخطوط كله. وكان قد أرسل إلى الشام يطلب من أصدقاء له هناك في طلب أي مخطوط متوافر لألف ليلة، فجاءه أصل ذلك الذي في يديَّ الآن، فترجمه إلى الفرنسية وصدر المجلدان الأول والثاني منه عام ١٧٠٤م، بينما صدر الجزء الثاني عشر والأخير عام ١٧١٧م. والمخطوط الذي استخدمه جالان يتكون من ثلاثة أو أربعة مجلدات، ويرجع تاريخه إلى القرن ١٤ أو ١٥. وقد بقي من تلك المجلدات المخطوطة رقم ٣، صورها هي التي بين يديَّ الآن أبحث فيها، وهي أقدم مخطوطات معروفة لليالي الألف، باستثناء ورقة واحدة أخرى يرجع تاريخها إلى القرن العاشر.

ولكن جالان لا يمكن أن يكون قد اعتمد في ترجمته على هذا المخطوط الثلاثي وحده؛ إذ إن هناك الكثير من الاختلافات بين المخطوط وبين الترجمة التي نشرها جالان، مثل بداية القصة. إن هذه الاختلافات بين مخطوطات ألف ليلة المتعددة هي التي دفعتني إلى التفكير في مشروع كبير أخذ يتبلور في ذهني على فترات متباعدة، وهو إصدار طبعة جديدة من ألف ليلة بالعربية تتضمن كل القصص التي وردت في مختلف المخطوطات، مع إدراج كل قصة في الليلة المناسبة لها. هذا عمل تحريري في المقام الأول، كما أنه يبعدني عن رسالتي الأصلية وهي إجراء المقارنات بين مختلف المخطوطات. هو في الحقيقة مكمل للرسالة وامتداد لها، ولكني أخشى أن يسبقني أحد إلى تلك الفكرة. كثير من العرب يدرسون الموضوع؛ ولذلك فإني أفكر الآن في تحرير خطاب إلى الأستاذة المشرفة بالفكرة. وأنا هنا في الخارج في موضع مناسب يسمح لي بالاطلاع على المخطوطات الأصلية الموجودة في أوروبا والبدء في تحرير مشروع المجموعة الكاملة كما أتصورها. لا أنكر أن حافز النشر، بل والعائد المادي، دخل في فكرتي. ولكن، ما المانع؟ وما المانع أن أبقى في فرنسا سنوات وسنوات بدلًا من السنتين اللتين تقتصر عليهما بعثتي لإعداد مادة الرسالة؟ وأيضًا ربما تتغير الأوضاع في مصر ولا أصبح من المطاريد بسبب معتقداتي؟ ستحملني دراستي إلى إنجلترا وهولندا، ثم فترة في دار الكتب بالقاهرة. وقد يشمل ذلك الهند أيضًا للبحث عن طبعتَي كَلْكُتَّا. ومن حسن الحظ أنني أتقن اللغة الإنجليزية؛ فالكثير من المراجع والترجمات هي بتلك اللغة، خاصةً ترجمتَي لين وريتشارد بيرتون وما فيهما من هوامش وتعليقات. سيتطلب ذلك عمرًا، فما العمل؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤