٥

«… إني أُومِن بأبُولُون … أُومِن بأبولون إله الفن الذي عفَّرت جبيني أعوامًا في تراب هيكله … إنه يعلم كم جاهدتُ من أجله، وكم كافحت وناضلت وكدَدْت … باسمه أخوض المعركة الكبرى، وأنازل كل مجتمع وكل حياة وكل عقبة تحول بيني وبين فني الذي منحته زهرة أيامي التي لن تعود …»

توفيق الحكيم

جلس رامي إلى مكتبه وبصره شارد من النافذة، يتطلع إلى قمة برج إيفل على البعد، وهو يفكر حينًا، ثم يلتفت حينًا آخر إلى أوراق أمامه، يقرأ فيها طورًا ثم يؤشر على بعضها طورًا آخر. كانت هذه هي طريقته في العمل، ما بين أفكاره والعمل شبه الروتيني الذي يؤديه في المكتب. كان يلتقي كثيرًا بالدارسين والمبعوثين المصريين الموجودين في فرنسا للدراسة، سواء على نفقة الدولة، أو على بعثات، أو على نفقتهم الخاصة.

ودخل عليه ساعي المكتب بشاي الصباح، بينما كان يطالع «اللوموند» بعجلة مكتفيًا بقراءة العناوين، على أمل أن يعود إليها في المساء في شقته. كان رامي في الثلاثين من عمره، وقد نجح في شَغل هذه الوظيفة عن طريق امتحان أُجري في وزارته لشغل المناصب الشاغرة في المكاتب والمراكز الثقافية في خارج مصر، ورغم أنه قد حصل على مركز متقدم في الامتحان، فقد تعين عليه الاستعانة برئيسه الكبير في العمل حتى يكون مكان ابتعاثه في دولة أوروبية؛ وأدى ذلك إلى اختياره لمكتب باريس، ولولا ذلك لكان قد ذهب إلى فريتاون. ومع أنه كان يفضل الذَّهاب إلى مكتب لندن حتى يستطيع إكمال دراسته بالحصول على الدكتوراه، لم يتحقق ذلك لوجود عدد كبير من الراغبين في السفر إلى إنجلترا. وقد شغل مناصب المستشارين الثقافيين أساتذة الجامعات، ومن ثم فقد تم إرسال الناجحين مثله بوصفهم ملحقين ثقافيين. وكان ذلك وضعًا غريبًا؛ لأن معظم العمل الفعلي كان يقع على عاتقهم؛ إذ كان المستشارون مشغولين بأعمال البحوث والدراسات الخاصة بهم، وليست لهم الخبرة اللازمة للأعمال الإدارية، عدا قلة منهم. ولذلك كانت أعمال البعثات كلُّها واقعة على كاهل رامي وزميلين له من الملحقين الثقافيين، يعاونهم في ذلك مجموعة من الشباب المنتقين من المصريين الموجودين في باريس، ومنهم زوجات المبعوثين اللاتي لديهن مهارات في السكرتارية والحسابات، بل ومنهم مبعوثون تم اختيارهم لمساعدتهم في سبل المعيشة في تلك المدينة باهظة التكاليف، وكان رامي يشارك في «الطلبية» الشهرية من المشروبات والسجائر والسيجار، التي ترد إليهم بأرخص الأسعار بوصفهم من الدبلوماسيين بالسفارة ومعفيين من الضرائب. وكان رامي يحظى بعَلاقات ممتازة مع رؤسائه، سواء المستشار أو أعضاء السفارة الآخرين، ومع الطلاب من كل المستويات. وكان ينجح في التوسط لدى المستشار الثقافي لتعيين أحد الطلاب أو الطالبات لفترة في المكتب أو المركز الثقافي، للمساعدة في زيادة مواردهم، في الوقت الذي يعرف رامي فيه بحاجتهم الشديدة إلى المال. حالة واحدة شذت عن هذه القاعدة، وهي حالة كميلة. كانت كميلة قد لفتت انتباه رامي أول ما رآها؛ لأنها تشبه ابنة عم له رحلت عن الدنيا. وقد أُعجب كذلك بشجاعتها التي خوَّلت لها مفارقة أسرتها والرحيل عن بلدها والحضور وحيدة إلى هذا العالم الزاخر. وكان يدرك ما يقال عن وجود عَلاقة بينهما، ولكنه كان يضحك من تلك الأقاويل، ويعلم تمامًا أن ما بينهما إعجاب متبادل، وتمازج فني، وأيضًا بعض المناوشات الخفيفة التي لا بد وأن تقع بين اثنين مثلهما. بيد أنه كان يعلم أنها مرتاحة ماديًّا بما كانت أسرتها تُمدها به من نفقات، وبما كانت تحصل عليه من حصيلة بيع لوحات لها للأفراد والجاليريهات. وكانت أيضًا قد أفضت له بأنها على عَلاقة بشاب لبناني تأمل أن تُدخله معها إلى عالم الفن.

– محمود بيه عاوزك يا أستاذ رامي.

وخرج رامي لمقابلة المستشار الثقافي الذي يعمل تحت رئاسته، وكان المكتب كبيرًا بحجم العمل في باريس، وأيضًا بحجم الوساطات التي تدفع بأصحابها إلى مكان رئيسي كالعاصمة الفرنسية. كان هناك المستشار وثلاثة من الملحقين الثقافيين، بالإضافة إلى اثنين من السكرتارية، مرسلين كلهم من مصر. وكانت له سمعة طيبة؛ نظرًا لما عُرِفَ عنه من الاهتمام بعمله وتقديم المساعدة للجميع، بالإضافة إلى ثقافته الغزيرة وشهرته بين الجميع بكتاباته التي ينشرها بين الحين والحين في الصحف والمَجلات العربية. وحين ذهب لمقابلة المستشار، عرض عليه أوراق بعض المبعوثين، وبعض الخطابات المرسلة إلى إدارة البعثات. ووجد لديه الأستاذ فؤاد سكرتير المركز الثقافي المصري. وكانا يتناقشان بحدة في إحدى المسائل، ولكنهما توقفا إلى حين انتهاء رامي من أوراقه، ثم دق التليفون، وتحدث المستشار طويلًا فيما يبدو مع شركة لتوريد السيارات، وتهلل وجهه بعدها وهو يقول لهما دون أن يشعر: الحمد لله، المرسيدس في الطريق.

وضحك هو والأستاذ فؤاد. وشاركهما رامي في الضحك وبارك للمستشار وخرج عائدًا إلى مكتبه. كان ذلك غريبًا؛ هذا المستشار المعروف بالتقدمية، بل والاشتراكية المتطرفة، ونصرة الفقراء والمعدِمين، ها هو هنا يعيش في بُحبوحة ككبار الرأسماليين. وكان هذا من حقه، لولا ما كان يكتبه في مصر من ضرورة التقشف لكل الناس، وضرورة أن يعيش الكل سواسية دون مظاهر خادعة، ودون إسراف. وسرَّه أن وجد هذا التناقض في شخصية المستشار، فقد كان يراهن بينه وبين نفسه أن كل هؤلاء القوم يتخذون فلسفتهم وعقائدهم الفكرية مطية فحسب، ثم يعيشون كما يحلو لهم، عيشة برجوازية محضًا، يضارعون بها كبار الأثرياء والرأسماليين. وعاد إلى ذاكرته ذلك الخبر الذي نشرته الأهرام ذات يوم عن سرقة شقة أحد كبار الكتاب الاشتراكيين، ففوجئ الناس بالثروة الرهيبة التي كدسها ذلك الكاتب «الاشتراكي»، والتي لم تنكشف إلا بعد سرقتها، ومن بينها التحف والحلي والمجوهرات، علاوة على ثروة من العملات الصعبة. وكانت فضيحة!

وجلس رامي يفكر فيمن حوله من المصريين الذين جاءوا من مصر للعمل بمكتب البعثات وبالمركز الثقافي. كان معظمهم من المرسلين بالواسطة، عدا ذلك الملحق الشاب المتدين، بل شديد التدين إلى درجة أنه كان يرفض التوقيع على كشوفات «طلبية» المكتب من الأشياء المعفاة من الجمارك؛ لأنها تحتوي على خمور. وقد ناقشه رامي في ذلك كثيرًا، ولكنه لم يكن ليغير موقفه تحت أي ظرف من الظروف. وكان الملحق الثالث فنانًا تشكيليًّا مكلفًا بالإشراف على المركز الثقافي المصري بالحي اللاتيني.

وتعجب رامي من اختلاف الموقف هنا في الخارج بالنسبة لهؤلاء المصريين الذين يعيشون بعيدًا عن معاناة الناس في مصر، ويقرءون عن مأساة مدرسة بحر البقر، مثلًا، فكأنهم يقرءون عن قصف أمريكا لفيتنام، بينما كثرة المصريين، ومن بينهم رامي تتقطع قلوبهم على مأساة وطنهم وعلى مواطنيهم وأقربائهم هناك.

كان عمل رامي في المكتب مجرد «مورد رزق» كما يقول عنه، ولكنه شيء ضروري وأساسي، وإلا ما كان له أن يعيش حياته كما يعيشها هنا الآن. ولكن حياته الحقة كانت بعيدًا عن الوظيفة الروتينية وعن المكتب، بل والسفارة كلها. كانت حياته تتلخص في محاولة تحصيل المعرفة بكل أشكالها قدر المستطاع، والإنتاج الفني حين يتيسر ذلك. كان قد خلع عن كاهله ذلك الحِمل الثقيل الذي أصبح أمل كل شاب تخرج في الجامعة، وهو الحصول على الماجستير ثم الدكتوراه، لم يكن يهم إذا كان الشخص مؤهلًا لاستكمال دراسته العليا أم لا، أو صالحًا للسير على طريق البحث العلمي أم لا، ولكن المهم هو المركز الاجتماعي الذي يصاحب لقب الدكتوراه. وإذا بالجميع يلتحقون بالكليات لإكمال دراساتهم، وإذا بهذا المجال يرى أناسًا لا يعرفون أساسيات البحث العلمي الحقيقي، وإذا بنا نرى رسائل وأبحاثًا لا تمت للمجال العلمي بصلة، بل هي قشور سطحية وتجميعات وسرقات من هنا ومن هناك تُلصق بعضها ببعض على هيئة رسالة، وما هي بالرسالة في شيء. كان رامي قد انتهى إلى قرار بألا يلعب هذه اللعبة، فبعد أن ترك مصر وسافر إلى باريس، حاول أن يسجل نفسه لدراسة الماجستير، بل وحدد الموضوع وكل شيء، متناولًا المقارنة بين الأدب الروائي الإنجليزي والفرنسي في القرن التاسع عشر. ولكنه في لحظة من لحظات «ساتوري»؛ الاستشراف الرؤيوي، رأى أنه سيحصر نفسه في مجال واحد يعكف عليه سنوات، تاركًا عشرات الموضوعات التي تشغل باله ويود النهل منها، وعشرات الروايات والكتب التي يود قراءتها، بل ودراستها لنفسه، ناهيك بالرحلات التي يود القيام بها، وزيارات المتاحف والآثار التي كان يحلم بها.

أما عن عَلاقاته بالفتيات فقد كانت محدودة بالضرورة، بعد تجرِبة حب في مصر انتهت إلى لا شيء، وخرج بها مع فتاته إلى حد تصفيتها، ولم تعد تترك وراءها إلا آثارًا باهتة تتردد في عواطفه بين الحين والحين. وهو الآن يصادق «ماريسول»، وهي فتاة إسبانية تعرَّف عليها في حفل بالسفارة الإسبانية في باريس، وخرجا معًا مرات عديدة، قبل أن تتطور عَلاقتهما فتزوره في شقته الصغيرة في أيام الآحاد. وكانت هي تعيش مع زميلة لها في شقة صغيرة أيضًا، بعد أن تركت أسرتها التي هاجرت إلى فرنسا بعد الحرب الأهلية الإسبانية، واستقلت بحياتها وعملها في إحدى الشركات، هربًا من تعنت أسرتها ومن التقاليد الراسخة التي تسير عليها. ولم يكن رامي يستريح إلى زيارتها في شقتها، حيث إن زميلتها «ماري كلود» الفرنسية أحيانًا ما تكون هناك، ومع صديقها، ولم يكن رامي يحب هذا التجمع. وقد شجعته ماريسول على دراسة اللغة الإسبانية، وعرَّفته على آدابها وفنونها الغزيرة، فقرأ لوركا وبابلو نيرودا، وأُعجب بلوحات جويا وبيكاسو وسلفادور دالي. واستمع معها إلى الأغاني الإسبانية الجميلة وشرحت له كلماتها؛ فأصبح يتغنى بأغاني خوان مانويل سيرات وخوليو إجليسياس.

أما عن صلاته بالمصريات في باريس، فهو لم يكن يصادق سوى كميلة، وتقتصر عَلاقتهما على المصارحة الشخصية الكاملة بكل ما يمر بحياتهما، وعلى المناقشات الأدبية والفنية، وزيارة بعض المعارض، وتبادل بعض الكتب، وقد قرنت ألسنة السوء اسميهما معًا، ولم يهتم أيهما بذلك، وحتى حين انطلقت تلك الألسنة بشائعات عن عَلاقات أخرى لكميلة، لم يهتم بها رامي كذلك.

وكان واضحًا في قلبه مدى شعوره تجاه كميلة. كان يحس بالهدوء والسكينة معها، وهما يتحادثان ويتناقشان في كثير من الأمور، وكانا يتصارحان بأمورهما الشخصية، فكانت تطلب رأيه في بعض الأشياء، وكان يعتبر نفسه راعيًا لها. وكان يعلم، من هذا المنطلق، حقائق صداقاتها وعَلاقاتها بالآخرين، وإن كان لا يتفق معها في كثير مما تقوم به، ويُرجع ذلك إلى شدة رسوخ العادات التي اكتسبها من حياته في مصر، رغم كل ما كان يبديه من سعة أفق وتفهم لمظاهر الحياة الغربية، بل وإصرار على السير على خُطى بعض خطوط تلك الحياة. وتذكر كيف أنه صدم الكثير من الناس في مصر برأيه في عدم جدوى نظام الزواج، وأن أفضل ما يفعله المحبون هو ما فعله سارتر وسيمون دي بوفوار، من الحياة معًا دون شيء رسمي، مما يؤكد حرية اختيارهما. وكان رامي حريصًا على حضور المحاضرة التي ألقاها سارتر وبوفوار في جامعة القاهرة في زيارتهما لمصر عام ١٩٦٧م، بل وشق الصفوف بصعوبة وتمكن من مصافحتهما يدًا ليد. وكانت كميلة تشاركه الرأي في مسألة الزواج تلك، وتعتقد أن شكل الارتباط الذي يجمع بين سارتر وبوفوار هو الطريقة المثلى للحب الذي يجمع بين العاطفة وحرية الاختيار.

وقد بدأ رامي حياته ككاتب ومترجم منذ تخرجه؛ فكتب مقالة عن جيمس جويس لاقت استحسانًا من القراء، وتوالت بعدها مقالاته المؤلفة والمترجمة. كان يريد من وراء ذلك أن يُعرف اسمه فيبدأ فيما أعد نفسه له وهو كتابة الرواية. كان قد قرأ عددًا هائلًا من الروايات العالمية، ورأى أن هذا النوع الأدبي هو ما يقدم نوازع النفس الإنسانية وخباياها أحسن تقديم، وتنبأ بأن الرواية هي التي ستستمر في الانتشار والذيوع، لكثرة قارئيها وتنوعها بحيث تجذب كل أنواع القراء. ودائمًا ما كان يضع تخطيطًا لما يسميه رواية جيله، يصف فيها التطورات التي أحاطت بما يسميه «جيل الستينيات» من أحداث وظروف أثرت في أفراده، ويصور فيها من عرَفهم من زملاء ذلك الجيل، وعلى رأسهم أستاذه وصديقه الحميم الذي كان يشير إليه دومًا بلقب «أستاذنا الكبير». ولذلك كان همه الأكبر هو دراسة الطبائع الإنسانية لمن حوله من المصريين والعرب كيما يتمكن من تحويلها إلى أفكار يضمِّنها روايته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤