٦

هبَّ رستم من نومه على عجل، كما يفعل كل صباح، لا بسبب الإسراع إلى جامعته، أو إلى موعد مهم، أو إلى عمل يقوم به، بل لكي يحمل حاجياته ويخرج بلا هدف، تاركًا الغرفة الصغيرة التي يشغلها في تلك البناية القديمة لساكنها الذي يعود من عمله في الصباح الباكر.

كان رستم مثالًا للشاب الذي يرحل عن بلده يملؤه الأمل والطموح إلى الدراسة والعمل، ثم تتجمع عليه المشاكل والصعوبات فلا يدري أين يذهب، ويصبح واحدًا من الضائعين في العاصمة الضخمة. كان أبواه قد ذهبا للعمل في إحدى دول الخليج، وحين تفتحت أمامهما أبواب الرزق، أرادا لأولادهما الثلاثة أن يحصلوا على أفضل تعليم، وكان من رأيهما أن يدرسوا جميعًا في لندن، حيث لديهم إلمام باللغة، وحيث نظام التعليم مشابه له في الدولة التي يعملان فيها. ولكن رستم أراد أن يعيش حياته منفردًا بعد أن ضاق بالرقابة الصارمة التي فرضها أخواه عليه؛ فسافر فجأة، بعد قضاء سبعة شهور في لندن، إلى باريس، يحمل تأشيرة سياحية، ثم بقي هناك بعد انتهاء التأشيرة. وقد حاول مرات عديدة أن يلتحق بإحدى الجامعات هناك، ولكن وقفت في وجهه الأوراق المطلوبة، وعلى رأسها شهادة بإتقان اللغة الفرنسية. أما العمل فكان متقطعًا وبائسًا، يسقط فيه هو وأمثاله في أيدي المستغلين لظروفهم الصعبة، وهم للأسف مصريون مثله، ولكنهم لا يعطونه إلا ما يسد الرمق. وقد امتلأ صدره بالحقد والمرارة من هذه الظروف التي تحيط به، ولم يعد يفكر إلا في الطريقة التي سوف تخرجه من هذه الحياة البائسة التي يحياها في مدينة تعج وتضج بالحياة والنور والبهجة. كان قد قطع كل اتصال له بأسرته في الكويت، وبشقيقيه في لندن، ولم يرغب في معاودة عَلاقته بهم إلا بعد أن تتحسن حالته. ولكن هذا التحسن أصبح بعيد المنال، ولم يعد يصلح له سوى القيام بشيء جريء وجديد، شيء هائل، بدأ يتشكل في ذهنه تدريجيًّا وتتضح معالمه.

وقد تبلور هذا الخاطر في ذهن رستم بعد زيارة له إلى متحف اللوفر، قام بها فحسب لسماعه أنه مكان صالح للتعرف على الفتيات الأجنبيات اللاتي يزرن المتحف؛ إذ لم يكن لديه أي نازع أو حتى فراغ بالٍ لرؤية ما يحويه المتحف من كنوز فنية حضارية. وكانت زيارته له مأساة، فقد تاه في وسط أبهائه وصالاته، وبهرته فعلًا السائحات الشابات من كل لون وجنس، صغيرات السن وناضجاته؛ وكان يتطلع إليهن في شوق شديد، وإن كان لا يدري لماذا يهتمون كل هذا الاهتمام بما يراه من تماثيل ولوحات؛ ولذلك عجز عن أن يفتح حديثًا مع أي منهن، أو يعرض عليها أن تصاحبه في جولتها، كما كان يفعل بعض الشبان الأوروبيين والأمريكيين. ومضى في تَجواله حتى قادته قدماه إلى جناح الحضارة المصرية القديمة، فأصابه الذهول. كان كأنما دلَف إلى المتحف المصري في ميدان التحرير. وهو طبعًا لم يذهب إلى المتحف المصري في صباه برغبته، بل كان قد زاره مع مدرسته وهو في المرحلة الإعدادية، ولا يزال يذكر كيف انتابه الملل والضجر من الزيارة؛ فانخرط مع اثنين من رفاقه المتضررين أيضًا من الزيارة الإجبارية، في لعب الكوتشينة والدومينو والحديث عن أغاني عبد الحليم حافظ، وهكذا كانت تسليتهم في تلك الأيام. ودارت عيناه فيما يراه أمامه في اللوفر: تماثيل ضخمة لا يعرف كيف نُقلت من مصر، أبو الهول ممدد، وتوابيت ملونة هائلة، وملوك وتيجان وملكات، وجداريات كاملة، ووثائق بالبردي رأسية وأفقية، وتماثيل ومومياوات صغيرة من كل صنف ونوع. وكان من أكثر ما لفت انتباهه تمثال صغير أزرق اللون لفرس النهر. ماذا يا تُرى شأن هذا التمثال؟ كيف يمكن أن يكون من أيام الفراعنة ولونه براق كأنه صُنع بالأمس فقط؟ وحاول أن يقرأ اللافتة المثبتة أسفله، ترجمتها كما يلي:

تمثال فرس النهر. الفترة المتوسطة الثانية، الأسرة السابعة عشرة، طيبة. ارتفاع ١٢٫٧ سنتيمترًا، الطول ٢٠٫٥ سنتيمترًا، العرض ٨٫١ سنتيمترات.

وهام غرامًا بذلك التمثال الصغير وأصبح شاغله ليلًا ونهارًا. وتألم أشد الألم لرؤية مثل هذا الجمال، مع الآثار الثمينة الأخرى، معروضة في بلد غير بلده. وطفق يفكر ويبحث في الوسيلة التي يستطيع بها أن يستحوذ على ذلك التمثال! كان يرى في الحصول عليه استعادة لحق من حقوقه كمصري، ولكن المشكلة كانت كيف يفعل ذلك دون أن يتعرض للسجن؟ وأخذ يستعيد في ذهنه الروايات البوليسية التي كان يقرؤها في القاهرة: أرسين لوبين وروكامبول وغيرهما. ووجد إلهامًا في فيلم أمريكي لبيتر أوتول وأودري هيبورن عن سرقة في متحف، وفيلم آخر للفهد البمبي، كما يسميه بالعربية، عن سرقة مماثلة. وتردد على مكان التمثال مرات كثيرة؛ يدرس وضعه وحراسته والمكان بأكمله، وكان يذهب طبعًا في اليوم الذي يُخصص للدخول بالمجان، تضايقه الزحمة الشديدة، ويتمنى لو أتى في يوم آخر يخف فيه الزحام، ولكنه لم يكن ليضحي بثمن التذكرة؛ وهو في أمسِّ الحاجة للنقود للعيش المجرد من كل رفاهية. غير أنه أحس بالحاجة إلى مزيد من المعلومات، بل وحتى إلى شريك أو شركاء له يأتمنهم على سره ويؤمنون بمثل ما آمن به من ضرورة معاقبة هؤلاء الناس باسترداد شيء مما سرقوه من بلاده.

وبدأ على الفور اتصالاته بمن يعرف، وكان شديد الحذر في كلامه عن الموضوع، وفي اختيار من يحدثه عن خطته. ورغم هذا، فقد فوجئ رستم بمن يتهكم عليه، ومن يظنه مجنونًا، ثم الجبناء الذين لا يريدون أن تكون لهم أي صلة بمثل ذلك الموضوع، ولو حتى بالسماع. وعلى هذا فقد قرر أن يعتمد على نفسه في تنفيذ مشروعه. ثم كانت الليلة التي استمع فيها في قهوة المصريين إلى حديث ذلك المصري المتخصص في الآثار؛ فبرق في ذهنه أن يستعين به، إن لم يكن لشيء عملي، فعلى الأقل لمعرفة المزيد من سرقة الدول الأجنبية للآثار المصرية، وللتأكد من صفة ذلك التمثال الصغير، وهل هو مسروق أم أنه دخل إلى اللوفر بطريقة مشروعة. وذهب رستم إلى موعده مع عادل عبد الحميد تملؤه الآمال وتراوده أسئلة كثيرة. لم يكن قد لاحظ دهشة عادل من طلبه، ولا استغرابه للهجته وحديثه، فما كان رستم يفطن إلى شيء من هذا في شخصيته، ولا يدري أنه يختلف عن طبقة هؤلاء المثقفين، فقد كانت معظم عَلاقاته مع أمثاله من الشباب الجامعي غير الناجح في دراسته.

ووجد رستم «عادل» في مجلسه يقرأ في كتاب بالإنجليزية عليه صورة آثار فرعونية، وأمامه كوب من الشاي، فسلم عليه، ثم شكره على حضوره في الموعد.

– أرجو ألا أكون قد أثقلت عليك في هذا الأمر.

– لا، أبدًا. ولكني متحير في ذلك الموضوع الذي تريدني فيه؛ فأنا جديد في باريس كما تعلم.

– أيوه، عارف ذلك. لكن ما أريده يتعلق بتخصص حضرتك.

– تخصصي؟

– أيوه، الآثار. رغم إني مش ضليع قوي في الموضوع ده، لكن اللي مضايقني مضايقة شديدة هو وجود هذا الكم من آثارنا المصرية هنا في فرنسا. أنا لما بدخل اللوفر وأشوف كل هذه الآثار بتاعتنا أقول لنفسي إزاي اتنقلت الثروة دي لهنا؟ طبعًا بالسرقة والنهب.

– والله مش دايمًا. الحقيقة إن كان فيه زمان قانون يسمح لبعثات التنقيب الأجنبية أن تأخذ جزءًا من الآثار التي تعثر عليها.

– ولكن … السرقات … والنهب.

– نعم، نعم. كانت هناك سرقات ونهب، أنا لا أنكر ذلك. وحتى هذا الكتاب الذي أقرأ فيه الآن يذكر ذلك بالتفصيل.

– صحيح! هذا عظيم! ما اسم هذا الكتاب يا أستاذ؟

اسمه «اكتشاف مصر» من تأليف لزلي جرينر، وهو بالإنجليزية، فأنا لم أتعود بعد على القراءة بالفرنسية. وهو يقص حكاية آثار مصر واكتشافها وانتقال ما انتقل منها إلى الخارج بالقانون، وبالسرقة والنهب كذلك، بالتفصيل. إنه كتاب جميل.

– وهل يقص حكاية الزودياك دي اللي كنت بتتكلم عنها؟

– بالطبع.

– وماذا عن القطع الأخرى، خاصة القطع الصغيرة، تمثال سيد قشطة مثلًا؟

– سيد قشطة؟ (قالها عادل مندهشًا.)

– أيوه، اللي هو فرس النهر.

– أوه، لم أمر بعدُ به في هذا الكتاب، لكني أعلم أنه توجد منه نسخ كثيرة في اللوفر وفي المتحف المصري بالقاهرة، وحتى متحف نيويورك قد اتخذ هذا التمثال شعارًا له، وهذا غريب جدًّا.

– الحقيقة إن الموضوع ده هو اللي كنت عاوز أناقشك فيه. الدول دي، ومنها فرنسا، نهبت بلادنا وخيراتها وآثارها، ومع ذلك تمنعنا من البقاء هنا وتحرِّم علينا الشغل اللي احنا في أشد الحاجة له. وعشان كده، أنا مسيطرة عليَّ فكرة إن احنا ناخد حقنا بإيدينا.

– كيف، لا أفهم.

– مثلًا، الآثار دي، ليه ما ترجعشي بلدنا؟

– أنا أعلم أن هناك مفاوضات عديدة مع كل الدول في هذا الشأن، كما أن هناك مشاريع اتفاقيات توضع الآن في الأمم المتحدة وفي اليونسكو لإعادة الآثار المسروقة إلى بلادها الأصلية.

– ياه يا أستاذ، حلني بقى لما المفاوضات دي تجيب نتيجة، أو الاتفاقات دي. لا … لا. إحنا لازم ناخد الأمور في إيدينا.

– ماذا تقصد؟

– دي فكرتي. أنا من ساعة ما شفت تمثال سيد قشطة الأزرق الجميل ده في اللوفر وانا مهووس بيه، وقلت لنفسي أهو ده اللي حيبقى رمز استعادتنا لحقوقنا من البلد الظالم ده، رمز لانتقامي من المعاملة غير الكريمة اللي بيلقاها المصريين هنا.

– وما دخل التمثال في هذا؟

– سأستولي عليه، سأحصل عليه.

– كيف؟

– بالقوة، سأسرقه.

– إنك تمزح بلا شك.

– كلا، سأسرقه. عندي خطة كاملة للعملية دي، وكنت عايز مساعدتك بالمعلومات اللازمة.

وشحب وجه عادل ورد بسرعة: لا، أرجوك، أنا أتدرب مع الجهات المسئولة هنا، ولا أريد أن تكون لي أي صلة بهذا الموضوع. أنا لا أوافقك على هذا. هذا عمل غير مشروع.

– مشروع أم غير مشروع، سأنفذه. إنت خايف، مش كده. على كل حال، إنت لا تختلف عن الناس التانيين اللي كلمتهم في الموضوع. سأنفذ الخطة وحدي، لكن أرجو إنك ما تتدخلش في خطتي أو تقول عليها لحد.

– أنا كأني لم أسمع شيئًا، وما زلت أعتقد أنك تمزح. عن إذنك الآن، سلام عليكم.

ومشى عادل بعيدًا عن رستم، بينما هذا يتعجب من خوف وجبن هؤلاء «البهوات» المثقفين، الذين يملئُون الدنيا صياحًا عن الحرية وعن أنفسهم، ثم لا يجرءون على الدخول في تجرِبة عملية، ويسيرون دائمًا إلى جوار «الحيط» إيثارًا للسلامة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤