٧

أولى بهذا القلب أن يخفقا وفي ضِرام الحب أن يُحرقا
ما أضيع اليومَ الذي مرَّ بي من غير أن أهوى وأن أعشقا.
عمر الخيام
ترجمة: أحمد رامي

وقفت كميلة في الطريق الجانبي المتفرع من الشانزليزيه تسلي نفسها بمرأى الفترينات البراقة المتوهجة. وكان يبدو أنها في انتظار أحد، ولم يطل الوقت حتى انسابت سيارة أنيقة وقفت إلى جوارها، وينادي عليها من فيها ويفتح لها الباب الأمامي؛ فتدلِف إليها في حبور.

كانت قد اتفقت مع ماجد أن يخرجا معًا طوال اليوم في نزهة خارج باريس، ويقضيا الليل في إحدى الضواحي القريبة، ثم يعودان بعد يوم أو يومين. كانت كميلة تحس أنها في حاجة إلى هذا التغيير بين وقت وآخر، وكانت لا تجد سوى ماجد يفهمها ويحقق لها ما تريده، وكان ماجد أكثر من صديق لها؛ فهو الحميم معها منذ فترة، وهو الذي تضن بالحديث عنه إلى أصدقائها وصديقاتها، ممن يظنون أنها على عَلاقة بهذا أو ذاك من معارفهم، فعَلاقتها شبه الدائمة هي مع ماجد. وقد عرَفته في ظروف طبيعية مهدت شيئًا فشيئًا للعَلاقة الوثيقة التي ربطت بينهما. وقد وجدت فيه نعم الملاذ، بيد أنه كان ملاذ الأمن فحسب، ولا يمتد ذلك الملاذ إلى المشاركة في الميول والطباع والأهواء. وقد ارتبطت بماجد على هذا النحو في الوقت الذي كانت فيه في أمس الحاجة إلى الشعور بالأمن، الأمن من الحاجة والضياع في المدينة الواسعة، حتى تستطيع أن تتفرغ لدراستها وتتمكن من تذوق ما تجود به تلك البلاد من متع فنية وأدبية وتاريخية.

ومضى ماجد بالسيارة يزهو بها على عادته وهو يمرق في الطرقات الضيقة، كالطفل، يريد أن يعرض أمام كميلة قدراته. وكانت كميلة تضحك في سرها من هذه الأعمال الصبيانية، وتحاول أن تثير في ماجد بعض التذوق للأشياء التي تهمها في الحياة، بدرجات متفاوتة من النجاح والفشل. كانت قد أقنعته بالتوجه معها إلى ضاحية فرساي لزيارة البلدة والقصور والحدائق المشهورة هناك، وقد تعجبت جدًّا حين ذكر لها ماجد أنه لم يزر القصر أبدًا، رغم مروره عدة مرات بالمكان.

كان ماجد في حدود الأربعين من العمر، قضى منها ما يزيد على العشرين عامًا في فرنسا، وقد حضر إلى فرنسا هربًا من عائلته اللبنانية التي أرادت له أن يشب في المجال السياسي الذي كان قد بدأ يتشكل في البلاد عشية الاستقلال، ولكنه لم يصبر على الدراسات الطويلة المعقدة التي رسمها له والداه، وفضل العمل بالبيزنس. ولما لم يُقنع أحدًا بحقيقة ميوله، اضطُر إلى أن يطلب السفر إلى أوروبا ليبدأ حياته هناك. ولقد كان قرارًا صعبًا وحاسمًا في حياته وحياة أسرته؛ فهو قد أتى إلى باريس في زيارة سياحية حين لم يكن قد تعدى التاسعة عشرة من عمره، ثم مكث في البلاد منذ ذلك الوقت. وحين حاول ألا يلفت إليه الأنظار، سافر إلى مارسيليا حيث الكثير من فرص العمل، وحصل بالكاد على عمل متقطع في الميناء، ولكن جهده ومثابرته وإخلاصه في العمل دفع به إلى المقدمة. وتنقل من عمل إلى آخر، حتى استطاع آخر الأمر أن يستقل بنفسه في شركة صغيرة للاستيراد والتصدير تعاملت مع الدول العربية والإفريقية. وكانت بسمة الحظ له في تجارة البن، فقد تعهد استيراد البن اليمني من أجود أنواعه، فنافس به الأنواع البرازيلية والكولومبية التي كانت منتشرة في السوق الفرنسية. وقد أخذت أعماله جل وقته في السنوات الأولى فألهته عما كان ينتويه من إكمال دراسته، فلما هبط عليه الثراء والوقت الحر، كان قد اعتاد الحياة السهلة ولم يعد يفكر في دراسات أو غيرها. وقد تقلب في حياته العاطفية كثيرًا، مع فتيات فرنسيات، ولكنه في نهاية الأمر غلبه الطبع العربي، ووجد قلبه يميل إلى كميلة؛ فأصبح صديقًا ملازمًا لها، وإن لم يتفهم حياتها الفنية والفكرية، واهتماماتها المتعددة البعيدة عن اهتماماته وتطلعاته. ولكنهما كانا يتفقان في حب التَّرحال ورؤية جمال الطبيعة في كل مكان، والحديث الجيد، والطعام والشراب في أرقى أنواعهما. وكان يحرص حرصًا شديدًا على أن يقدم لها كل ما تحب وترغب فيه، حتى وإن لم يكن هو نفسه يحبه.

انطلقت السيارة في طرق فرنسا الحريرية، وثمة غابات كثيفة على جانبي الطريق. وتذكرت كميلة ما قرأته عن تلك الغابات، التي كانت مرتعًا للملك الشمس لويس الرابع عشر، وحاشيته، حين كانوا يقومون برحلات الصيد واللهو والمرح. لا بد أن تاريخ تلك الحقبة كان ليمتع محب لو كان هو الذي معها، ولكانا تبادلا الكثير من المعلومات عن ذلك الموضوع. وتعجبت كميلة: لماذا لا يوجد شخص واحد يجمع كل ما تريده من صفات، الثقافة والفن والثراء وطلاوة الحديث والرفاهة في تذوق كل متع الدنيا. هكذا هي الدنيا، وعليها هي أن تختار.

وأوقف ماجد سيارته الفارهة في أمكنة الوقوف خارج منطقة القصور، وكان عليهما أن يسيرا مسافة كي يصلا إلى «مجمَّع فرساي». ودعاها ماجد في منتصف الطريق إلى الجلوس هنيهة في واحدة من عشرات الكافتيريات المنتشرة في تلك المنطقة، للراحة وشرب «الأبيريتيف».

كانت كميلة تحمل في يدها دليل «ميشلان» عن فرساي، تقرأ فيه بين حين وآخر، بينما ماجد يقول لها لا داعيَ للقراءة، بل الاستمتاع بالرؤية وحسْب، فتضحك لقوله وتجيبه بأن المعرفة بالأشياء هي أساس الاستمتاع بها وتزيد من ذلك الاستمتاع، وتحاول أن تحمله على الاستماع لبعض المعلومات عن المكان الذي يزورونه معًا.

اسمع يا سيدي: بدأ إنشاء هذا القصر في عهد لويس الثالث عشر، الذي كان من هواة الصيد في هذه المنطقة، ففكر في إقامة منزل صغير له كي يأوي إليه في أثناء الصيد. ثم اتسعت تلك الفكرة لتصبح إنشاء مقر كبير للبلاط، ونمت تلك الإنشاءات في عهد الملك الشمس، تعرفه طبعًا؟

– من؟

– لويس الرابع عشر. أنا أحب جدًّا دراسة عصر ذلك الملك الذي بلغت فرنسا وحضارتها الذروة في عهده.

وطاف الزائران بالحدائق الشاسعة المحيطة بالقصر الرئيسي قبل أن يدلِفا إلى داخله. وكان الزوار غالبًا في جماعات سياحية يقودها مرشد يشرح لهم بلغتهم في نبرة خفيضة. ولكن كانت ثمة جماعات كبيرة يشرح لهم مرشد بصوت جَهْوَري رنان. ضحكت كميلة وقالت لماجد: هم الإسبان. يبدو أنهم أخذوا تلك العادة من الدم العربي الذي يسري فيهم!

– هكذا أنتِ دائمًا، تتجنَّين على قومك وتنحازِين إلى الغرب «المتمدن».

وجذبته كميلة من ذراعه قائلة إنها ستريه أجمل بهو في القصر. وقادته إلى بهو «المرايا» الشهير، ووقفت تشرح لماجد أهميته وتاريخه وجماله الفني. وبعد أن طافت معه بأهم الغرفات، خرجا يتجولان في الحدائق الغناء. كان الجو جميلًا، يَعبَق بعطر الأزهار والورود، مما أضفى رومانسية جميلة على ماجد وكميلة. أمسك بيدها بين يديه فتركته يعبث فيها. كانت تعلم أنه يحبها، وقد عرض عليها الزواج أكثر من مرة، فكانت تتهرب بأنها لم تُخلق للزواج، وأن أمامها عالمًا واسعًا عليها أن تخترقه وتجوب رحابه قبل أن تفكر في الاستقرار. وكانت تسمع عن مغامراته العاطفية والجنسية السابقة، وكلما فاتحته في ذلك الموضوع يضحك ويقول إنه سيكتفي بها وحدها لو قبلت الارتباط به.

وعرَّجا على مطعم صغير وإن كان فاخرًا، على جانب من الطريق. كانت كميلة تُعجب بذوق ماجد في الطعام، وكرمه الحاتمي حين تكون معه؛ فالأكل لا بد أن يكون كاملًا، بدءًا من الأورديفر، ثم الطبق الثاني فالثالث، متبوعًا بالجبن الفرنسي المشهور، فالحلو، ثم القهوة أو الشاي للختام. ولا بد طبعًا من «إرواء» كل هذا الطعام بالنبيذ الفاخر.

كان المطعم رائعًا، والمكان ساحرًا؛ بعث النشوة في أوصال كميلة التي كانت أفضل من يتذوق جمال تلك الأمكنة المتسقة فائقة الجمال. وطلب ماجد أجود أنواع النبيذ، وطلبت كميلة أحب المُشَهِّيات إليها: نصف دستة من القواقع البورجوندية، أتبعتها بالفيليه مينيون نصف الناضج. ولم يكن ماجد يطيق القواقع، كما أنه يحب اللحم au point فائق النضج. ولكنهما التقيا في تذوق النبيذ الجيد الذي حملهما إلى عوالم السحر الخفية معًا. وتتابع الكلام بينهما عن مباهج باريس التي يحبانها، وما ينتويان عمله في الإجازة. وكان ماجد يحاول إغراء كميلة بالذَّهاب معه في زيارة لأمستردام في أغسطس لاستكشاف مباهجها؛ قنواتها ومقاهيها الشهيرة.

– قنواتها أم فتياتها المعروضات في الفترينات في المنطقة الحمراء؟

فقهقه ماجد ضاحكًا وقال: وهذا أيضًا؛ فهو منظر سياحي ضروري لكل من يزور أمستردام.

– إني أحلم بالذَّهاب إلى هناك؛ لرؤية ما عندهم من لوحات فان جوخ، وطبعًا لوحات كبار الرسامين الهولنديين الآخرين. هل سمعت عن فرمير؟

– لا.

– إنه غير مشهور للأسف، ولكني اكتشفته من قراءتي لرواية بروست «البحث عن الزمن الضائع». كان يعيش في مدينة «دلفت» بهولندا. فإذا ذهبنا لا بد من زيارتها؛ لأرى أصل لوحة «منظر من دلفت».

– أعدك أن نذهب إلى أي مكان تريدينه لو جئت معي. سنذهب بالسيارة المرسيدس.

– ألا تخشى سرقتها؟

– إنها مغطاة تمامًا بالتأمين.

وتعجبت كميلة من أقدار الحياة. لو أن محب كان ثريًّا مثل ماجد، هل يا تُرى كان يصبح جادًّا في دراسته كما هو الآن؟ وهل كان سيرى الكوابيس التي يحكيها لها أم لا؟ صحيح أن الحاجة تشحذ الفكر والعقل. وجال بخاطرها: ماذا لو لم يعانِ فان جوخ من مشاكله الوجدانية والعقلية؟ طبعًا لم نكن لنستمتع الآن بلوحات السوسن والليلة المرصعة بالنجوم وعباد الشمس. ولكنه كان سيعيش سعيدًا ويموت سعيدًا بعد عمر طويل. ولكن بلا شهرة ولا عبقرية خلاقة ولا انصهار في محراب الفن. إنها معادلة صعبة. وفهمها صعب كذلك على العقل الإنساني.

وكانت رحلة العودة تتسم بالاسترخاء بعد وليمة الفكر والطعام والشراب، وكانت الولائم الثلاث من نصيب كميلة، بينما نصيب ماجد الطعام والشراب، فقد كان ممن يُسمَّون Hedonists أي أتباع مذهب اللذات الحسية، وهو شيء لا غبار عليه حين يكون المرء قادرًا عليه بعد حرمان، وفي بلد كفرنسا، لا يجب عليه أن يتخفى عن أعين الناس. وكانت كميلة في حياته بمثابة معادل موضوعي يوازن بين اتجاهاته وبين ضرورة الارتباط بحب حقيقي يمكن معه تحقيق ذاته ومشاركة طرَف آخر حياته واهتماماته. وكان ماجد سعيدًا بتبحر حبيبته في أمور الفن والأدب، ويحاول جهده أن يستمع إلى ما تشرحه له من تلك الأمور، واثقًا أنه سوف يحب ما تحبه كميلة شيئًا فشيئًا، كما هي تحب كل ما يحبه من المقتنيات الثمينة التي يملأ بها منزله وشقته الباريسية الأنيقة، وفيها من «الأنتيكات» الثمينة ما تعتبره كميلة تحفًا فنية، وإن كان هو ينظر إليها كاستثمارات فحسب، وهو قد تعجب جدًّا من تردد كميلة بل رفضها الزواج منه، مفضلةً أن يعيشا هكذا مثل سارتر وسيمون دي بوفوار؛ فهي غير مؤمنة بجدوى الزواج، وشاهدت كيف انتهت زيجات الكثير من صديقاتها إما بالطلاق أو بالاستسلام لحياة تقليدية رتيبة لا حياة فيها، بل وانتهت في حالات استثنائية بخيانات وعقوق. ولكنه كان راضيًا بالصورة التي ارتضتها كميلة لعَلاقتهما، ويحاول دومًا الاقتراب منها ومن الموضوعات التي تهيم بها؛ فهو يرى فيها الجانب الذي يتممه؛ فحرص على وجوده.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤